غياب الرؤى العميقة ، والأمية السياسية ، والتزمت والرعونة والانتهازية ، هي من الأسباب الأصيلة المسئولة عن تحول وطننا العربي إلى قطعة من الجحيم ، ووقوعه بين سندان الاستمرار في الاستبداد مضافا إليه غالبا التبعية للخارج ، وسحق النبوغ وعوامل الرقي أو الاستقلال الوطني الحقيقي ، وبين التحول إلى أمة من اللاجئين والمشردين.
ولا يعني ذلك أننا ندافع عن هؤلاء الحكام الخونة الذي نثق أنهم مجرد وكلاء عن الاستعمار لا أكثر ، ولكن نعتب على غفلة الثوار والحالمين بتغيير أحوال أوطانهم للأفضل ووقوع بعضهم في التحيزات الطائفية والمذهبية والعرقية وغيرها ، وفقدانهم العمل بقاعدة أخف الضررين أو حتى فهم صراعات قوى الاستبداد الإقليمية بعضها البعض ، وحاجات الدول التي تدفعها إلى التدخل بين شعوبنا وحكامنا وتجعلها تخشى نهضة بلادنا.
ولو سألت أحداً اليوم عن مصلحة إيران من تدخلها العسكري في سوريا ، لكانت من ضمن الإجابات الكثيرة إجابة: الدفاع عن بشار أو الشيعة ، ولو قلنا أن الشيعة هناك قلة لم تكن أبداً في خطر، لا من قِبل الثورة ولا حتى من قِبل أعدائها ،سيقولون أيضا أن التدخل كان بسبب رغبتها في تشييع سوريا رغم أنه لو كان الأمر بهذا الوضوح والنهم ، لأجبرت إيران ثلث مواطنيها من السنة وديانات أخري علي التشيع وكان ذلك أجدى لها - وهذا لا يعني أنها لا تمسهم باضطهاد وتمييز - كما أن تلك المصالح أو المكاسب تكاد لا تذكر مقارنة بما خسرته من صناعة أعداء جدد لها هي في غنى عنهم.
هذه نماذج لإجابات رائجة لكن الإجابة الأكثر منطقية هو أن إيران قصدت من تدخلها تأمين خط الإمدادات بينها وبين حزب الله في لبنان كذراع عسكرية متقدمة لها، ذلك الخط الذي يمر عبر العراق وسوريا وقصدت بعض القوى الكارهة لنشأة هذا التحالف قطعه من خلال استغلال الثوار في سوريا أو استغلالا لضعف وعيهم السياسي أو استثماراً لحصاد الجهد الدعائي في تأليب مشاعر الكراهية المذهبية بين السنة والشيعة ، وذلك من أجل صناعة حمام دم كبير تعود كل نتائجه بين الغالب والمغلوب في صالح إسرائيل ، بل ولصالح بقاء حلفائها في نظم الاستبداد العربي التي قامت ثورات الربيع العربي من أجل إسقاطها.
أهذا دفاع عن إيران؟
والسؤال الآن، هل يعد ذلك دفاعاً عن إيران وجرائمها في العراق وسوريا؟
بالطبع لا ، ولكنه تذكير بمدي خيانة أو استهتار أو قلة حيلة النظم العربية الحاكمة التي لم تسارع إلي منع إشعال الأتون السوري ليس بصب الزيت عليه كما فعلت وتفعل، ولكن بإيجاد الحلول الدبلوماسية الرشيدة التي تحترم إرادة الشعب في التغيير ، وتنظر في الوقت ذاته إلى متطلبات إيران وتؤمنها لها سواء انتصرت الثورة أو انتصر النظام الحاكم هناك.
ولو حدث ذلك على ما أعتقد ما تدخلت إيران في سوريا بكل تلك الفجاجة ، ولا كان أمر الثورة فيها يعنيها، وما سالت دماء مئات الألوف من السوريين ولا من حزب الله ولترك آمر الثورة هناك للسوريين ومنظمات العدالة الدولية.
لكن قطعاً لم يحدث هذا لأن هناك من لا يريد الخير لسوريا أو السوريين ويعنيه صناعة بؤرة صدام مذهبية لتخدم مشروعاته كزعيم للعرب السنة ، وهو مَن يعادي كل الثورات العربية قاطبة ومع ذلك نجده لا يقف معها إلا في المشهد السوري، وهو في الواقع الوقوف الذي حول الثورة إلي نزاع مسلح غرق فيه طرفي الصراع.
استبداد ، أم استبداد وعمالة؟
وفيما يبدو أن معظم حكومات الوطن العربي كانت قبل الربيع العربي مقسمة بين نوعين من نظم الحكم، الأولى نظم حكم استبدادية لا تحظي بشرعية شعبية ، والثانية نظم حكم استبدادية لا تحظي بشرعية شعبية وأيضا عميلة للخارج ، وعملت قوى الغرب على الاستيلاء على تلك الثورات وتحويلها لصالحها،عبر تقوية نظم التبعية لتعود أقوى مما كانت كما هو الحال في المشهدين المصري و"التونسي سابقا" ، وهدم الدول التي ترفض أو تمشي بخطى متثاقلة في دخول الحظيرة الغربية ثم بنائها على الأساس الذي يرغب فيه بانيها، وها هنا نرى بشار الأسد ونظامه يعود تابعا ذليلا لروسيا كواحدة من قوى الاستعمار العالمي ، ونرى الناتو والاتحاد الأوربي والأمريكان هم أصحاب القرار الأول والأخير في ليبيا.
لقد كانت ليبيا من نماذج تلك الثورات على "الاستبداد"، الاستبداد فقط وليس العمالة ، فليبيا كانت في اعتقادي أكثر استقلالا بدليل أن الغرب حاصرها في قضية لوكيربي التي وقعت عام 1988 حتى عام2002 ، والأمر ذاته ينطبق على سوريا، حيث كانت إحدى ثاني الدول التي اعتبر أنها التالية المرشحة للغزو الأمريكي بعد العراق.
أما مصر وتونس فهما من نماذج تلك الثورات على "الاستبداد والتبعية" والحديث عن التبعية هنا قد لا يحتاج للتدليل ، ففي الحالة المصرية مثلا ، يكفي القول أنها هي من بادرت بجر قاطرة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني ، والآن هي من تدعو لتصفية القضية الفلسطينية والسلام الدافئ وصفقة القرن وبالطبع ذلك كله خدمة لإسرائيل ، فيما لا ينكر احد مدى التدخل الفرنسي في القرار السياسي التونسي سابقا، ذلك كان قبل ثورة الشباب ، أما بعدها وبعد أن أخمدت المؤامرات الغربية وأذنابها في الدخل جذوة الثورة فكانت السخرية من تلك الثورة بأن جعلت ثورة الشباب تتمخض عن رجل تسعيني حاكما للبلاد.
الصراع المذهبي
القوى المضادة للربيع العربي التي كما نعلم رأسها في الخارج وذنبها في الغالب هو من يحكم في بلداننا العربية ، استفادت كثيرا من الثورة السورية بعد أن حولتها إلي حرب طائفية ، أفزعت الناس في أقاصي الوطن العربي ، وشوهت فكرة الربيع العربي كخلاص للشعوب الراغبة في الحرية والاستقلال ، وعززت فكرة الخير في البقاء ضمن الحظيرة.
الغرب والمتشددون في الداخل يزجون بالعرب في هذا الجحيم الذي لا ناجي منه ، بينما تجاوز الغربيون تلك الخلافات في بلدانهم واعتبروها مصدر إعزاز وطني يدل على التنوع والتعايش المشترك.
الحرب المذهبية هي أخطر القنابل التي يسعى جميع الكارهين للعرب في تفجيرها في الوطن العربي، فلنحذر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق