كانت الشمس تملأ صفحة الكون ضياء وبهجة؛ وكانت لفحاتها منعشة رطبة تبعث أشعة من الدفء الوافر يكاد يخترق الأجساد ليهب إلى الأفئدة أيضا راحة وقرارًا..
وسط هذه الأجواء العطرة النضرة؛ كان وجه "عائشة" وحده مؤرقًا قلقًا، كانت واجمة حزينة من كلام الأطفال في أول يوم لها في المدرسة؛ أخذ الأطفال من حولها يتحدثون في فخر وسعادة عن شيء اسمه "بابا"؛ يتحدثون عنه ويحكون كيف أحضر لهم أجمل الثياب، وكيف حمل عنهم الحقيبة المدرسية المثقلة بالدفاتر، وكيف سيرتمون في أحضانه عند عودتهم من المدرسة ليحكون له عن تفاصيل هذا اليوم الأول في حياتهم..
وأنت يا "عائشة".. أين هو "بابا"؟ هكذا سأل الأطفال زميلتهم؛ فألقوا في جوفها ارتباكًا فلم تعرف كيف تجيب، وأصابوها بكدر وهم بأن تنظر إلى نفسها وكأنها أقل منهم في هذا اليوم الأول الذي تتعرف فيه عليهم..
والحقيقية أن ارتباكها كان أكبر من كونه شعورًا عابرًا بالنقص، فقد كانت واجمة في الأساس لأنها لم تعرف المعنى الحقيقي والمغزى من تلك الكلمة التي تلفظوا بها كثيرا أمامها..."بابا"..
في حين أنها أخفت عدم معرفتها بها، وأضمرت في نفسها أنها ربما ستتعرف عليها عندما تبدأ المعلمة في الشرح، أو علي الأكثر عندما تعود إلي البيت فتتعلمها من أمها وتجتهد معها في الاستذكار والحفظ.. فهي تريد أن تتقدم على زملائها في كافة المواد الدراسية ومنذ بداية العام..!!
وهكذا تعالت "عائشة" عن الإجابة وتفلتت من الموقف بلباقة معقولة تليق بطفولتها البريئة، وعقب انتهاء اليوم الدراسي، ركضت "عائشة" على المنزل وسريعًا سريعًا أخرجت كافة الكتب ودفاتر الدرس والأقلام، وحتى فرش التلوين وأوراق الرسم، تعجبت الأم من هذه الهمة والإقبال الشديد من ابنتها الصغيرة على الدراسة والاستذكار حتى وقبل أن تتناول طعامها أو تبدل ملابسها، تبسمت الأم واحتضنت ابنتها مداعبة.. "لنرجئ الاستذكار لحين تناول الغذاء يا صغيرتي الحبيبة..".. ولكنها فوجئت بملاح ابنتها وقد تغيرت ولمع في عينيها بريق تحدٍ وقلق شديد...
قالت "عائشة":"أمي.. ما معنى "بابا"؟! أسقط في يد الأم، وفوجئت بالسؤال المباغت من طفلتها، أكملت الابنة: "كان الأطفال اليوم في المدرسة يتحدثون عن هذا الـ"بابا".. ووحدي لم أعرف ما هو.. رجاء يا أمي، ابحثي لي عن هذه الصفحة من الكتاب وذاكريها معي حتى أحفظها مثلهم عن ظهر قلب.."!
أخفت الأم دموعها قبل أن تنهمر.. وأجابت: "صفحة "بابا" ليست مدونة في كتاب المدرسة يا صغيرتي، ولكني سوف آتيك بها".. وهنا أحضرت الأم صورة ضوئية لشاب في مقتبل العمر لا تحمل ملامح وجهه إلا كل ثقة ومروءة ونبل.
فرحت "عائشة" بالصورة أيما فرح؛ فقد صارت الآن لا تعرف فقط ما هو "بابا" بل تزيد علي أقرانها أنها تحمله وتحتفظ به معها..
في اليوم التالي ذهبت الصغيرة إلى المدرسة شديدة الفخر والاعتزاز، وسرعان ما أخذت تحكي للأطفال أن "بابا" معها هنا في المدرسة.. اجتمع حولها زملاؤها جميعا يريدون أن يروا "بابا" عائشة، وينظرون في كل مكان ويسألون بتطلع "أين هو"؟؟ وبعد أن رأت "عائشة" كل هذا الفضول من أقرانها، ووقر في قلبها أن لديها ما ليس لهم جميعا، هنا اتجهت الصغيرة إلى حقيبتها وأخرجت صورة ضوئية.. معلنة بكل زهو.. ها هو.."!!
وهنا انفجر الأطفال من حولها في الضحك، في البداية كانوا يظنون أنها تمرح أو تداعبهم؛ ولكن حينما رأوها كيف انخرطت هي في البكاء الشديد.. أدركوا بحسب ما تمكنهم براءتهم من إدراكه أن "عائشة" في أزمة حقيقية، وأنها بالفعل لا تعرف ما هو "بابا"..
وهنا اجتمع الأطفال وتناقشوا في أمرها، وقبل أن يذهبوا إليها ليواسوها ويعتذروا لها، قرروا أن يجدوا لها إجابة مقنعة حول "بابا" هذا الذي يحيرها.. اتجه الأطفال إلى زميلتهم الباكية، وبعد نقاش وجدال وأخذ ورد استرجع فيه الأطفال كل ما يدور حولهم في المجتمع ويتأثرون به رغما عنهم، استقر رأي الجمع الصغير على أن "بابا" عائشة "معتقل"..!
"نعم يا عائشة.. "معتقل" أي مثل والدي".. هكذا أجابت على تعجبها طفلة أخرى معها في الصف الدراسي نفسه، وأكملت: "وهذا معناه أنه لكي تتمكني من رؤيته.. أن تطلبي من والدتك أن تصحبك معها في زيارته، وربما كان مع والدي في سجنه نفسه، حتى نذهب معا في زيارة واحدة..".
وللمرة الثانية تطير الصغيرة فرحًا، وتجري على والدتها فتطلب منها أن تصحبها في الزيارة، اندهشت الأم من تفسير الأطفال.. وللمرة الثانية تخيب الأم رجاء ابنتها، وتؤكد لها أنها لا تعرف مكانه أو في أي سجن هو، ومن ثم فلا توجد زيارة لتصحبها فيها.
حار الأطفال في أمر "بابا" عائشة، وانتهي جدالهم هذه المرة، إلى أن "عائشة" ربما تكون يتيمة.. في حين أن والدتها من المؤكد أنها لم تخبرها بذلك.
وهذا يعني يا "عائشة" أن "بابا" الخاص بك قد توفي، وأنك لن تريه، وإنما لك أن تذهبي عند قبره وترفعي يديك لتسألي الله تعالى له المغفرة والرحمة..
حزنت "عائشة" أنها لن ترى "بابا" ولكن وقرت في قلبها طمأنينة أن تعرف أين هو، وماذا يجب أن تفعل حياله؟ وعندما تهيأ هذا القلب الصغير أن يدرك معنى الحياة والموت، وأن يتقبل إرادة الله في الفراق، من جديد نفت الأم الفكرة وأعادت القلق للطفلة الصغيرة، وأكدت لها أن "بابا" ليس له قبر.. وغير معلوم له مكان.. لا قبر.. ولا سجن.. بل هو "مختف" يختطفه ظالمون جاحدون ويخفونه عن الأعين جميعها نكاية منهم في معاني الحق والخير التي يحملها قلبه ولسانه؛ يتسللون له كل ليلة ليحاولوا سرقة ما أضمرت عليه نفسه من إباء وإخاء؛ يحرمونه من ابنته وبيته وأسرته حتى يكتب صكا يتنازل فيه عن أمل ووطن وحرية، ولأنهم حتى الآن لم يفلحوا في استئصال شريف معدنه، أو في استلاب مراميه الخيرة.. فما زالوا على "إخفائه" مؤملين أن يصلوا من خلاله إلى معاني الأنفس الكبيرة فيقهروها، وإلى مواطن الأمل المنير فيُطفئوه!!
فرت "عائشة" من أمام حديث والدتها؛ الأمر كله أصابها بالحيرة.. معانٍ كثيرة سيقت إليها بكثافة في وقت صغير، وكأنه درس يصعب عليها فقه ما فيه من كثرة ما يحوطه من أحاجي وألغاز..!
**********
انفردت الطفلة بنفسها وأخرجت صورة "بابا" وأخذت تسترجع اللغز منذ بدايته، فكل ما كان يعنيها هو أن تعرف ما هو هذا الـ "بابا" الذي يذكره الأطفال بفرح وفخر؛ تأملت الصورة الضوئية بعناية، وحدثت نفسها هل يمكن أن تكون هذه الخطوط والألوان التي رسمت تلك الملامح هي هذا الـ" بابا" الذي حمل لغيرها تلك السعادة وهذا الزهو.. ثم ما هو معنى "مختفٍ" تلك التي كررتها أمها كثيرا.. أيكون "بابا" هذا شبحا غائرا في عمق الكون من حولها يتصنت لها ويترقب من بعيد ليهبها الابتسامة والضحكات أو يمد يده لها عندما تكاد تسقط من فوق أرجوحتها بعد أن ترتفع بها وتحلق، أو ربما هو من يقنع والدتها أن تزيد لها في مصروف الحلوى كل يوم..!
ماذا يكون هذا الـ"بابا"..كل ما أتذكره أني سمعت به من قبل وكأنه طيف لطيف أو مرفأ ظل ليوم شديد القيظ.. أتذكر أني نعمت من قبل بحضن دافئ فكدت بداخله أذوب من فرط الحنو والرحمة، ويجول في خاطري كذلك تلك الطمأنينة التي شعرت بها من قبل عندما كانت هناك يد حانية تمسح على رأسي حتى أغرق في النوم..! لا أدري..
-"وما زالت عائشة هنا تحدث نفسها"-: ربما كانت هذه ذكريات من الأحلام وهمس محفور في مخيلتي من بقايا حكايات جدتي وأمي..!
أيكون إذن هذا الـ"بابا" هو طيف أحلام الطفولة الساذجة، يأتي لنا في الصغر، ونحرم منه عندما نكاد نشب ونقبل على الحياة، هل هناك من يسرق "الحلم" فلا يريده أن يتراءى لعين الصغار، فيصير لهم مستقبل جاف مرير بلا أحلام..!
من هذا "الظلم" الذي حكت عنه أمي، والذي يباغت مواضع الحلم ويسل عليها سلاحه وبطشه..!!
زاحمت الأفكار الكبيرة، عقل "عائشة" الصغيرة، ولكنها على أية حال أبرمت أمرها، واستقر قلبها على أن تستحضر الحلم، أن تصنعه بنفسها، ولا تسمح لأحد أن يسلبها إياه..
أخذت عائشة تتأمل صورة الـ"بابا" كثيرا.. كثيرا.. ثم احتفظت بها تحت وسادتها وقررت أن تستدعي كل معاني هذا الطيف الجميل الذي احتفظ بها خيالها الصغير، ثم أغلقت عينيها مؤملة أن تراه..!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق