بقلم الدكتور رفعت سيد أحمد
الآن وقد بدأت عمليات احتواء جريمة اختطاف وقَتْل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، رغم تحوّلها إلى قضية رأي عام دولي، إلا أن المصالح والنفط وتجارة السلاح بين الأطراف الثلاثة الرئيسة في الجريمة؛ تركيا والسعودية وإدارة ترامب، بدأت الآن تتغلّب على الدم والقِيَم الإنسانية، وبدأ المشوار الطويل في لفلفة القضية وتضييع دم إبن النظام المُخلص والذي لم يكن معارضاً حقيقياً، ولكنه راح ضحيّة ما يمتلك من معلومات، وضحية
انحيازه لأحد أطراف الصراع في وراثة الحُكم.
انحيازه لأحد أطراف الصراع في وراثة الحُكم.
وخاشقجي طرف كان يكرهه الفتي المُندِفع محمّد بن سلمان ويكره مُناصريه حتى لو كانوا قد تربّوا في حُجر النظام ورضعوا من لبن الجماعات الداعشية التي خلقها النظام ومخابراته، في أفغانستان في الثمانينيات ولايزال يرعاها في إدلب السورية حتى لحظة كتابة هذه السطور.
إذن لقد راح وانتهى أمر جمال خاشقجي وكل ما يجري _ حسب تقديري الشخصي وربما أكون مُخطئاً _ هو إخراج جديد للمسرحية وابتزاز أميركي وتركي جديد لآل سعود وبالتحديد للأمير المُندفع الذي اتّخذ قرار التصفية، لكن يبقى من كل هذه الضجّة؛ الدرس البليغ، الذي يقدّمه لنا تاريخ آل سعود، وخاصة في الشقّ المُتّصل بعقابهم للمعارضين لهم سواء كانت معارضة مُستأنسة مثل حال جمال خاشقجي أو معارضة حقيقية وصادقة مثلما كانت حال المناضل القومي الشهيد ناصر السعيد والذي سنتحدّث عنه لاحقاً.
الدرس البليغ هنا هو أن آل سعود من الجد إلى الحفيد، من عبدالعزيز إلى محمّد بن سلمان، يحكمون حكماً منفرداً لا يطيق معارضة حتى ولو كانت هامسة وناعمة، مثل معارضة خاشقجي، وهو عندما يشعر بوجود هكذا معارضة فهو يفضّل إرسالها إلى السماء بدل أن تعيش مُعذّبة في الأرض، إنه يختصر لها الزمان والأفكار وصداع الحريات والديمقراطة، ويرسلها مباشرة إلى السماء وفقاً لطريقته وهي القتل ويحبّذ أن يكون بالسيف وطريقته الهمجية في الذبح (يسمّيها وعّاظ السلاطين من الوهّابين أنصار حكمهم التليد بالطريقة الشرعية الإسلامية في عقاب المُخالف).
ورغم ما قيل عن استخدام (منشار) وطبيب تشريح في تقطيع جسد المعارض جمال خاشقجى، ورغم ما يمثله ذلك من تطوّر نوعي في شكل القتل وإيصال المُعارِض إلى السماء، على أجزاء، إلا أننا نظنّ أن قتل جمال في القنصلية السعودية بتركيا قد بدأ بالسيف ثم تبعه (المنشار)، وذلك لما قد يحدثه هذا التغيير في أسلوب القتل من فتنةٍ وخلافٍ بين شيوخ الوهّابية في مكّة!
ومن المؤكّد إننا لا نمزح، وإن بدا الأمر كذلك، ولكننا للأسف نقرأ واقع أليم لطريقة آل سعود في التعامل مع المعارضين، وهي طريقة يتّفق في جوهرها القاسي والإجرامي قديمهم ومحدّثهم الذي يزعم نشر الحداثة والديمقرطية، محمّد بن سلمان، والذي هلّل له الإعلام الموالي وصفّق وعند جريمة خاشقجي أصيب بالخَرَس خاصة في بلادي مصر وفي إعلام المستقبل والقوات في لبنان.
إن طريقة التخلّص من المعارضين السياسيين في مملكة الملح كما سمّاها ذات يوم الأديب الكبير عبدالرحمن منيف، تمثلت في وسائل بشعة وإن كان الذّبح بالسيف والجَلد العنيف والتعذيب المُمنهج حتى الموت، مع اتهامات بالكفر _كما جرى ولا يزال مع سجناء الرأي من الطائفة الشيعية الكريمة _ ورغم أن آل سعود اشتركوا مع أنظمةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ في طُرُق القتل والتخلّص من المعارضين؛ إلا أنهم أضافوا لتلك الطُرُق مذاقاً خاصاً بهم، مذاقاً ميّزهم ودمغ تاريخهم منذ مذابح المؤسّس (عبدالعزيز بن سعود) عندما شرع في تأسيس مملكته والمُسجّلة في عشرات المراجع العربية والأجنبية لمَن يريد الاطّلاع.
وحتى الملك الحالي وإبنه وليّ عهده. وهنا سنتوقّف قليلاً أمام طريقة آل سعود في التخلّص من أحد أهم المعارضين السياسيين في تاريخ المملكة ونقصد به المناضل الشهيد ناصر السعيد، والذي أصدرتُ عنه كتاباً في العام 1989 وأسميته (قدّيس الصحراء ناصر السعيد – منشورات دار رياض الريّس في بيروت)، وأتذكّر وقتها أن أزلام آل سعود في مصر ولبنان قاموا بشراء عدّة طبعات من الكتاب فور نزولها الأسواق في محاولة غبيّة _ كما هي عادتهم حتى اليوم2018_ لمنع معرفة كيف قُتِلَ ناصر السعيد والذي يُعدّ بحق الأب الروحي الحقيقي للمعارضة تاريخياً ضد تلك الأسرة الحاكِمة. ناصر السعيد مناضل عربي قومي الاتجاه وله أفق إسلامي يساري. تقول سطور حياته القصيرة أنه ولِد في مدينة حائل بعد احتلالها بعام من قِبَل آل سعود، وكانت بداية الاحتلال في يوم مشؤوم هو يوم 29 صفر 1340هـ الموافق 2 تشرين الثاني – نوفمبر 1922م ويقول ناصر:
وقد ولِدتُ بعد هذا العام بعامٍ واحدِ ونظر لي أهلي كما ينظر أهل (حائل لمواليد السقوط)، سقوط حائل نظرة عدم استحسان، وكأنهم يريدون ألا تلد النساء أحداً بعد سقوط حائل بيد الأعداء.
وقد تربّى هذا المناضل كغيره من أطفال "حائل" في جوٍ ثوري، فأضاف إلى أن الكثير من أهله قد قُتِلوا دفاعاً عن الوطن من أعمامه وأخواله وحتى عمّاته وخالاته أُهنَّ واعتدِي عليهن، إلى ذلك، فإن جدّته كان لها الفضل الأكبر في نشأته الثورية، فقد تعلّم منها الكثير من آيات الصمود والمعارضة، وقد اعتِقل وعُمره سبع سنوات مع جدّته هذه في حادثة مع أحد جلاوزة الملك عبدالعزيز. وقاد ناصر المعارضة العمالية والسياسية ضدّ فساد واستبداد الحُكم السعودي حتى صدر أمر بإعدامه عام 1956، فأخبره "العقيد الذيب" المُكلّف بالأمر وهرب إلى الخارج بقيادة النضال.. وقد اغتيل العقيد الذيب في ما بعد بحقنة سامة في ألمانيا الغربية.
وفي عام 1958 بذلت السعودية أموالاً ضخمة لاغتياله وحينها استقدمه وحماه جمال عبدالناصر وسافر إلى القاهرة، وأشرف على برنامج "أعداء الله" الذي كانت تبثّه إذاعة صوت العرب وحين اشتعلت ثورة اليمن عام 1962 انتقل إليها في العام التالي، وافتتح مكتباً للمعارضة وأشرف على برنامج إذاعي تحت إسم "أولياء الشيطان"، كما قاد الكفاح المُسلّح من الحدود اليمنية. واستمر النضال حتى عام استشهاده 1979 ومن أشهر كتبه التي تُعدّ مرجعاً عالمياً كتابه (تاريخ آل سعود).
حين اندلعت ما سمّيت بانتفاضة الحرَم المكّي بقيادة جهيمان العتيبي في مكّة ّالمكرّمة وانتفاضة المناضلين الشيعة في المنطقة الشرقية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1979، ترك ناصر السعيد مقرّ سكنه في دمشق وذهب إلى بيروت ليرفع صوت شعبه. ويسمع نضالاته للعالم فأجرى مقابلات عديدة مع الصحف والمجلات ووكالات الأنباء، وأوضح لها حقيقة ما يجري في البلاد، ولكن وكما جرى مع خاشقجي –مع فارِق كاميرات التصوير وتكنولوجيا التجسّس- وفي وضَح النهار، نفّذت الحكومة السعودية ما عجزت عنه خلال ثلاثين عاماً قضاها ناصر السعيد في نضال مستمر ودؤوب، إذ اختطفته في وضَح النهار في بيروت بتاريخ 17/12/1979 وذلك بتدبير من السفير السعودي في بيروت وقتها وبعض المجموعات المدّعية للنضال والثورة التي نفّذت العملية، وهي غالباً من داخل منظمة التحرير الفلسطينية (لن أذكر الأسماء هنا والذي يرغب في معرفتها فعليه مراجعة كتابنا السابق : قدّيس الصحراء فيه هذه التفاصيل كاملة)، وتم الاختطاف بالتنسيق مع مدير المكتب الثاني اللبناني "جهاز الاستخبارات" آنذاك.
وتم قتل ناصر السعيد وإخفائه على طريقة آل سعود في إيصال المعارضين إلى السماء. بعض الروايات تقول إن طائرة سعودية خاصة كانت تنتظره في مطار بيروت فأقلّته إلى السعودية، وقُتِل في داخلها بالسيف –وفقاً للعقيدة الوهّابية- ثم ألقي به من الجو.
والبعض الآخر يقول أنه قد قُضيَ عليه في بيروت ذاتها.. وحين سُئِل سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع السعودي آنذاك في إحدى المقابلات عن التهمة التي توجّه إليه ولإخوته من أنهم وراء اختطاف ناصر السعيد أجاب: "إننا لسنا بحاجة إلى استخدام هذا الأسلوب" وأضاف أن "ناصر السعيد اختطف من بيروت الغربية التي تسكنها أغلبية مسلمة سنّية"، وألمح إلى أن المسلمين السنّة متعاطفون مع الحكومة السعودية وهم الذين قضوا عليه أو اختطفوه.
وواقع الأمر غير ذلك فلقد اختطف "ناصر" من تحت "جسر الكولا" في بيروت في طائرة خاصة سعودية، وتم إلقاؤه من الجو على ارتفاع 14 ألف قدم فوق "الربع الخالي.(لماذا 14 ألف قدم لأن الخبراء يعلمون أن أبواب الطائرة لا تفتح بعد هذا الارتفاع وإلا دمّرت!) .... وتلك طريقتهم في التعامل مع المعارضين من ناصر السعيد المعارض الحقيقي الصلب حتى جمال خاشقجي المعارض إبن الأجهزة التي غدرت به هي نفسها في النهاية.
ونحسب أن منظمات حقوق الإنسان عليها واجب أخلاقي وقانوني، ألا تصمت حتى لو صمت الجميع، فدماء هؤلاء المعارضين حتى لو اختلفنا سياسياً مع بعضهم، لاينبغي أن تضيع هدراً، ففي ذلك إهانة تاريخية لكل القِيَم التي تتّصل بحقوق البشر، ولكل مَن يحمل قلماً والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق