قصة: فجر عاطف صحصاح
أخذ لنفسه ركنا يغوص فيه وحيدا ويختبئ حاويا آلام نفسه ضد كافة محاولات رفقته بالزنزانة أن يعرفوا ما ألمّ به، ورغم أن زنزانة "العقرب" لا تسمح بهذا، إلا أنه بذل جهده أن يغلق حواسه عمن حوله؛ فلا يستجيب ولو مع كثرة الإلحاح وشدته.
لم يكن هذا متوقعا منه وهو الذي ملأ أجواءهم من قبل مرحا وأملا في شهور إغلاق الزيارة، والتي فرضت حالة من التجويع والحصار والقهر على الجميع، كانت سكناته ومرح وطفولة قلبه تضفي عليهم صبرا لم يكن متوقعا وسط برد الشتاء القارس، ووخز الجوع المضني..!!
لماذا يفر منهم الآن إذن وقد فُتحت الزيارة بعض الشيء، صحيح أنها لا تزيد عن ثلاثين ثانية في كافة الأحوال، ولا تكون إلا عبر حاجز زجاجي، ولم يتم السماح بإدخال الملابس أو الأغطية الشتوية؛ إلا أنها على أية حالة قد أتاحت لهم الإطمئنان على الأهل والأحباب، وكذلك أتاحت للأهل وضع النقود في صناديق الأمانات الخاصة بكل معتقل؛ وهو ما يعني أن يتمكن المعتقلون من شراء بعض الطعام أو الدواء ما قد يقيم أودهم ولو قليلا، خاصة أن من اعتاد الحرمان التام سوف يقبل أن يعيش ولو بالقليل..
استمر همس المعتقلين قلقا على من لاذ بالوحدة والتقوقع على سره الذي لم يرد أن يفضي به إلى أحد.. ولأن همس السجون صياح؛ فقد وصل إلى مسامعه ما يؤرق رفقاءه بشأنه، وآلمه أنه لا يستطيع البوح لهم، وفي الوقت نفسه يزيد همُّه همًّا كلما تسرب إليه شيئا من حديثهم..
لم يعد يطيق.. فكلماتهم تنحر في كل قدرة له على السكينة والصبر، وتكاد تعصف ببركان هائل بداخله يغلق عليه قلبه لئلا ينفجر..وفي هذه الليلة ذاتها حزم أمره، وقرر أن يرحل...
ولكن..وهل في العقرب رحيل..كيف...وإلى أين..!!
في الصباح ظل يطرق على الزنزانة بكل ما يعتصر وجدانه من أنين وحرقة، وبكل ما يجيش بداخله من سر اختار أن يدفنه معه حتي النهاية..وبالطبع ظل يطرق على الزنزانة حتي قبيل العصر بقليل..ورفاق الزنزانة في هذا كله يقتلهم القلق عليه ويستميتون في معرفة أمره..وهو يقابلهم بصمت عميق..وابتسامة لها مظهر الهدوء..في حين أنها لا تنجح أن تخفي معاني الألم..
جاءه السجّان مشمرا عن أنيابه مقبلا على صفعه ورميه بأقبح الألفاظ...تَحمّل كل هذا ثم بادر السجّان يطلب منه أن ينقله إلى الحبس الانفرادي..!!
نزلت الكلمة كالصاعقة على الجميع....لم يفاجأ بها زملاؤه المعتقلون فقط، بل حملت أيضا ملامح السجان دهشة وعجبا من طلب كهذا، فعادة ما يكون الحبس الإنفرادي لون من العقاب الإضافي، يفر منه الكافة؛ لما له من مظهر الفزع ولما يضيفه على الأيام والليالي من طول وقسوة..!!
بعد أن اختفت دهشة السجّان، نظر إليه ضاحكا مستهزئا، أو ربما متشفيا من سجين يطلب بنفسه التكدير والعقاب، ولأن فطرة السجّان كانت قد انطبعت على الرغبة في الإيذاء، وحب الألم للآخرين، فقد سارع في تنفيذ طلبه، وكيل كل ما يقدر عليه من المشقة لهذا المسكين الضعيف...
رحل المعتقل الصامت الحزين بإرادته، وفرّ مُختارا من وسط زملائه وأقران محنته، تركهم وهم يبكون لحاله الذي لا يعرفوه، ويشفقون على سره الذي آثر أن يكتوي به وحده دون أن يشاركه فيه أحد، رحل عنهم قبل أن تخور عند حنانهم قواه فيبكي بين أضلعهم ويحكي عما ألمّ به، غاص في بوتقته الخاصة حتي يعتصره الألم وحده ولا تجبره رقة من حوله على أن يتقاسموا معه الأنين أو الهم..
وأخيرا..صار في محبسه وحده، وقد آن لدمعه أن يسيل، سمح لنفسه أن يفكر في جسده البشري هذا الذي يطلب من الاحتياج القليل؛ في حين أن قسوة القلوب تحرمه من الفتات....
*******
كيف كان يمكنه أن يقول لرفاق عمره وزملاء محبسه أن ألمه كان من شدة الجوع، وأن أمعاءه الخاوية كاد صوت صراخها أن يخترق أذنيه حتي ودون أن يطرق لها، فقبل أيام كانوا جميعا في هم واحد سواء بسواء، فتقاسموا الهموم حتى تفتت وعن قلوبهم قد انحسرت؛ أما الآن فلماذا يجبرهم على أن يحملوا معه هما خاصا؛ فالزيارات كانت مغلقة ومعها كان شراء الطعام ممنوعا على الجميع، أما الآن-وربما لن يستمر هذا طويلا- فكل معتقل مطلوب من أسرته أن تضع له في الأمانات ما لا يقل عن ثلاثة آلاف جنيها شهريا كي تكفيه بالكاد نظرا لتعمد إدارة "العقرب" منع طعام السجن، ومعه المبالغة في أسعار "الوجبات الخاصة" لاستنزاف الأهالي والمعتقلين..
..في الزيارة سأل زوجته على استحياء إذا ما كان في مقدورها أن تضع له بعض الأموال ليستعين بها على الطعام والشراب بالداخل، وهنا ضاعت الثواني المعدودة في تفتيش الزوجة عما في حافظة نقودها من مال، وأخذت تضع الجنيه على الآخر؛ حتي تأكد أن كل ما لديها لم يكن أكثر من ستين جنيها..!!
حاول جاهدا أن يمحو سريعا أثر دمعة غافلته وسقطت، ثم رسم مكانها ابتسامته الصابرة المحتسبة دائما..
لم تفت ملامحه الحزينة على زوجته المحبة، فلم تستطع أن تتمالك نفسها أمامه؛ فأجهشت بالبكاء...
وهنا... انتهت الثواني القليلة التي يسمونها زيارة، وبقيت صورة زوجته الباكية مرسومة لا تفارق مخيلته، ورغم أن زوجته كانت قد تركت كل ما معها وهو الستون جنيها في "الأمانات"، ورغم أن هذا قد كلفها إراقة ماء وجهها كي تطلب من احدي الزوجات أن تدفع لها ثمن الركوب في الحافلة في رحلة العودة، ورغم أن الزوج قد أهمه حال أهله وقد فطن إلى أنهم في رقة من الحال يرثي لها، إلا أن هذا كله لم يغير من الأمر شيئا، وهو أن كل ما لديه الآن كي يأكل أو يشرب مدة شهر أو ربما أكثر، لا يزيد عن الستين جنيها..!!
تجمعت آلام الجسد على آلام النفس، وقد حاصرت الروح المؤمنة واليد الضارعة جسدا شاحبا تصرخ فيه أعضاؤه المنهكة ألما وأرقا، وتحدثه بحديث ضعف لم يعرف به من قبل..!!
لم يقبل أن يكون على رفقاء زنزانته عبئا في الطعام والشراب والذي لا يكاد يكفي أصحابه في الأساس، وربما تم منع الزيارات ومعها "الأمانات" بعد أيام قليلة كما يحدث دائما، فلماذا يقاسمهم هذا الفتات الغالي الثمن الآن؛ آثر أن ينذوي قبل أن يضطر أن يريق كل كبرياء بداخله، وأن يحط يدا كانت دوما يدا عليا..!!
ما الذي كان يمكن أن يحكيه لرفاقه..؛ هل يشيح عن قلبه ستره ويكشف لهم عن كل ما فيه من قلق بشري على أولاده وزوجته والذي لا يعرف كيف يقتاتون الكدر والمشقة وهم يمضون وحدهم بلا عائل، أم يهتك عزة وشَمم نفسه ويكشف عن جوع بطنه وصراخ أمعاءه..وقبل وبعد كل هذا؛ فعميق إيمانه وثقته بخالقه لا تجعله أبدا يشكو حاله لأحد، ولم يعتد من قبل سوي على التجلد والاحتساب والاحتمال..
اختار أن يحبس نفسه داخلها، فاجتمع له مرارة المحبسين..!!
وهناك وفي أول ليلة له في زنزانته الجديدة، احتضن الأرض الخشنة، وأخذ يلينها بدموعه الهادرة وهو يشكو لربه في سجدة تضرع؛ بعد أن تيقن بمن عليه أن يلوذ وإليه يجب يفر...!
وهناك ..وقبل أن يلملم الليل ستاره...كانت الزنانزين الانفرادية –الاختيارية- بالعقرب جميعها قد امتلأ، وبات للنحيب صوت أعتى من كافة الرعود المائجة...!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق