بسم الله الرحمن الرحيم
علاقة العروبة بالاسلام
بقلم الناصر خشيني
الحديث عن العروبة والاسلام ليس حديثا عن نقيضين بل حديث عن كائن حي بجسده وروحه فلا مجال لقبول ذلك الرأي الذي يناقض العروبة بالاسلام أوالاسلام بالعروبة فهما عبارة عن عملة واحدة أحد وجهيها الاسلام ووجهها الآخر العروبة وذلك أن أمتنا معرضة للغزو الاستعماري ونهبه وما يبقى لدينا من خيرات كثيرة تستأثر به القلة الحاكمة ومن والاهم من قوى التجزئة والطائفية البغيضة فليس لنا خيار سوى مواجهة هؤلاء الأعداء المعروفين بأسمائهم وصفاتهم والذين يعرفهم الجميع فلا مجال للمناكفة في هذا الأمر.
وهذا الموضوع هام جدا ويثير جدلا يصل حد العنف أحيانا وهو مسألة خلافية بين عديد الأطراف والتي تحررت خاصة بعد الثورة العملاقة التي أنجزها شعبنا العربي في تونس ولا نزال نعيش تداعياتها وآثارها لذا فان هذه المسألة يمكن أن تطرح العديد من القضايا الجانبية المحيطة بها من هنا أو هناك لذا فانها متشعبة ولا يمكن لأي كان الاحاطة بكل ما فيها من تفرعات ومن ذلك ان د محمد عمارة كتب العديد من الدراسات والكتب في هذا المجال وكذلك د عصمت سيف الدولة حاول أن يلم بالكثير من تفرعات هذه المسألة في كتابه عن العروبة والاسلام والذي يعتبر مرجعا هاما في هذه المسألة التي تبقى دوما أكبر من أن يحيط بها انسان وبما أنها كذلك وحيث انها خلافية فاني أحاول أن أقدم مقاربة ليس الا في محاولة للتعامل مع هذا الموضوع الذي سيكون موضوع نقاش وحوار بعد هذه المداخلة يقول الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه عن العروبة والاسلام في مستهل كتابه " فى الوطن العربى طائفتان إختلفتا فاتفقتا . طائفة تناقض الإسلام بالعروبة وطائفة تناهض العروبة بالإسلام . فهما مختلفتان . وتجهل كلتاهما العروبة والإسلام فهما متفقتان . وإنهما لتثيران فى الوطن العربى عاصفة غبراء من الجدل ، تكاد تضل الشعب العربى المسلم عن سبيله القويم .
إن الحديث عن " العروبة والإسلام " ليس حديثاً عن كل من الإسلام والعروبة بل هو حديث عن العلاقة بينهما .. " 1العروبة تلزم الشعب العربي بمواجهة أعدائه جميعا " إن استجاب الشعب العربي ، لما تلزمه به العروبة ، لعرف معرفة اليقين ، أن التناقض الأساسى بين واقعه وحاجته ، يتمثل فى أن ليس كل ما هو متاح فى
أمته من أسباب التحرر والتقدم ، متاحاً له ليتحرر ويتقدم ، لأن العدوان الخارجى سلبه إمكانات مادية وبشرية هو صاحبها ، بحكم أنها إمكانات أمته ، ولأن العدوان الداخلى ، يسلبة القدر الأكبر مما أفلت من العدوان الخارجى ، فيستأثر به من دونه إحتكاراً واستغلالا .
فإن كان أكثر وعياً لدلالة الدروس الصارمة ، التى يتلقاها كل يوم من أحداث عصره ، لعرف معرفة اليقين أن لا أمل ، لا أمل على الإطلاق ، فى أن يتقدم حرية ورخاء ، بقدر ما هو متاح فى أمته ، إلا بأن يواجه أعداءه
جميعا ، فيسترد حريته ويقيم وحدته القومية ." وذلك أن الوطن العربي محتلة أجزاء منها كسبتة ومليلة ومنطقة الأوغادن وكل فلسطين والجولان وامارة الأحواز والجزر الاماراتية الثلاثة ولواء الاسكندرونة و سيناء دون سيادة اضافة الى التجزئة فلن تتحرر أمتنا دون أن تبسط كامل سيادتها على كل أرضها المحررة من الاستعمار الأجنبي والاستبداد الداخلي وقد بدأ الشعب العربي يثور ضد هذا الوضع البائس ويسقط الحكام الواحد تلو الآخر ونأمل أن تستكمل هذه الثورة مهامها قريبا باذن الله .
2 كيف نفهم القتال والجهاد في الاسلام فإذا إستجاب الشعب العربى ، لما يلزمه به الإسلام ، لوجد أمرا صريحا بالقتال ضد المعتدين : قال تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {194}) ، وقال تعالى (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ" وحرض عباده المؤمنين على عدم قبول الذل فقال تعالى " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ " إن بعض هذا وليس كله كافيا بأن يحدد الشعب العربي أعداءه ويحفزه على محاربتهم والنصر عليهم 3 الانتماء المتعدد .. وجود طبيعي الإسلام علاقة إنتماء إلى دين. يقول تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً " والعروبة علاقة إنتماء إلى أمة بشطرى تكوينها : الشعب والأرض ، وما أثمر شطراها على مدى التاريخ من حضارة إنها إنتماء إلى وضع تاريخى .
و أن الله جل شأنه لم يأذن للمسلمين بقتال غير المسلمين ممن ينتمون معهم إلى مجتمع واحد إلا فى حالتين : الأولى ، محاولة غير المسلمين إكراه المسلمين بالقتال على الردة عن دينهم ، والثانية : قيام غير المسلمين بإخراج المسلمين من ديارهم : قال تعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {9}
ثم إن الإسلام علاقة إنتماء تنشأ بالتمييز ، فالادراك ، فالإيمان ....وهكذا يستطيع أى إنسان مميز غير مكره أن يختار الإسلام ديناً أو أن يختار دينا غيره على مسؤوليته الشخصية في الدنيا والآخرة اذ لا تزر وازرة وزر أخرى أما العروبة فعلاقة إنتماء إلى وضع تاريخى تدرك العربى منذ مولده وتصاحبه حتى وفاته ولو لم يكن مميزا ولو لم يدركهابحيث ان العروبة ليست اختيارا بل هي وضع قائم بالفعل أحببنا أم كرهنا ولا خيار لنا فيه فلم يختر أحد منا أباه وأمه وأهله.
3 عالمية الاسلام وعمومه الإسلام علاقة إنتماء إلى دين خالد فى الزمان بحكم انه خاتم الرسالات والأديان وقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الأديان السماوية متطورة تبعا للتطور الاجتماعي الذي ينطلق من الأسرة فالعشيرة فالقبيلة فالأمة ثم المجتمع الإنساني ككل كآخر مرحلة في التطور الاجتماعي للبشرية و تبعا لذلك كانت الديانات الأولى السابقة على الإسلام محدودة بحدودها الاجتماعية الضيقة فكانت ديانات قبلية وعشائرية حسب المنظومات الاجتماعية وقتذاك ويؤكد على هذه الحقيقة العلمية والتاريخية ما ذهب إليه القرآن الكريم عندما يشير في أكثر من موطن إلى ذلك بقوله تعالى (و لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله ) 45 النمل و قوله تعالى ( والى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ) 81 هود وقوله جل وعلا (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ) 165 الأعراف وكانت دعواتهم مرتبطة من حيث الإعجاز بالمستوى الفكري الذي عليه القوم وهو مستوى فكري لا يزال بسيطا فمعظم المعجزات السابقة على الإسلام كانت مادية ملموسة لتناسب العقل الطفولي الذي كانت عليه البشرية حينها ومن حيث المعالجات للمشكلات القائمة كانت أيضا بسيطة الى حد ما تبعا لعدم تعقد و تطور الحياة فهي لا تعدو أن تكون دعوة الى عبادة الله و الانتهاء عن منكر يفعلونه كأهل مدين الذين يطففون الكيل و الميزان او قوم لوط الذين يرتكبون الفواحش وبذلك لم تكن دعوات الرسل قبل الاسلام عامة ولا شاملة ولا معجزاتهم عقلية مستمرة بل هي محدودة زمانا و مكانا و اهدافا ذلك أن هناك استراتيجية إلهية في تدرج الأديان ونطورها تبعا لنسق تطور المجتمعات البشرية .
ومن ذلك أن سيدنا موسى عليه السلام قد كان في وضع وسط بين القبلية القديمة والتكليف الإلهي بالتوجه برسالته الى غير قومه اذ يدعو ربه أن يشدد أزره بأخيه هارون- تناسقا مع المنحى القبلي الذي كان ولا يزال يعيشه بنو إسرائيل حتى الآن اذ تصرفاتهم في فلسطين المحتلة تؤكد طبيعتهم القبلية المتخلفة – ليتمكن من ابلاغ رسالته المنحى الجديد الذي يكلفه الله به وهو التوجه الى غير بني اسرائيل حيث كلف بتبليغ دعوته إلى شعب مصر في شخص ملكها فرعون الذي كان يدعي الربوبية قال تعالى استجابة لرغبة موسى عليه السلام (سنشدعضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا ) 35 القصص وتبعا لذلك كلفهما بقوله تعالى (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) 43 طه وبذلك يكون موسى قد دشن عهدا جديدا في النبوات وهو الخروج عن النطاق القبلي الضيق الى نطاق أوسع وهو مخاطبة شعب مصر ولكن هل حافظ اليهود المعاصرون على روح رسالة موسى الداعية الى التوحيد ونبذ الطغيان اللهم لا و ممارسات الدولة الصهيونية في المنطقة العربية و العالم خير شاهد على هذه القطيعة من حيث حجم الجرائم التي ترتكبها وارتكبتها ضاربة عرض الحائط بكل الشرائع والأديان .
ثم تأخذ الديانات طورا آخر أكثر عموما بدعوة عيسى عليه السلام رمز الرحمة و التسامح اذ يقول عليه السلام (إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) و بذلك يكون قد فتح بعدا جديدا للإنسانية أكثر شمولا و عموما من رسالة موسى في نطاق التطور الجدلي للأديان من حيث التوسع في المضمون والتوجه تهيئة للدور العظيم المناط بخاتم الرسالات رسالة سيدنا محمد عليه السلام حيث هي رسالة عامة للناس قاطبة وهكذا كان دين الله دينا عالميا عاما للبشرية قاطبة فلا يخص جنسا معينا أو هو لأمة من الأمم دون بقية الناس أو لقبيلة من دون الناس جميعا فهو لكافة الناس كما قال تعالى في محكم تنزيله : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) 28 سبأ وهو بهذا المعنى ملكية مشتركة للبشرية جمعاء لأنه يناهض العنصرية والقبلية والتعصب و العرقية حيث أشار الرسول عليه السلام إلى أنها منتنة فلا بد من تركها استجابة لتوجيهاته عليه السلام في حين كانت بقية الديانات السماوية السابقة لا تشاركه هذه الميزة الأساسية فيه لأنها بكل بساطة موجهة لأقوام الرسل وقبائلهم وعشائرهم من دون الناس وذلك أن المجتمعات البشرية في تلك الأوقات كانت من الناحية الإجتماعية ضمن المراحل الأولى للتطور الإجتماعي انطلاقا من الأسرة فالعشيرة فالقبيلة إلى الأمة حاليا والمجتمع الإنساني مستقبلا فكانت تلك الديانات خاصة تبعا للأطوار الإجتماعية ;وبهذا العموم والعالمية للدين الاسلامي يستتبع ذلك أمرين على غاية من الأهمية وهما 1رفض مبدأ الخلافة الذي كان قائما لدى المسلمين وهو ليس أمرا دينيا كما تقول الشيعة بقدر ماهو نظام سياسي ابتدعه المسلمون وقتها انسجاما مع مبدا قيام النظام الامبراطوري حيث ان حدود الدولة تقف عند أقدام الجنود الفاتحين ولم يعد ذلك ممكنا الآن في ظل النظام الدولي والقانون الدولي الذي على الورق يمنع احتلال أراضي الغير بالقوة ما عدا ما تفعله أمريكا في العراق أو الكيان الصهيوني في فلسطين
2 القطع نهائيا مع العلمانية التي ظهرت في أوروبا نتيجة ظروف تاريخية أحاطت بأوروبا حيث كانت الكنيسة اما أنها مسيطرة بشكل مباشر على كل مظاهر الحياة وتمارس الاضطهاد والقهر وتفرض ارادتها على الجميع حتى وصلت حد اقامة محاكم التفتيش الشهيرة أو كانت خاضعة للأباطرة وتبرر لهم تعسفهم ومظالمهم بدعوى الحق الالاهي المقدس للملوك وكانت ثورة أوروبا في عهد الأنوار رفضا لمثل هذا الواقع الظالم والفاسد والذي لم يكن موجودا في الاسلام الدين الالاهي العالمي شبيه له على الاطلاق الا ما كان من الشيعة نتيجة ظروف تاريخية معينة دفعت بهم الى تبني الدولة الدينية العادلة لمواجهة مظالم و مجازر بني أمية في حقهم .
عالمية الاسلام ودور العرب فيه الاسلام دبن عالمي موجه للبشرية قاطبة وهذه أهم مميزاته العديدة اذ جاء
تتويجا لمراحل متعددة مرت بها الرسالات السماوية السابقة التي اتبعت نسقا تصاعديا في تطورها تبعا لتطور الواقع الاجتماعي البشري من الأسرة الى العشيرة فالقبيلة فالأمة فالمجتمع الانساني ككل وكانت الديانات السابقة تتطور تبعا لذلك حتى وصلت ذروة تطورها في الدين الاسلامي فكان عالميا انسانيا موجها للبشرية قاطبة وهو الدين النهائي لكل الانسانية فمن الطبيعي أن يكون محل عداء من القوى التي تسعى في الأرض فسادا عبر كفرها العقائدي تجاه الخالق وجبروتها المادي وطغيان مصالحها المادية فتتحول الى قوى مناهضة لكل قيم الخير والعدل والمساواة التي نادى بها لتحكم العلاقة بين البشر وتوجه للقائمين بهذه الدعوة كل أصناف النعوت السلبية من السحر والشعوذة والكهانة والشعر كما كان في عهد الرسول عليه السلام أو الكفر ومعاداة الصليب في القرون الوسطى وابان الحروب الصليبية أو الجهل و التخلف والبعد عن الحضارة والتمدن أثناء الحروب الاستعمارية أو الارهاب ومعاداة السامية عندما يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني والاستعمار في العصر الحديث فكلها تقريبا تهم جاهزة وحاضرة بقوة المال السياسي و المصالح التجارية والمادية و الموغلة في المادية منذ الجاهلية الى الآن فكفار قريش ومصالحهم المادية التجارية عندما واجهوا الاسلام والرسول بكل ما أوتوا من قوة لم يختلفوا عن عتاة الصهاينة واليمين المسيحي المتصهين وكل القوى الرجعية حتى من المسلمين ذاتهم الذين يقفون موضوعيا معهم بدعوى العلمانية أو التحضر أو الواقعية والبرجماتية السياسية فكلها تكاد تكون عبارة عن مضامين متشابهة في الأهداف ولكن تختلف شخوصها وأماكنها وتواريخ حدوثها و الامة العربية التي تكونت بمجيىء الاسلام عندما استقرت تلك الجماعات و القبائل و الشعوب على الأرض العربية نهائيا على الأرض منذ أربعة عشر قرنا حيث كان الاسلام شاهدا على ميلادها فلم يكن هذا الدين مجرد اضافة اليها كما هو بالنسبة للشعوب المسلمة وغير العربية التي كانت قد تكونت امما قبل مجيىء الاسلام أو بعده فهو بالنسبة للعرب جزء من تركيبهم النسيجي حتى بالنسبة للعرب الذين يدينون بالمسيحية في هذا الوطن فان حضارتهم هي الحضارة الاسلامية لذا تجدهم أقرب الى المسلمين من نفس أصحاب دينهم من المسيحيين وآية ذلك اشتراك هولاء المسيحيين سواء في الحروب الصليبية أو الحروب الاستعمارية في الدفاع عن وطنهم العربي الى جانب مواطنيهم المسلمين فلم يعد العامل الديني هو المحدد في هذه الحروب بقدر ما يحددها العامل الوطني وبناء عليه فان الأمة العربية بمواطنيها الذين يغلب عليهم الدين الاسلامي انتماء عقائديا كالمسلمين أو انتماء حضاريا كالمسيحيين وغيرهم من الأقليات الدينية التي ينطبق عليهم ما ينطبق على المسيحيين العرب وبناء عليه فان القوى المعادية للأمة العربية تحاول بكل دهاء وخبث تدمير كل مقومات الصمود والممانعة في الأمة عبر احياء النعرات الدينية والطائفية والاثنية لخدمة المشروع الاستعماري و الصهيوني المعادي وذلك أن أي اقتتال داخلي يؤدي حتما الى تغول القوى المعادية و استفادتها واطالة أمد تمكنها من نهب ثروات الأمة كما يحصل الأن من احتقان طائفي و مذهبي و ديني في العديد من الأقطار العربية مشرقا كالعراق ولبنان و اليمن و السودان و الجزائر وبعض دول الخليج فان المستعمرين والصهاينة وكل القوى المحلية الدائرة في هذه الأفلاك المشبوهة تصب النارعلى الزيت وتعمل بكل قواها لاشعال مزيد من الحرائق في المنطقة من أجل تواصل الهيمنة لاستعمارية واطالة لأمد الكيان الصهيوني حيث يعلم كل الدارسين للتاريخ والمطلعين علىالدراسات الاستشرافية أنه لن يدوم طويلا بحكم أن الأمة العربية لها من امكانيات البقاء والصمود التي لا مثيل لها بين الشعوب بحكم ارتباطها الوثيق بالدين الاسلامي فيمكن ملاحظة ما فعل جزء محاصر من الشعب العراقي بأعتى قوة عسكرية و سياسية واعلامية في العالم وكيف انهارت ودمر اقتصادها في بضع سنوات وما فعل جزء من الشعب اللبناني في مواجهة الكيان الصهيوني بالرغم من التآمر المفضوح على المقاومة حتى من بعض العرب وكيف أنه في فلسطين الجهات الممانعة و المقاومة تتجذر على الأرض وتحقق في غزة نوعا من توزازن الرعب مع العدو الصهيوني بالرغم من محاصرتها و التآمر عليها حتى من قبل بعض الأنظمة العربية ولذلك فان الأمة العربية بكل مكوناتها الدينية والمذهبية في النهاية تنتمي جميعا للحضارة الاسلامية غير القابلة للفناء مهما كانت التحديات اذ يكفي ان نذكر بصلف الرئيس بوش ابان أحداث 11 سبتمبر 2001
عندما أعلن أنها حروب صليبية وقد انتهى به المقام في نهاية ولايته الرئاسية الثانية أن ودعته هذه الأمة بفردتي حذاء منتظر الزيدي فهل يتعظ الطغاة أم يريدون مزيدا من الأحذية تنهال على رقابهم .
4 بقية مميزات الاسلام وبناء عليه فالإسلام يتميز أيضا بمميزات أخرى فما هي ؟كما أنه دين شامل لكل جوانب الحياة الدنيوية والأخروية قال تعالى :
( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا ) 3 المائدة بحيث لم يفصل بين الدين و الدنيا و العبادة و الحياة فالكل عنده سواء في المفهوم الإسلامي من حيث صلة الحياة بالعبادة وذلك أن العمل عبادة و البحث العلمي عبادة و الزواج إكمال لنصف الدين و الطلاق إلتزام بأحكام الشرع وسائر العقود عبادة و الأخلاق الفاضلة عبادة بحيث تستحيل حياة الإنسان من أول مولده إلى ما بعد وفاته إلى إلتزام بأحكام الدين وفي هذا الإطار لا بد من الإشارة إلى حالة ذلك الصحابي الذي كان يكثر من المكوث في المسجد للصلاة فلما سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعوله فقيل له أخوه فقال أخوه أعبد منه وبناء عليه شملت تعاليم ديننا الحنيف كل المجالات كالعقيدة و العبادات و المعاملات والأخلاق .
كما أن الدين الإسلامي من ناحية أخرى هو دين الواقعية من حيث مراعاة ظروف الإنسان و مدى قدرته على أداء التكاليف في ظروف مريحة دون إرهاق بدني او نفسي فالله تعالى لايكلف نفسا إلا وسعها ومن هنا فهو دين اليسر لا العسر و رفع الحرج و المشقة عن الناس و جلب التيسير لهم سواء في العقيدة بحرية التدين قال تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) 256 البقرة أو في العبادات من حيث كافة أنواع التيسير فيها وهي من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة وفي مجال المعاملات فهناك إقرار لمبدأ اليسر و الضرورات تبيح المحظورات والمشقة تجلب التيسير .
كما أنه دين المناسبة للفطرة أي الطبيعة الأصلية للإنسان بحيث لم يقع قمع مطالب الإنسان الحيوية كالتمتع بطيبات الحياة المشروعة كالمأكل و الملبس و السكن و التمتع بالجنس و التمتع بالحرية الكاملة فالإسلام سمح بها جميعا بعد أن هذبها و نظمها و ترك الإنسان يعيش حياة طبيعية .
ثم إن هذا الدين و بالنظر لهذه الخاصيات فإنه آخر الديانات فمن الطبيعي أن يكون دين الحرية و إعمال العقل و القرآن الكريم حافل بهذا المجال ما في ذلك من شك لذا فهو دين الإنسانية ومستقبل البشرية لن يكون في أفضل حال بدونه وقد بشر الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض بقوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) 55 النور ومن هذا المنطلق لا يسعنا إلا أن نؤكد أن الإسلام بهذه المواصفات هو بكل تأكيد دين الرحمة والحرية و الإبداع الإنساني تحقيقا للأهداف الكبرى التي من أجلها خلق الله الإنسان الا وهو دوره في خلافة الله في الأرض و عمارة الكون في نطاق القيم الكبرى من عدل و إخاء و تعاون .
لذا فهم اسلافنا حقيقة الدين الجوهرية من نقطة الحرية هذه و انطلقوا فاتحين لا مستعمرين يبشرون بحضارة العدل والحق و الحرية في إطار من الاجتهاد البشري لا متعسفين و لا ملغين لغيرهم ولا مقصين لمخالفيهم وقد
نظروا في العقيدة الإسلامية بعقولهم فلم تتفق مواقفهم البشرية فاختلفوا فرقا جميعها تعبد إلها واحدا ونظروا في الشريعة بأفكارهم البشرية فاختلفوا فيها إلى مذاهب فقهية متعددة دون الخروج عن القاعدة الأساسية التي تحكمهم جميعا وهي الاحتكام للقرآن وصحيح السنة النبوية وبهذه الأفكار التقدمية و التحررية في التعامل مع الشريعة السمحة و التي تؤمن بمكانة الإنسان خليفة الله في الأرض امكن لهم بناء أرقى حضارة لا تزال آثارها فاعلة و مؤثرة إلى الآن ولكن المسلمين لما توقفوا عن هذه الحرية الفكرية وانساقوا إلى اتجاه فكري واحد و تعصب كل منهم لموقفه الفكري ظنا منه أن ذلك هو حقيقة الدين وهو لا يعدو كونه موقفا بشريا وكانت النتيجة مأساوية للأمة إذ آل أمرها إلى الانحطاط و التردي و لم يستفق المسلمون إلا والأوروبيين الذين انهزموا أمامهم في الحروب الصليبية يعودون من جديد لاحتلال بلدانهم و تمزيقها و انتهاب خيراتها وكان رد فعل الأمة متمثلا أساسا في حركة النهضة وإسهامات روادها الأوائل سواء في المشرق أو المغرب العربي وهكذا عادت إلى الساحة العربية والإسلامية العقلانية الإسلامية التي كانت سببا في نهضة الأمة قديما ومن شأنها أن تنير سبيل الأمة حاضرا و مستقبلا .
وهكذا اذن يكون الدين الإسلامي هو الدين الإلهي العام والشامل والخاتم والمتناسب مع التطور العقلي للبشرية والذي يبشر البشرية بعهد من العدل والحق الذي عرفت البشرية البعض من آثاره عندما كانت الإمبراطورية الإسلامية هي المهيمنة على العالم وسوف تسود هذه القيم والمعايير النبيلة
كل البشرية عندما تتمكن الأمة العربية الإسلامية من إسقاط المشروع الصهيوامريكي الذي يتهاوى الآن تحت ضربات المقاومة الباسلة في كل من العراق و فلسطين حيث بشائر الخير تطل علينا من بين ثنايا الخراب والدمار الذي تحدثه هذه القوى الباغية وكذلك ما تفعله الثورات الشعبية التي انطلقت من كل مكان لتسقط الطواغيت وتطهر الأمة من صمتها طيلة العقود الماضية وعدم احداثها تغييرا نوعيا.
وما الثورة التي نشهدها حاليا والتي انطلقت من تونس ومرت بمصر وأثمرت اسقاط ديكتاتوريين هناك الا تأكيد على تلازم قيم العروبة والاسلام في نفوس شباب هذه الأمة الذين يتحركون في مواقع أخرى من الوطن العرب للاجهاز على بقية الطواغيت والحكام الفاسدين ونأمل أن تتحقق بعد ذلك الوحدة العربية والتي باتت أكثر من ضرورية في مواجهة تغول العولمة وخاصة وأن أوروبا ذات الأمم المتعددة تتوحد حفاظا على النفس من هذه العولمة التي صارت متوحشة فعلى الأقل من باب الدفاع عن النفس لتحقيق الوجود لابد من التوحد
5 الدين الخاتم
هكذا نفهم اذن أن الديانات السماوية قد تطورت تبعا لتطور المجتمعات البشرية اذ كانت متناسبة مع الواقع الاجتماعي في اتجاه اصلاحه على مستوى العقيدة بالدعوة الى التوحيد أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت وذلك بعد أن غرقت فطرة الانسان البدائي القديم في غياهب الجهل والظلمات و انحرفت عن النهج القويم فجاءت الديانات السماوية لاصلاح هذا الخلل و تقويم هذا الاعوجاج في الاتجاه الصحيح و كانت تلك الديانات خاصة في توجهها لأقوام الرسل وذلك أن المجتمعات البشرية كانت في مراحل التطور الاجتماعي الأولى اذ مازالت في العهود القديمة لم تغادر الطور العشائري والقبلي فمن الطبيعي أن تكون الديانات الموجهة اليهم تبعا لهذا الطور الاجتماعي كما كانت مضامينها بسيطة في توجهاتها الاصلحية اذ كانت موجهة أساسا لاصلاح الخلل المؤثر في المجتمع وقتها و حتى معجزاتهم كانت مادية ملموسة تبعا للمستوى العقلي المتدني للعقليات وقتها .
أما الاسلام فقد جاء في فترة هامة بالنسبة للبشرية حيث بلغت مرحلة النضج العقلي وقد تطورت الديانات شيئا فشيئا لتصل الى الدين الخاتم والنهائي والذي لا بد أن يكون عاما شاملا خاتما مناسبا للفطرة كما أشرت سابقا .
و من الطبيعي لدين هذه مواصفاته حيث جعله الله الدين الخاتم أن يعتمد على أمر آخر ليضمن بقاءه و استمراره تحقيقا للغاية الكبرى ألا و هي خلافة الله في الأرض و قد استدعت هذه الخلافة مؤهلات عديدة من أهمها العقل البشري و الحرية و الارادة الانسانية وقد بحثت هذه الأمور كثيرا في عديد
الكتب التي اهتمت بمبحث الخلافة لذا ينصح بمراجعتها في مظانها ولكن الذي يهمنا الآن ماهو التحول الذي أحدثته الهجرة النبوية في الانتقال من طور الى طور آخر في اتجاه ثوري خلاق احدث حالة ثورية مستمرة في البشرية وأحدث تغيرا نوعيا في حياة الناس وكان منعرجا حاسما في تاريخ البشرية إذ لأول مرة في التاريخ الإنساني تنتصر إرادة المقهورين و المغلوبين على أمرهم على حساب الطغاة و المستبدين من الحكام والأباطرة والأغنياء بإرادة بشرية ذاتية وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد تدخل مباشرة في العصور السابقة انتصارا لرسله و صحابتهم من المؤمنين أمام عجزهم عن مواجهة الطغيان لذا ينزل الله عقابه الإلهي بتلك الطغمة الظالمة و الكافرة و المتجبرة بشكل
مباشر و فوري فيسلط عليهم غضبه بالطوفان و الأعاصير العاتية و زلزلة الأرض تحت أقدامهم ولكن بمجيء الرسالة المحمدية الخالدة تتغير المعطيات في اتجاه آخر بحيث يقرر الله شانا جديدا للبشرية ويقرر أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم بقوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر و تؤمنون بالله ) 110آل عمران فكونها خير الأمم لا للونها أو لغتها أو عرقها أو ثرواتها وإنما مكمن الخيرية فيها من خلال القيم والمثل العليا التي تتحلى بها وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والايمان بالله كما أنه من ناحية أخرى يقرر بشكل نهائي قاطع (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
11الرعد وكذلك فهو ( بان الله لم يك مغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) 53 الأنفال وبهذا المعنى تصبح الأمة الإسلامية على مر الزمن وفي كل مكان مسؤولة عن إنجاز المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتق البشرية منذ خلقها الله إلى أن يرث الله الأرض وما عليها والمتمثلة في خلافة الله في الأرض ومن الطبيعي أن تقوم الجماعة المؤمنة بدورها كاملا في إحداث التغيير الثوري المناهض لحالة الظلم والاستبداد التي عرفتها البشرية في العهود السابقة فكانت الهجرة النبوية انتقال ثوري وفعل إنساني مؤثر في حركة التاريخ وبدل أن يكون في اتجاه تسلطي استبدادي إذا به مقاوم لهذا النهج البشري الفاسد والمنحرف ومؤذن بقيام نهج الهي يحقق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
، أما العروبة فعلاقة إنتماء مقصورة على شعب معين من بين الشعوب ومكان معين من الأرض علاقة إنتماء إلى أمة تكونت خلال مرحلة تاريخية طويلة كإستجابة موضوعية لحتمية تقدم الشعوب بعد أن إستنفدت العلاقة الأسرية ثم العشائرية ثم القبلية ثم الشعوبية كل طاقاتهم على تحقيق التقدم .
لا مجال ، إذن ، للخلط بين علاقة الإنتماء إلى العروبة وعلاقة الإنتماء إلى الإسلام ، وما تزال علاقة الإنتماء إلى الأسرة أو إلى القرية أو إلى المهنة قائمة بجوار علاقة الإنتماء إلى الدولة أو إلى الوطن لا تناقض بين العروبة والاسلام هل يكون ذلك لأن العروبة علاقة إنتماء إلى "أمة " عربية وأن تسمية العرب "أمة " تخصيص غير مبرر إسلاميا إذ الأمة فى الإسلام هى " أمة المسلمين " أو " الأمة الإسلامية " فتكون مقولة " الأمة العربية " بدعة غير مقبولة اسلاميا .
ونشرح هذه النقطة استنادا الى ماأورده د عصمت سيف الدولة في كتابه عن العروبة والاسلام فيقول " وردت كلمة " أمة " فى أربع وستين آية من آيات القرآن الكريم وكانت كلها ذات دلالة واحدة إلا فى أربع آيات . دلت معاني هذه الآيات الأربع على معاني القدوة أو الأجل أو الطريق أوالعقيدة .
فيما عدا ذلك جاءت كلمة أمة فى الآيات الباقيات للدلالة على مطلق الجماعة إذا تميزت عن غيرها أيا كان مضمون المميز .
و دلّ على أن الأمة جماعة أنها فى كل موضع جاءت فى موقع الفاعل الغائب أشير إليها فى الفعل بواو الجماعة .
قال تعالى " وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "وقوله تعالى " وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ " ودل على أن الأمة مطلق الجماعة أنها قد جاءت في القرآن دالة على الجماعة من الناس والجماعة من الجن والجماعة من الحيوان والجماعة من الطير فقال تعالى " قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ " وقال تعالى " وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ " وقال تعالى في قصة نوح عليه السلام " قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ " يعني الجماعات المتميزة نوعيا من المخلوقات التي اصطحبها نوح عليه السلام معه .. ولما كان التمايز يفترض التعدد لتكون الجماعة متميزة عن غيرها علمنا القرآن أن الأمم متعددة فى الزمان والمكان . فإذا جاءت الآخرة فإنهم أمم متعدد ة يقول تعالى " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً " ولأنه لا عبرة فى دلالة " الأمة " بمضمون الأمر الذى تميزت به الجماعة فأصبحت أمة فإن الجماعة المتميزة بالكفر بالرسالة ومناهضة رسولها هى أيضاً أمة . فقال تعالى" كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ" بل إن كلمة أمة تدلّ على الجماعة ولو لم تتميز إلا بموقف واحد فى حالة واحدة . قال تعالى " وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ " وكلمة الامة فى هذه الآية لا تعنى مجرد الجماعة بل تعنى الجماعة المتميزة بموقف واحد أو حالة واحدة مثل جماعة تسقى وحدها دون الأخرين .
هذه هى دلالة كلمة " الأمة " فى لغة القرآن وبهذه الدلالة كان المسلمين كل المسلمين وما يزالون وسيبقون ، امة واحدة من حيث تميزهم عن غيرهم من الناس بانتمائهم الدينى إلى الإسلام ، سواء أخذت كلمة الإسلام بمعناها الشامل الدين كله فى قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {127} رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
أو أخذت بمعناها الخاص بالذين يؤمنون برسالة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد خاطب القرآن المسلمين بهذا التخصيص وأسماهم امة .
قال تعالى : ( كنتم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) وبهذه الدلالة كانت الأغلبية الساحقة من الشعب العربى وما يزالون وسبيقون جزءاً لا يتجزأ من الأمة الإسلامية التى ينتمى إليها كل المسلمين فى الأرض بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وأوطانهم لا فضل لأحد منهم على الآخر إلا بالتقوى .
وبهذه الدلالة أيضاً يكون كل العرب منتمين إلى أمة عربية واحدة في مجتمع ذو حضارة متميزة ، من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة تكوّن نتيجة تطور تاريخى مشترك .
لا ينكر المسلم وهو مسلم أن كل جماعة متميزة حتى من الدواب هى "أمة "فكيف بالمسلم ينكر على جماعة لها صفات إنتماء واحدة أنهم أمة ، وكيف به يرفض أن نقول أننا ننتمي إلى الأمة العربية .
7 مبررات زائفة للعدوان على الأمة قديما وحديثا مرتان فى التاريخ الذى نعرفه قيل غير ما نقول قيل إن للإنتماء الدينى والإنتماء القومى مضموناً واحداً وكان العرب هم الضحايا فى المرتين .
اما المرة الأولى فحينما إشتعلت الحروب على إمتداد الأرض الأوروبية بين أمراء الإقطاع كل يريد أن يزيد مساحة إقطاعيته . فقال لهم البابا أربان الثانى (إن الأرض التى تقيمون عليها لا تكاد تنتج ما يكفى غذاء الفلاحين وهذا هو السبب فى إقتتالكم فانطلقوا إلى الأماكن المقدسة ، وهناك ستكون ممالك الشرق جميعاً بين أيديكم فاقتسموها ) .
لم يكن للدين المسيحى شأن بما يقتتل من أجله أمراء الإقطاع فقد كانوا جميعاً مسيحيين ، ولم يكن لما نصح به البابا شأن بالمسيحية دين المحبة والسلام ، وإنما كان لمؤسسة الكنيسة التى يرأسها البابا شأن بالأرض التى خربها القتال فقد كانت شريكة فى ريعها .
وكان القائل والمستمعون إليه يعرفون أن لا شأن للمسيحية بما قيل فقال أحد الفرنسيين حينئذ إنها دعوة إلى ان يستغل الفرنسيون الدين .
وقد أستغل الفرنسيون وغير الفرنسيين الدين ليقنعوا الشعوب بأن تقدم أبناءها ضحايا على مذابح اطماع الأمراء الأقطاعيين كيف ؟ بمقولة بسيطة كالناس فى ذاك العصر : إن نشأة المسيحية فى فلسطين تعنى ملكية المسيحيين
لفلسطين فعليهم إستعادتها من الغزاة المسلمين .
وهكذا وحد المعتدون بين مضمون الإنتماء إلى المسيحية ومضمون الإنتماء إلى أرض فلسطين وبدأت الحروب الصليبية التى إستمرت قرنا كاملا (من عام 1096 إلى عام 1192 ) وذهب ضحيتها آلاف البشر .
وما توقفت حين توقفت إلا حينما إستطاع العرب مسلمين ومسيحين ، أن يقنعوا الأوروبيين بالأسلوب المناسب بألا جدوى من الخلط بين الإنتماء إلى العقيدة والإنتماء إلى الأرض فتحررت الأرض العربية.
أما المرة الثانية .... فحينما أراد يهود أوروبا أن يخرجوا من عزلتهم القبلية وأرادت الرأسمالية النامية فى أوروبا أن تسخرهم عازلا بشريا يحول دون وحدة الأمة العربية ويحرس مصالحها فصاغوا جميعا ما يعرف "بالصهيونية ".
إن نشأة اليهودية فى فلسطين تعنى عندهم ملكية فلسطين لليهود فعليهم إستعادتها من الغزاة العرب .
وهكذا وحد المعتدون بين مضمون الإنتماء إلى أرض فلسطين والانتماء إلى الدين اليهودي وبدأ الصراع العربى الصهيونى وما يزال مستمرا ولن يتوقف إلا حينما يستطيع العرب ، مسلمين وغير مسلمين ، أن يقنعوا الصهاينة بالأسلوب المناسب بان لا جدوى من الخلط بين الإنتماء إلى العقيدة والإنتماء إلى الأرض فتتحرر الأرض العربية .
7الاسلام كتب شهادة ميلاد الأمة العربية من خلال الهجرة النبوية بالنسبة للهجرة ذاتها والاعداد المادي لها بشريا و عقلانيا دون انتظار معجزة مادية تلوي الأعناق كما كان يحصل سابقا لدى الرسل السابقين اذ هناك مرحلة جديدة في تاريخ البشرية يفتتحها الرسول صلى الله عليه وسلم فبالرغم من ضعف امكانياته المادية بالقياسات البشرية من حيث المال والسلطة والجاه حيث كانت كل حسابات موازين القوى راجحة لفائدة الصف المعادي وبالرغم من اعتماده على الله سبحانه و تعالى الذي وعده بالحماية و العصمة من الناس و لكنه مع ذلك كان واعيا تمام الوعي بطبيعة المرحلة الجديدة التي يمثلها والتي ينبغي عليه أن يقوم بواجباته ازاءها لا كرسول فقط بلو أيضا كانسان خليفة لله و مسؤول عن دوره المنط بعهدته كبشر في وقت لم يعد ممكنا انتظار معجزات مادية ملموسة كما كان سابقا اذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم بالرغم من امكانياته البشرية القليلة العدد والمادية المتواضعة فقد عرف كيف يعد العدة للخروج من عنق الزجاجة بعد أن أحكمت قريش محاصرته على جميع الأصعدة ووظفت كل امكانياتها لهذا الحصار ولكن مع ذلك لم يستسلم و لم ينهزم بل قاوم و عرف كيف كيف يخرج من ذلك المأزق و هذا الدرس من الرسول صلى الله عليه وسلم تطبقه الآن بحذافيره حاليا ثلاثة شعوب اسلامية محتلة هي افغانستان و الصومال و العراق فبالرغم من هزيمة جيوشها النظامية التقليدية في الحرب و تكالب القوى العالمية عليها عسكريا واعلاميا وسياسيا من خلال القرارات الظالمة للأمم المتحدة و المنظمات الاقليمية و الدولية و لكنها كشعوب اسلامية و قد تشبعت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم و نضاليته في أحلك الظروف و أشدها ماساوية و مع ذلك واصلت نضالها ومقاومتها و انها الآن تسدد ضربات موجعة للأحلم التوسعية للمشروع الصهيوأمريكي في العالم و قد تجهز علية في أوقات لاحقة بإذن الله .
قلت إذن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعد العدة اللازمة للهجرة الثورية ليس فرارا من المواجهة و إنما بحثا عن أفضل الفرص لمواصلة الاشتباك مع العدو و إنهاكه و الإجهاز عليه في اللحظة المناسبة كما فعلت كل الشعوب المغلوبة على أمرها أثناء الحن و الأزمات القاسية التي تمر بها بحيث تقاوم وتناضل حتى تحقق إرادتها .
واني لست بحاجة الى الحديث عن كل مراحل الهجرة النبوية و ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من أعمال بشرية فهي متيسرة للقارىء في كتب السيرة النبوية فيمكن لمن شاء أن يعود إليها في مظانها وإنما الذي بهمنا أن العناية الإلهية بالرسول صلى الله عليه وسلم أثناء هذه الهجرة و الإعداد لها لم تكن غائبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم و إنما كانت حاضرة في ذهنه و فلبه و هذا من العوامل النفسية و المعنوية التي ساعدته على انجاز هذا الفعل التاريخي المشهود له بالجرأة و الشجاعة والبطولة اضافة الى أنه يستلهم القرآن الكريم و يطبقه بحذافيره اذ كان خلقه القرآن .
دولة المدينة من المعلوم أن القرآن الكريم ينقسم الى مكي و مدني وكذلك حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كانت الفترة الأولى ثلاثة عشر سنة وهو يدعو كفار قريش دعوة مسالمة الى الله دون حصوله على نتائج تذكر اذ لم يستعمل معهم سوى الدعوة بالطرق اللينة كما أمره الله بذلك و لكن النتائج كانت هزيلة للغاية اذ لم يؤمن بدعوته سوى عدد قليل من العبيد وضعفاء الحال من الذين لا يملكون مالا أو جاها في قريش وتبعا لذلك تعرضوا لشتى أنواع التعذيب و الأذى الذي نعلم عنه الكثير ومع ذلك فان هذه القلة المؤمنة لم ترضخ و لم تستسلم بحجة أن موازين القوى ليست لصالحهم بل صبروا وأظهروا شجاعة نادرة في التصدي لرموز الكفر والطغيان من قريش وكشفوهم على حقيقتهم أمام الناس وقد هاجر العديد منهم الى الحبشة مرتين ثم عندما ياذن الله بالهجرة الى المدينة و يهيىء الرسول نفسه للالتحاق بهم عبر الاتفاق المسبق مع اهل المدينة في بيعة العقبة الأولى والثانية فاننا نكون ازاء دروس مستفادة من هذا التصرف النبوي الحكيم فانه لم يغامر بنفسه وصحابته منذ الاتفاق الأول الذي حصل مع عدد قليل من أهل المدينة بل انتظر سنة اخرى حتى جاءه عدد أكبر لتاكيد و توثيق الاتفاق الأول بأكبر عدد ممكن من الأنصار له في المدينة ضمانا لدعوته وصحابته كما كان صلى الله عليه وسلم ومعه كل من أبي بكر وعلي بالرغم من صغر سنه يمثلون القيادة العليا للجماعة المؤمنة دينيا وسياسيا فان القيادة النبوية لم تؤمن نفسها بالانسحاب قبل جماعتها بل ان القيادة ظلت في اتون المواجهة حتى آخر لحظة اذ الانسحاب من المواجهة يتطلب التأمين الكامل للقواعد ثم انسحاب القيادة أخيرا وهو نموذج فريد للمواجهة لم تعهده الدعوات الدينية و الحركات السياسية من قبل و لا بعد حيث من العادة أن تؤمن القيادة نفسها و تضحي بالأتباع ولكن في الحالة الثورية لرسول الاسلام صلى الله عليه وسلم يحصل العكس تماما, القيادة تؤمن جماهيرها أولا ثم تلتحق بهم بعد ذلك و هكذا يفعل الأبطال دائما وقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة انسجاما مع قوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) و قوله تعالى ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم وما كنا نعمل من سوء ) 28النحل .
بحيث يتبين من خلال هذه الآيات الكريمة مسؤولية البشر المظلومين والمسحوقين أمام الله ان لم يغيروا الظلم و الباطل و الجبروت المسلط عليهم و لو بالهجرة فان أرض الله واسعة و كلها محل لاحداث النغيير الثوري البناء للانسان المؤمن فقد جعلها الله جميعا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم مسجدا و طهورا ليمارس عليها الانسان دوره في تحقيق الانجازات العملاقة التي تليق به كانسان خليفة لله و في حال الضعف والاستسلام و الخنوع فان أولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا و هناك استثناء وحيد للمستضعفين من الرجال و النساء و الأطفال الذين لا يجدون حيلة أو قدرة ومع ذلك فان الله قد يغفر لهم و قد لا يغفر لهم فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و هكذا ينفرد الاسلام بقيم جديدة على الساحة العالمية في رفضه للظلم و الدعوة لتغيير المنكر مهما كانت الصعوبات فلا استكانة و لا هوان أمام الطغاة و المستبدين اذ الأفراد و الجماعات مهما كانت الظروف والتحديات التي يواجهونها مسؤولون أمام الله تعالى عن رفع الظلم عن أنفسهم ولا ينتظروا حتى تأتي معجزة من السماء تغير ما بهم فقد ولى ذلك العهد الى غير رجعة بهذه الرسالة الخاتمة وهذا هو السر الحقيقي وراء انتصارات المسلمين أثناء الفتوحات الكبرى بالرغم من عدم توازن القوى بينهم و بين أعدائهم وذلك أنهم فهموا أن لهم دورا رساليا في هذه الحياة لا بد من أدائه على أكمل الوجوه و الا فان العقاب الالاهي ينتظر يوم القيامة اضافة الى بقاء الحال على ماهو عليه في الدنيا دون تغيير .
8 دستور مدني مكتوب من معالم العمل الثوري الذي أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة اقامة أول دولة عربية اسلامية على أسس جديدة لم تكن مألوفة في تاريخ البشرية فقد قامت على أساس التعاقد على خلاف الدول التي سبقته و لحقته حيث قامت على أساس القوة المسلحة و ما أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم بمعية الصحابة يعد انجازا تاريخيا غير مسبوق اذ تم على اساس تعاقدي عبر تلك الوثيقة التاريخية الهامة وهي الصحيفة التي تعتبر أول دستور مدني تعاقدي مكتوب بين مواطني دولة مدنية واحدة بقطع النظر عن الدين والعرق و المكانة الاجتماعية تعالج الصحيفة عدداً من أحوال أهل المدينة ونظمها وتحدد بعض مسؤولياتهم في النظام الجديد الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم.
بعد الهجرة النبوية بدأ انشاء الدولة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار واكتمل بنيان المسجد النبوي وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة وثيقة تحدد المعاملات بين الجماعات المختلفة في الدين و تعيش في وطن واحد..نقرأ منها سويا ما يلي
" بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس ...
ثم يقول وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ...
ثم يقول وإن موالي ثعلبة كأنفسهم وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم ..." وهذه الصحيفة تنظم الحياة المشتركة بين المسلمين واليهود وتسميهم معا أهل الصحيفة فتشركهم في الدفاع عن المدينة بدون تفرقة وتقيم على المدينة حاكما هو النبي صلى الله عليه وسلم ارتضاه أهل الصحيفة ليرعى الالتزام بها ، فاستقر الناس في وطنهم آمنين .
أما من خان هذه العلاقة بالوطن فقد استحق النفي . وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بإجلاء اليهود من المدينة فإن ذلك لم يكن حكما لأنهم يهود بل جزاء إخلالهم بدستور المدينة الذي ارتضوه بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم بإجلائهم مرة واحدة بل حكم بإجلاء من خانوا منهم فقط وهم بنو قينقاع وبنو النضير .
أما الذين لم يكونوا قد خانوا بعد مثل بني قريظة فلم يحكم بإجلائهم حتى خانوا عهد المواطنة والدفاع المشترك عن المدينة المنورة وطنهم الذين ارتضوا أن تكون الصحيفة دستورا له فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولذا نستطيع أن نقول إن الاسلام هو الذي كوّن الأمة العربية ، وإن هذه الوثيقة فيما نرى هي شهادة ميلاد الأمة العربية .
طلبت الوثيقة إرجاع الحكم في الاختلاف إلى الله وإلى محمد، وذكر الله تعالى في هذه البنود يسبغ عليه صفة قدسية عليا على كافة المسلمين واليهود.
فهو قائم على المبادئ الدينية المعززة للأخلاق، والمصالح العامة التي تتجلى في جانبها العلمي على ما نزل فيه القرآن : أي على المبادئ الإسلامية التي يحددها ما أنزله تعالى على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وسمي في البنود الثلاثة باسمه محمد، وفي الفقرة (47) بإضافة كلمة رسول الله التي لم تذكر في البنود الأخرى ولعلها إقحام من الناسخ وأن الاقتصار على اسمه فحسب إرضاء لمن تطبق عليه من غير المسلمين بمن فيهم اليهود الذي خصت الوثيقة عدة بنود في تنظيم مشاركتهم: وهذا يقضي أن يكون صدورها أو ما يتصل باليهود منها تم بعد معركة بدر.
وقد يؤيد هذا أن الوثيقة لم تذكر العشائر اليهودية الثلاث قينقاع والنضير وقريظة التي أقصاها الرسول صلى الله عليه وسلم بين معركتي بدر والخندق ، علماً بأن فشل مشركي قريش في معركة الخندق شد من عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال " لا يغزونا بعد هذا أبداً " وكان هذا هو الواقع فقد تخلخل حماس مشركي قريش وضعفت معنوياتهم، واتسع نشاط الرسول صلى الله عليه وسلم في مد سلطان دولته على العشائر المقيمة بين المدينة ومكة وخاصة. وكل هذا يدل على أن الكتاب أول ما يخص اليهود منه على الأقل صدر بعد معركة الخندق.
وهكذا نكون ازاء قانون دستوري توافقي بين كل مكونات المجتمع المدني القائم موضوعيا في المدينة المنورة و ضواحيها النواة الأولى للدولة العربية الاسلامية التي تتشكل ملامحها انطلاقا من القيادة النبوية الحكيمة لها و قد تأكدت لهذه الولة الفتية كل مقومات الدولة التي اختلف المعاصرون حول تعريفها ويوجد في الفقه القانوني أكثر من 150 تعريفا للدولة ففي اللغات اللاتينية نجدstate و etatبما يعني حالة الثبات و الاستقرار في حين أن المعنى اللغوي في العربية يفيد التغير و التحول انسجاما مع قوله تعال (وتلك الأيام نداولها بين الناس ) وأما في الاصطلاح فقد اتفق معظم آراء فقهاء القانون الدولي على تعريفها من خلال أركانها الأساسية وهي
1 الشعب وقد تأكد وجود شعب في دولة المدينة من خلال الوثيقة التوافقية التي صدرت بالتأكيد عن جميع مكونات سكان المدينة و ضواحيها من مسلمين وغيرهم في ذلك الوقت و لا يهم في تكوين الدول عدد الشعب اذ هناك دول معاصرة سكانها أقل بكثير من دولة المدينة .
2-الاقليم أو الرقعة الأرضية حيث تمارس الدولة سيادتها وهي متوفرة في حالة دولة المدينة ولكن في ذلك الوقت ليس هناك حدود دولية معترف بها بل ان الدول في ذلك الوقت والى حدود القرن الماضي تعتمد فيرسم حدودها على قوة جيشها فالحدود تتوسع و تضيق حسب قوة الدولة عسكريا وهو أمر مسلم به بين كل الدول المتواجدة في تلك الفترة من الزمان وربما مثل هذا الأمر لا يزال قائما تمارسه دولة الصهاينة في فلسطين و الجولان وامريكا تمارس الاحتلال في أفغانستان و العراق
3- السلطة أي ممارسة السيادة للشعب على أرضه دون تسلط أجنبي عليه وهو الوضع الذي تكون في المدينة وضواحيها للعرب المسلمين ومن جاورهم من اليهود فيها في ذلك الوقت وهكذا تكتمل للدولة بالمدينة أركانها الأساسية المكونة لها اضافة الى الصحيفة وهي عبارة عن أول دستور مدني مكتوب على أساس تعاقدي بين كل مكونات المجتمع المدني الذي ارسى دعائمه الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك نقول والوقائع التاريخية تسندنا أن الرسول ذاته لم يؤسس دولة دينية وفي هذا رد على القلة من المسلمين وخاصة الشيعة منهم الذين لا يزالون يحلمون بتكون دولة دينية تحكم بالحق الإلهي المقدس .
المراجع
1 عصمت سيف الدولة عن العروبة والاسلام
2 محمد عمارة العروبة والاسلام والعلمانية
3 الناصر خشيني الاسلام والدولة المدنية