ما الذى يستطيع الانسان الطبيعى ان يتحمله اكثر من الثانى؟
1) ان يعيش سالما فى منأى عن أذى السلطة ويدها الباطشة، مقابل ان يرضى بالذل والظلم والقهر ويعيش طول حياته جبانا خاضعا مستسلما لا يعارض، لا يتململ، لا يتأفف، لا ينطق؟
2) أم أن يعيش حرا شجاعا يرفض الذل والظلم والقهر ويتحمل العواقب التى قد تكلفه حياته أو حريته أو أمنه ووظيفته واستقراره؟
***
تراهن الأنظمة المستبدة على الاختيار الاول، لأنها تتصور ان غالبية الناس تؤثر السلامة، تجنبا لبطش السلطة وأياديها الطايلة.
· ولقد قالها صراحة شيخ القضاة المستشار "يحيى الرفاعى" عليه رحمة الله، حين قال ان الغالبية العظمى من القضاة ليسوا فدائيين، فرغم انهم يرفضون تزوير الانتخابات وتدخلات وهيمنة السلطة التنفيذية وينشدون استقلالهم واستقلال القضاء، الا انهم ليسوا فدائيين، بمعنى انهم ليسوا على استعداد لتحدى السلطة التنفيذية والتعرض لتنكيلها.
· ما قاله الرفاعى، ينطبق من منظور الحاكم المستبد، على غالبية المواطنين، فهم ايضا ليسوا فدائيين، وقليل القليل منهم الذي لديه الرغبة او القدرة على تحدى السلطة، اى سلطة، واى متابع سيكتشف بسهولة ان نسبة الموظفين فى اى مؤسسة او شركة عامة أو خاصة الذين يخاطرون بتحدى رؤسائهم لا تتعدى ١ ٪ وربما اقل.
***
ولكن فى المقابل:
· ما الذي يدفع كل هذا العدد من المفكرين والسياسيين والكتاب والشخصيات العامة والشباب وكل الذين يتمتعون بتاريخ مشرف وتعليم جيد وثقافة واسعة ووعى وذكاء لا بأس به بالإضافة الى حسن تقدير للامور، ان يستمروا فى نقد ومعارضة عبد الفتاح السيسى ونظامه ومؤسساته، رغم علمهم وتيقنهم من العواقب التى يمكن أن تطالهم بدءا بالحصار والتشهير والمنع من الكتابة نهاية بالإعتقال والسجن؟
· ولماذا يرفض كبار الكتاب رفضا قاطعا اى تعديل او مونتاج او توجيه او رقابة على مقالاتهم، حتى لو كان الثمن، المنع من الكتابة والنشر وخسارة قنواتهم الوحيدة للتواصل مع قرائهم؟
· ولماذا يكون هؤلاء الكتاب المحظورون محل احترام وتقدير عشرات المرات من أمثالهم الذين قرروا التواؤم مع السلطة والخضوع لخطوطها الحمراء؟
· لماذا لا يهرب ويتراجع المتظاهرون امام الغاز المسيل للدموع وهراوات الامن المركزى؟
· لماذا تؤدى التهديدات الامنية للمعارضين الى نتائج عكسية، فيزدادوا تحديا ومعارضة؟
· لماذا تحتفى القوى السياسية على مر التاريخ بقياداتها وعناصرها التى صمدت ولم تكسرها اجراءات التحقيق والتعذيب وسنوات السجن والاعتقال الطويلة؟
· لماذا تحرص كل شعوب العالم فى مناهجها التعليمية وفى اعمالها الأدبية على ابراز وتخليد وتمجيد قيم الشجاعة والاقدام والتضحية فى مواجهة كل انواع البغى والظلم والقهر والعدوان؟
· ما الذي دفع كل هذا العدد من القضاة، رغم ما يتمتعون به من حصانة وامتيازات ومكانة خاصة، الى القيام بانتفاضتهم عام ٢٠٠٦؟
· لماذا تعج مصر وغيرها من البلدان بهذا الكم الهائل من حركات المعارضة والتنظيمات العلانية او السرية على امتداد قرن من الزمان، رغم ان السلطات والقوانين واحكام القضاء لم تكف عن مطاردتهم والقبض عليهم والتمثيل بهم؟
· لماذا يعلم غالبية المعتقلين ان احتمال الافراج عنهم فى القريب العاجل بعيد الاحتمال، وأنهم قد يموتون فى السجون ورغم ذلك يرفضون الخضوع والاستسلام؟
· وهو ما ينطبق على كل المعتقلين السياسيين على مر العصور؛ ينطبق على الوفدين والشيوعيين والاخوان فى الخمسينات والستينات، وعلى الناصريين والشيوعيين فى السبعينات والثمانينات وعلى المعتقلين فى السنوات الأخيرة؟
· لماذا لم يتوقف الشباب عن التظاهر بعد سقوط كل هذا العدد من الشهداء فى جمعة الغضب فى ٢٨ يناير2011؟
· ولماذا حدث نفس الشئ مع الاسلاميين بعد رابعة واخواتها؟
· لماذا لا يستسلم آلاف الاسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال؟
· ولماذا يتسابق شبابهم على الاستشهاد كل يوم؟
***
انها النفس البشرية التى جبلها الله على العزة والكرامة..
ولكن حتى لو ظهرت للوهلة الأولى، صحة رهانات الأنظمة المستبدة وفاعلية استثماراتها الأمنية والبوليسية فى خوف الناس، فان كل هذا مؤقت وغير مضمون العواقب؛ فحين تأتى الشرارة التى تولد الانفجار، مثل شرارة محمد بوعزيزي فى تونس او خالد سعيد فى مصر أو محمد الدرة فى فلسطين، أو هزة وطنية كبرى مثل نكسة 1967 أو افقار جماعى مثل رفع الأسعار فى 1977 أو انهيار اقتصادى مثلما حدث فى بلدان كثيرة مثل اندونسيا عام 1998، او انتفاضة عمالية مثل المحلة الكبرى فى ابريل 2008، او سقوط ضحية جديدة تحت التعذيب فى قسم شرطة فى احدى المناطق الشعبية، او فتنة طائفية مثل الزاوية الحمراء 1981، أو فجيعة قومية مثل غزو العراق فى 2003 أو مذبحة صهيونية جديدة مثل صابرا وشاتيلا 1982، أو عدوى عربية مثل تفجر ثورة شعبية فى قطر شقيق 2011، والأمثلة والدروس كثيرة ومتعددة ... حينها يتبخر الخوف فى ثوان معدودات، وتنطلق انفجارات نووية من الغضب والعنف والرغبة فى الثأر والانتقام بلا حدود، بعد أن يكون قد فات الأوان.
ولم يحدث من قبل فى تاريخ أى بلد من بلاد العالم، أن استمر الشعب خائفا مستسلما خاضعا الى ما شاء الله.
ومن ثم فعلى أى سلطة رشيدة، ان تحسبها بالعقل والمنطق، وان تقرأ التاريخ وتستوعبه جيدا، وأن تدرس طبيعة النفس البشرية وقدرتها على التحمل، وان تتعرف على شخصية شعبها وتحترمها وتتقى غضبها ولا تستهين بها، وأن تعلم ان هناك حدودا لكل شئ، حدودا لقوة الردع والبطش والاذلال، وحدودا للخوف وحدودا للصبر.
*****
القاهرة فى 10 أغسطس 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق