نقلا عن "مدونة القدس"
المحتويات :
١ ـ الاستبداد المتخلف
٢- الاستبداد المتحضر
٣ـ الاستبداد الديمقراطي
***
" ان الاستبداد ظاهرة تعويضية . فتتوفر " الشخصية المستبدة ـ بشكل عام - في الأشخاص فاقدي الثقة بأنفسهم . الذين لم ينجحوا أبدا في تكوين شخصياتهم تكوينا متكاملا مستقرا. يدفعهم النقص الذي يعرفونه من أنفسهم الى محاولة تعويضه في العالم الخارجي . هم عندما يستعملون العنف ضد أية محاولة تغيير اجتماعي بحجة الدفاع عن استقرار النظام القائم ، يدافعون في الحقيقة عن ذواتهم التي تفتقد الاستقرار النفسي . ويؤدي كل هذا الى نزوع عدواني مختلط بالحقد على كل من لا يوافقهم في الرأي أو يتميز عنهم خاصة أولئك الذين يتميزون بالمبادئ والقيم التي تشكك في سلامة النظام الاجتماعي أو تتطلع الى تطويره . من هنا ينحاز المستبدون دائما إلى القوى المحافظة الرجعية إذا لم تكن ثمة مخاطر تهدد بتغيير النظام . فإذا ظهرت تلك المخاطر يصبح نزوعهم العدواني أكثر شراسة ويتحولون مباشرة الى " فاشست " وهم عندما ينشئون أحزابا فإما أن تكون أحزابا إرهابية وأما أن تتكون من الامعات من الناس ضعاف الشخصية !.
من تقرير اللجنة العلمية لدراسة الشخصية المستبدة .
(الولايات المتحدة الأمريكية – عام .١٩٥)
***
1 ـ الاستبداد المتخلف :
حاكمة ومحكومة .
١- يقترح الأستاذ جورج بوردو ، في الجزء الرابع من موسوعته في العلوم السياسية ، تقسيما جديدا وطريفا للديمقراطية. فبالإضافة إلى تقسيمها التقليدي إلى ديمقراطية مباشرة وديمقراطية شبه مباشرة وديمقراطية نيابية ، يقول أنها نوعان : ديمقراطية محكومة وديمقراطية حاكمة. يقصد بالديمقراطية المحكومة نظاما تتوفر فيه كل الأشكال الدستورية التي تسمح بإسناد قرارات الحاكمين إلى الشعب المحكوم : الحرية الفردية او الاقتراع السري العام ، والانتخابات الدورية ، والمجالس النيابية .. الى آخره ، ومع ذلك لا تكون قرارات الحاكمين ، المسندة دستوريا إلى الشعب معبرة عن الإرادة الشعبية الحقيقية. ويقصد بالديمقراطية الحاكمة نظاما تتوفر فيه كل الأشكال الدستورية أيضا ولكنه يتميز بأن القرارات التي يصدرها الحاكمون فيه معبرة عن إرادة " الشعب الحقيقي "
ويدور كل اجتهاد الأستاذ بوردو حول المحور الذي تعبر عنه هذه الكلمة الأخيرة " الشعب الحقيقي " إذ للشعب ، عنده دلالتان تتصل كل منهما بمفهوم متميز للديمقراطية فتكون ديمقراطية حاكمة او ديمقراطية محكومة تبعا لما تعنيه كلمة الشعب في كل نظام .
وقد جاء أبسط ما قدمه إيضاحا لفكرته في كتابه عن " الديمقراطية " . فنجده هناك يتحدث عما يسميه " شعب المواطنين " ويميزه بما يتميز به " المواطن " ، فيقول ان المواطن ليس هو الفرد بكل خصائصه الذاتية من أنانية وطمع وتحيز لمصلحته الخاصة في مواجهة المصالح الدائمة
للمجتمع ، بل هو الإنسان الواعي المتحرر من الانحياز إلى مصالحه ومن متاعب ظروفه الاقتصادية ، القادر دائما على أن يدلي برأي محايد في الشئون العامة غير متأثر بما يفضله لنفسه . انه ، باختصار، ملاك علماني مجرد من المصلحة الشخصية . بمجرد تشكيل صورة المواطن على هذا الوجه يصبح سهلا تحديد مفهوم " شعب المواطنين " ، يقول الأستاذ بوردو أن المميز الأساسي لهذا المفهوم هو غربته الكاملة عن الحقيقة الاجتماعية . إذ أنه يتجاهل كل ما يوجد داخل الجماعة من أسباب التنوع والانقسام والتميز والتعارض كالمولد والظروف الاجتماعية والموارد الاقتصادية والأذواق والمقدرات . إن " شعب المواطنين " شعب من أفراد نمطيين . شعب مسخت حقيقته الاجتماعية ليطابق فكرة مجردة .
في مواجهة هذا المفهوم للشعب يوجد مفهوم آخر مناقض له . إنه الشعب المكون من الإنسان " كما هو في الواقع . وفي الواقع لا يتميز الإنسان بجوهره أو بعلاقته بنمط مثالي ولكن بخصائصه التي يكتسبها من وضعه الاجتماعي المختلف عن وضع غيره من الناس . إنه الإنسان الذي نقابله في علاقات الحياة اليومية كما تحدده مهنته وأسلوب ووسائل حياته وذوقه واحتياجاته والفرص المتاحة له . انه الإنسان في ظروفه والذي يمكن التعرف عليه عن طريق ملاحظة أسلوب حياته الواقعية وليس عن طريق التأمل الميتافيزيقي في جوهره . هذا الإنسان الواقعي يتميز بخصائص مناقضة تماما لتلك التي تميز المواطن . ويؤثر هذا الخلاف الجذري تأثيرا عميقا في نوع الديمقراطية . ففي حين بحمل المواطن في ذاته الامتيازات التي اكتسبها من طبيعته الإنسانية ويحاول أن يفرضها على البيئة التي يعيش فيها ، يتعين على الإنسان الواقعي أن يتوقع من الوسط الذي يعيش فيه إتاحة الفرصة لاكتسابها . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى تعتبر " حرية " المواطن إحدى خصائصه الذاتية فهي غير مشروطة وميتافيزيقية ولصيقة به أينما كان ، وبالتالي في غير حاجة إلى أن توجد بل إلى الاعتراف بها . وهي لا تتطلب من النظام الاجتماعي القائم الا عدم المساس بها . أما " حرية " الإنسان الواقعي فهي مفتقدة دائما بحكم أن احتياجاته متجددة أبدا . لهذا نجد أن الإنسان الواقعي ، على عكس المواطن تماما ، ينزع إلى التحرر من أية علاقات اجتماعية تسمح له بالتمتع بحريات شكلية لم يكتسب مضمونها الواقعي بعد ، فهو نزاع دائم الى التغيير الاجتماعي .
على هذا الأساس تفترق الديمقراطية المحكومة عن الديمقراطية الحاكمة . الأولى قائمة على أساس شعب من المواطنين فتكون غايتها أن تحكمه حكما مناسبا للمجتمع القائم فعلا بصرف النظر عما يريده الشعب الحقيقي . أما الديمقراطية القائمة على أساس الشعب الحقيقي فتكون غايتها خلق عالم جديد . عالم متحرر بديل عن الواقع تشبع فيه الاحتياجات الفعلية للشعب . ديمقراطية تكون القرارات فيها خاضعة لتلك الاحتياجات .
٢- من الممكن أن نقول ان " الديمقراطية المحكومة " كما عرضها الأستاذ جورج بوردو هي نموذج لما نعنيه " بالاستبداد المتحضر " . فها هنا نظام ديمقراطي كامل الشكل والمواصفات التقليدية . يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه ، كل ما في الأمر أنه شعب زائف . يطبق هذا النظام على شعب حقيقي واقعي مناقض في خصائصه ومصالحه وإرادته للشعب النمطي الزائف . وفيه تسند إرادة موهومة لشعب زائف إلى إرادة غائبة لشعب حقيقي . ولما كان الموجود حقا هو الشعب الحقيقي لا يكون من العسير أن نتبين في الديمقراطية المحكومة أداة استبداد بالشعب الحقيقي بالرغم من كل ما يتوفر فيها من أشكال دستورية للممارسة المسماة ديمقراطية . إنها إذن " استبداد ".
٣ـ ومع ذلك فهي النموذج " المتحضر " من الاستبداد . وهو نموذج متحضر على أوجه عدة . أولها أنه لا يقيم الاستبداد على عمد منتزعة من مقابر التاريخ ، ولا يبرره بأفكار جاهلية . في هذا الاستبداد المتحضر لا يقول أحد من المستبدين ، ولا يبرر أحد الاستبداد ، بمثل ما قال أرسطو حين قال أن الطبيعة ذاتها ، من أجل حفظ النوع ، قد خلقت رجالا ليحكموا وخلقت رجالا ليطيعوا ، وأنها هي التي جعلت من حق العقلاء والحكماء ان يكونوا سادة ، وأن يكون القادرون جسمانيا على تنفيذ ما يصدر من أوامر عبيدا ، وأن ليس كل إنسان مواطنا ، إذ ان هذه الصفة لا تحمي الا رجل السياسة السيد أو الذي يستطيع أن يكون سيدا. في ذلك النظام الاستبدادي الجاهلي الذي دافع عنه أرسطو وبشربه فى المجتمع الإغريقي كان الحاكمون هم " القواد العشرة " " الذين يعنون بشئون الحرب وشئون السياسة. ثم ضابطو المدينة "العشرة " الذين يحفظون النظام فى المدينة. وضابطو السوق " العشرة " الذين كانوا يراقبون الأوزان . ثم يأتي بعدهم مجلس الشيوخ وكان يتكون من " عشر " مجموعات كل منها خمسون شيخا . ولم يكن العدد " عشرة " ضرورة فنية للحكم بل كان تقسيما " للمناصب " السيادية فيما بين حلف القبائل "العشر" التي كانت تملك أثينا فعلا (فوستيل دي كولانج - المدينة العتيقة) .
تحت كل هؤلاء جميعا كان يأتي دور المواطنين الذين لهم حق الحضور في الاجتماع الشعبي وهم قلة . فقد كان الذين لهم حق الاجتماع حوالي ٠ ٠ ٤٣٠ من جملة السكان وعددهم حوالي ٣١٥٠٠٠ ، ولم يكن يحضرالاجتماع فعلا أكثر من ثلاثة آلاف . أما المستبعدون لأنهم ليسوا مواطنين فكان م بينهم ١١٥٠٠٠ من الرقيق ، وجميع النساء ، وجميع العمال ، وجميع المستوطنين الغرباء وعددهم ٢٨٠٠٠ ، وعدد كبير من الذين يمارسون التجارة (بول ديورنت - قصة الحضارة) .
وكان لا بد ، لكي يستطيع ذلك الشعب إصدار قراراته ، أن يكون قد تم تحضير أعماله من قبل ، وصيغت القرارات صيغة مناسبة قبل عرضها عليه حتى يمكن أن يبدي رأيه في نصوص محددة مدروسة (جلوتز ـ المدينة الإغريقية) . وكان مجلس الشيوخ ، ممثل القبائل العشر ، هو الذي يناقش ويدرس ويعد مشروعات القرارات التي تعرض على الشعب . ولم يكن من حق الشعب مجتمعا الا أن يرفض أو يقبل ما يقدمه إليه مجلس الشيوخ ، ولا يملك المناقشة في أي موضوع آخر . كان على الشعب بأن يقول نعم أولا فقط .
وعند ما يدعى الشعب الى الاجتماع ، وما كان ليجتمع إلا بدعوة من القادة العشرة ، فإن حق المناقشة لم يكن متاحا لكل واحد من المواطنون الحاضرين . كان يشترط فيمن يصعد الى منبر الخطابة الا يكون مدينا للمدينة وأن تكون أخلاقه طاهرة ومتزوجا زواجا شرعيا ويمتلك عقارا في "اتيكا" (المنطقة الجغرافية التي تعيش فيها القبائل المتحالفة - ومركزها أثينا) وأنه قد أدى جميع واجباته نحو المدينة واشترك في جميع الحملات الحربية التي أمر بالاشتراك فيها وانه لم يلق سلاحه ويفر من أية معركة.
ثم تبدأ المناقشة عن طريق الخطابة تحت رقابة حفظة القانون . وكان أولئك سبعة يراقبون "الشعب" في اجتماعه وهم جلوس على مقاعد عالية فإذا سمعوا خطيبا ينقد قانونا ساريا أوقفوه ثم أمروا ، لا بأن يصعد غيره الى المنبر ، ولكن بفض اجتماع الشعب فورا فينفض اجتماع الشعب فورا . (باستيد ـ القانون الدستوري ـ ١٩٦٠) .
٤ـ من هذا النظام الإغريقي اشتقت الديمقراطية اسمها اذ هي حكم الشعب .
" ديموس " تعني الشعب و" كراتوس " ، تعني الحكم . وبه يضرب المثل عادة للديمقراطية المباشرة . ويتباهى به كثير من الأوروبيين كتراث لحضارتهم . غير أن اتجاها حديثا في الفكر الأوروبي لا يرى فيما خلفه الإغريق شيئا يمت الى الديمقراطية بصلة . يقولون أن الديمقراطية بأي معنى هي نظام منع الاستبداد بالشعب والاستئثار دونه بالسلطة . وهذا كله يفترض ابتداء وجود شعبين من الأحرار المتساوين في الحرية . ولم تكن المساواة في الحرية متوفرة لا في المجتمع الإغريقي ولا في المجتمع الروماني حيت ساد النظام العبودي . وإنما هو تنظيم لجأت إليه القلة من الأحرار لممارسة الاستبداد بالسلطة وتقسيم وظائفها فيما بينهم فهو استبداد الأقلية (بلانك ـ
الامبريالية القديمة. جوج جوسدروف - المفهوم الإنساني للحرية. وكثيرون غيرهما) نقول معهم هو كذلك . ونذكر لهم أنهم ينكرون ما قال أرسطو" ليس كل إنسان مواطنا ونتذكر تاريخ البدائل الفكرية المتحضرة : " ولد الإنسان وله حق في الحرية وفى التمتع بلا قيود بجميع حقوق ومزايا قانون الطبيعة في مساواة مع أي شخص أخر" (جون لوك - رسالتان في الحكم - ١٦٩٠) و "خلق جميع الناس متساوين منحهم الخالق حقوقا لا يجوز المساس بها منها حق الحياة والحرية " (إعلان الاستقلال الأمريكي - ١٧٧٦ ) . و" يولد كل الناس أحرارا متساوين في الحقوق ". (إعلان الحقوق الفرنسي - ١٧٨٩ ) . ومع ذلك ، أو بالرغم من ذلك ، نقول ان هذه الكلمات النبيلة التي لا يخلو منها دستور لم تنه الاستبداد بل أرست له أسسا متحضرة فكان استبدادا متحضرا . كيف يكون استبدادا ومتحضرا في الوقت ذاته ؟
نعرف الجواب من قصة الاستبداد .
قصة الاستبداد :
د عصمت سيف الدولة |
إلى هنا تنتهي البدهيات وندخل فى متاهات النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. اذ
الواضح ان تناقضا لا حيلة لأحد فيه يفرض اتخاذ " قرار" ينصب على المجتمع كله ويمس حياة كل فرد فيه . من الذي يتخذ القرار؟. ما هو مضمونه ؟. كيف يصدر ؟.كيف ينفذ ؟. كيف يعدل ؟. كيف يلغى ؟. تلك هي الأسئلة التي تمثل الأجوبة عليها مادة كافة العلوم الإنسانية وعلى رأسها علم النظم السياسية . وفيها تفترق الديمقراطية جوابا عن الاستبداد .
يقول الجواب الديمقراطي : ما دام القرار للغير (الناس ، الشعب ، المجتمع) فهؤلاء هم أصحاب الحق في أن يقرروا ما يريدون لأنفسهم) . فإذا لم يتفقوا ؟.. هم بشر فهم متساوون فى الإنسانية ، وهم متعدودن في مجتمع واحد فهم شركاء في إمكانات هذا المجتمع ، فإذا لم يتفقوا لا يكون ثمة مرجح فيما بينهم إلا الكثرة العددية . ينفذ إذن رأي الأغلبية ، وهو عدل في حدود الممكن إذ يعني إشباع أغلبية الاحتياجات . ولكن الأغلبية هنا إذ تقرر لنفسها تقرر لغيرها . لها الإشباع ولغيرها الحرمان . فهل تكره الأقلية على أن تصوغ حياتها على ما تريد الأغلبية ؟ إنه إذن إهدار للمساواة يبن البشر وإجحاف بحق المشاركة فى مجتمع واحد . فهو - من حيث المبدأ - عبودية ، إذ العبودية " نظام" يلغي إرادة الناس كثر هؤلاء أو قلوا . فيرد السؤال : ما الذي يرفع عن الأقلية نير العبودية ويبقيها على مستوى المساواة مع الأغلبية ؟ . الجواب البسيط هو أن تكون هي صاحبة القرار الذي ينصب على المجتمع كله ويمس حياة كل واحد فيه . ولكن هذا القرار هو أيضا قرار للغير . للأغلبية فهل تكره الأغلبية على أن تصوغ حياتها على ما تريد الأقلية . إنه ـ مرة أخرى ـ إهدار للمساواة بين البشر وإجحاف بحق المشاركة في مجتمع واحد . ما الحل ؟.. يقال : أن يقبل الجميع الاحتكام إلى كل فرد منهم تأكيدا للمساواة ونفاذ رأي الأغلبية عند الاختلاف .. " قبل أن يحتكموا ، قبل أن يعرف أي فرد منهم أين سيكون موقعه مع الأغلبية أو مع الأقلية . حينئذ يكون الجميع قد أرادوا لأنفسهم ويكون كل فرد منهم قد أراد لنفسه الموقع الذي سيختاره فيما بعد ، بدون قهر . ولن يكون مقهورا لو اختار موقعه بين الأقلية حيث يكون عليه أن ينفذ قرار الأغلبية لأنه أراد ذلك لنفسه منذ البداية . يطلق جان جاك روسو على إرادة الاحتكام إلى كل فرد ونفاذ رأي الأغلبية " الإرادة العامة ".
تساءل الفقيه الكبير ليون ديجي : " كيف يمكن أن يكون الإنسان حرا ومرغما فى الوقت ذاته على الخضوع لإرادة ليست إرادته . كيف يكون المعارضون أحرارا ويضطرون إلى قبول قوانين لم يوافقوا عليها " ؟ (القانون الدستوري - ١٩٢٧) .
قبل ١٦٥ عاما من السؤال كان روسو قد أجاب " إن السؤال سيء الوضع . فالمواطن يوافق على جميع القوانين حتى تلك التي توضع رغما عنه بل وحتى تلك التي تعاقبه إذا جرؤ على خرقها . فالإرادة الثابتة لجميع أعضاء الدولة هي الإرادة العامة وبواسطتها يكونون مواطنين أحرارا . فعندما يقترح شخص قانونا في جمعية الشعب فإن ما يطلب إلى الناس ليس بالضبط هو إبداء رأيهم في الموافقة عليه أو لا (كما لو كانوا يشرعون لأنفسهم) ولكن ما إذا كان يطابق الإرادة العامة أم لا (لانه تشريع للغير) . وعندما يعطي كل واحد صوته فإنه يبدي رأيه في هذا . وبحساب الأصوات تتبين الإرادة العامة . ومن ثم فعندما ينتصر رأي معارض لرأي فان ذلك لا يدل على شيء سوى أنني كنت مخطئا وأن ما اعتقدت أنه الإرادة العامة ليس كذلك " (العقد الاجتماعي - ١٧٦٢) .
٦- وراء رأي روسو" علم أكثر اًصالة من كل ما كان يعرفه ليون ديجي ٠ قال أبو الحسن بن الهيثم أول عباقرة البشرية في الرياضيات والطبيعة (ولد بالبصرة عام ٩٦٥ وتوفي بالقاهرة عام ١٠٣٩ ميلادية) قال " كل مذهبين - إما أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا ، واما أنيكونا جميعا كاذبين ؛ و إما أن يكونا جميعا يؤديان الى معنى واحد وهو الحقيقة .فإذا تحقق في البحث وأنعم في النظر ، ظهر الاتفاق وانتهى الخلاف " . كان ذلك قبل أن يولد روسو بنحو سبعة قرون وأصبح قوله الآن بدهية علمية . وبناء عليه نقول انه بصرف النظر ـ مؤقتا - عن رأي الأغلبية ورأي الأقلية فإنه لا يوجد ، ولا يمكن أن يوجد إلا قرار صحيح " موضوعيا " واحد لإشباع احتياجات المتعددين من إمكانيات مجتمع واحد فى زمن واحد . وعندما يختلف الناس حول هذا القرار لا يمكن ان يكون بينهم الا رأي واحد صحيح أو لا يكون هناك رأي صحيح على الإطلاق . وجود رأيين صحيحين في أمر واحد ومختلفين في الوقت ذاته تناقض مستحيل . والمشكلة ، جوهر المشكلة في النظم السياسية ، هي كيف يمكن معرفة الرأي الصحيح من بين الآراء المختلفة . بمعرفة كل الآراء أولا (الأصل الفكري لحرية الرأي والاقتراع) ثم بفرزها على أساس المضمون المشترك (الى أغلبية وأقلية) . فماذا تكون دلالة رأي الأغلبية ؟.. انهم يقولون ان رأينا " الذاتي " هو ان القرار الصحيح "موضوعيا " هو كذا . وهكذا نرى ان إبداء الآراء والمناقشة التي تسبق اتخاذ القرار ليست صراعا بين إرادة الأغلبية وإرادة الأقلية التي لا تظهر- على أي حال - إلا بعد انتهاء التصويت ، ولكن أسلوب مشترك لاكتشاف " القرار" الصحيح موضوعيا . ويترتب على ذلك ان رأي الأغلبية لا يتضمن في ذاته قوة ملزمة للأقلية وإنما يتضمن دليلا على ان القرار الذي رأته الأغلبية هو القرار الصحيح " موضوعيا " . فلا يستمد القرار شرعية نفاذه من الكثرة العددية بل يستمدها من انه قرار صحيح بالنسبة إلى الجميع .
٧- ولكن قد لا يكون القرار الذي رأت الأغلبية انه القرار الصحيح موضوعيا هو القرار الصحيح موضوعيا . نعم . فلا أحد يقول ان مجرد الأغلبية حجة قاطعة بصحة القرار . فيقول الجواب الديمقراطي للمشكلة : لنختبره في التطبيق . نختبره جميعا ومعا ( نذان رأي الأغلبية) وأيا منا اكتشف ان ما حسبته الأغلبية صحيحا لم تثبت صحته فله أن يعلن رأيه بما اكتشف وأن يقنع به غيره (حرية النقد والمعارضة) إلى ان يكسب رأيه الأغلبية فيكون ذلك دليلا على صحة قرار جديد .. وهكذا . الإبقاء على التعدد ، تعدد الآراء المعبرة عن الاحتياجات المتعددة في نطاق الوحدة ، وحدة المجتمع وإمكاناته المشتركة ، والاحتكام إلى الشعب في إصدار القرار؛ ونفاذ رأي الأغلبية وحرية الرأي والنقد والمعارضة " تصحيحا ذاتيا ، للقرارات التي يثبت خطأ الرأي فيها هذه هي الديمقراطية أو هذا هو جوهرها . قانون حل التناقض بين التعدد والوحدة في المجتمع أو ما يسمى " الجدل الاجتماعي" .
٨- أما الاستبداد فيحل - أو يتوهم أنه يحل - التناقض بين وحدة المجتمع وتعدد الأفراد فيه بإلغاء أحد طرفي التناقض . أو إلغائهما معا . يلغى وحدة المجتمع بالنسبة إلى المتعددين بإلغاء اشتراكهم اشتراكا متساويا في إمكاناته المتاحة . يستأثر المستبدون بكل أو أغلب إمكانات المجتمع دون الناس فيه أو دون أغلبهم . يحولونها إلى ملكية خاصة ويستبدون بالتصرف فيها فيكون المجتمع لهم دون غيرهم . ويصبح لهم وحدهم القرار لأن لهم وحدهم المجتمع . قال لويس الرابع عشر الذي يضرب به المثل في الاستبداد الملكي " الدولة هي أنا " فألغى الدولة (المجتمع) ويقي هو . وقال لويس الخامس عشر عام ١٧٦٦: ( إن كل حقوق ومصالح الأمة ، التي يحاولون جعلها شيئا منفصلا عن الملك هي بالضرورة متحدة مع حقوقي ومصالحي ولبس لها مكان الا بين يدي . وحينما كان ذلك الملك وليا للعهد أمر أبوه بأن يثقف فى القانون العام فأنشأوا له كتابا جاء فيه : " إن فرنسا دولة ملكية بأوسع معاني الكلمة.. إن الأمة ليست متجسدة في فرنسا بل هي متجسدة ، كلها ، في شخص الملك " لافريير- موجز القانون الدستوري ـ ١٩٤٧) . وكان كل هذا يسمى ، عند بعض المنافقين، استبدادا مشروعا كما قال كيزني أو استبدادا طبيعيا كما قال دويون دي تيمور ( إباستيد - التوازن الدستوري ١٩٥٠)
هذا الاستبداد " بالمجتمع " يبقي على التعدد ولكن بدون مشاركة في " المجتمع " ، فلا يكون لرأي الناس أثر نافذ في مضمون اجتماعي معين ، إلا ما يسمح له الملك المالك ، يشاركون في اتخاذ القرار ، فيصبح التعدد " عاطلا " ويصبح الشعب من الغير حقا ، غريبا حقا فيما كان مفروضا أنه مجتمعة .
٩ـ وقد يتجه الاستبداد الى حل أو توهم حل ـ التناقض بين وحدة المجتمع وتعدد الأفراد فيه بإلغاء التعدد . ويستأثر المستبدون دون الناس فيه أو دون أغلبهم باتخاذ القرار الذي ينصب على المجتمع كله ويمس حياة كل فرد فيه . وهو، أو هم يفعلون هذا واعين تماما أن الآخرين شركاء لهم في المجتمع بل انهم قد يبررون استبدادهم بضرورة الإبقاء على هذه المشاركة وتأكيدها . ولا ينكرون- عادة- أنهم يقررون للشعب وليس لأنفسهم . ويأخذون من معرفتهم " الذاتية " حجة قاطعة على الصحة الموضوعية لما يتخذونه من قرارات . ثم يفرضونها على من قد يختلف معهم في الرأي ، أو يتوقعون اختلافه ، بوسيلة أو أخرى من وسائل الإكراه المعنوي أو المادي مما يعطل إرادة الناس وما يزالون فاعلين حتى يتحول العطل إلى شلل فيتحول البشر إلى مثل البهائم ، وآيته ألا يرفضوا الاستبداد ، وتضمحل أو تضمر أو تتلاشى فيهم ملكة التفكير ويفقدون الشعور ـ مجرد الشعور ـ بالقهر .
١٠- كان الاستبداد الذي يلغي وحدة المجتمع أو يلغي تعدد الأفراد فيه قائما ، بصورة أو بأخرى ، منذ بداية البشرية ، وما يزل قائما فى مجتمعات كثيرة معاصرة . إنما الذي تغير أو تطور أو تحضر فهو مبرراته كما يدعيها المستبدون والمنتفعون من الاستبداد . ومن بين المستبدين والمنتفعين منه طغمة كثيفة العدد . متصلة الأجيال عبر التاريخ ، من كهنة وفلاسفة ومفكري الاستبداد . انهم إن لم يكونوا من المستبدين أنفسهم فهم من محترفي (الدعارة الفكرية) .أولئك الذين يعرضون ويستعرضون أثمن أعضانهم وأكثرها إغراء : عقولهم ويبيعونها متعة لمن تغريه أفكارهم كما تفعل الداعرات من النساء . ولهم ، كما لهن ، في هذا حيل وفنون يمارسونها حتى وهم لا يدرون .
لم يكن توما الأكويني ( ١٢٢٥- ١٢٧٤) يساند البابوية التزاما بأفكار اهتدى إليها بعيدا عن الكنيسة بل كان وهو يفكر ويكتب يشغل منصبا في المؤسسة الكنسية هو " المستشار الفكري للبابا " . ولم يكن بودان (١٥٣٠- ١٥٩٦) يؤلف دفاعا عن الاستبداد الملكي لوجه الحقوحله ، بل كان ، وهو يؤلف ، يشغل منصبا في البلاط هو المحامي الخاص للملك . وكان توماس هوبز (١٥٨٨- ١٦٧٩) يدافع عن الملكية حين كان موظفا مدرسا خاصا لأمير ويلز الذي أصبح الملك شارل الثاني في إنجلترا . وحين أصبحت قضية الملكية خاسرة لم يكن قد انتهى من تأليف كتابه " العملاق " (إنجيل الاستبداد الملكي) فأضاف إليه فصلا أخيرا يهاجم فيه الملكية وينافق العهد الجديد ليعود من منفاه من فرنسا .. إلى أخره .
كان المستبدون يطورون ، إذن ، أفكارهم على مدى التاريخ ٠ وكانوا على ذلك مكرهين بفعل مقاومة الشعوب للاستبداد والتطورالحضاري الذي أصابته البشرية في كل المجالات الفكرية والعلمية والتطبيقية . فكان لا بد للمستبدين ومفكريهم ، في كل عصر ، من أن يستروا عورة الاستبداد بنسيج من صنع العصر فكرا أو علما أو ممارسة لأنه أقدر على إخفاء السوأة وتضليل الشعوب . ولقد كانت الديمقراطية آخر ما اختاره المستبدون لستر عورة الاستبداد في هذا العصر، سواء كان استبدادا بإلغاء وحدة المجتمع مع الابقاء على التعدد أو استبدادا بإلغاء التعدد مع الإبقاء على وحدة المجتمع . ولكل من النوعين نماذج قائمة في عصرنا هذا .
١١- نوع ثالث من الاستبداد كان قائما منذ بداية البشرية ألفته الشعوب من تاريخها الحضاري بعد كفاح طويل مرير . إنه الاستبداد الذي يلغي التعدد والمجتمع – ليبقى المستبد وحده . في هذا النوع لا يقوم الاستبداد على مبرر من إرادة المتعددين او بعضهم ولا على مبرر من وحدة المجتمع وإمكاناته ، وإنما يقوم على مبرر أو مبررات فوق الناس وخارج المجتمع .
يقال الآن عن هذه الصورة البائدة من صور الاستبداد أنها منحطة أو بدائية أو جاهلية أو متخلفة .
وقد كان جديرا بنا ، ونحن نريد ان نتحدث عن الاستبداد العصري (المتحضر) ألا نذكرها . ولكنا - للأسف - لا نستطيع . ذلك لأن الانحطاط والبدائية والجاهلية والتخلف ما تزال قائمة في أنماط معاصرة من المجتمعات المتخلفة المسماة ـ مجاملة ـ مجتمعات نامية أو مجتمعات " العالم الثالث " . فهي تستحق الذكر . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أكثر أهمية ، نعلم من أمر هذا العالم الثالث الذي ننتمي اليه أنه لم يعرف الديمقراطية فكرة إلا منذ نصف قون أو نحو ذلك . ولم يطلق الديمقراطية إسما إلا بعد تحرره الحديث من الاستعمار الأجنبي الظاهر . ولم يحيا الديمقراطية قط لا قبل هذا ولا بعد هذا. وان أخطر مشكلات الديمقراطية فيه كامنة في الشعوب ذاتها ، في تخلفها ديمقراطيا وافتقادها النضج الفكري والتقاليد التطبيقية لممارسة هذا النظام الذي قال عنه روسو : " لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بطريقة ديمقراطية فهذا النوع من الحكم الذي بلغ حد الكمال لا يصلح للبشر " (العقد الاجتماعي) . والعالم الثالث ليس عالما من البشر فحسب بل هو عالم متخلف أيضا فهو يتيح للاستبداد به ، والاستبداد فيه ، فرصا مضاعفة تكاد تستدعي المستبدين . منذ أن دخل أسلوب الاستفتاء الشعبي في دستور فرنسا (١٩٥٨) لا يكف أساتذة النظم السياسية وعلماء القانون والكتاب فيها عن التحذير من أن فقدان النضج السياسي الذي يميز بعض الشعوب ومنها ـ كما يقولون- شعبهم الفرنسي ، يحيل الاستفتاء الشعبي الى أداة خطرة في أيدي القادة لأن الشعب الفرنسي ـ كما يقولون أيضا ـ ما يزال منذ جان دارك يبحث عمن يقوده لينقاد له (هرفي دوفال- الاستفتاء الشعبي - ١٩٧٠ وجلبير بورتولي- علم اجتماع الاستفتاء الشعبي - ١٩٦٥) اذا كان الأمر على مثل هذا في فرنسا فماذا يمكن أن يقال عن عالمنا الثالث . هل نقول أنه لا يبحث عمن يقوده لينقاد له بل هو يصنع قادة لينقاد لهم . حدث ويحدث . أيا ما كان الأمر ففي الشعوب النامية ليس أسهل من صياغة الأفكار نظاما ديمقراطيا الا صياغة النظام الديمقراطي نصوصا دستورية . الصعب حقا هو أن تعي الشعوب حقوقها ثم - بعد الوعي- ان تمارسها . والناس - أغلبية الناس- في المجتمعات النامية ومنها مجتمعنا العربي لا يعون حقوقهم وان وعوها لا يمارسوها ان بقيت ولا يفتقدوها ان ألغيت ولا يدافعون عنها في أي حال . ولا يزالون كعهد أجدادهم يسلكون الى غاياتهم مسالك الزلفى ويجتنبون الاستبداد بالسكوت أو الدعاء . انه ميراث عهود طويلة من العبودية دربتهم على الخوف حتى أصبحوا بشرا خائفين .
في هذه المجتمعات المتخلفة أو النامية لا تكون الديمقراطية نظاما دستوريا يطبق بل حياة ديمقراطية تسعى الشعوب إلى تحقيقها وتناضل من أجلها . هنا لا يكون السؤال الأساسي هو: هل ثمة نظام ديمقراطي بمقياس العصر أولا ؟... بل يكون : هل نحن نتقدم نحو نظام ديمقراطي بمقياس العصر أولا ؟.. هنا يكون النظام الديمقراطي " مثلا أعلى يوجه ويقود جهد البشر " كما قال دينيه كابيتان (الديمقراطية والممارسة السياسية ١٩٧٢) . وهنا تكون كل خطوة فكرية أو قانونية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو تربوية تحرر الشعب من التخلف الديمقراطي هي خطوة ديمقراطية نحو النظام الديمقراطي . وهنا - أخيرا- تكون كل ردة فكرية أو قانونية أو سياسية أو اقتصادية او اجتماعية او تربوية عما اكتسبه الشعب فعلا هو هدم وتدمير وانهيار في بناء الديمقراطية غير المكتمل يعود بالشعب إلى بداية الطريق ليدفع - مجددا ـ ثمن التقدم نحو الديمقراطية ، كأنه تنتالوس ملك فريحيا الذي تقول عنه الأسطورة الإغريقية انه لم يطع الإله ريوس فجازاه بأن سلط عليه ظلما شديدا فوضعه وسط بحيرة ينحسر ماؤها كلما هم بشربه وعلق فوق رأسه أغصانا ثقيلة بالفاكهة تبتعد عنه كلما حاول الوصول اليها . وانه حقا لظلم شديد للشعوب النامية أن تحمل عبء إعادة تجربة البشرية كلها كأن البشرية لم تدفع أثمانا باهظة لدفن الإشكال المنحطة والبدائية من الاستبداد في مزيلة التاريخ ٠
وان هذا ليحدث في بعض المجتمعات النامية وفي مجتمعنا العربي فنرى الاستبداد يتجرد بجرأة غريبة من ستاره العصري ليعود مستعرضا عوراته في أفكار ونظم بالغة التخلف والبدائية والانحطاط . من أجل هذا نستعرض تلك الأفكار والنظم قبل أن نعود الى الاستبداد المتحضر .
رب الاسرة :
١٢- في عام ١٥٧٦ نشر جان بودان في فرنسا كتابه المسمى " الجمهورية " وكان يعني بها "الدولة" وليس الجمهورية كما هو مدلولها الآن . ذهب في كتابه هذا إلى أن الاستبداد الفرد المطلق هو النظام الذي يتفق مع القانون الطبيعي ذلك لأن الطبيعة قد شكلت أول مجتمع في صورة الأسرة . والأسرة هي مجتمع صغير متعدد الأفراد وذو مصالح مشتركة لا بد من أن يقوم فيها واحد من أفرادها لتكل إليه الأسرة إدارة شئونها ، هو رب الأسرة . ولم يكن من الممكن أن يقوم فيها "ريان " وإلا تمزقت ، لأن الأمر في الأسرة كالأمر في السفينة ان تعدد فيها الربابنة غرقت . والأسرة هي النموذج المصغر للدولة . ومن هنا فان الدولة " الطبيعية " هي التي يكل أفرادها سيادتهم إلى واحد منهم ليمارسها . وهم لا يستطيعون إلا أن يكلوها إليه كاملة لأن السلطة لا تتجزأ ولا يمكنهم ان يسحبوها بعد أن يكلوها إليه لأن مبررات التخلي عنها اليه مبررات دائمة ولا يجوز ان تنقطع .
كان جان بودان ، بهذا القول ، يحاول تبرير الاستبداد الفردي عن طريق إحياء أكثر أطوار البشرية بدائية وتخلفا . إذ الراجح عند الباحثين في تاريخ الأجناس البشرية أن الوحدة الاجتماعية الأولى في تاريخ المجتمعات كانت الأسرة التي تربطها صلة الدم وعاطفة القرابة وتضم أفرادها رابطة الخضوع لأب واحد أو جد واحد هو صاحب الكلمة النافذة فيهم والمتصرف في شئونهم سواء كانت هذه الصلة العائلية صلة حقيقية بالتناسل أم اعتبارية بتبني الغريب واقتناء الرقيق وحماية النزيل . ثم اتسعت هذه الدائرة بمرور الزمان وازدياد النسل حتى صارت عشيرة مكونة من عدة أسر ترجع إلى أصل واحد . ثم تكونت القبيلة - متنقلة كانت في حياتها أم متوطنة ـ من جمع العشائر . وهكذا كانت صلة الدم ، حقيقية أم افتراضية ، الباعث الفطري والأساس الوحيد لتكوين الجماعات السياسية القديمة (مين - النظم البدائية ، ويولوك - القانون البدائي ، وفولر- دولة المدينة . أشار اليهم على بدوي- أبحاث التاريخ العام للقانون - ١٩٤٧) .
كان هذا الطور الاجتماعي المتخلف شائعا في كل المجتمعات البدائية . وفيه كان " رب الأسرة" يمثل الاستبداد الفردي في صورته الكاملة . كان يمثل الإلغاء الكامل لوحدة المجتمع ولتعدد الأفراد فيه معا. فهو صاحب ومالك وسيد الناس وما يحوزون . وما تزال مفردات اللغة تحمل آثارا من ذلك الاستبداد البائد . فقد كانت كلمة أسرة عند الرومان (فاميلوسوفاميليا) تعني العبيد . وحتى أيام المشرع الروماني جايوس (القرن الثاني بعد الميلاد) كانت كلمة " أسرة " تعني الميراث (أنجلز- أصل العائلة - ١٨٢٠) ولم يكن الأمر مختلفا عن هذا في المجتمع الأنجلو سكسوني قبيل الفتح النورماندي لانجلترا إلا في أمرين . الأول هو أن الولد كان يتحول من عبد مملوك لأبيه الى حر ببلوغه سن الرجولة . والثاني أن الأسرة كانت تضم القرابة من الأبوين لا من الأب وحده كما كان الشأن عند الرومان . وتنبئ بعض الأثار المنقولة عن نظام الأسرة في الجاهلية العربية ، مثل وأد البنات وزواج المقت ، والعضال ، بأن رب الأسرة كان السيد المطلق على أفراد أسرته إلى حد التصرف فى حياتهم . وهو ما أدى إلى القول بان قد كان لرب الأسرة عند العرب فى أيام الجاهلية ، سلطة على أفرادها مماثلة لما كان لرب الأسرة عند الرومان من سيادة مطلقة على أفراد أسرته تشمل أشخاصهم وأموالهم (دارست أبحاث تاريخية).
١٣- أيا ما كانت الأسباب الاجتماعية أو الاقتصادية لذلك النظام الاستبدادي المتخلف فأنها كانت غريبة عن المستبد نفسه . أولا لأنه يتعين صدفة . صدفة ان قد ولد قبل الآخرين فكان " رب الأسرة " مع أن لا فضل له في هذا ولو كان لوالده فضل السبق إلى إشباع غرائزه أو كان لوالدته قصب السبق في الخصوبة . وهي صدفة سابقة على وجود رعاياه وبالتالي فإن استبداده لم يكن قائما ولو على شبهة الاختيار أو القبول السابق . وهي صدفة لا علاقة لها بالملكات اللازمة لحكم الأسرة أو التحكم فيها أو قيادتها . فرب الأسرة هو رب الأسرة سواء كان عاقلا أم معتوها ، سواء كان ذكيا أم غبيا ، سواء كان قادرا أم عاجزا . له الطاعة على أي حال لمجرد أذنه رب الأسرة ولأنه كذلك لا تجوز مزاحمته في مال أو معارضته في رأي أو نقده في قرار أو تقديم المشورة إليه بدون إذن سابق منه . فقد كانت كل تلك جرائم تتراوح جسامتها ما بين التمرد و" العيب " ، ولكل جرم عقاب يستحقه بقضاء رب الأسرة ولو كان هو المجنى عليه . وكان الطرد من الأسرة عقوبة شائعة عند السكسون وعرب الجاهلية الذين كانوا يسمونه " الخلع " . أما الرومان فكانوا يفضلون القتل . وهكذا رب الأسرة هو السيد وهو المالك وهو المشرع وهو القاضي وهو المنفذ ، فكان مصير الحياة في كل أسرة متوقفا على صدفة أن يكون ريها حكيما أو مخبولا .
يحدثنا التاريخ عن غرائب التقاليد التي اخترعها ثم احترفها المشرعون القضاة المنفذون أرباب الأسر البائدة فنكاد لا نصدق ما يحدثنا عنه التاريخ . وأغرب ما يحدثنا عنه ما كان يلجأ اليه أولئك المستبدون بالناس حين يستبدون بالقضاء . كان الخصمان في القبائل اليونانية القديمة يؤمران بمساجلة في الغناء يكون المنتصر فيها هو صاحب الحق . وفي أساطير الايداس عن القبائل الجرمانية كان الخصوم يدعون الى مباراة شعرية يقتل من ينهزم فيها . وكان المعتدى عليه في جرينلاند يسابق الجاني في غناء الألحان القبلية فإذا استطاع الجاني أن يسبق كان بريئا مما جنت يداه . أما في ايرلندا فقد كان الخصمان يؤمران بأن يطرح كل منهما قطعة من العجين في مكان معين الى أن يأتي غراب ذو لون معين فيأكل من إحداها ، حينئذ يكون صاحب القطعة الباقية هو صاحب الحق ( لم تقل الأساطير ماذا يكون حكم رب الأسرة لو أكل الغراب القطعتين) . وفي اسكندنافيا اذا تعدد الدائنون كان لهم الحق في اقتسام أشلاء المدين بعد قتله كل بنسبة دينه . وفي انجلترا كان المتهم يجرح فاذا شفي فى ثلاثة أيام فهو بريء الا فهو مجرم . أو يلقى في الماء موثوقا فان غطس فهو مذنب وان عام فهو بريء ، أو تعطى له قطعة جافة من الخبز كانوا يسمونها " القطعة اللعينة " فان ابتلعها فهو بريء وان توقفت في حلقه فهو مذنب... الى آخره .
هل يمكن أن يكون هذا قد حدث ؟ .. نعم . حدث ويحدث حتى في هذا العصر . وقد يحدث ما هو أكثر منه غرابة . اذ لا غرابة في التشريع او التحقيق أو القضاء أو التنفيذ اذا ما ساد ، وحيث يكون سائدا ، ذلك المبدأ الغريب : ان تكون السلطة لرب الأسرة لمجرد أنه رب أسرة . أو أن يتحول المجتمع الى أسرة لا بد لها من رب لأن مبررات استبداد رب الأسرة مبررات دائمة لا يجوز أن تنقطع كما قال جان بودان في القرن السادس عشر . حينئذ ستكون غرائب القرارات متوقفة وجودا أو عدما على صدفة صحة أو مرض عقل رب الأسرة . ونكاد نقول أنه حتى لو بدأ صحيح العقل فان مصيره الى أن يكون مريضا . نعرف هذا من علم النفس الحديث . يكفي أن نتصور شخصا يجد نفسه ، صدفة ، رب أسرة فإذا بكل ما تملك الأسرة تحت تصرفه ، واذا بكل من في الأسرة من بشر تحت أمره . واذا به هو وحده الذي يفكر ويدبر ويأمر وينفذ ولا يقول الآخرون الا " آمين " ، ولا يفعل الآخرون الا ما يؤمرون . علميا سيتوقف نموه الفكري عند البداية لأن عقله لن يجد غذاء الا اجترارا لما اكتسب في المرحلة السابقة ، ما دام قد حرمه الاستبداد من ناحيته والصمت او النفاق من ناحية الآخرين من أن يعرف ما قد يكون من قصور أو خطأ في فكره . وهو لا يعرفه الا بالحوار ، بالنقد ؛ بالمعارضة ، التي تنقل الى عقله ما يعرفه الآخرون فتغذيه علما وتنميه فكرا وتغنيه معرفة . ومع تدفق الحياة بمعضلات ومعطيات جديدة كل يوم ، تحتاج مواجهتها الى علم ومعرفة جديدة حرمه الاستبداد منها . يدخل " رب الأسرة " من باب الاستبداد الى ظلمات الجهل فيصبح مستبدا جاهلا . ومع ذلك فان النظام ذاته يفرض على أفراد الأسرة أن يؤدوا- بطرق شتى - طقوس الإشادة بعقله وحكمته ومعرفته . وقد يصل الأمر الى حد الإقرار له بالعصمة أو عبادته . وتلك درجات ظاهرة من ادعاء الكمال تعويضا متدرجا للنقص الخفي . ويقيم كل هذا حاجزا عقليا ونفسيا وعاطفيا بينه وبين رعاياه فيعيش في عزلة وحيدا ولو كان فوق أسرته . فتجتمع له من الجهل والتعظيم والعزلة كل أسباب المرض الذي يسمونه جنون العظمة (البارانويا)... ولن يكون غريبا حينئذ أن تصدر عنه أغرب التصرفات وأن تصدر عنه أغرب القرارات . سيكون الغريب حقاً أن يهمس أحد أفراد الأسرة في أذن فرد آخر متسائلا : ماذا جرى لرب أسرتنا لقد بدأ عاقلا ؟ ولمن يستغرب شيئا من هذا ان يتذكر رجالا في قارتنا (إفريقيا) بدأوا حكاما ثم انتهوا إلى أرباب أسر فأصبحوا مخبولين . نموذجهم " الإمبراطور بوكاسا ". ليس غريبا على أي حال أن يكون الاستبداد ذهانا أو حالة عقلية.
١٤ـ والواقع أن اطراد ظاهرة " أن كل مستبد مريض ذهنيا " على مدى تاريخ الاستبداد وفي كل النظم ، قد جعل منها مادة دراسة لعلماء النفس والاجتماع . ولقد قيلت في تفسير مرض الاستبداد نظريات عدة نختار منها بعض ما نعتقد أنه يستحق الاختيار . فنسقط نظرية فرويد التي يرد بها كل سلوك ، حتى الاستبداد ، الى الغرائز الجنسية المكبوتة منذ الطفولة ، لأنها - في رأينا - نظرية متهافتة . ثمة نظرية قريبة منها ولكنها تستحق العرض . خلاصتها أن الاستبداد عودة الى مرحلة الطفولة وفيها تبرز ظاهرة النزوع الى التدمير . يقولون ان حياة الطفل تدور كلها حول محور " اللذة " . فهو يبحث عن " اللذة " بدون رادع من ادراكه وبدون اعتداد بالقيود الاجتماعية وبالرغم من أن الطفل لا يستطيع دائما اجبار الآخرين على أن يوفروا له أسباب اللذة التي يبحث عنها بتدليله وحمله ومداعبته فانه لا يمكن إجباره على أن يتخلى عن مصادر اللذة المتاحة له كالبكاء واللعب بالأشياء وبأعضائه والانصراف فجأة من حالة الى حالة وتدمير ما يمكن تدميره . وهكذا - يقولون - ان حياة الطفل خاضعة خضوعا كاملا " لمبدأ اللذة " الذي سيبقى في حياة كل إنسان مصدرا للوحي "بالفردوس المفقود " حتى بعد أن يغادر مرحلة الطفولة ويصبح رجلا . في مرحلة الرجولة يكون على كل إنسان سوي أن يتخلى عن مبدأ (اللذة) ويقبل التعامل مع مجتمعه على أساس " مبدأ الواقع " باعتباره جزءا منه . عليه أن يتعلم كيف يتوقف عن اتباع غرائزه وأهوائه ومزاجه ورغباته الخاصة وان يكيف سلوكه بحيث يتلاءم مع مجموعة لا نهائية من الضوابط الخلقية والاجتماعية والقانونية . هذا الفصام بين متطلبات المجتمع من الرجل وبين النزوع الى اللذة في الطفل كامن في نفس كل إنسان . ويظل الرجل الاجتماعي العاقل قادرا على التكيف مع مجتمعه وكبت نزوات الطفل او التسامي بها الى أن يصبح "مستبدا " هنا تتاح له فرصة التحرر من الضغوط والضوابط الخلقية (غير قابل للمحاسبة) والاجتماعية (غير قابل للنقد) والقانونية (غبر قابل للعقاب) فيتحرر الطفل من قيود الرجولة . يعود المستبد طفلا . ويصبح سلوكه خاضعا ـ مرة أخرى ـ لمبدأ اللذة . ولكنه يملك الآن أسباب حمل الناس على تدليله (المديح) وحمله (الهتاف له) ومداعبته (نفاقه) بدون أن يفقد أسباب اللذة المتاحة له . فالبكاء يتحول إلى سباب واهانة للآخرين . واللعب بالأشياء والانصراف عنها وتدميرها لمجرد إشباع لذة الفضول واثبات الذات الفضولية يتحول الى لعب بالبشر والأفكار والمشروعات والقرارات والتحول منها الى غيرها وتدميرها أيضا . أما العبث بأعضاء جسمه فيتحول إلى " نرجسية " فهو يعشق ذاته فلا يكف عن الحديث عنها ، ولا ييأس من محاولة إقناع الآخرين بكمالها ، وهو يرعى ذاته صحيا للإطالة في بقائها ، ويبالغ في النظافة والأناقة والاستعراض على الوجه الذي يحقق له لذة انتباه الناس اليه وحضور ذاته في ذاكرتهم) .
في عام ١٩٥٠ تشكلت فى الولايات المتحدة الأميركية لجنة علمية برئاسة تيودور أدورنو للدراسة "الشخصية المستبدة . وقد انتهت الى أن الاستبداد ظاهرة تعويضية . قالت أن الشخصية المستبدة " تتوفر ـ بشكل عام ـ فى الأشخاص فاقدي الثقة بأنفسهم ، الذين لم ينجحوا أبدأ في تكوين شخصياتهم تكوينا متكاملا مستقرأ يدفعهم هذا النقص الذي يعرفونه من أنفسهم الى محاولة تعويضه في العالم الخارجي . ويصبح فرض الاستقرار على الوضع الاجتماعي القائم هو التعويض عن عدم استقرار شخصياتهم . فهم عندما يستعملون العنف ضد أية محاولة تغيير اجتماعي دفاعاً عن استقرار النظام القائم يدافعون في الحقيقة عن ذواتهم التي تفتقد الاستقرار النفسي . ويؤدي كل هذا الى نزوع عدواني مختلط بكراهية ضد كل من لا يوافقهم في الرأي أو كل من يتميز عنهم خاصة أولئك الذين يتميزون بالمبادئ والقيم التي تشكك في سلامة النظام الاجتماعي أو تتطلع الى تطويره . من هنا - تقول اللجنة - ينحاز المستبدون دائما الى القوى المحافظة الرجعية اذا لم تكن ثمة مخاطر تهدد النظام بالتغيير فاذا ظهرت تلك المخاطر فان نزوعهم العدواني يصبح أكثر شراسة ويتحولون مباشرة الى فاشست وهم عندما ينشئون أحزابا فاما أن تكون أحزابا إرهابية واما أن تكون مكونة من الامعات من الناس ضعاف الشخصية .
ويرى عالم النفس الشهير الفريد أدلر ان الاستبداد قد يرجع الى شعور ذاتي بخيبة الأمل والإحباط . ويكون الاستبداد ذاته انتقاما من الآخرين المتميزين عن المستبدين لأنهم ليسوا مثلهم أو لأنهم يسخرون منهم أو أنهم يحتقرونهم . وهكذا - يقول أدلر- يحاول الضعفاء والأغبياء والفاشلون التخلص من شعورهم بالنقص عن طريق إذلال الآخرين وإخضاعهم (موريس دو فرجيه ـ علم الاجتماع السياسي ـ ١٩٦٨) .
هؤلاء هم المستبدون . عرفنا منهم أرباب الأسر ويبقي الآخرون .
غير أننا قبل أن ننتقل الى نوع آخر من الاستبداد المتخلف نريد ان ننبه الى أنه عندما أراد جاًن بودان أن يبرر الاستبداد في القرن السادس عشر عن طريق مقارنة الدولة بالأسر كان يخلط ما ببن الأسرة التي تضم الأب والأم وأولادهما وبين " الأسرة " كما تطلق على المجتمع البدائي في كتب تاريخ النظم . الأسرة الأولى نعرفها جيدا ، فهي جماعة مرتبطه بوشائج الحب والمودة والتعاطف والرعاية يتحمل فيها الوالدان العبء العقلي والنفسي والمادي الى حد التضحية بالذات من أجل تنشئة أولادهما لسببين معروفين ؟ أولهما أن في أولادهما تمتد حياتهما الى ما بعد الموت ففيهم يعبران ، غريزيا ، عن الرغبة الإنسانية في الخلود . والثاني سبب عضوي تحمل أسراره جينات الوراثة التي تنقل من دم الوالدين الى دم الأولاد أسبابا حيوية للتوافق والاتساق والامتداد العضوي والعقلي والنفسي وتشد أطراف الأسرة بعضها إلى بعض حتى وهم لا يعلمون . فما يتمايز أعضاؤها بعد الأ بأثر من البيئة الطارئة . أما الأسرة الثانية فهي كما عرفنا غير مقصورة على الأولاد ولا تربطها علاقة الدم الطبيعية بل هي تضم الغرباء عن طريق التبني والعبيد عن طريق الشراء أو الغزو والنزلاء عن طريق الاستضافة والعشائر متقاربة الأجداد والقبيلة التي تضم العشائر ، ثم أنها فوق هذا تتضمن علاقة ملكية وخضوعا لشخص واحد يصبح حينئذ " رب أسرة " . أقرب الى الدلالة على الأسرة بهذا المفهوم أن نسميها " عائلة " .
المتأله :
١٥ـ يبدو أنه في مرحلة لاحقة من تاريخ البشرية أنتبه واحد من أفراد إحدى الأسر
الى أن " رب الأسرة " المستبد صدفة لا يملك من أسباب الكفاءة العقلية او الفكرية او الخلقية ما يؤهله للاستبداد . أو ربما تكون البشرية قد ضاقت ذرعا باستبداد أرباب الأسر فأراد الناس أن يقيموا السلطة على أساس من القبول والكفاءة طبقا للمقاييس الإنسانية . فقطع الاستبداد على الحقد سبل " الإثارة " بان تحول المستبدون الى الهة أو ممثلين للآلهة أو متلقين عن الآلهة عن طريق الوحي أو الإلهام . وربما كان الأمر غير هذا وذاك ، ربما كانت صلة الدم والقربى الطبيعية قد تاهت في الكثرة العددية فما زال المستبدون يصعدون مواقعهم لتكون فوق الجميع حتى بلغوا السماء او اتصلوا بها . وربما كان قد تأله رب أسرة فأورث الألوهية من جاء بعده كما ينتقل الجنون إرثا فى بعض الحالات . المهم أن قد مرت البشرية بطور من الاستبداد كان مصدر" القرار " الذي ينصب على المجتمع ويمس حياة كل فرد فيه إلها أو مجموعة من الآلهة تنطق بقراراتها على ألسنة الملوك او الكهنة أو السحرة . والقرارات الإلهية غير قابلة للمناقشة أو النقض وواجبة الطاعة كما هي ولو كانت صادرة من ألهة المجون والعبث كما كان بعض آلهة الإغريق . انه استبداد يلغي وحد ة المجتمع وتحدد الأفراد فيه معا ويأتي هابطا على ابشر من فوق العقل الإنساني بل قد لا يكفيه افتراس العقول فيفترس الأجسام قرابين من البشر.
تحكي لنا الأسطو الفرعونية أن إله الصحراء " ست " قتل الإله " اوزيريس " وفرق جسده الى ثلاث عشر قطعة دفنها في أماكن متفرقة من وادي النيل . ولكن الإلهة " ايزيس " أرملة القتيل ، استطاعت أن تجمع القطع المدفونة وأن تبعث فيها الحياة مرة أخرى لتلد من زوجها المبعوث الها جديدا هو " حورس " . في ظل سيادة تلك الأسطورة كان الكهنة في مصر القديمة يتوجون كل ملك جديد طبقا لطقوس سحرية معقدة ترمز الى قصة الزوجين ايزيس واوزيريس ومولد ابنهما حورس ليكون ذلك إشهادا كهنوتيا بأن الفرعون الجديد هو أيضا من نسل الالهة . وهكذا كان الملك في مصر القديمة معتبرا الها بين الناس تفصل بينه وبين رعاياه مسافة لا متناهية يضيع فيها العقل وتنقطع خلالها كل علاقة معقولة بين الحاكم والمحكوم . فيقول علماء تاريخ القانون ان الفرعون كان المثال الكامل للحاكم الفرد المستبد . مستبد أولا باتخاذ " القرار " دون الناس جميعا ويستشهدون على هذا بنصوص من الكتابات القديمة تثبت أنه لم تكن في مصر كلها إرادة نافذة غير إرادة الملك فهو المشرع الذي يصدر القوانين والأوامر (يضع الكلمات) وهو المنفذ عن طريق أدواته (أعضائه) من الكتبة وهو القاضي الذي يفصل في الخصومات (يفرق الكلمات) . وهو ثانيا مستبد بمصر كلها فقد كانت مصر كلها تعتبر " مائدة الملك " لأن مصر كلها كانت مملوكة للفرعون الإله . ولما كانت مصر أكبر مساحة وأكثر بشرا من أن يستبد بها بنفسه فقد خلف لنا عهد الفراعنة نموذجا فذا في الإدارة المركزية البيروقراطية المستبدة كانت وظيفتها أن تنفذ إرادة فرعون (رويز- تاريخ القانون العام - ١٩٤٨) . وما تزال كل إدارة مركزية بيروقراطية أداة للاستبداد حتى يومنا هذا .
وتحكي لنا أساطير بني إسرائيل أن موسى قبل أن يتلقى الوصايا العشر ويصبح رسولا ، والكهنة من بني إسرائيل قبل عهد موسى ، كانوا ينسبون قراراتهم إلى الله ( لامبير – القانون المدني المقارن) . جاء في العهد القديم : وفي اليوم التالي جلس موسى ليحكم في الناس وبقي الشعب واقفا أمامه من الصباح الى المساء . ورأى والد امرأة موسى ما يفعل موسى بالشعب فسأله : ما هذا الذي تفعله بالشعب ؟ لماذا تجلس وحدك ويبقى الشعب كله واقفا أمامك من الصباح الى المساء ؟.. فقال موسى لحميه : إن الشعب يحضر إلي لأستشير الله . فكلما عنّ لهم أمر حضروا الي فأعلن فيهم أوامر الله " (سفر الخروج - إصحاح ١٨- نص من ١٣ الى ١٦ ) .
ويحكي لنا هوميروس في ملحمته " الإلياذة " : " أن قد كان ضد اليونان آلهة شتى من بينها آلهة للعدالة تسمى " ثيميس " يتلقى منها الملك قراراته فأصبحت القرارات الملكية تسمى " ثيميس " تعبيرا عن أصلها الإلهي ٠
وفي الهند كان " مانو " إسما يطلق على كل من الملوك المؤلهين السبعة الذين حكموا العالم والى الأول منهم أوحي " قانون مانو " من لدن الإله " براهما " نفسه فابلغه الى الكهنة (الماهاريشي) ثم بقي محفوظا (علي بدوي أبحاث التاريخ العام للقا نون - ١٩٤٧).
ولم يكن الأمر على خلاف هذا في المرحلة البدائية لكل شعوب الأرض .
الشرق والغرب:
١٦- كان الاستبداد المتخلف ذا وجهين . الوجه الأول – القبيح - كان يتمثل في أنه لم يكن قائما على قاعدة معروفة أو قابلة للمعرفة ولو كانت قاعدة استبدادية . لم يكن في مقدور احد ان يعرف ـ مقدما - على أي وجه ستكون القرارات التي يصدرها رب الأسرة او توحي بها الآلهة الى الملك أو الكهنة . كان ذلك من " أسرار" مهنة الاستبداد المتخلف . وبالتالي لم يكن في مقدور أحد أن يجتنب الاستبداد قبل أن يدهمه لأنه لم يكن في مقدوره أن يعرف ما هو الحلال وما هو الحرام . ما هو الممنوع وما هو المباح . وما يزال هذا الوجه القبيح للاستبداد قائما في أماكن متفرقة من العالم حتى في هذا العصر . فحيث لا يوجد قانون (دستور) معروف أو قابل للمعرفة ، أو حيت يوجد ولكن الحكام لا يتقيدون به نصا ، أو حيت يفسرون نصوصه طبقا لأهوائهم ، تكون تلك عودة الى عهود الاستبداد المتخلف حيت لم تكن ثمة قاعدة معروفة أو قابلة للمعرفة تضبط علاقة الحاكمين بالمحكومين ولو كانت قاعدة استبدادية المضمون .
أما الوجه الثاني - القبيح أيضا - للاستبداد المتخلف فكان يتمثل في مضمون القرارات التي تصدر . فتقول مع القائلين ان الاستبداد المتخلف كان استبدادا متخلفا شكلا ومضمونا .
ولقد بدأ التغير في الاستبداد شكلا بتدوين القواعد والقرارات ، التي أصبح جزء كبير منها تقاليد وعادات ، بحيث يستطيع من يريد معرفة حدود الاستبداد ومضمونه فيجتنبه أو يتحداه . في عام ٤٥٠ قبل الميلاد وضع قانون الألواح الإثني عشر في روما بناء على طلب العامة . وقبله بقرنين أو أقل قليلا (٦٢٠ قبل الميلاد) وضع دراكون قانونه في أثينا. وبهذا بدأت محاصرة الاستبداد بتلك الوثائق التي ستتطور فتصبح ما نسميه الآن " الدساتير" أو " القوانين الأساسية ويصبح لنفاذها اسم هو "سيادة القانون " ويصبح غيابها إعلانا صادقا من حضور الاستبداد . قد تكون مستبدة المضمون أولا تكون ولكنها - على أي حال - تضع للاستبداد حدودا وقد تفرض عليه قيودا . من هنا يمكن ان نقول ان تدوين القواعد والقوانين كان بشيرا مبكرا بنهاية مرحلة الاستبداد المتخلف التي ستنتهي- بعد قرون - بمرحلة نسميها " الاستبداد المتحضر " .
يقول مين في كتابه عن الشرائع القديمة : " رغما عما يدلنا عليه تاريخ الأجناس من تناسل الهنود والرومان من جنس واحد (الآري) ومن التماثل بين تقاليدهم الأولى فإن الفقه الهندي - مع ما فيه من بعد نظر وسلامة حكم - قد اشتمل على مركب ضخم من السخافات القاسية . وقد سلم الرومان منها بفضل مدونتهم التي وضعت قبل أن تفسد تقاليدهم . ولا نستطيع أن نزعم أنه لولا نشر الألواح ألاثني عشر لقضي على الرومان بمدينة فاسدة مثل مدينة الهند ، ولكن من المؤكد أنهم بتدوينهم قانونهم قد أمنوا مثل هذا المصير التعس" . هذا رأي متحيز الى الغرب ، إذ قبل أن تدون الألواح الإثني عشر بخمسة عشر قرنا (٢٠٠٠ قبل الميلاد) كان الملك حامورابي قد أصدر أول قانون مكتوب ومبوب (٣٨٢ مادة) ونقشه على حجر في بابل . ومن قبل الألواح الاثني عشر بعشرة قرون كان قد صدر قانون مانو الذي عرفناه .
١٧ـ على أي حال ، فبعيدا عن التحيز والانحياز حسم الأمر بالنسبة الى الاستبداد شكلا والاستبداد مضمونا فى الشرق أولا . ففيما بين عام ٦١٠ وعام ٦٣٢ ميلادية عرفت البشرية أول دستور مكتوب (قانون أساسي) بالمعنى الحديث للدستور ويكل خصائصه . كان ذلك هو القرآن . وهو دستور فريد .
يشير العلامة الفرنسي جورج بوردو في موسعوعته عن العلوم السياسية الى الأية الكريمة : " والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون " (الشورى : ٣٨) والى تفسير الإمام ابن تيمية لها ، ليقول ان رئيس الدولة في الإسلام مأمور بأن يشاور الشعب ، ويستشهد بهذا كدليل على موقف الإسلام ضد الاستبداد . ولنا ان نكتفي بهذا الاجتهاد المتواضع ، ولكنا في مجال بحثنا نقول ان القرآن قد أنهى الاستبداد بأن كان دستورا مكتوبا ملزما للناس كافة حاكمين ومحكومين وهذا هو ما يعنيه على وجه الدقة التعبير الحديث " المساواة أمام القانون " أو " سيادة القانون " وهو ما لم تعرفه البشرية قبل القرآن . " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم ببن الناس بما أراد لك الله " (النساء ـ١٠٥) ." فاحكم بينهم بما أنزل الله " (المائدة : ٤٨) . " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم " (المائدة : ٤٩) ." ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " (المائدة : ٤٥) . " ذلك حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم " . (الممتحنة : ١٠ ) في هذه الآيات البينات أحكام عدة منها أن محمدبن عبد الله ، الصادق ، الأمين ، النبي ، الرسول ، القائد ... مأمور ، مثله مثل غيره من عامة المسلمين ، بالتزام الدستور القرآني . ليس مباحا لأحد ، ولو كان الرسول نفسه ، أن يستعلي أو يستثنى أو يخرج عن القواعد العامة التي تحكم العلاقات ببن الناس كافة . انتهى الاستبداد المتخلف فلم يعد لأحد الحكم والحكمة لأنه رب أسرة أو عشيرة أو قبيلة أو كاهن أو ملك متأله . وبعد القرآن انقطع الوحي فغلقت أبواب الاستبداد أمام الذين يزعمون لأنفسهم مقدرة خاصة على استلهام القرارات لا أحد يدري كيف ومن أين .
وإن زعموا فهو كفر صريح .
بعد أن جرد القرآن الحاكمين من المقدرة على الاستبداد بالتشريع وألزمهم أحكامه المقدّرة وساوى بينهم وبين المحكومين في الواقع لقواعد عامة مكتوبة منشورة ومعروفه سلفا ، على الوجه الذي انتهت اليه البشرية أو كادت ، تجاوز ما انتهت اليه البشرية بأن أمر المسلمين بحراسة دستورهم والدفاع عنه ضد استبداد الحاكمين ولو بالقوة . وكان ذلك على درجات . فأولا حملهم مسئولية ما يصيبهم من استبداد وحرم عليهم التواكل ورجاء الإنقاذ عن غير أنفسهم : " لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (الرعد : ١١) " وما كان وبك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " (هود: ١١٧) ثم أمرهم بالتصدي ايجابيا للاستبداد والمستبدين : " ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" ( آل عمران :١٠٤) . وحرم عليهم قبول الظلم والاستبداد أو الصبر عليه وأنذر الذين يقبلون الظلم بمثل جزاء الظالمين فحرض المظلومين آمرا بالمقاومة : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولك مأواهم جهنم وساءت مصيرا "(النساء : ١٩٧) . وضرب لهم أمثلة من المقاومة المباحة . أبسطها مواجهة المستبدين بالاحتجاج والنقد الذي قد يصل إلى درجة القذف أو السب ، ليس سرا من وراء ظهر المستبد وخفية عن عيونه ، فتلك غيبة جبانة حرمها القرآن ، ولكن جهرا وعلنا في مواجهته : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " (النساء : ١٤٨) . اللافت في الآية أنها لا تكتفي بإباحة نقد الحكام المستبدين نقدا علنيا ولو بالقول السيئ بل تقول ان الله يحب أن يفعل المظلومون هذا . وتترقى درجات ٤ ٢ المقاومة المأمور بها في القرآن أي المشروعة طبقا للدستور القرآني ، الى أن تصل الى حد القتال ضد المستبدين دفعا لظلمهم سواء كان الظلم واقعا على النفس أو على الغير . والقتال دفعا للاستبداد الواقع على الغير أولى بالانتباه إذ أنه ليس دفاعا عن الغير ولكن دفاعا عن الدستور القرآني ودفعا للاستبداد ذاته . فقد لا يكون الاستبداد الواقع على الغير ضارا بنفس المأمور بالقتال أو ماله ، ومع ذلك عليه ان يقاتل من أجل الا يقوم الاستبداد فقد لا يكون الاستبداد أصلا سواء لحق به ظلم أم لم يلحق فإن لكل فرد مصلحة شخصية فى ألا يقوم الاستبداد . " ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا " (النساء : ٧٥) " وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي الى أن تفيء الى آمر الله " (الحجرات : ٩) . لم يقل الى أن تفيء الى أمر الفئة الأخرى إذ ليس الأمر أمر فض منازعة ذات طرفين ولكن قال الى أن تفيء الى أمر الله أي الى أن تلتزم قواعد الدستور القرآني ، لأن الأمر أمر سيادة قانون يرد الباغي الى طاعته ولو بالقوة وليس أمر سلام اجتماعي بين الناس ولو على حساب الدستور القرآني .
١٨- ولقد كانت دعوة المسيح عليه السلام سابقة الإسلام بنحو سبعة قرون . والمسيحية في جوهرها رسالة محبة ومساواة بين البشر ودعوة قوية ، ملحة ، الى إنصاف الفقراء والمستضعفين .
كانت جماعة من اليهود (الفريسيون) يتتبعون السيد المسيح وهو يدعو ويبشر ويوجهون اليه أسئلة مغرضة بقصد إحراجه أو الإيقاع به . يقول " متى " في " إنجيله : "... ذهب الفريسيون لكي يصطادوه بكلمة ، فأرسلوا اليه تلاميذهم مع الهيروديسيين قائلين يا معلم إنه صادق وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد لأنه لا تنظر الى وجوه الناس . فقل لنا ماذا تظن . أيجوز ان تعطى جزية لقيصر أم لا . فعلم يسوع خبثهم وقال لماذا تجربونني يا مراؤون . أروني معاملة الجزية . فقدموا له دينارا . فقال لهم لمن هذه الصورة والكتابة . قالوا له لقيصر . فقال لهم أعطوا اذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله " (الإصحاح ٢٢ الآيات ١٢- ٢١) ٠ القصة واضحة الدلالة على أن السيد المسيح لم يكن يضع دستورا للعلاقة بين قيصر ورعاياه بلكان يرد الحرج عن نفسه ويدفع كيد المتآمرين ، مثله في هذا مثل إبراهيم عليه السلام . فلم يكن أبو الأنبياء يضع قاعدة تبيح الكذب حينما سأله الكافرون : " أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم وكان قد جعل آلهتهم جذاذا . قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون" (الأنبياء ٦٢ و ٦٣) . ومع ذلك فقد أريد لما قال المسيح أن يكون قاعدة تفرض الطاعة للمستبدين . إلا أن هذا التفسير لم يستقر طويلا . فلكي يعطى قيصر ما لقيصر يجب أولا أن يكون " قيصرا " أي يجب أولا أن تكون تصرفاته في حدود وظيفته ومطهرة من الاستبداد . فنقرأ عن أرشفيك ريمسي ، هنكمار ، أن الملك الذي يتصرف بما يتفق مع إرادة الله ملك حقيقي لا يخضع الا للعدالة الإلهية . أما الملك الفاسق أو القاتل أو الظالم أو المغتصب فان تصرفاته غير المشروعة لا تبرر طاعته المأمور بها مسيحيا . ثم نقرأ أن البابا الكسندر الأول (٨٥٥- ٨٩٦ ميلادية) قد قال لأحد الذين في بلاط لوتير الثاني ملك اللورين : " أنظر فيما اذا كان هؤلاء الملوك والأمراء الذين تقول أنك تابع لهم هل هم حقا ملوك وأمراء أو لا. أنظر أولا فيما اذا كانوا يحكمون أنفسهم حكما صالحا أم لا . ذلك لأن الخبيث لا يكون طيبأ مع الآخرين . ثم فيما اذا كانوا يحكمون طبقا للقانون فاذا لم يكونوا كذلك فيجب اعتبارهم طغاة وليسوا ملوكا ومقاومتهم علنا بدلا من طاعتهم " (بوردو ـ موسعوعة العلوم السياسية) .
١٩- سادت المسيحية أوروبا وتجسدت في مؤسسات كنسية على رسها البابا . ولقد استطاعت الكنيسة فعلا أن تنهي استبداد أرباب الأسر والعشائر والقبائل والأمراء والملوك ولكن الى حين . فلم يلبث البابوات وهذا من غرائب تاريخ الاستبداد ، أن أصبحوا هم المستبدين . وهو استبداد ليس أقل تخلفا من استبداد الآخرين ، إذ باسم " الله " ألغى البابوات وحدة المجتمع وتعدد الأفراد فيه . ولقد بلغ استبداد البابوات قمته الخيالية في شخصالبابا انوسنت الثالث (١١٦٠- ١٢١٦ ميلادية) .
هذا البابا يستحق وقفة تأمل ذلك لأنه دليل حي من التاريخ على ما يصيب المستبدين أنفسهم من آثار الاستبداد . كيف تحولهم من عقلاء الى مخبولين . من أمناء الى لصوص . من رحماء الى طغاة . من متواضعين الى جبابرة . فيكونون هم أول ضحايا الاستبداد الذي يمارسونه على الآخرين . فحين أرسى البابا انوسنت الثالث عرش البابوية كان مثالا للثقافة والقناعة والتضحية والحب والتقشف . كان حبرا صوفيا اذا صح التعبير . وقد عبر عن ورعه في كتابين مفعمين بحب البشر والإشفاق بالناس ("الظروف التعسة التي يعيش فيها الإنسان " و " بؤس الجماهير") .
في ذلك الوقت كان الملك هنري السادس قد أصبح سيد ايطاليا كلها . وامتد نفوذه الى إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وكل ما كان يسمى الإمبراطورية الإغريقية حتى أرمينيا شرقا وسوريا وفلسطين وقبرص . ثم توفي عن ولد قاصر عمره ثلاث سنوات (فريدريك) . فخشيت أمه أن يضيع الملك الموروث بين أطماع الطامعين فتفتق ذهنها عن فكرة غريبة كان لها أبلغ الأثر في تاريخ الاستبداد البابوي أن تضع ابنها تحت وصاية البابا انوسنت الثالث . بعد موتها كتب البابا الى ابنها يقول : " عليك أن تشكر الرب أن منحك أبا خيرا من أبيك (يقصد نفسه) " . ولا بد أن يكون
هو قد شكر الرب على أنه أصبح إمبراطورا له سلطة البابا أو بابا له سلطة الإمبراطور . وكان كل ذلك ايذانا بتحول البابا الى مستبد الى حد الجنون . أمر بحرمان فيليب سوابيا ملك ألمانيا ليتيح لمنافسه أوتوبروتسويك أن يكون ملكا واستند الى أن له هو- البابا - حق الحكم فيمن يصلح حاكما . فلما حاول اوتو أن يكون حاكما حقا أمر بحرمانه وعين بدلا منه فريدريك . الذي كان تحت وصايته (١٢١٢) . ولكنه لم يعينه الا بعد أن قبل فريدريك أن تكون مملكته إقطاعية من البابا وأن يكون هو أحد رعاياه ٠ وحين طلق فيليب أغسطس ملك فرنسا زوجته وتزوج أخرى غضب البابا على الملك ولكنه فرض الحرمان على فرنسا كلها . فلما خضع الملك وتاب تحت أقدام البابا وافترق عن زوجته " المحرمة " عاد البابا فأقر- بعد موت الملك الزوج - بأن الزواج كان شرعيا وأن الأبناء منه شرعيون . واستند في هذا الى أن له هو ـ البابا ـ حق الإباحة كما له حق التحريم . بالطريقة ذاتها أجبر الفونسو التاسع ملك ليون على تطليق زوجته . وأجبر سانكو الأول ملك البرتغال على أن يعتذر ويعلن طاعته لواحد من رجال الدين كان قد تجاهله حين قابله . وأجبر بدرو الثاني ملك أراجون على قبول أن تكون مملكته كلها إقطاعية منحة من البابا . وقدم الى الأمير البلغاري كلاجونز ضمانا بأن سيكون له العرش والتاج . وأصبح صاحب القرار في المجر والسويد والنرويج اغتصابا بسيف " الحرمان وحينما اختلف الأساقفة فى انجلترا حول اختيار أسقف كانتر بري أعلن البابا بطلان الانتخاب واستدعى الأساقفة الى روما وأجبرهم على تعيين صديق له اسمه لانجتون فأقسم ملك إنجلترا بأسنان الله ليقتلن هذا اللانجتون لو وطئت قدمه أرض إنجلترا ففرض البابا الحرمان على انجلترا كلها . ولما خضع الملك لم يكتف البابا بإذلاله بل أجبره على أن يتنازل عن مملكته ( انجلترا) للبابا ثم يتلقاها مرة أخرى منه منحة وإقطاعية .. الخ (هلموت - تاريخ العالم ـ جزء١١ ـ ١٩٠٧ ). وبعد أن فقد ملك انجلترا ملكية أرضه وأصبح اسما على مسمى " جان معدوم الأرض " ثار الصراع بينه وبين الأشراف والنبلاء وانتهى الى صدور العهد الكبير (الماجناكارتا) عام ١٢١٥ فكان أول وثيقة فى أوروبا تحد من الاستبداد . فلم يعجب هذا البابا انوسنت الثالث وأصدر قرارا ببطلان الوثيقة التاريخية .
هذا البابا هو صاحب ومدبر ومنظم مؤسسات التعذيب المجنون المعروفة باسم محاكم التفتيش " . وفكرتها التي اشتقت منها اسمها لا يمكن أن تصدر الا من ذهن مريض . فالأصل اللاتيني لكلمة التفتيش يعني " البحث في الداخل ". ومؤداه عدم الانتظار الى أن ترتكب المخالفات ثم " التحقيق " من صحة ارتكابها وصحة إسنادها الى فاعل معين ، لا بل المبادرة بالتفتيش في ضمائر الناس وخفايا أفكارهم لاكتشاف (للتفتيش عن) ما يضمرون من نوايا وما يخفون من أفكار ومعاقبتهم عليها كما لو كانت الجريمة قد وقعت فعلا ، وكانت واحدة هي الهرطقة ، وعقوبة واحدة هي " الموت حرقا "، بعد أن تكون الجريمة قد ثبتت عن طريق أبشع ما عرفه التاريخ من وسائل التعذيب المجنون . والمسالة تستحق الذكر كنموذج فذ للجنون الذي يصيب المستبدين فلا يكتفون بالاستبداد بالرأي دون الناس جميعا ولا بالاستبداد بإمكانات المجتمع دون الناس جميعا ، بل الاستبداد بملكة التفكير دون الناس جميعا واقتحام العقول لإلغاء ما فيها من أفكار كامنة واقتحام الضمائر لهتك أسرارها .
حوالي عام ألف بعد الميلاد ، بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية امتد الى غرب أوروبا مذهب في الديانة المسيحية وافد من الشرق متأثر بالديانات السائدة هناك . من أهم مقولات ذلك المذهب أنه كان يشكك في صحة أغلب ما جاء فى العهد القديم (التوراة) وينكر ألوهية المسيح ويعتبره رسولا روحانيا الى البشر يهديهم الى سبيل الخلاص ولا يخلصهم بنفسه . وبالتالي ينكر كل ما جاء عن عذاب وصلب المسيح ... وظل هذا المذهب ينتشر عن طريق الحوار والإقناع وظلت الكنيسة الكاثوليكية تحاربه عن طريق الحوار والإقناع أيضا في حدود القاعدة التي كان قد أرساها القديس كلارفو وهي أنه " يجب أن يكون الإيمان ثمرة الاعتقاد ولا يجوز أن يفرض بالقوة . ان التغلب على الهرطقة يكون عن طريق الحوار وليس عن طريق السلاح ". وقد أدى ذلك التسامح الديني الى أن أصبح للمذهب الجديد كنيسة انتشرت في غرب اوروبا . وكان أكثر مراكزها نشاطا في شمال فرنسا ... الى أن تولى عرش البابوية انوسنت الثالث . وجد أنه قد أصبح من تقاليد النشاط البابوى - الذي شارك فيه هو أيضا - حشد الرعايا تحت قيادة الأمراء والملوك لشن حروب يقال لها " صليبية " ضد بلاد المسلمين في المشرق . فاستغل ذلك التقليد وشكل أول حملة سميت " صليبية " أيضا ولكن ضد المسيحيين . لم تتجه الى المشرق ، بل اتجهت الى منطقة " البي " شمال فرنسا وفتكت فتكا بشعا بسكان المنطقة بتهمة الهرطقة (من كلمة البي اشتق تعبير الإبادة) .
ثم أوفد ١٢٠٠ من رجال الدين بتفويض منه ليتولوا رئاسة محاكم التفتيش ويشرفوا على أساليب التعذيب المجنون الذي استمر بعد وفاة البابا انوسنت الثالث حوالي ثلاثة قرون . وقبل أن تعرف الدول المخبرين والمرشدين والجواسيس ومباحث أمن الدولة بقرون ابتكر انوسنت الثالث وسيلة التجسس على ما في الضمائر والكشف عما تكنه الصدور والاطلاع على أسرار البشر . فقد أصدر قرارا بابويا بأن على كل مسيحي من رعايا الكنيسة ان يؤدي طقوس " الاعتراف " مرة كل عام على الأقل لتجتمع له كل عام " تقارير" عن كل رعاياه .
بماذا كان البابوات يبررون الاستبداد الكنسي ؟
الحق الالهي :
٠ ٢ـ كانت نظرية " الحق الإلهي أولى النظريات التي قيلت تبريرا للاستبداد الكنسي .
مؤدى تلك النظرية أن الحكم لله وحده وأنه يختار لادائه في الأرض من يشاء فيصبح حاكما بأمر الله . المميز الأساسي لهذه النظرية أن الاختيار الالهي فيها يتم مباشرة لشخص يعينه على وجه يجعله قريبا من معنى " الانتقاء " بما يتضمنه معنى الانتقاء من تفضيل . وما تزال كلمة سيادة " في اللغات ذات الأصل اللاتيني تنبئ عن أصلها اللاهوتي . ولكن النظرية لم تبق على بساطتها وإطلاقها هذين . بل اتخذت صيغة أقرب الى العقلانية توفق ـ او تحاول أن توفق ـ بين أصلها اللاهوتي ووظيفتها الدنيوية في مساندة استبداد البابوات . تمت تلك الصيغة على يد توما الأكويني الذي عرفنا انه كان يشغل وظيفة " المستشار الفكري للبابا " . خلاصة ما ذهب اليه في هذا السبيل أن قسم السلطة الى عناصر ثلاثة ؛ مبدأ أو جوهر وهو إرادة الله . وشكل أو نظام وهو من صنع الشعب . وممارسة أو اداء وهذا متروك للأفراد (بول جرينيه -التوميزم) . واضح من هذا التقسيم ان توما الأكويني كان يحاول الملاءمة بين الحق الالهي وبين صور ممارسة السلطة وأشكال الحكم محتفظا بمصدر الحق فى الحكم وسند شرعيته أو جوهر السلطة ومبدئها للإرادة الإلهية التي يعبر عنها البابا .
من ذا الذي قال أو يقول أن الاستبداد يكتفي بالنظريات مصدرا للقوة ؟.. لقد كانت النظرية مدخلا اكتسبت به الكنيسة حق " الرقابة " على الملوك والأمراء والأفراد للتأكد من أنهم في ممارستهم استبدادهم الخاص لا يرتكبون ما يمس القيم الروحية . مع حق الرقابة كان جزاء " الحرمان ". والحرمان يعني بالنسبة الى الملك أمرا الهيا الى الرعية بالخروج على طاعته . الخطوة التالية بدأها البابا جريجوري السابع وأكملها البابا انوسنت الثالث الذي عرفناه .
ومؤداها أن الكنيسة ، بصفتها ممثلة لله فى الأرض وقائمة على خدمة الدين ، من حقها أن تحصل من الملوك والأمراء على الأموال والحقوق اللازمة والكافية لآداء خدماتها الروحية على الوجه الأمثل وبه أصبحت الكنيسة شريكة للحاكمين فى متاع الدنيا . وهكذا امتد استبداد الكنيسة من المجال الروحي الى المجال السياسي إلى المجال المادي فشمل عناصر القوة جميعا . ولم يكن ذلك الامتداد سهلا دائما بل استغرق قرونا من الصراع المرير بين الكنيسة والملوك والأمراء انهزم فيها بعض البابوات . فحين تصارع البابا جورجي السابع مع الملك هنري تحالف الملك مع النبلاء واستطاعوا أن ينفوا البابا . غير أنه ما ان بدأ القرن الثالث عشر، أيام البابا انوسنت الرابع ، حتى كان النصر النهائي قد انعقد للكنيسة فاستبدت بالسلطه الدينية والسلطه الدنيوية ـ (جاك دروز- تاريخ المذاهب السياسية - ١٩٤٨) وخلال تلك القرون وفى فترات صعود سلطة البابوات أرادوا أن يمدوا استبدادهم الى ما جاوز أورويا فى موجات من الحروب المسماة صليبية ما بين عام ١٠٩٦ وعام ١١٩٢ أي على مدى قرن كامل . وكانت كلها بتحريض من البابوات الذين استبدوا بالعالم المسيحي فلما عجزوا عن إطعام رعاياهم قال أحدهم ، البابا أربان الثاني لأمراء الإقطاع " ان الأرض التي تقيمون عليها لا تكاد تتيح ما يكفي لغذاء الفلاحين وهذا هو سبب اقتتالكم) فانطلقوا إلى الأماكن المقدسة وهناك ستكونممالك الشرق جميعا بين ايديكم فاقتسموها " (جاك ريزلر ـ المدنية العتيقة ـ ١٩٦٢) وهكذا يثبت التاريخ ان الاستبداد كمرض السرطان ما ان يصيب موضعا من الجسم حتى ينتشر ليتلف خلايا الجسم كله ، وانه إن قام ، او سمح بقيامه ، فلا منجاة لأحد من اثاره المدمرة . وكل واحد ، مهما كان موقعه ، مرشح ليكون ضحية له . اذ لم يكن الاستبداد الذي فرضه الغزاة الاوروبيون على شعوب الشرق الا امتدادا للاستبداد الواقع عليهم هم أنفسهم من ملوكهم الذين كانوا بدورهم ضحايا استبداد البابوات .
ولم يكن " قراقوش " الذي يضرب به المثل فى الاستبداد الا وزيرا لصلاح الدين الذي انشغل عن الحكم بقتال ضحايا الاستبداد الاوروبي الذين جاءوا غازين . فأتاح للسيد قراقوش فرصة الاستبداد بشعب مصر.
٢١ـ غير أنه خلال تلك القرون تغيرت أو تطورت مبررات الاستبداد . فبعد أن كانت نظرية " الحق الإلهي " أصبحت نظرية العناية الإلهية . " كلاهما تبرر الاستبداد بإسناد " القرار" الى الله ثم تختلفان في طريقة تلقي المستبدين وحيهم من السماء . فبينما تذهب نظرية " الحق الإلهي " إلى التلقي المباشر كما ذكرنا من قبل ، تذهب نظرية " العناية الإلهية " إلى أن إرادة الله توجه شئون الناس وعقولهم) وإرادتهم على وجه غير مباشر إلى أن تصبح السلطة فى يد واحد منهم .
فهو لا يكسبها بجهده . ولا يستحقها لأمر معروف خاص به . ولا يتلقاها من احد من الناس ولا من الله أيضا . ولكن عناية الله هي التي وضعته في موضعه .
والواقع ان نظرية " الحق الالهي " نظرية بابوية الأصل . وكان المركز الديني للبابا يساندها . فقد كان يبدو منطقيا ان يختار الله البابا بالذات ، دون البشر أجمعين ، لتئفيذ إرادته .
هذا المركز المنفرد الذي كان يتمتع به البابا لم يكن ليسمح لأي ملك او أمير بأن يدعي أن الله قد انتقاه هو دون البابا . وبالتالي لم يكن ممكنا ان يستند الملوك فى تحديهم لسلطة البابوات الى نظرية " الحق الإلهي" . ولم يكن التطور الفكري في ذلك الوقت يسمح بغير تلك النظرية . فلقد كانت مستندة الى فلسفة الجبرية التي سادت أوروبا حتى القرن السادس عشر . ومؤداها أن كل أعمال الناس في الأرض محددة سلفا بارادة الله لا خيار لهم فيها ولا إرادة . في ظلها كان البابا هو المختار لتمثيل الله فى الأرض وتأمين انضباط تصرفات البشر على مقتضى إرادته . فلما رأى بعض المسيحيين ان ذلك . يبقي على الأعمال الشريرة بدون تفسير الآ إذا أسندت هي أيضاإلى إرادة الله ، وهو غير جائز ، اتجهوا إلى إسنادها إلى "الشيطان" . فاعتبرتها الكنيسة هرطقة وكانت تلك الحملة الصليبية التي شنها انوسنت الثالث وكانت محاكم التفتيش لتبقي "الجبرية" جبرا .
وفى ظل الجبرية كانت غاية من يريدون الحد من الاستبداد الكنسي ان يشركوا الملك فى السلطة مع البابا . ومثاله ما جاء فى كتاب " السلطة الملكية والسلطة البابوية " الذي كتبه جان باريعام ٢.١٣ وقال فيه ان الحياة تنقسم إلى قسمين منفصلين . قسم مادي وقسم روحي . وانالله يختار لكل منهما من يتولاه . فاختار الكنيسة للحكم الروحي واختار الملك للحكم الدنيوي . فالملك يتلقى السلطة من الله بدون وساطة الكنيسة" .
٢٢- ضد فلسفة الجبرية هذه قامت حركة الإصلاح الديني فى أوائل القرن السادس عشر وقادها مارتن لوثر الألماني الذي بدأ دعوته عام .١٥٢ وجان كالفن السويسري الذي بدأ دعوته عام ١٥٣٦ . وفيها أرادا ان يردا فعل الإنسان الى حريته في الاختيار موجهة بالقدرة الالهية .
فجاءت نظرية "العناية الالهية" التي توجه ولكن لا تختار . وانتقلت من المجال اللاهوتي الى المجال السياسي فكان ذلك ايذانا بانتهاء مرحلة الاستبداد الكنسي . فليس ثمة ما يحول ، استنادا الى النظرية الجديدة ، دون أن يكون الملك وليس البابا هو الذي اتجهت عناية الله إلى إقامته ملكا معبرا عن إرادته .
وقد نشير هنا إلى أن نظرية " العناية الالهية " القائمة على أساس متطور من الفلسفة الجبرية هي التي برر بها معاوية بن ابي سفيان اختصاصه بالخلافة دون علي بن ابي طالب اولا ، ثم تحويل الخلافة عن طريق الشورى أو الانتخاب الى ملكية وراثية . كان معاوية يقول :" لو لم يرني ربي أهلا لهذا الأمر ما تركني وإياه ولو كره الله ما نحن فيه لغيره . وانا خازن من خزان الله تعالى ، أعطي ما أعطاه الله وأمنع ما منعه ولو كره الله أمرا لغيره " (محمد عمارة - الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية - ١٩٧٧) .
وهكذا ما يزال حديثنا دائرا حول المستبدين المتألهين بعد أن دارت الأيام على استبداد البابوات ليقوم بدلا منه استبداد الملوك .
نهاية وبداية :
٢٣ـ يقولون انه ابتداء من سيادة الكنيسة واستنادها إلى نظرية الحق الالهي انتقلت اوروبا من مرحلة النظام العرفي الى مرحلة النظام القانوني . أي أصبحت القوة المادية استبدادا قانونيا . صحيح انه قانون لاهوتي وخاضع لتفسير البابوات ولكنه يتميز عن العرف بأنه يسند السلطة لاول مرة الى مبرر غير الضرورة المادية ويقر لها بمصدر شرعية وهو ما يعني تحويلها الى حق يقابله التزام من الناس بالخضوع لها وقبول آثارها ( لافريير- القانون الدستوري- ١٩٤٧) . فنعرف منه ان الاحتكام الى العرف والتقاليد ينتمي الى مرحلة الاستبداد المتخلف قبل أن يوجد القانون . وأن العودة إلى العرف والتقاليد لمساندة " القرار" مع وجود القانون هي رده الى مرحلة الاستبداد المتخلف . ثم نضيف ان إسناد " القرار" الذي يأخذه الحكام الى الله إسنادا مباشرا او غير مباشر، عن طريق التبليغ أو الوحي أو الالهام ، هو هروب " بالقرار" من مجال الاختيار العقلي ، فهو إلغاء لعقول الناس في المجتمع . وهو هروب " بالقرار" من مجال الاختيار على محك " مصالح الجماعة " (ذلك المحك الإسلامي العظيم). فهو إلغاء للمجتمع ومصالح الناس فيه. فهو استبداد متخلف يلغي وحدة المجتمع وتعدد الناس فيه معا . الى هذا الاستبداد المتخلف تنتمي- اذن- نظرية الحق الالهي ونظرية العناية الالهية كلاهما .
ومع ذلك ، اذا تجاوزنا عن اختلاط النظم في مراحل الانتقال ، فإننا نستطيع ان نقول ان مرحلة الاستبداد المتخلف قد انتهت ، في أوروبا ، فى النصف الاول من القرن الرابع عشر، أو أن تلك كانت بداية نهايتها . ففي أوائل ذلك القرن نشبت معركة سياسية كبرى بين الإمبراطور لويس الرابع وبين البابا جان الثاني والعشرين حول شرعية حكم الإمبراطور . فى تلك المعركة انحاز المفكر الايطالي مارسيل دي بادو ، والمفكر الفرنسي جان دي جاندون الى جانب الإمبراطور وأصدرا في عام ١٣٢٤ ميلادي ، كتابا عبقريا في أصول الحكم بعنوان " الدفاع عن السلام " قالا فيه : "ان الغاية من كل حكومة ومبرر وجودها هو تحقيق الصالح العام . والصالح العام يتضمن العدالة. والقانون هو الذي يحدد ما هو الصالح العام وما هي العدالة . اذ ان القانون يتضمن كل القواعد العامة العادلة والمفيدة ".
٢٤- بظهور وقبول مبدأ " سيادة القانون " تنتهي مرحلة الاستبداد المتخلف ولكن لا ينتهي تاريخ الاستبداد . في مرحلة ما قبل " سيادة القانون " كان الاستبداد المتخلف قائما على أساس الا ضرورة لوجود قانون أصلا . تغني عن وجوده العلاقة الأسرية أو حكمة رجال الدين والأمراء الذين يمثلون جميعا كلمة " الله " في الأرض ثم يسترون استبدادهم بالحق الآلهي او العناية الإلهية . اما مرحلة ما بعد " سيادة القانون " فان الاستبداد يقوم داخل مجتمعات علاقات الناس فيها مصوغة في نظام قانوني يتضمن مجموعة كبيرة ومتنوعة من القواعد العامة الآمرة الناهية المكملة المفسرة تتدرج في قوتها الملزمة من أول اللوائح الإدارية الى قمة الدستور . وتتضمن تلك القواعد جزاء جنائيا قد يصل إلى حد الإعدام او مدنيا يصل إلى حد نزع الملكية او إجرائيا يصل الى حد بطلان الإرادة . وتقوم في المجتمعات سلطة لها حق إيقاع الجزاء أو ضمان نفاذ القانون ، بالإكراه اذا لزم الأمر . هنا تكون كل تصرفات الأشخاص ، كل الأشخاص ، الطبيعيين والاعتباريين محكومة بالقواعد القانونية التي تضبط هذه التصرفات . ولا يكون شخص ، أي شخص ، فوق القانون ، بمعنى ان يكون مباحا له مخالفة القانون بدون التعرض لجزائه . حتى الذين لا يسألون عن تصرفاتهم كالأطفال والمجانين والملوك يكون هو الذي يقرر إعفاءهم من الجزاء ويضع شروطه ، ويحدد مداه . حتى استعمال العنف في حالة الضرورة او في حالة الدفاع الشرعي أو من أجل تنفيذ الأحكام القضائية يكون القانون هو مصدر إباحته او الإعفاء من العقوبة عليه . حتى إبطال قاعدة قانونية او إلغاء قانون بأكمله يكون للأسباب وبالطريقة التي يحددها القانون....
في ظل " سيادة القانون " لا يعتبر خرق القانون استبدادا كما قد يتبادر الى الذهن . الحاكم الذي يخرق دستورا قائما ليعود الى لعب دور رب الأسرة أو إلى استلهام القرارات من وحي السماء لا يعتبر في ظل " سيادة القانون " حاكما مستبدا . انه مجرم . وتحتفظ القوانين عادة باسم فظيع لجرائم خرق الدستور: الخيانة العظمى . ويرتب عليها القانون عقوبات جسيمة على رأسها الإعدام . ذلك لان سيادة القانون " لا تعنيان القانون لا يخرق أو أنه غير قابل للخرق . بل هو يخرق كل يوم في كل مجتمع .يخرقه المجرمون . وكل نظام قانوني يتضمن مجموعة من القواعد القانونية الخاصة بتنظيم- ضبط الجرائم وتحقيقها ومحاكمة مرتكبيها وتوقيع العقوبات عليهم غرامة او حبسا او سجنا او أشغالا شاقة او إعداما . ولا يقال عن احد من هؤلاء مستبد " بل يقال مجرم أثيم .
والواقع اننا عندما نكون في مواجهة حاكم او جماعة من الحاكمين لا يلتزمون القانون السائد في المجتمع الذي يحكمونه ، ويستمدون سلطتهم من قوتهم الباطشة او من قوة باطشة يحكمون لحسابها لا نكون في مواجهة " استبداد" بل نكون في مواجهة خروج إجرامي على القانون .
نكون في مواجهة قوة مادية مؤثمة . يقول فقيها القانون الدستوري بارتلمي ودوزان حل تلك المشكلة قد سبق اليه لوك في كتابه عن " الحكومة المدنية " عندما تحدث عن مبدأ الثورات فقال : " ان الذي يستعمل القوة اولا ضد أحكام القانون يضع نفسه بهذا في حالة حرب مع المعتدى عليه . ومن هنا فان كل الروابط والالتزامات تقطع . ويسقط كل حق الا حق الدفاع عن النفس . ويصبح الشعب هو الحكم فيما اذا كانت الحكومة التي ولاها السلطة قد اعتدت عليه ام لا (مطول القانون الدستوري - ١٩٣٣) .
ويقول جان دابان في كتابه " الدولة والسلطة " : " عندما يتصرف الحاكمون تصرفا يناقض غاية الدولة او يسيئون استعمال سلطاتهم الدستورية لا يكون من حقهم ان يظلوا حكاما ويتعين عزلهم من وظائفهم ولو بالقوة اذا لزم الأمر . ولا يهم الا يكون في القانون الوضعي اعتراف بهذه الحقوق الطبيعية وبمثل هذا يقول فقهاء القانون هوربو ، وجدني ، وبوردو ، واهرنج ، وكبير فقهاء القانون الجنائي جارو الذي قال : " ان ما يكون جريمة مقاومة السلطة هو عصيان القانون ومخالفته . وليست القوة التي تستعمل ضد رجال السلطة الا الأداة الخارجية التي تظهر من خلال ذلك العصيان وتلك المخالفة . فاذا ما حدث ان لم يكن تصرف الموظف العام تنفيذا للقانون سواء بخروجه عن حدود وظيفته او بإساءة استعمالها ، فانه يرتكب عملا تحكميا للإضرار بالمواطن ويكون الأخير ، اذا ما قاومه ، لا يقاوم نفاذ القانون بل يقاوم خرقه " (مطول القانون الجنائي - الجزء الثاني) .
اذا كان الخروج على القانون (الدستوري) جريمة وليس استبدادا فكيف يقوم الاستبداد في ظل "سيادة القانون " ؟ الجواب : بالقانون . وهذا هو موضوعنا الأصيل . ان الحديث عن " المستبدين " من أرباب الأسر او الكهنة أو المتألهين من الملوك او المجرمين من الحكام حديث معاد لا يستحق ، او ما كان يستحق ان نعود اليه. ولكنا عدنا اليه لنقدم لحديث آخر عن الاستبداد في ظل سيادة القانون . عن الاستبداد بالقانون . عن قوانين تحمي الاستبداد وتنظمه . عن الاستبداد المتحضر .
وهو استبداد متحضر لان المستبدين فيه يلغون وحدة المجتمع أو يلغون تعدد الأفراد فيه ويقهرون الناس ويستعبدونهم استعبادا " قانونيا " . تنفيذا لحكم أصدره قضاء ٠ تطبيقا لقانون وضعه مشرعون . في نطاق دستور موضوع . وانها لقصة تستحق الحديث عنها . ثم اننا نسميه " استبدادا متحضرا " لنلفت الانتباه ، ولو من خلال غرابة التعبير الى أن الاستبداد ما يزال قائما بالرغم من التقدم الحضاري ، وانه يستفيد هو أيضا من هذا التقدم الحضاري فيصطنع للقهر
أساليب عصرية متحضرة . وهو أولى ـ عندنا ـ بالانتباه من الاستبداد المتخلف لانه أقدر منه على خداع الشعوب وبالتالي نحتاج مقاومته الى أكثر من رد الفعل ضد العنف الفظ الذي يمارسه الاستبداد المتخلف فيستفز الشعوب الى المقاومة .
***
2 ـ الاستبداد المتحضر :
قطاع الطريق :
ه٢ـ من الخصائص المشهورة عن الشعب الانجليزي حرصه على الإبقاء على أشكال من التقاليد العتيقة التي فقدت مبررات وجودها . فهو ما يزال يحتفظ بالنظام الملكي وكل طقوسه الشكلية بعد أن فقدت الملكية كل سلطاتها . وما يزال يحتفظ بألقاب كانت عناوين للثراء الإقطاعي الفاحش يحملها الآن معدمون . ومع ذلك يبدو أن للمحافظة على التقاليد الشكلية منفعة ولو كانت غير مقصودة . انها رموز حاضرة لمراحل تاريخية مندثرة فهي - على الأقل - تذكّر الناس بالتاريخ . والذكرى تنفع المؤمنين .
من تلك التقاليد الشكلية ذلك الاسم الغريب الذي تحمله المحاكم التجارية . يسمونها محاكم المعفرة أقدامهم !. فيذكرن االاسم بطائفة من البشر ظهرت في اورويا فى أواخر عصر الإقطاع كانوا يسمونهم المتاجرين (ميركانتورز) . كانوا في أول أمرهم أفرادا أو جماعات قليلة من البائعين الجائلين الذين ينتقلون من مكان الى مكان يحملون بضاعتهم القليلة على أكتافهم أو على الدواب ويقطعون الطرق سائرين على أقدامهم فأطلق عليهم أسم " المعفرة أقدامهم " .
هؤلاء هم مستبدو المستقبل . وما يزال ورثتهم قائمين على الاستبداد حتى الآن . ونحن نزعم ان الاقتراب من هذه الطائفة فينشأتها الأولى ، والتعرف على أفكارها وقيمها وعلاقاتها وأهدافها ، وهي عارية الحقيقة قبل أن تسترها الفلسفات والمذاهب ، أمر لازم لفهم حقيقة الاستبداد المتحضر . فلنقترب ونتعرف على تلك المخلوقات من الأفراد والجماعات القليلة التي لن تلبت ان تستبد بكل خلق الله .
٢٦ـ سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس حين اجتاحتها أعداد كثيفة من القبائل الهمجية (البرجوند والالمان والفرنك .. الخ) فغمرتها موجة من الفوضى كان الاحتكام فيها الى القوة وحدها . وبالتالي كان أكثر الناس مقدرة على توفير قدر من الأمن هم اولئك الذين كانوا يمتلكون مساحات شاسعة من الأرض ؛ القادرين على أن يقيموا فيها حصونا وان يكونوا من زارعيها قوة دفاعية مقاتلة . وأدى ذلك الى أمرين : الأول أن لجا صغار الملاك الى تسليم " أنفسهم وأموالهم " الى كبار الملاك لحمايتهم في مقابل حصة من ناتج الأرض وعدد من أيام العمل فاتسعت المساحات وكثر العدد . الأمرالثاني ان لاذ الذين لا يملكون شيئا بحماية أصحاب الأراضي يحتمون بهم في مقابل العمل في الزراعة او في القتال . فتوفرت الأعداد الكافية لتكوين فرق متفرغة للقتال (الفرسان) دفاعا عن الأرض يقودها صاحب الأرض نفسه (السنيور الشيخ) . وهكذا بدأ تكوين النظام الإقطاعي في اوروبا . نقول بدأ لأن العلاقات الداخلية فيما عدا التبعية مقابل الحماية لم تكتمل الا بعد أن وصلت موجة الفتح الإسلامي إلى اوروبا وتوقفت عند بواتييه (فرنسا) عام ٧٣٢ م . ذلك لانه ابتداء من ذلك التاريخ أصبحت أوروبا " محاصرة " بمعنى الكلمة فانقطعت خطوط اتصالاتها بالشرق وبالتالي فقدت مواردها التجارية وأصبح على اوروبا ككل ، وعلى كل مقاطعة فيها ، ان تكتفي ذاتيا . وأدى ذلك إلى قيام نوع من تقسيم العمل الطائفي يشبه الى حد كبير النظام الذي ساد الهند حيث تختص كل طائفة بنوع من النشاط ، ولكنه بعيد عن المعنى الحديث للانقسام الطبقي . كان نصيب أو اختصاص السيد ان يحكم الإقطاعية ويدافع عنها ، وكان نصيب او اختصاص رجال الدين أن يقيموا العبادات ويقوموا بمهام التعليم ، وكان نصيب الفلاحين والحرفيين أو اختصاصهم أن ينتجوا ما يكفي لإشباع الحاجات المادية لجميع سكان الإقطاعية . ولم يكن من حق اية طائفة من تلك الطوائف الثلاث ان تمتنع عن آداء حصتها ، وقد كان هذا الالتزام بالنسبة للفلاحين يعني بقاءهم في الأرض وارتباطهم بها وهو بالإضافة الى العمل بدون مقابل أياما معدودات ـ ما طبع العلاقة بينهم وبين السادة بطابع قريب من العبودية فكانوا " أقنانا " . ومن حصة العمل او " المقطوعية " أخذ النظام كله الاسم الذي عرف به "الإقطاع " ( رجين رينود - أصول البورجوازية - ١٩٤٧) .
لنتأمل هذا المجتمع الإقطاعي . اوروبا واقعة تحت تهديد القبائل الهمجية من الداخل ، ومحاصرة من الخارج على وجه يدفع او يحمل الناس فيها على ما يشابه " التعبئة العامة فتصوغ علاقات حديدية لا تقيم وزنا كبيرا للمصالح الشخصية الى حد تنازل صغار الملاك عن ممتلكاتهم لتتكون مساحة كبيرة يمكن الدفاع عنها . ثم تفرض على كل واحد نوعا معينا من النشاط يحرم عليه ان يتخلى عنه او يغيره كأنه مجند له . وتنتزع القيادة من مواقع الإنتاج الزراعي لتجندهم جيشا من الفرسان . ثم تكون الرئاسة لمن يحسن القيادة فيكون الملوك او الأفراد اوالنبلاء هم قادة الجيوش والفرق والكتائب . يمكن ان نتصور انه في مثل هذه المجتمعات التي تعيش في حالة حرب او حصار تنمو وتبرز علاقة الانتماء الى الأرض والولاء للمجموع وتفضيل المصلحة المشتركة على المصلحة الخاصة والبحث عن سلامة المجتمع بدلا من المكاسب الفردية . في مثل هذه المجتمعات تسود القيم الجماعية وتصبح الفردية شذوذا وخروجا وقد تكون خيانة لكل ما هو في صالح المجموع . ويصدق هذا على كل مجتمع سواء كان قديما او حديثا حين يتهدده خطر حال .
بالرغم من ذلك نجد طائفة من الأفراد والجماعات تظهر في المجتمع الإقطاعي لتشذ وتخرج عن كل العلاقات والقيم التي فرضها الخطر على مجتمعاتها ، فهي تتجول متنقلة من أرض إلى أرض قاطعة كل علاقة انتماء إلى الأرض (الوطن) . وهي تتعامل مع كل الأطراف المتصارعة معاملة متساوية القواعد متجاهلة أي ولاء لأي مجتمع . وهي لا تشارك في العمل ولا تحمل نصيبها منه فلا تزرع ولا تصنع ولا تقاتل ، متخلية او هاربة من المشاركة في أي جهد تقتضيه المصلحة العامة . وهي تحمل البضائع على الأكتاف او على الدواب . وتتجول على الطرقات منتقلة ممن هو فيحاجة الى بضائعها الى من هو في حاجة أكثر إلحاحا لتبيع له بالثمن الذي تحدده مستغلة احتياجات الناس ... الخ . كل هذا الخروج والتجوال والعناء والغربة من أجل ذلك الفرق - الذي قد يكون ضئيلا - بين ثمن الشراء وثمن البيع : الربح . الربح النقدي على وجه التحديد . ويصبح الحصول على الربح هو القيمة الأساسية أو القيمة الوحيدة التي تحكم هذه الطائفة من البشر . بعدها ، وليس قبلها ، قد تتسع حياتهم او لا تتسع لأية قيمة أخرى وطنية أو اجتماعية او إنسانية او خلقية . نقول تتسع حياتهم او لا تتسع اذ حتى لو اتسعتلهذه القيم فسيكون ذلك مشروطا بألا تترتب عليها "خسارة " اذا كانت لا تؤدي الى " ربح " .
لأن تلك الطائفة لم تكن طرفا في أية علاقة انتاج ، وعلى وجه الخصوص لم تكن مع أحد من الملاك أو الفلاحين أسموها " الطبقة الوسطى " . ولم يصف احد ما فعلت هذه الطبقة بالبشرية بأفضل وأدق مما وصه بها ماركس وانجلز . قالا : " لم تبق ربطة بين إنسان وإنسان سوى المصلحة الشخصية المجردة . سوى الرابطة الباردة كالموت : الدفع نقدا . لقد أغرقت في بحر الأرقام الأناني المتجمد أعمق ما في الدين والفروسية والعواطف . لقد حولت الإنسان الى مجرد سلعة واستبدلت حرية التجارة وحدها بجميع الحريات التي نصت عليها المواثيق . في كلمة واحدة أحلت الاستغلال الصفق المباشر القاسي محل الاستغلال الذي كانت تغلفه الأديان والأوهام السياسية " . " لقد جردت كل المهن من كل ما كان مقدسا وشريفا وأحالت الأطباء ورجال الدين والشعراء والعلماء الى مجرد عمال أجراء . لقد مزقت قناع العاطفة في الأسرة وأحالتها الى مجرد علائق مالية " . (البيان الشيوعي) .
هذه الطبقة التي بدأ مؤسسوها بقطع الطرق مشيا على الاقدام قد انتهت الى قطع الطرق على الحرية بأن أقامت للاستبداد صرحا كاملا من الافكار والفلسفات والنظم والقوانين والتقاليد والقيم .
والصهاينة :
٢٧ـ كان الصهاينة بعض قطاع الطرق المعفّرة أقدامهم فى أول نشأة الطبقة " الوسطى " كما لا يزالون جزءا من قطاع الطرق على الحرية بما يقيمونه من صروح الاستبداد ، ولهذا أسباب عدة . أولها ان " التوراة " التي يتداولها اليهود ، وهي كتاب ظهر لأول مرة في عهد الملك يوشا بعد وفاة موسى بن عمران بسبعة قرون كاملة (سفر الملوك الثاني - إصحاح ٢٢) علمت وتعلم اليهود انهم " شعب الله المختار" وتضعهم في موقع العزلة الممتازة من الشعوب الأخرى بحيث يكاد يكون الاستبداد بالشعوب عند الصهاينة " حقا " مكتسبا لليهود . وفي هذه الفكرة نجد جماع الأفكار الذي استند إليه استبداد رب الأسرة في عزلته الممتازة واستبداد المتألهين الذين اختارهم الله لحكم البشر او حكموا البشر بقرارات اختارها لهم الله . وتسند التوراة اختيار اليهود لموقعهم الممتاز الى إعجاب الله بقوة يعقوب . ولذلك تحدد لليهود مضمون امتيازهم على الآخرين بأنهم أقوى من غيرهم . وذلك لأن الله قد اختارهم وأسمى يعقوب جدهم الأعلى باسم " إسرائيل " على أثر مصارعة جسدية قامت بين يعقوب وهو في طريقه الى ارض كنعان وبين الله ذاته . ولم يهزم فيها يعقوب فأعجب به الله وباركه واختاره ( سفر التكوين ٣٢٢ آية ٢٥- ٢٩) . وهكذا استقر في أذهان أجيال من اليهود " إيمان " بأنهم شعب قوي ممتاز اختاره الله فاختصه برعايته دون البشر أجمعين . وحذره من الاختلاط بالشعوب الأخرى حتى لا تلوث نقاءه : " اني ادفع إلى أيديكم بسكان الأرض فتطردهم من أمامك لا تقطع معهم ولا مع ألهتهم عهدا . لا يسكنوا في أرضك لئلا يجعلونك تخطئ (سفر الخروج ـ إصحاح ٢٣ أية ٢٢ و٢٣) .
ولم يكف كهنة اليهود عن تغذية هذا الإيمان بحيث أصبحت القيم اليهودية ذات حدين . فيما تفرض على اليهود التزاما وثيقا بالتضامن الاجتماعي فيما بينهم تبيح لهم أن يتعاملوا مع غير اليهود بدون قيد أخلاقي او اجتماعي . قال حكماء صهيون " اضربوهم وهم يضحكون . اسرقوهم وهم لاهون . قيدوا أرجلهم وانتم راكعون ادخلوا بيوتهم واهدموها . تسللوا الى قلوبهم ومزقوها " . اما " يهو " الإله الخاص ببني إسرائيل فقد وعد شعبه المختار بأن يقوده " الى مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها ، وآبار محفورة لم تحفرها وكروم زيتون لم تغرسها " (سفر التثنية - إصحاح ٦ آية ١١) . وقد أدت تلك الأساطير القبلية إلى أن عاش اليهود قرونا منعزلين في أحياء مقصورة عليهم عرفت باسم " الجيتو" تجسيدا كاملا لرفضهم الانتماء الى الوطن . تحول كل جيتو الى وكر تآمر وتخطيط وتعبئة نشيط ومعاد لكل ما ومن ليس يهوديا تعبيرا صريحا عن رفض الولاء للمجتمع ثم اختاروا من بين كل المهن المتاحة حرفة يحتكرونها ويتوارثونها هي إقراض الأموال مقابل فائدة مضمونة لسبب بسيط هو أنهم لا يعتبرون تلك مجتمعاتهم ليسهموا فى بنائها زراعة أو صناعة بل يعتبرونها أعداءهم فعليهم بأمر" يهو " أن يسيطروا عليها أو يخربوها ...
وهكذا اجتمع اليهود و" المعفرة أقدامهم " على قيم مشتركة من عدم الانتماء والنفعية . ولكنهم اجتمعوا على أكثر من هذا ، فقد اشتركوا جميعا في ملكية مفتاح باب الاستبداد المقبل .
الربا:
٢٨- الربا هو مفتاح باب الاستبداد المعاصر . وما دام الربا مباحا فلن تقوم للحرية قائمة . هذا حكم سنعرف أسبابه فيما بعد . المهم الآن أن نعرف كيف التقى اليهود و" المعفرة أقدامهم " على الاشتراك فى ملكية هذا المفتاح الذي فتحوا به أبواب الاستبداد بالشعوب .
تحرم اليهودية والمسيحية كلتاهما الربا على خلاف بينهما . ففي اليهودية يحرم الربا فيما بين اليهود ويحل اذا كان المقرض يهوديا والمقترض غير يهودي . اما المسيحية فتحرم الربا إطلاقا مثلها فيه مثل الإسلام . عن طريق الربا الحلال يهوديا مول اليهود في أوروبا أمراء الإقطاع في حروبهم التي لا تنتهي وفى ترفهم الذي لا يشبع فسيطروا عليهم وسيطروا على الشعوب من خلالهم . وكان رد الكنيسة صارما . فلقد حددت إقامة اليهود في أماكن خاصة وأحرقت كتبهم في الميادين العامة . وطردهم فيليب أوجست من مملكته . وأمر البابا انوسنت الثالث - الذي عرفناه - بان يميز اليهود بعلامة توضع على ملابسهم .
غير أن الأمر لم يلبث أن تغير في عهد فريدريك الثاني (الذي كان تحت وصاية البابا انوسنت الثالث). فقد بدأ ملكا على صقلية (١١٩٨ ) وانتهى الى أن يتوج إمبراطورا مقدسا كما كان شارلمان من قبل . وكان الطريق بينهما مليئا بالحروب بينه وبين البابا انوسنت الرابع . فقد كان فريدريك الثاني متهما بالهرطقة وتلقى حرمان الكنيسة مرتين بالرغم من انه قاد حملة صليبية دخلت بيت المقدس وأعلن نفسه ملكا عليها (١٢٢٩) ٠ الا أنه كان يتقن اللغة العربية وكان " يدمن دراسة الثقافة الإسلامية في مصادرها العربية " كما يقول الأستاذ العقاد ( أثر العرب في الحضارة الأوروبية) . باختصار كان فريدريك متهما بأنه قد أصبح مسلما أو أنه معجب بالإسلام ، وآية هذا انه قاد حملة صليبية ولكن لم يقتل مسلما واحدا . سوّى أموره صلحا مع السلطان الكامل . وآيته الأخرى انه لم يخضع للبابا وطارده حتى اجبره على الهرب من روما الى ليون ، وهناك تحول البابا انوسنت الرابع من أب روحي الى منظم للجيوش وقائد حروب لا تنقطع ضد الإمبراطور المارق فأفلست الكنيسة ، ولجأ البابا الى التجار مستدينا ديونا فادحة . في مقابل ماذا ؟. في مقابل إباحة الريا . احتال البابا على الشريعة وافتى بالتفرقة بين ما اذا كان الإقراض بفائدة من أجل الاستهلاك الشخصي ام من أجل تمويل عمليات تجارية او صناعية . فحرم الأول وحلل الثاني ، على فرض ان الفائدة ليست الا نصيبا مضمونا من الربح . (ريجين برنود - أصول البورجوازية - ١٩٤٧ وجاك دروز تاريخ المذاهب السياسية - ١٩٤٨) . ليعلم الذين يحتالون على الشريعة الآن نفاقا للنظم المستبدة وتمكينا لها من قهر الناس اقتصاديا فالاستبداد بهم سياسيا أن لعبتهم ... قديمة .
الاستيلاء على السلطة :
٢٩- المال الربوي يتراكم بدون جهد . وكل شيء عند " التجار " قابل للبيع والشراء ، فاشتروا السلطة بكل معنى كلمة الشراء.
كان أول ما تحتاج اليه التجارة هي حرية الانتقال فحصل التجار ، فى مقابل ثمن ، على صكوك تعفيهم من الاستقرار في الأرض وتحصنهم ضد أي تعرض لهم . وكانت التجارة تحتاج الى أماكن آمنة تخزن فيها البضائع وتكون مراكز للتوزيع في أركان المدن ، او مفترق الطرق البرية ، او على الأنهار فحصل التجار على حق إنشاء محطات تجارية وتحصينها والدفاع عنها فأقاموها وعرفت باسم " الأبراج " واخذوا منها اسمهم فكانوا " بورجوازية " ( كان العرب يطلقون كلمة "برج " على البناء الحصين الأركان فنحسب انها إحدى المفردات العربية الكثيرة التي دخلت اللغات الأوربية نتيجة للاحتكاك الحضاري) . وجذبت تلك المراكز إليها الحرفيين الذين كانوا يقومون بالصناعات لأجل الاستهلاك فانتقلوا اليها وبدأت الصناعة من أجل البيع . وعندما كثر عدد المقيمين في تلك المراكز كان على الفلاحين فى الإقطاعيات ان يزيدوا من إنتاجهم الزراعي لمواجهة احتياجات الطبقة الجديدة فأصبحت الزراعة هي الأخرى من أجل البيع لا من أجل الاستهلاك فقط . وترتب على هذا زيادة الرقعة الزراعية فاستفاد أمراء الإقطاع أنفسهم وأصبحوا يشجعون التجار على بناء المراكز التجارية في إقطاعياتهم . فاستغل التجار هذه الرغبة واشتروا " استقلال " المراكز ، التي أصبحت مدنا ، من التبعية الإقطاعية وأصبحوا يديرونها بأنفسهم .
فتحولت المدن والمراكز التجارية إلى مناطق حرة . وكانت التجارة في حاجة إلى عقد الصفقات السريعة والمتنوعة والتحرر من قيود المبادلة فزاد استعمال النقود وأصبحت هي الوسيط الأساسي في تبادل السلع وتحديد قيمتها . وكانت التجارة في حاجة الى قواعد تعامل ثابتة وواضحة ومحددة والى ردع الاعتداء على الملكية بالعنف او الاختلاس او التدليس ، وإلى قضاة يفصلون في المنازعات في مواقع قريبة ، والى رجال قانون يعرفون كيف تصاغ العقود وإجراءات المطالبة بالديون واستيفائها. ولم تكن قواعد العرف السائدة او نظام الاحتكام الى السيد الإقطاعي تصلح لكل هذا . فاستعارت الطبقة الجديدة القانون الروماني واشترت القانون والقضاء .
في عام ١٢٩٦ بدأ الصراع بين فيليب الجميل ملك فرنسا وبين البابا بونيفاس الثامن واستمر حتى عام ١٣٠٣. كان الملك يريد أن يفرض الضرائب على رجال الكنيسة وممتلكاتها لتمويل الحرب ضد انجلترا واحتجت الكنيسة بأن المسيحية تحرم المساهمة في حرب ضد شعب مسيحي أخر . فانتهزتها البورجوازية فرصة . اذ لم يكن مما يتفق مع منطق البورجوازية ان يعيش احد في المناطق (مدنها) وينتفع بمرافقها بدون ان يتحمل نصيبه من " تكلفة " الادارة . ولم تكن الخدمة الروحية تساوي شيئا عند البورجوازية . فانضمت البورجوازية الى الملك فيليب ضد الكنيسة . قدموا له ما شاء من أموال في مقابل إخضاع الكنيسة للضرائب ، كأصل الدين ، أما الفوائد " فكانت سلب رجال الدين الاختصاص بنظر المنازعات القضائية . وهكذا أنشأت الطبقة الجديدة الجامعات والمحاكم وأنجبت القضاة والفقهاء والمحامين وأصبح رجال القانون بجوار أمراء المال الجدد مثل الفرسان بجوار الأمير الإقطاعي فأنشأ لهم فيليب الجميل لقبا موازيا فأصبح منهم " فرسان القانون".
اجتمعت للبورجوانية قوة المال وقوة القانون فلم يبق أمامها إلا قوة السلطة ليتم لها " الاستبداد ". ولقد كان دون السلطة ملوك عتاة محاربون او متألهون فكيف استطاعت البورجوازية ان تستولي على السلطة منهم ؟
في انجلترا :
٣٠- غزا وليم الفاتح ، دوق نورماندي ، الجزر البريطانية عام ١٠٦٦ فصادر الأراضي ووزعها على أتباعه ثم سمح لمن صودرت أرضه من السكان الأصليين بأن يعود الى شرائها وابتكر لذلك حيلة استبدادية حقا . الثمن يدفع على أنه غرامة . ثم تعود الأرض من التاج الى صاحبها مقابل الالتزام بالخدمة لدى الملك طبقا لقواعد العرف الإقطاعي . وهكذا تكونت طبقة من ملاك الأراضي وحائزيها الذين يقسمون يمين الولاء للملك . بالإضافة الى أولئك كان للملك أعوانه الذين يجمعون له الضرائب ويقودون الفرق المحلية في القتال ويرأسون محاكم المقاطعات . وحين كان الملك يريد أخذ رأي كل أولئك في أمر (غالبا ما كان الرغبة في الحصول على الأموال) كان يدعوهم الى الاجتماع فتكوّن بذلك " المجلس الكبير " .
ولما تولى الحكم الملك جان " معدوم الأرض " (١١٩٩- ١٢١٦) وأراد أن يكون جيشا ثار النزاع بينه وبين النبلاء والأشراف ملاك الأرض وآزرهم رجال الكنيسة وانتهى الصراع بصدور العهد الكبير (الماجناكارتا) عام ١٢١٥. تضمن ذاك العهد شروطا تحد من استبداد الملوك بالنبلاء والأشراف ولكنه تضمن ـ أيضا ـ شروطا تحد من استبداد النبلاء والأشراف بالشعب (سيد صبري- حكومة الوزارة) . وهو شرط يشير بوضوح الى اتجاه الملك الى البحث عن قوة أخرى يواجه بها ملاك الأراضي وجال الكنيسة . وكانت البورجوازية جاهزة . كانت لها مدنها وبنادرها وأموالها . وقد تم لها دخول " المجلس الكبير" عام ١٥٢٤ حين دعا الملك هنري الثالث اثنين من كل مقاطعة للحضور مع كبار رجال الدين والأشراف . وتكرر هذا في عامي ١٢٦١، و ١٢٦٤ ثم استقر وأصبح لكل مدينة او بندر وهي مؤسسات الطبقة الوسطى ، ممثلون في البرلمان . على هذا الوجه انعقد البرلمان النموذجي عام ١٢٩٥ يضم ممثلين للأشراف ورجال الكنيسة والبورجوازية . مع ملاحظة أن قطاعا متناميا من أبناء الأشراف كان ينضم الى البورجوازية تحت تأثير نظام الإرث الانجليزي الذي يقصر الميراث على الابن الأكبر . وسرعان ما كون الأشراف ورجال الكنيسة (الذين سينسحبون فيما بعد) كتلة متفقة في التفكير والاتجاه والمصالح . وكونت البورجوازية وصغار النبلاء وممثلو المقاطعات كتلة أخرى . وفي ١٣٥١ انقسم المجلس الى مجلسين . مجلس العموم ومجلس اللوات .
هكذا دخلت الطبقة الوسطى (البورجوازية) في انكلترا ميدان السلطة من الباب الملكي . وكانت على استعداد كامل لان تمنح الملك أية سلطات يريدها ما دام يحقق لها الاستقرار والهدوء الذي يتطلبه النشاط التجاري ولا يسرف في فرض الضرائب . ولكن هذا ذاته كان فاتحة الصدام بينها وبين الملوك من أسرة تيودور وستيورات ولكن البورجوازية كانت تملك السلاح الأقوى . كان الملك يملك السيادة وكانت هي تملك المال . وبينما كان للملك حق التشريع لم يكن لها الا حق الالتماس ولكنها استطاعت أن تستغل حاجة الملوك إلى أموالها لتحول الالتماسات التي تقدمها إلى قوانين . واستقر هذا الحق لمجلس العموم منذ عهد هنري السادس وبذلك أصبح البرلمان شريكا للملك في حق التشريع بطريق غبر مباشرة ، ثم انتهى الأمر على اثر ثورة ١٦٨٨، بأن أصبح البرلمان هو صاحب الرأي النهائي في صدور القوانين فكسب نهائيا السلطة التشريعية .
٣١- يرجع فقيهنا العربي الدكتور سيد صبري ثورة ١٦٨٨ الى أسباب يركز منها على سبب ديني هو أن جيمس الثاني آخر ملوك ستيورات (١٦٨٥- ١٦٨٨) قد أصدر قانون التسامح الديني الذي اثأر عاصفة من السخط بين البروتستانت أدت إلى عزله . ولكن هارولد لاسكي ، الفيلسوف الانجليزي ، يرجعها الى سبب آخر فيقول : " ان ملوك أسرة ستيوارت عرقلوا سبل التجارة بالاحتكارات التي منحوها لأفراد بطانتهم كما سمحوا لانجلترا بأن تجري وراء عجلة اسبانيا أولا وبالتالي وراء عجلة فرنسا . فكسدت التجارة وأدى تعاقب الحروب إلى زيادة الضرائب فتحولت البورجوازية ضد الملوك مما أسفر في النهاية عن الثورة (الحرية في الدولة الحديثة) .
ولسنا في شئ من صحة الرأي الثاني . الدليل على هذا انه عندما خلع البرلمان جيمس الثاني واستدعى وليم اورانج لتولي الملك قدم اليه في ١٣ فبراير ١٦٨٨ " وثيقة الحقوق " لتكون اساس الحكم . الشروط الأساسية في تلك الوثيقة كانت متصلة بحماية المصالح الاقتصادية للطبقة الوسطى فلا يخول للملك تأجيل القوانين او تأجيل نفاذها (المادة ١) ولا مخالفتها (المادة ٢) ولا رفع سعر الضرائب او فرضها بدون موافقة البرلمان (المادة ٤) ولا الاحتفاظ في وقت السلم) داخل المملكة بجيش دائم الا بموافقة البرلمان (المادة ٦) . وهكذا كانت تلك الوثيقة تنازلا من الملك عن أغلب سلطاته للبرلمان ولم تكن وثيقة دينية ولا كانت وثيقة ديمقراطية . ومن ناحية أخرى فان المذهب البروتستانتي الذي كان سائدا في انجلترا هو وليد حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر واستبدل فيها بالحق الالهي حكم العقل في تفسير النصوص الدينية . فهو مذهب متسق مع فلسفة الطبقة الوسطى الليبرالية . وهو أقرب إلى التسامح الديني من الكاثوليكية . ولهذا لا يبدو معقولا ـ عندنا - ان تكون ثورة البورجوازية ضد الملكية في عام ١٦٨٨ رفضا للتسامح الديني . الأقرب الى الصحة فيما نعتقد أن البورجوازية الانجليزية قد استغلت الخلاف الديني للتخلص من أسرة ستيورات التي لا تتفق اتجاهاتها مع مصالحها الاقتصادية .
على أي حال ، فإن دخول الطبقة الوسطى (البورجوازية) الى البرلمان وتزايد سيطرتها ونفوذها وانتصارها أخيرا على الملكية في ثور ١٦٨٨ قد أدى الى تطور كبير في نظام الحكم . ذلك لان الانتخاب كوسيلة للتمثيل ، أصبح ضروريا لاختيار ممثلين عن الطبقة الوسطى بالذات . فبينما لم تكن ثمة أية صعوبة في ان يختار الملك من يدعوه من " الأشراف والنبلاء وكبار رجال الدين المعروفين بأشخاصهم وامتيازاتهم) ووظائفهم ، كانت دعوة المدن والمقاطعات لإيفاد ممثلين عنها تتطلب طريقة لاختيارهم . وهكذا نجد قانونا قديما صادرا عام ١٤٣٩ يقرر مبدأ الانتخاب لاختيار أولئك الممثلين .
غير أن أهم أثار ثورة ١٦٨٨، في نظام الحكم في انجلترا، كان مبدأ الفصل بين السلطات هذا المبدأ لا يستند فقط إلى وثيقة الحقوق التي قبلها وليم اورانج كأساس لتنظيم السلطة ، بل يعتمد - ربما أكثر من هذا- على ظروف توليه الحكم . ذلك أن البرلمان هو الذي اختار وليم اورانج وولاه العرش بشروطه . وقد غير هذا الحدث من مفهوم الملكية ذاتها . فلم يعد الملك سيدا
ولا صاحب سيادة في الدولة بل أصبح عضوا او جهازا من أجهزة إدارتها . وكان طبيعيا ان تتغير اختصاصاته وسلطاته تبعا لهذا المفهوم الجديد . ولما كانت تصرفات الملك ، منذ عهد قديم ، مرتبطة بموافقة مجلسه الخاص فقد ترتب على هذا اعتبار أعضاء هذا المجلس (الوزراء) مسئولين عن تلك التصرفات ، او بعبارة أخرى أصبح مقررا انه لا يجوز تعيين وزراء لا يكونون حاصلين على ثقة البرلمان وأصبح هذا القيد على سلطة الملك ، بعد قرنين من التطور احد معالم النظام البرلماني في انجلترا .
٣٢ ـ في عام ١٦٩٠، بعد نجاح الثورة واستقرار الحكم على القواعد التي اوضحناها نشر الفيلسوف الانجليزي جون لوك كتابه " رسالتان في الحكم " . وهو كتاب يفسر ويبرر نظاما قائما فعلا ويفتقد الأصالة الفكرية الى درجة ملفتة بالرغم مما يقال من أن جون لوك (١٦٣٢- ١٧٠٤) يعتبر مؤسس عهد النهضة والتنوير في بريطانيا وفرنسا . فكتابه يكاد يكون منقولا عن كتاب ألفه عام ١٦٠٣ احد اتباع مارتن لوثر واسمه الثوسيوس (باستيد القانون الدستوري - ١٩٦٠) . كما انه متأثر تأثرا قويا بما سبق الى كتابته عبقري فرنسي اسمه جان دي مونج أعام ١٢٧٠ (إميل هبرو - فلسفة الليبرالية - ١٩٥٠) . والواقع ان جون لوك كان طبيبا خاصا ، ثم تابعا حتى آخر حياته ؛ لسير انطوني اشلي الذي قاد معركة البرلمان ضد الملك . فلم يكن يؤلف بعيدا عن الرغبة في الانتصار لولي نعمته . وما كان ولي نعمته الا رائدا مؤسسا لحزب الأحرار ؛ حزب البورجوازية الانجليزية الصاعدة ونمو في كل أحزاب البورجوازية منذ ذلك التاريخ حتى الآن . بعد هذا لا بأس في أن يقال عن لوك انه مؤسس عهد النهضة والتنوير وعهد قيام الاستبداد المتحضر على أنقاض الاستبداد المتخلف .
على أي حال فان ما يهمنا مما قاله لوك انه في مواجهة الحق الإلهي الذي كان الملوك يبررون به استبدادهم اسند لوك النظام البرلماني الى الإرادة الشعبية فكان أسبق الفلاسفة إلى منافقة الشعوب لتبرير الاستبداد . قال : " عندما يكون أي عدد من الناس مجتمعا بموافقة كل منهم فإنهم بذلك قد جعلوا من هذا المجتمع جسدا سياسيا له سلطة التصرف باعتباره جسدا واحدا . ولا يكون ذلك الا باحترام إرادة الأغلبية وقراراتها . لأنه لما كان المجتمع إنما يقوم على قبول كل فرد فيه ، ولما كان المجتمع جسدا واحدا لا بد ان يتحرك في اتجاه واحد ؛ فمن الضروري ان يتجه الجسد الى الاتجاه الذي تدفعه اليه القوة الأكبر وهو ما تقبله الأغلبية ؛ وإلا لكان من المستحيل أن يعمل أو يستمر جسدا واحدا ، أي مجتمعا واحدا ، كما اتفق على ذلك جميع الأفراد الذين اتحدوا فيه . ومن ثم كان كل واحد ملزما بأن يشمله ما تقبله الأغلبية " (الفصل الثامن ـ فقرة ٨٧) .
هذا في مواجهة استبداد الملوك ، اما في مواجهة الشعب ، أو المجتمع ، او الأغلبية ، فقد قصر حقها على اختيار أعضاء البرلمان . لم يتعرض لحق الانتخاب من حيث طبيعته وما اذا كان عاما او مقيدا كما لم يتعرض لكيفية الاختيار ولكنه ، على أي حال ، قرر قاعدتين أساسيتين : الأولى أن ليس للشعب سلطة يمارسها فانه قد تنازل نهائيا عن سلطته الى المجتمع ولا يستطيع ان يستردها (الفصل السابع فقرة ٨٧ و٨٨) . القاعدة الثانية ان السلطة قد انتقلت نهائيا الى البرلمان ، قال : " (ان السلطة التي أعطاها كل فرد إلى المجتمع عندما دخل فيه لا يمكن ان تعود الى الأفراد ثانية طالما ظل المجتمع باقيا ولكنها تبقى فيه أبدا ؛ لأنه بدون ذلك لا يمكن ان يكون هناك مجتمع منظم وهو يناقض الاتفاق الأصلي . وكذلك أيضا عندما يوكل المجتمع مهمة التشريع الى جماعة من الأشخاص لتظل فيهم وفي خلفائهم ، مع حق تحديد الخلفاء ، فان السلطة التشريعية لا يمكن ان تعود الى الشعب طالما بقيت الحكومة . لان الناس اذ أنشأوا سلطة تشريعية مستمرة إلى الابد تنازلوا عن سلطتهم السياسية كلها ولا يستطيعون استعادتها " (الفصل التاسع عشر فقرة ٢٤٣) .
٣٣- ما الموقف من الاستبداد ؟.. يفرق جون لوك بين استبداد الملوك واستبداد البرلمان . فيسأل عن استبداد الملوك : " ماذا يحدث إذا كانت السلطة التنفيذية وهي تملك قوة المجتمع تستعمل هذه القوة للحيلولة دون اجتماع الهيئة التشريعية ومنعها من العمل ؟. نلاحظ ان السؤال متعلق باستبداد الملك بالتشريع دون الهيئة التشريعية . فيأتي الجواب ملتويا : " وأجبب على ذلك بأن استعمال القوة ضد الشعب دون سند من السلطة وبما يناقض الثقة التي أودعها السلطة التنفيذية انما هو بمثابة إعلان حرب على الشعب الذي يصبح له في هذه الحالة إقامة هيئته التشريعية من جديد لممارسة سلطتها ، لأن الشعب وقد أقام مشرعا بقصد أن يمارس سلطة سن القوانين يكون له حق استعمال القوة في إزالة العقبة التي تحول دون قيام المشرع بما هو ضرورة للمجتمع " (الفصل الثالث عشر فقرة ١٥٥) عظيم . وماذا لو استبدت الهيئة التشريعية بالشعب ؟ قال جون لوك فيلسوف الاستبداد البورجوازي : " لا يمكن ان يكون هناك حكم بين السلطة التشريعية والشعب . اذا حاولت أي من السلطتين التنفيذية او التشريعية ، بعد أن تستولي على السلطة في يدها ، ان تعمل على استعباد الشعب او دماره ، فليس أمام الشعب من علاج في هذه الحالة ، كما في الحالات التي لا يجد فيها قاضيا يلجأ اليه في الأرض ، سوى الاتجاه الى السماء" (الفصل الرابع عشر- فقرة ١٦٨) .
هذا هو جوهر الاستبداد البورجوازي . مقاومة الاستبداد الفردي باسم الشعب وحقه فى اتخاذ "القرار" ثم الاستبداد " بالقرار " دون الشعب . بحجة ان الشعب ممثل في نوابه . فلنتأمل أي شعب ذلك الذي كان البرلمان يتكلم باسمه ويستبد فيه في الوقت ذاته .
في البداية كان التمثيل" النيابي" يأخذ شكل الوكالة الإلزامية المعروفة ـ الآن ـ فى القانون المدني . فكانت كل مدينة او مقاطعة تزود مندوبها بتعليمات محددة عند ذهابهم الى مجلس العموم . ولأن المندوب " بورجوازي " أصيل لا بد له من أن يربح من كل صفقة . فقد كان النواب او المندوبون يفرضون على سكان المدن التي اختارتهم ان يتحملوا نفقات ذهابهم وعودتهم وإقامتهم في لندن . فلما طالت مدد انعقاد البرلمان ضاق الممولون بتكاليف مندوبيهم فانقطعوا عن إمدادهم بنفقاتهم . فكان الرد البورجوازي احتفاظ المندوبين بحق حضور البرلمان ولكن لا بصفتهم وكالآء ، بل بصفتهم " نوابا ". والفرق بين التعبيرين فى تاريخ النظم ان الوكالة كانت تفرض على المندوبين تقديم حساب عن مهماتهم فى البرلمان الى من بعثوا بهم إليه ، أما النواب فتنقطع صلتهم بمن اختاروهم بمجرد اختيارهم ولا يقدمون اليهم حسابا . ولكن صلتهم بمدنهم ذات الحق في أن ترسل مندوبين عنها إلى مجلس العموم لم تنقطع . فأتاح ذلك لغريزة الاستغلال من أجل الربح الكامنة في أعماق كل بورجوازي فرصة " المتاجرة " في مقاعد مجلس العموم .
فقد أدى الاحتفاظ التاريخي لبعض المدن بحق التمثيل بالرغم من زوال أهميتها او انقراضها الى أن مقاعد البرلمان الانجليزي كانت تباع علنا ولها سوق . في عام ١٧٦٨ عرض لورد شسترفيلد شراء مقعد لابنه بألفي جنيه من احد ملاك الأراضي المقرر لهم حق التمثيل فأجابه بأنه تلقى عرضا أفضل . وكان ثمة دائرة انتخابية اسمها " اولدسارم " لها الحق في ممثلين ولا يقيم فيها الا ناخب واحد فكان المقعدان معروضين للبيع دائما . وعندما أراد وليم بت الشهير دخول مجلس العموم عام ١٧٨٠ لجأ إلى لورد لاندستاد في شمال انجلترا الذي كان يسيطر على تسع مدن لكل منها حق التمثيل . وقد حدث ان طغى البحر على احدى المدن يوم الانتخابات فتوجه الناخب الوحيد فيها الى مقر الاقتراع في قارب ليختار وحده نائبا في مجلس العموم او يبيع المقعد .
٣٤- هذا على مستوى النواب ، اما على مستوى الناخبين ، فقد كان عدد الذين لهم حق الانتخاب في انجلترا في أواخر القرن الثامن عشر ٤٠٠٠٠٠ ناخب من مجموع الشعب الذي كان يبلغ عشرة ملايين تقريبا . ذلك لان حق الانتخاب لم يكن عاماً . كان في المقاطعات مقصورا على من يملك . او يحوز حيازة دائمة ارضا تدر عليه دخلا سنوياً لا يقل عن أربعين شلنا . اما في المدن فقد كان حق الانتخاب يتنوع تبعا للعرف والامتيازات الممنوحة لكل مدينة . وفي كل الحالات كان مقصورا على (المواطنين النشطين) او أرباب العائلات . وكانت الملكية ودفع الضرائب هما المقياس لنشاط المواطنين . وعلى هذا الوجه كانت كل مدينة او مقاطعة تختار مندوبين اثنين منها يمثلانها في مجلس العموم ( ويد سلوب - النظام البرلماني - ١٩٢٤) .
وقد استمر الوضع على هذا حتى عام ١٩١٨. قبل هذا لم تكن انجلترا تفهم كيف يكون للمعدمين حق الانتخاب . كيف يمكن ان يشارك غير الملاك في اتخاذ القرار ولو عن طريق نواب يختارونهم . يقول ماي هولاند " منذ منتصف القرن الثامن عشر كان ثمة نظريتان تتنازعان القول في طبيعة حق الانتخاب . فمن ناحية كان الانتخاب معبرا عن أمانة trust مخولة لطراز معين من الأشخاص يتم اختيارهم بعناية ، باعتبار أكثر الناس مقدرة على استخدامها للصالح العام . كان منهم حائزو الارض الذين كانت مصلحتهم في رخاء الدولة تعتبر اكثر دواما وثباتا من أي واحد آخر . وكان منهم الملاك الآخرون الذين يكونون بالإضافة الى الأولين المساهمين الرئيسين في الدخل القومي . وقد أصبحوا مؤهلين للاختيار على أساس تاريخي هو ارتباط الانتخاب بالضرائب . ولم يكن الممثلون الذين يختارونهم " نوابا " بل كانوا اقرب الى المفوضين
تفويضا مطلقا وكانوا يعتبرون ممثلين لشعب انجلترا أكثر من تمثيلهم لمناطقهم المحلية التي بعثت بهم الى البرلمان . اما النظرية المضادة فتعتبر عضو البرلمان مندوبا عما اختاره وليس ممثلا للأمة ، وان واجبه الأساسي ان يعرض مصالحهم ويدافع عن أرائهم . ومن هذه الزاوية ، كلما كثرت متاعب اية طبقة كلما كانت في حاجة أكثر الى ممثلين . وموقف مضاد تماما للموقف الأول الذي يربط بين استمرار تقدم البلاد وبين قصر التمثيل في الجمعية السياسية على أكثر المواطنين ثراء . وعلى هذا يعتبر الانتخاب حقاً طبيعيا سواء تقرر او لم يتقرر . وحتى في القرن الثامن عشر كان لهذه النظرية من يدافعون عنها وأصبحت رائجة شعبيا بفضل كتابات روسو .
ولكن التعبير عنها بالطرق الشعبية القاسية أثناء الثورة الفرنسية ، بالإضافة الى أراء وتأثير بيورك أدى إلى رد فعل مضاد لها في انجلترا (روبرت رود سلوب - النظام البرلماني) .
ان هذا النص يكشف لنا عن جوهر النظام البرلماني الذي كان سائدا في القرن الثامن عشر في انجلترا . انه نظام حكم الأقلية " اوليجارشية " . ومصدر حقها في الحكم انها ممتازة ثروة وذكاء ومرتبطة ارتباط حقيقيا بالمصالح القومية وكل هذا يجعلها بمنأى عن كل تبعية مهينة للإرادة الشعبية (بوردو الموسوعة) . لا يهم بعد هذا ان يكون السبب هو الخوف من تكرار العنف الدموي الذي صاحب الثورة الفرنسية او الحرص على الامتيازات التي حصلت عليها البورجوازية الانجليزية ضد الملكية لتبرير موقفها في الاستبداد بالشعب . انما الذي يهمنا هو كيف برر مفكرو وساسة انجلترا موقفهم الاستبدادي .
أشار ماي هولاند الى اراء وتأثير بيورك . ونجد تلخيصا لهذه الآراء في خطبة ألقاها عام ١٧٧٤ وهو يشكر ناخبي دائري بريستول بعد ان اختاروه نائبا قال : " لا شك انه من أسباب السعادة والشرف لأي نائب ان يعيش في وحدة حميمة مع ناخبيه وان يرتبط معهم بأقوى الروابط العاطفية . كما بجب ان تكون أمالهم دافعا قويا له وان تكون آراؤهم محل احترامه الكبير .. ولكن رأيه الأخير ، وحكمه المتأني ، وضميره المستنير ، لا ينبغي له أن يضحي بها ، لا لكم ولا لأي شخص أخر ولا لأية طبقة . ان التوجيهات الملزمة والوكالات الصادرة ، التي يجب على النائب ان يطيعها طاعة عمياء في مناقشاته وإبداء آرائه ، مهما تكن مضادة لاقتناعه وتقديره وضميره ، هي أشياء غريبة تماما عن قوانين هذه البلاد ، ولا يمكن تصورها الا على أساس خطأ جسيم في فهم قواعد دستورنا . ان البرلمان ليس مؤتمرا للمبعوثين يمثلون المصالح المختلفة المتنافسة . انه اجتماع لمناقشة أمور أمة ليس لأعضائه الا مصلحة واحدة يستهدفونها هي مصلحة البلاد " . ( بوردو- موسوعة العلوم السياسية) .
ويقول بلاكستون : " صحيح ان بعض أصحاب النظريات قد ذهبوا الى أن للشعب دائما سلطة أولى تخوله حق الغاء او تغيير السلطة التشريعية اذا رأى انها قد خانت الثقة التي وضعت فيها .. ولكن مهما يكن نصيب هذا الرأي من الصحة على المستوى النظري فإننا لا نستطيع الأخذ به في التطبيق ولا ان توجد اية طريقة قانونية لوضعه موضع التنفيذ .. وعلى هذا نستطيع ان نؤكد انه طالما بقي الدستور الانجليزي قائما فان سلطة البرلمان ستبقى مطلقة وغير خاضعة للرقابة (بوردو- المرجع السابق) .
الاستبداد البرلماني :
٣٥- " ان ما يفعله البرلمان لا توجد قوة على الأرض تستطيع ان تلغيه " .. هذا قول آخر للسيد بلاكستون يعبر عن هدف الطبقة الوسطى الانجليزية التي أصبحت ارستقراطية ، أكثر مما يعبر عن الواقع البرلماني . اذ لكي يصبح هذا الهدف حقيقة كان لا بد للبورجوازية الانكليزية من أن تمنع حل البرلمان . وقد ساعد عبث الملوك بحق الحل على تحقيق هذا . ففي عام .١٨٣ اعتلى العرش وليم الرابع . وبدأ عهده بالانحياز الى الاتجاهات الديمقراطية فساند رئيس الوزراء ايرل جراي في صراعه ضد البرلمان من أجل الإصلاح الانتخابي الذي كان يستهدف توسيع قاعدة الناخبين . ولكنه غير موقفه بعد هذا وتبنى وجهة نظر المعارضة في مسألة كاثوليك ايرلندا . فاستقالت الوزارة بالرغم من تمتعها بالأغلبية الكبيرة . وعهد الملك الى لورد ملبورن بالوزارة وهو أيضا ينتمي الى حزب الأغلبية (الأحرار). فلم يستطع ان يكسب ثقة الملك أو ان يكسبه الملك . ثم حدث أن احد الوزراء قد أصبح لوردا بالوراثة بعد وفاة ابيه واقتضى ذلك تغييرا جزئيا في الوزارة . فانتهزها الملك فرصة لتغيير الوزارة كلها وعهد بها الى روبرت بيل زعيم حزب المحافظين ، الذي أراد ان يتخلص من المجلس فحله . وقد أثار هذا الإجراء عاصفة من النقد أسفرت عن وضع القواعد التي اعتبرت فيما بعد " شروطا " لدستورية حل البرلمان . فمع الاعتراف بحق رئيس الدولة ان يغير وزارته الا ان استعمال حق الحل والرجوع الى الناخبين لا يجوز الا اذا حدث خلاف فى الرأي بين رئيس الدولة والوزارة حول موضوع محدد . او خلاف داخل مجلس الوراء يستوجب تغييرها والرجوع الى الشعب . او خلاف بين الوزراء والبرلمان يستوجب أما تغيير الوزراء أو حل البرلمان . ولما لم يكن شيء من هذا حدث في تلك السابقة فان نتيجة الانتخابات الجديدة جاءت مؤيده لحزب الأحرار واضطر روبرت بيل الى الاستقالة . ومنذ ذلك الحين لم يستعمل أي ملك انجليزي حق الحل لا مباشرة ، ولا بطريق غير مباشرة عن طريق احتفاظه بوزارة لا تستند الى الأغلبية البرلمانية . وهكذا نرى كيف آلت السلطة كلها الى البرلمان (روبرت رد سلوب - المرجع السابق).
فمن ناحية لم يعد لرئيس الدولة حق حل البرلمان والالتجاء الى الشعب ومن ناحية ثانية لم يعد من حق الملك ان يعين وزارة لا تحظى بثقة البرلمان . ايا ما كان الأمر فإن البرلمان منذ ذلك الحين قد أصبح يلعب الدور الذي كان للملكية من قبل . كان الملوك من قبل يختارون وزراءهم ويعرضونهم على البرلمان فأصبح البرلمان هو الذي يختار الحكومة ويعرضها . وكان الوزراء يستمدون قوتهم من سلطة الملك فأصبح البرلمان هو مصدر سلطتهم .
أصبحت السلطة التشريعية هي التي تختار وتعين السلطة التنفيذية او كما يقول الفقيه الانجليزي بيجيهوت " ان المقصود بهذا الاسم . أي الوزارة - هو لجنة ممتازة من أعضاء الهيئة التشريعية لممارسة السلطة التنفيذية . ان للمجالس التشريعية لجانا متعددة ولكن أهمها هي اللجنة التي ينتخبها البرلمان من رجاله الحائزين لثقته التامة . وهو وان كان لا ينتخبهم مباشرة الا انه قادر على انتخابهم بطريق غير مباشرة ، لقد كان للتاج منذ قرن مضى الحق في اختيار الوزراء رغم التسليم بعدم استطاعته تقرير السياسة واجبة الإتباع . الا أن السلطة التشريعية كقاعدة عامة هي التي تختار الوزير الأول " ( سيد صبري - حكومة الوزارة) .
ويقول فقيه انجليزي آخر هو بورجر : " وهكذا وصل مجلس العموم الى أن يلعب دورا ذا وجهين في النظام الانجليزي . فهو هيئة تشريعية على وجه وهو صاحب السيادة في الدولة على وجه آخر .. انه السيد الأعلى فوق الملك وفوق اللوردات وفوق الشعب " (ذكره رد سلوب المرجع السابق).
ان هذا الرأي الأخير يكشف نهاية اللعبة البورجوازية عندما يشبر الى أن مجلس العموم قد أصبح السيد الأعلى " للشعب "٠ اذ معنى هذا ان السلطة التي استبد بها الملك ووزراؤه قد انتزعها منهم البرلمان باسم الشعب ولكنه لم يردها الى الشعب . فيقول بوردو ان حركة تحول السلطة من الملك الى الشعب قد أوقفت فى مرحلة معينة حيت تدخلت قوة ثالثة هي البرلمان واستولى عليها لنفسه ، وان ذلك هو مصدر سيادة البرلمان في انجلترا وبالتالي المصدر المميز للنظام النيابي فهو نظام " ديمقراطية محكومة " (موسوعة العلوم السياسية) . ولقد عرفنا منذ بداية الحديث لماذا نسمي "الديمقراطية المحكومة " استبدادا.... متحضرا .
و في فرنسا :
٣٦- يذكر الفقيه الفرنسي ايسمان فارقا جوهريا بين تطور العلاقات الإقطاعية في فرنسا وانجلترا كان له أثر عميق في تطور نظام الحكم . يقول ان النظام الإقطاعي قد انتقل الى انجلترا مع الفتح النورماندي فاخذ منذ البداية شكلا منتظما ومتدرجا يبدأ في القمة من سلطة مركزية قوية هي الملك . أما في فرنسا فإن النظام الإقطاعي قد تكون بالتدريج في قلب الفوضى التي كانت سائدة أوروبا القارة . وهكذا بدأت الملكية في فرنسا بدون امتيازات تقريبا بالمقارنة بسطوة أمراء الإقطاع . وأدى ذلك الى تحالف نبلاء الإقطاع في انجلترا مع الطبقة الوسطى (البورجوازية) ضد الاستبداد الملكي على أساس انهم ، جميعا ، ضحايا ذلك الاستبداد . اما في فرنسا فإن الطبقة الوسطى (البورجوازية) قد تحالفت ـ بالعكس - مع الملكية ضد أمراء الإقطاع وأدى ذلك الى أضعاف هؤلاء الأمراء ولكنه أدى من ناحية أخرى الى تصاعد سلطة الملوك التي انتهت الى الاستبداد المطلق (شرح القانون الدستوري ـ ١٩٢٧) .
ولعل هذا الذي يقوله ايسمان يفسر ظهور نظام الانتخاب في فرنسا في تاريخ سابق على انجلترا بالنسبة للنبلاء ورجال الكنيسة . فمع ان البداية كانت واحدة وهي ان الملك كان يختار من يدعوهم من ممثلي النبلاء ورجال الدين وكانوا معينين بأسمائهم وامتيازاتهم ومناصبهم بينما يدعو رؤساء المدن الحرة الى اختيار من يمثل المدن ، الا أنه في مرحلة لاحقة ، بعد أن ضعف أمراء الإقطاع أصبحت الدعوة توجه الى الطوائف الثلاث لتختار كل منها من يمثلها فأصبح الانتخاب قاعدة للاختيار بالنسبة للطوائف الثلاث فلم تعرف مجلسا وراثيا مثل مجلس اللوردات في انجلترا.
تبعا لهذا التطور تطورت أيضا طريقة الانتخاب من حيث حجم تكوين جماعة الناخبين او من حيث طريقة الانتخاب . ففي عام ١٤٨٤ كان الانتخاب يتم عن طريق الاقتراع العام المنظم يشرك فيه جميع الناخبين لاختيار ممثلين عن الطوائف الثلاث . وقد كان من الممكن ان تكون تلك البداية الشعبية المبكرة مبشرة بتطور ديمقراطي قريب في فرنسا . الا انه في عام ١٥٦٠ انتكس الوضع من ناحيتين . فأولا ، أصبحت كل طائفة تنتخب ، منفردة ، ممثليها وهو ما يعني ان الطبقة الوسطى (البورجوازية) ومن معها من ممثلي الشعب المعروفين باسم " الطائفة الثالثة " لم تعد تشتركفى انتخاب ممثلي النبلاء ورجال الكنيسة . وكان الانتخاب يتم مباشرا بالنسبة لهاتين الطائفتين وحين انه يتم على درجتين بالنسبة للطائفة الثالثة . وكان مؤدى ذلك ان يكون لكل طائفة صوت ، وان كل طائفة تلتزم بصوتها ، وبالتالي كان لا بد من إجماع الطوائف الثلاث حتى تكون القرارات الصادرة عامة . فتضمن القرار الملكي المسمى قرار اورليان الذي صدر في ١٥٦٠ إخضاع رأي الطائفة الثالثة (الشعبية) للأغلبية فأصبح اتفاق النبلاء ورجال الدين على رأي واحد كافيا لإلزام العامة به بالرغم من أن عدد النبلاء ورجال الكنيسة مجتمعين فى كل فرنسا لم يكن يزيد عن ٣٠٠٠٠٠ نفس بينما كان الشعب الفرنسي الذي تمثله ـ حكما ـ الطائفة الثالثة اربعة وعشرين مليونا تقريبا (لافريير- مختصر القانون الدستوري ـ ١٩٤٧) .
أما عن سلطة الجمعية فقد كانت استشارية بالنسبة الى الملك وملزمة بالنسبة الى المجتمعين . ذلك لأن إبداء المشورة كان بالنسبة اليهم واجبا نحو الملك . ومن ناحية اخرى كانت موافقتهم على الضرائب تلزم الشعب بأدائها . ولكن الناخبين من ناحية أخرى كانوا يتحوطون ضد مخاطر ما تسفر عنه الاجتماعات عن طريق تزويد المندويين بتعليمات ورغبات يقدمونها الى الملك عند اجتماعهم تتضمنها جميعا " كراسات " . وكانت التعليمات ملزمة للمندوبين فهي وكالة بالمعنى الخاص ، عليهم أن يقدموا عنها حسابا عند عودتهم . وكما كان الأمر في انجلترا أيضا ، كانت الطوائف هي التي تتحمل نفقات مندوبيها . وكان لها ان تسحب الوكالة او تمتنع عن دفع النفقات اذا لم يؤد الممثلون دورهم على الوجه الذي يتفق مع التعليمات او اذا قصروا فيها . وقد حدث عام ١٦١٤ ان سحب ناخبو بروفانس وكالتهم حين وافق ممثلوهم على الامتيازات البابوية . وكان الرد على أي سؤال أو موضوع يطرحه الملك ولا تتضمنه تلك التعليمات " ان يقول الممثل أنه ليس مفوضا الا في الموافقة على ما جاء في كراسته والعودة للمشاورة . وكثيرا ما كان الملك يؤجل الاجتماع اياما الى ان يعود الممثلون الى مناطقهم . (بارتلمي ودوز- شرح القانون الدستوري - ١٩٣٣) . غير أن سلطة الجمعية قد تغيرت ، فيما يتعلق بالضرائب ، ابتداء من عام ١٤٣٥. فالأصل أن أية إعانات أو ضرائب كانت تتطلب لنفاذها موافقة الجمعية . ولكن في ذاك العام تنازلت الطوائف عن هذا الحق وقبلت اعتبار الإعانات ضرائب دائمة . وتلى ذلك صدور أمر ملكي عام ١٤٣٩ باعتبار الضرائب تكليفا دائما . وهكذا لم تعد موافقة الجمعية على التكاليف المالية لازمة . وقد حاولت الجمعية ابتداء من عام ١٤٨٤ استرداد حقها فى الموافقة على إنشاء أية ضريبة ولكنها لم تفلح . وبذلك فقدت - في الواقع - مبرر اجتماعها فلم يدعها الملك الى الاجتماع ابتداء من عام ١٤٨٤ الى أن قامت الثورة ١٧٨٩. وقيل حينئذ أن دعوتها ليست لازمة لان ليس لها أي نصيب في السيادة (باستيد ـ محاضرات في القانون الدستوري .١٩٦ ) .
في فترة الانقطاع تلك ، التي استمرت فرنين تقريبا خضعت فرنسا للاستبداد الملكي المطلق . وعادت الى الظهور نظرية الحق الإلهي . وخلالها حاولت البورجوازية الفرنسية ان توفق بين مصالحها وبين الاستبداد الملكي عن طريقين . الطريق الأول باستنفاذ نشاطها الاقتصادي من تدخل الاستبداد الملكي . والطريق الثاني بمحاولة الاستيلاء على السلطة بدلا من الملك . الطريق الأول كان طريقا اقتصاديا . والطريق الثاني كان طريقا فكريا .
٣٧- أما عن الطريق الأول المعبر عن مصالح الطبقة الوسطى (البورجوازية) فكان ممثله "الفيزيوكرات ". كانت الطبقة الوسطى هى التي أسهمت بالدور الأساسي في التقدم الاقتصادي في فرنسا وحولتها بالتدريج الى دولة تجارية وصناعية . ومع ذلك فانها كانت خاضعة لقيود التمييز الطبقي القديمة وبالتالي فقد كانت تريد ان تتحرر من عدم المساواة لانها كانت المالكة الأساسية للثروة الاقتصادية . فجاء الفيزيوكرات يعبرون عن هذه الآمال بتقديمهم مفهوما خاصا للحرية على الوجه الذي يتفق مع مصالحها ، وهي ان " الحرية مرتبطة بالملكية ولا يمكن فصلهما " (موريس دي ريفيير) . ولم يكونوا ضد الملكية بل كانوا معها ضد الشعب " اذا " ما تحولت الى ملكية دستورية تشل يد الملك عن التدخل في المساوئ الاقتصادية وعلى وجه خاص في فرض الضرائب . حينئذ يصبح استبداد الملك " استبدادا فرديا ولكنه استبداد قانوني" (كيزني) لأنه "استبداد طبيعي" (دويون دى تيمور) . ثم ان " الاستبداد الذي تقوده السيادة الجماعية أكثر إحكاما وأكثر دواما من الاستبداد الفردي ، اما الديمقراطية فهي وحش مفترس وليست سيادة الأمة الا دولة حاكمة بدون دولة محكومة " (موريس دى رفيير) . وكانت وسيلة الطبقة الوسطى (البورجوازية) الى فرض الدستور في ظل الملكية هو ان تقود الشعب كله ليتوحد حولها ضد الطوائف المتميزة (باستيد - المرجع السابق ولافيريير - المرجع السابق) . لهذا فان جمعية الطوائف العامة التى دعاها الملك واجتمعت فى ه مايو ١٧٨٩ لم تكن فى الواقع لا شعبية ولا ديمقراطية بل كانت بورجوازية كما يقول كاريه دى مليرج (النظرية العامة فى الدولة - ١٩٢٤) . وكانت تحت سيطرة الأقلية الارستقراطية البورجوازية والملاك كما يقول ليون ديجى (شرح القانون الدستوري ـ ١٩٢٣) .
أما الطريق الفكري فكان يمثله بشكل خاص المحامي شارل لوي دي مونتسكيو . وأفكاره مستعارة كلية من الفكر الانجليزي . فقد زار انجلترا وحضر جلسات البرلمان الانجليزي وعاد ومعه كل مؤلفات الانجليز السياسية ثم اعتكف فألف كتابين عام ١٧٤٨ . احدهما عن النظام الدستوري الانجليزي والثاني " روح القوانين " الذي اشتهر به . ولقد نقل مونتسيكو وقدم الى الشعب الفرنسي قبيل الثورة نظرية في الحكم متفقة تماما مع مصالح الأقلية البورجوازية المطلقة في الحد من استبداد الملك من ناحية والحد من سيادة الشعب من ناحية أخرى ونلخصها فيما يلي :
١ـ يرسي مونتيسكيو – اولا - وقبل كل شيء نظرية الاستبداد على الوجه الذي نراه فيما بعد في النظم النازية والفاشية وهي ان القانون - اي فانون وبصرف النظر عما يمثله – هو مصدر ومقياس حدود الحرية . قال : " في الدولة ، اي في المجتمع حيت توجد قوانين لا يمكن ان تكون الحرية الا بان نستطيع عمل ما يجب أن نريده ، والا نكره على عمل ما لا يجب علينا ان نريده . ان الحرية هي حق عمل ما تسمح به القوانين ، واذا استطاع مواطن ان يفعل ما لا تجيزه تلك القوانين فلن تكون هناك حرية " (يوسف كرم - تاريخ الفلسفة الحديثة) .
٢- من الذي يحكم الدولة اذن ؟. ليس الشعب . يقول : " ان الشعب رائع في اختيار من يكل اليهم بعض سلطته . انه لا يستطيع ان يقرر شيئا الا تلك الأشياء التي لا يستطع تجاهلها وما يقع في نطاق حواسه . قد يكون ثمة شيء حسن في ان يشارك الإنسان في الحرب وينجح فيها فهو اذن قادر على ان يختار قائدا للحرب . كما يستطيع ان يعرف القاضي الصالح مما يلاحظه عند انصراف المتقاضين من محكمته . وهذا يكفي ليكون قادرا على اختيار القاضي . وقد تثيره دلالة الثروة لدى احد المواطنين وهذا يكفى ليحسن اختيار حاكم لمدينته . كل هذه أشياء ووقائع يستطيع أن يعرفها من الأماكن العامة أفضل مما يعرفها ملك في قصره . ولكن هل يستطيع ان يدير الأمر ويعرف اين وكيف ومتى يستغل الفرص السانحة : لا " (جورج جوسدورف – المفهوم الإنساني للحرية) . " ان هناك عيبا خطيرا في الجمهوريات القديمة وهو ان الشعب كان له الحق في ان يأخذ قرارات ايجابية ويطلب القيام ببعض الأمور التنفيذية أيضا ، وهو ما لا طاقة او كفاءة له به . ليس للشعب ان يتدخل فى الحكم الا بأن يختار ممثلين له وهو مناسب الى أقصى حد بالنسبة اليه . لانه إذا كان ثمة قلة من الناس يستطيعون معرفة القيمة الحقيقية للرجال الا أن كل واحد يستطيع بشكل عام أن يعرف ما اذا كان الذي اختاره أفضل من الأخرين ام لا ( ايسمان - المرجع السابق) .
٣- بالبناء على هذا يكون حق الحكم حكرا على الممتازين من الناس الذين يستطيعون وحدهم القيام باعبائه التي لا يستطيع الشعب نفسه ان يقوم بها وهم الاشراف (يوسف كرم ـ المرجع السابق وباستيد - المرجع السابق) . لان " الطبيعة البخيلة فى منح المواهب لم تمنح الا لشريحة قليلة من الناس رؤوسا قادرة على الحسابات المعقدة التي يتطلبها اصدار القوانين . وبالتالي فكما يلجا المريض الى طبيب ، ويلجأ المتقاضون الى محام ، يلجأ العدد الكبير من المواطنين في شؤون الحكم إلى من هم أكثر منهم مقدرة وكفاءة " (ايسمان المرجع السابق) .
٤ ـ ولكن اذا اجتمعت السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في جهة واحدة فثمة خطر على الحرية . إذ يخشى في هذه الحالة ان الملك ذاته ، او مجلس الشيوخ ذاته ، لا يصدر قوانين مستبدة الا لكي ينفذها تنفيذا استبداديا (رد سلوب - النظام ادبرلماني) . فحتى لا يستبد احد بالسلطة لا بد من سلطة اخرى توقف السلطة الأولى عند حدودها ( لافريير المرجع السابق) .
ومن هنا جاءت نظرية الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي تنسب عادة الى مونتسكيو وهي نظرية توزع السلطة بين " السادة " وتوازن بينهم بعيدا عن الشعب وفوقه .
البورجوازية تتواطأ :
٣٨ ـ في يوم ٢٤ يناير ١٧٨٩ وجه لويس السادس عشر الدعوة الى الطوائف العامة لتنعقد يوم ه مايو من نفس العام لمحاولة الحصول على الأموال اللازمة لإنقاذ فرنسا من الإفلاس . وجاء في الدعوة انه مطلوب من المجتمعين ان يقترحوا الوسائل والآراء البديلة بإقامة نظام ثابت ودائم لكل فروع الحكم على الوجه الذي يحقق سعادة الرعايا ورخاء المملكة . وقد انعكس موضوع هذه الدعوة على الكراسات التي زود بها الناخبون ممثليهم فتضمن اغلبها وضع دستور قبل الدخول في أية مناقشات حول الضرائب او الإعانات ( لافرير ـ المرجع السابق) . ومنذ اليوم الأول للاجتماع واجه ممثلو الطوائف مشكلة التصويت . فمن ناحية كانت تقاليد الاجتماع ان تجتمع كل طائفة على انفراد وتتخذ لنفسها قرارا منفردا فأصر ممثلو الطائفة الثالثة ، الذين كان عددهم ٦٠٠ أي مساويا لعدد النبلاء ورجال الدين معا ، على الاجتماع في مكان واحد والمناقشة معا . فلما احتج ممثلو النبلاء واغلب ممثلي رجال الدين بانهم " غير مفوضين " في هذا وامتنعوا أصدرت الطائفة الثالثة ثلاثة قرارات : إلغاء الوكالات الإلزامية بالنسبة للجميع ، وتخويل المجتمعين الى جمعية وطنية (اقترح ميرابو تسميتها جمعية ممثلي الشعب فرفض اقتراحه) لوضع الدستور ، وعدم الاعتداد بتخلف او امتناع ممثلي النبلاء وباقي رجال الدين عن الحضور ، واستندت في كل هذا الى أن الوكالات الالزامية باطلة لأن كل نائب لا يمثل دائرته فقط بل يمثل فرنسا كلها . وان الدستور ملك للأمة لان كل مصدرها الأمة . وانهم يمثلون ٠٩٦/' من الشعب وبالتالي لا يسمح لممثلي الأقلية بتعطيل عملهم . وقد قبل لويس السادس عشر كل هذا ـ بعد تردد ـ وطلب من ممثلي النبلاء ورجال الدين أن ينضموا الى الطائفة الثالثة ففعلوا . بذلك قامت الجمعية الوطنية لتكون مهمتها " تفسير وتمثيل الارادة العامة للأمة " .
وقد بدأت الجمعية الوطنية بإعلان لحقوق الإنسان والمواطن أصدرته يوم ٢٦ أغسطس ١٧٨٩ ثم أصدرت مجموعة من القوانين الدستورية المتفرقة . أعادت جمعها وصاغتها معا وتلي الدستور يوم ه أغسطس ١٧٩١ وبدأت مناقشته يوم ٨ أغسطس وتمت الموافقة عليه يوم ٣ سبتمبر، وصدق عليه الملك يوم ١٣ سبتمبر وتم القسم على احترام الدستور يوم ١٤ سبتمبر وانفضت الجمعية يوم ٣٠ سبتمبر ١٧٩١.
ونلاحظ انه ما بين إعلان حقوق الإنسان والمواطن وصدور الدستور كان قد مضى عامان تقريبا . وتفسر لنا هذه الملاحظات التناقض بين ما جاء في إعلان حقوق الإنسان والمواطن وبين أحكام الدستور .
فاعلان حقوق الإنسان ينص في المادة الثالثة منه على أن مبدأ السيادة يكمن أساسا في الأمة ، وليس لأية جهة أو فرد ان يمارس اية سلطة لا تنبع منها صراحة . ويضيف في المادة السادسة ان القانون هو التعبير عن الإرادة العامة ، ولكل المواطنين ان يساهموا بأنفسهم او بواسطة ممثليهم في عمليه . فكان الإعلان قد أرسى قاعدتين للتحرر من الاستبداد . القاعدة الأولى هي ان للشعب حق عمل القوانين بنفسه او بواسطة ممثلين وليس بواسطة ممثلين فقط . القاعدة الثانية هي ان هذا الحق (المشاركة فى اتخاذ القرار التشريعي) تصدر بالنسبة الى كل المواطنين بدون اية تفرقة .
وبذلك قرر حق الاقتراع العام بدون قيود مالية او غيرها .
فاذا رجعنا الى أحكام الدستور نجد انه قد خالف هاتين القاعدتين كليهما :
أولا: ففي المادة الأولى من القسم الثالث اعاد النص على سيادة الأمة فقال :
" السيادة واحدة غير قابلة للتجزئة او الانتقال او الاكتساب بالتقادم وهي تخص الأمة وليس لأي جزء من الشعب أو أي فرد أن يدعي ممارستها " . ثم أضاف فى المادة الثانية '' ان الأمة التي تنبع منها كل السلطات لا يمكن ان تمارسها الا بواسطة مفوضين . ان الدستور الفرنسي دستور نيابي . ونواب الأمة هم الهيئة التشريعية والملك ". هذان النصان أعادا من ناحية التركيز على ان السيادة " للأمة " التي هي شخص معنوي مستقل عن أفراد الشعب وجعلوا له السيادة . ثم قصر استعمال السلطة على الأسلوب النيابي واستبعد أي تدخل من الشعب ، وأخيرا جرد علاقة النيابة ذاتها من أية دلالة قانونية عندما اعتبر الملك نائبا وممثلا للأمة مع ان يتولى منصبه طبقا لقوانين الوراثة . يقول موريس ديفرجيه أن الجمعية قد " اخترعت " نظرية في التمثيل النيابي قائمة على أن السيادة لا تخص المواطنين منفردين ولكن تخصهم كجماعة باعتبارهم حقيقة متميزة ومنفصلة عن الأشخاص وان نظرية السيادة القومية هذه قد ابتكرتها البورجوازية الليبرالية التي كان هدفها التركيز على النيابة في مواجهة الارستقراطية من جهة وضد الشعب من جهة أخرى فاستبعدت بها المساهمة الشعبية فى الحكم (المؤسسات السياسية في القانون الدستوري) . ويصف كاريه دي ملبرج هذا التناقض بقوله : انه نتيجة التواء ظاهر انقلبت فكرة سيادة الإرادة العامة ضد ذلك الذي تصدر عنه حتى تحل السيادة البرلمانية محل سيادة الشعب وتسلب القرارات التشريعية من نسبتها المواطنين . وهو تناقض أكثر وضوحا من أن نفترض ان المؤسسين الدستوريين أثناء الثورة لم يفطنوا اليه . ولكن أولئك لم يكونوا واقعين تماما تحت تأثير الايديولوجيا المجردة التي نلومهم عليها عادة بل كانوا يريدون الوصول الى نتائج عملية فأقاموا النظام النيابي مقام الشعب المحكوم عليه بالسكوت . ودافع عن هذا سييز فقال : " ان ثمة خطاً جسيماً سائدا هو ان الشعب لا يجوز أن يفوض من السلطات الا تلك التي لا يستطيع ان يمارسها بنفسه . ويضيفون ان هذا المبدأ المزعوم حارس للحرية . ان مثل هذا مثل ان تؤكد للمواطنين الذين يريدون أن يكتبوا رسائل الى بوردو بأنهم يكونون أكثر احتفاظا بحريتهم لو انهم حملوها الى هناك بأنفسهم . وهم يستطيعون فعلا حملها ، بدلا من يكلوها الى المؤسسة العامة المكلفة بنقل البريد وينقل لافريير عن سنييبز أيضا قولا يكاد يكون مطابقا لما قاله مونتسكيو (ان أغلبية مواطنينا لا تتوافر لهم من المعرفة أو الوقت ما يلزم" ليريدوا" أن يغرروا بانفسهم في المسائل العامة ، وبالتالي فان " رأيهم هو ان ينيبوا عنهم من هم اقدر منهم بكثير في اتخاذ القرارات ( كاريه دي مالبرج - مجلة القانون العام - ١٩٣١) ولافريير- المرجع السابق) .
أكثر من هذا وضوحا في مخالفة اعلان حقوق الإنسان ما تضمنه الدستور من أحكام بالنسبة لحق الاقتراع . فنص المادة السادسة من إعلان حقوق الإنسان لا يدع مجالا لأي شك في أن حق الاقتراع عام وغير مقيد لكل المواطنين . وقد كان هذا الموضوع أكثر الموضوعات مجالا للصراع بين التيارت الفكرية - والسياسية السائدة في الجمعية – الوطنية ؛ وانصبت المناقشة على ما اذا كان الاقتراع حقاً ام انه مجرد وظيفة . القول بأنه حق يعني من ناحية ان لكل مواطن ان يساهم مباشرة في التشريع ومن ناحية أخرى انه لا يمكن ان بحرم منه لأي سبب كان . والقول بأنه وظيفة يعني انه يستمده من الدستور ويمارسه بشروطه .
وقد دافع عن الرأي الأول كل من روبسبيير وبيتون ورددا - في الواقع - ما كان قد جاء في إعلان حقوق الإنسان ذاته . قال روبسبير : " ان كل المواطنين مهما كانوا لهم الحق في أن يساهموا في كل درجات التمثيل فاذا كان الدستور يسند السيادة الى كل الشعب فان لكل فرد على هذا ان يساهم في صنع القانون الذي يخضع له . والا فانه لن يكون صحيحا القول بان كل الناس متساوون في الحقوق وان كل شخص هو في الوقت ذاته مواطن . وقال بيتون : " ان كل الأشخاص الذين يتكون منهم المجتمع لهم حق مقدس وغير قابل للتنازل عنه للمساهمة في صنع القانون . فيجب الأ يحرم أي إنسان من هذا الحق تحت أية ذريعة في أية حكومة " .
ودافع عن الرأي الآخر برناف فقال : " ان الانتخاب ليس الا وظيفة عامة ليس لأي شخص الحق فيها وان المجتمع يخولها لمن يرى فيه مصلحة فهي ليست حقا " . وعندما بدا ان الجمعية ستقيد حق الاقتراع بدفع ضريبة توازي عشرة ايام عمل ، اعترض بارناف وأصبح أكثر صراحة فقال : " يجب ان يكون الناخبون من الطبقة الوسطى ، واني اسأل كل من يسمعني هل تتكون الطبقة الوسطى من الذين يدفعون ضرائب توازي عمل عشرة أيام ؟ وهل يكفي هذا لتوفير درجة معينة من أمن المجتمع " . ثم وضع بارناف التفرقة التي سيرددها من بعده الفقيه الفرنسي ايسمان وهي ان الفرق بين النائب والموظف العام هو ان النائب يريد للأمة في حين أن الموظف العام يعمل لها ( لافرير - المرجع السابق وايسمان - المرجع السابق) .
انتصر الفريق الثاني ، ولم يأخذ دستور ١٧٩١ بالاقتراع العام كما جاء في إعلان حقوق الإنسان بل قيد حق الاقتراع فى المدن التي يزيد عدد سكانها عن ٦٠٠٠ شخص بأن يكون مالكا او منتفعا بملك يدر دخلا سنويا مساويا لعائد ٢٠٠ يوم عمل ، او مستأجراً لمنزل ذي دخل يعادل ١٥٠ يوم عمل . أما في المدن التي يقل عدد سكانها عن ٦٠٠٠ شخص فيشترط ان يكون مالكا لما يدر دخلا سنويا مساويا ١٥٠ يوم عمل او مستأجرا لذي دخل يعادل ١٠٠ يوم عمل . اما في الريف فيشترط ان يكون مالكا او منتفعا بأرض تدر دخلا سنويا يعادل ١٥٠ يوم عمل او أن يكون فلاحا زارعا – وهنا المفارقة العجيبة - لأرض تدر دخلا سنويا يعادل ٤٠٠ يوم عمل . أي كان على الفلاح ان يزرع ارض ثلاثة من الملاك المتمتعين بحق الانتخاب ليكون له هو حق الانتخاب .
هذا كله بالإضافة الى ان يكون الانتخاب على درجتين ، وان يكون سن الناخب ٢٥ سنة فأكثر وان يدفع ضرائب تساوي ثلاثة ايام عمل ، وان يكون مسجلا فى سجلات الحرس الوطني ، وان يكون قد اقسم يمينا معينا ، وأن يكون مقيما فى ذات المكان أكثر من سنتين والا يكون خادما او متهما او هاربا او معسرا ....
في مقابل هذا احتفظ دستور ١٧٩١ للملك بحق الاعتراض على القوانين ورئاسة السلطة التنفيذية ، وقيادة الجيش والسهر على الأمن الخارجي للمملكة ، وبحقه وحده فى ممارسة العلاقات الدبلوماسية وفي ابرام المعاهدات وفي شؤون الحرب . (مورو شرح القانون الدستوري - ١٩٢١)
يتضح مما سبق ؛ ان الجمعية الوطنية التي استطاعت ان تسجل الإرادة الشعبية في إعلان حقوق الإنسان بمجرد انعقادها في عام ١٧٨٩ لم تلبث خلال انعقادها الذي استمر أكثر من عامين ان خالفت المبادئ التي أعلنتها وصاغت دستورا هو اقرب الى المصالحة مع الملكية منه إلى المصالح الشعبية . وانعكسذلك على موقفها من الديمقراطية فاستبدلت بالشعب شخصاً ابتكرته هو الأمة لتسند اليه السيادة ، واستبدلت بالشعب النواب لتكل اليهم حق التشريع ، فاستبدلت بالشعب شريحة قليلة منه أعطتها حق الانتخاب واشترطت أن يتوفر فيهم ما يهم الطبقة الوسطى (البورجوانية) قبل الحرية وهي الملكية ، فكانت جمعية البورجوازية المالكة كما قال الفقيه بول باستيد (المرجع السابق) .
والشعب يثور :
٣٩- بعد أن صدر دستور" التواطؤ " بين البورجوازية والملك وليس قبله ، قامت الثورة الفرنسية . ولقد قامت الثورة ضد هذا الدستور وألغته ووضعت دستورا ديمقراطيا ثوريا ، وسنعرف فيها بعد ان البورجوازية عادت فخانت الثورة وانقلبت عليها وألغت دستورها . ثم زيفت التاريخ فعلمت أجيالا متتالية على مدى اكثر من قرنين ان الثورة قد بدأت عام ١٧٨٩، وان دستور ١٧٩١ كان دستورها . وان امثال ميرابو وسييز ... كانوا ثوارا .
كان دستور ١٧٩١ قد نص على انتخاب جمعية تشريعية فلما تم الانتخاب وجدت نفسها في مأزق دستوري . اذ ان المهاجرين من النبلاء ورجال الدين كانوا قد استعدوا على وطنهم كل قوى أوروبا التي كونت حلفا مضادا للثورة . فوافقت الجمعية التشريعية على مشروع قانون ضد المهاجرين ولكن الملك حال دون إصداره واستغل حق الاعتراض (الفيتو) الذي احتفظ به دستور ١٧٩١. كان ذلك يوم ١٢ يونيو ١٧٩٢. وبعدها اندلعت الثورة الفرنسية واقتحم الشعب قصر التويلري وهو يهتف " يسقط السيد فيتو " يوم ٢٠ يونيو ١٧٩٢. ولم تتوقف الثورة بعد ذلك . من هنا قلنا ان الثورة الفرنسية بدأت ضد دستور ١٧٩١. فهو ليس من دساتير الثورة . ولما استفحل الأمر قررت الجمعية التشريعية ان تحل نفسها وأصدرت يوم ١٠ أغسطس ١٧٩٢ أربعة قوانين مؤقتة :
الأول ايقاف الملك عن ممارسة سلطاته الى أن تقرر في شأنه جمعية أساسية منتخبة . والقانون الثاني يسند السلطة التنفيذية الى وزارة من ستة أعضاء . والقانون الثالث يجعل قوانين الجمعية نافذة بدون حاجة الى تصديق الملك . والقانون الرابع ـ وهو يهمنا أساسا - يقرر حق الاقتراع العام لكل الفرنسيين البالغين ٢١ سنة المقيمين في فرنسا منذ عام ويعيشون من دخل عملهم . وتم انتخاب الجمعية الأساسية وانعقدت يوم ٢١ سبتمبر ١٧٩٢ وفيها كان الشعب الفرنسي ممثلا الى اقرب صورة ، فبدأت اجتماعها بقرارين هامين نعتبرهما بداية الثورة الفرنسية .
الأول : إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية . والثاني : لا يمكن أن يوجد دستور الا ذلك الذي يقبله الشعب .
اليمين واليسار:
٤٠- من أماكن جلوس أعضاء الجمعية الأساسية تلك انتقلت الى الأدب السياسي كلمات ذات دلالة على المواقف . فعلى يمين منصة الرئاسة كانت تجلس مجموعة من " البلديات " الوافدين جميعا من المنطقة الزراعية المسماة " جيروند " . وكانوا بحكم أنهم ـ او اغلبهم ـ من ملاك الأراضي الزراعية التي تحملت عبئا جسيما من الضرائب الملكية ضد تدخل الدولة ( ليبراليين) ولكنهم في الوقت ذاته يخشون الشعب العامل فى مزارعهم (بورجوازية ريفية) . ولقد أطلق عليهم اسم المنطقة التي جاءوا منها " الجيروند " ( مركزها مدينة بوردو ) ، وأطلق عليهم اسم الجهة التي كانوا يجلسون فيها فكانوا " يمين ". وما تزال هذه الكلمة تطلق على كل أعداء تقدم الشعوب .
وكانت المقاعد العليا وما يلي منصة الرئاسة مشغولة بأعضاء من صغار المنتجين والمثقفين الثوريين . ولانهم كانوا يطلون على قاعة الاجتماع من أعلى كما لو كانوا فوق قمة جبل أطلق عليهم اسم " المونتاني " (الجبليين) . ولأنهم كانوا يجلسون على يسار المنصة أطلق عليهم اسم " يسار ". وما تزال هذه الكلمة تطلق على كل أنصار تقدم الشعوب .
فيما بين هؤلاء وهؤلاء كانت مقاعد الوسط مشغولة بالمحايدين ، والمترددين والانتهازيين وفاقدي المعالم كالأرض المسطحة فأطلق عليهم " البلان " (المسطحون) . غير أن الاسم الذي كان يطلقه عليهم زملاؤهم من اليمين و اليسار هو " المار " او المستنقع . وما تزال السطحية والعفونة اسماء صادقة الدلالة على المواقف المحايدة والمترددة والانتهازية حتى الآن .
الاعلان الثوري:
٤١- وفي ١١ أكتوبر ١٧٩٢ تشكلت لجنة لوضع الدستور كان أغلب أعضائها من الجيروند وعلى رأسها كبيرهم كوندورسيه فقدمت في ١٥ فبراير ١٧٩٣ مشروع دستور قريب من دستور ١٧٩١. فها ان أعلن المشروع حتى تجددت الثورة يوم ٣١ مايو ١٧٩٣ وأعيد تشكيل لجنة الدستور بأن انضم اليها خمسة أعضاء آخرون وتولى رئاستها هيرول دي سيشيل من حزب اليسار فوضعت الدستور الجديد يوم ١٠ يونيو ١٧٩٣ وتمت الموافقة عليه يوم ٢٤ من الشهر ذاته ثم عرض على الاستفتاء الشعبي فوافق عليه الشعب بأغلبية كاسحة يوم ٩ أغسطس ٠١٧٩٣ وهي أول مرة في تاريخ فرنسا يعرض الدستور على الاستفتاء الشعبي . وقد تضمن الدستور قسمين : الأول إعلان ثوري لحقوق الإنسان يختلف عن الإعلان البورجوازي الذي صدر عام ١٧٨٩ . الثاني أول دستور ديمقراطي حقا فيتاريخ أوروبا . يقول إعلان حقوق الإنسان : ان غاية كل مجتمع هي تحقيق السعادة المشتركة لأعضائه .. ووظيفة الحكومة ان تضمن للإنسان التمتع بحقوقه الطبيعية غير القابلة للسقوط (مادة ١ ) هذه الحقوق هي المساواة أمام القانون (مادة ٣) والقانون هو التعبير الحر الرسمي عن الإرادة العامة (مادة ٤) ومن حق كل مواطن ان يشغل الوظائف العامة (مادة ه) والحرية هي المقدرة على فعل ما لا يضر بحقوق الغير (مادة ٦) وتتضمن حرية التعبير عن الفكر أو الرأي اما عن طريق الصحافة او غيرها من الطرق ، وحرية الاجتماع وحرية العقائد (مادة ٧) والأمن حق من حقوق الإنسان وهو يعني حماية المجتمع للأشخاص والحقوق والملكية (مادة ٨) وخاصة الحماية ضد القهر الذي يفرضه أولئك الذين يحكمون (مادة ٩) فالحرية الفردية مكفولة ضد التصرفات الاستبدادية (المواد ١٠ ـ ١٥) وحرية الملكية هي حق الإنسان في ان يستعمل ويتصرف ، طبقا لما يريده ، في أمواله ودخله وثمرة عمله او مهنته (مادة ١٦) وبالتالي ليس هناك حظر على أي مواطن فى أن يمارس أي عمل أو نشاط فكري او تجاري او مهني (المادة ١٧) الا ان إنسانية الإنسان غير قابلة للمساس بها فلا يعترف القانون أبدا بأن يعمل إنسان خادما لإنسان آخر ( المادة ١٨) . وترجع أهمية هذه المادة الخاصة بالخدم والمناقضة لما نص عليه دستور١٧٩١ من حرمان الخدم من حق الانتخاب ، الى أن أقنان الأرض الذين كانوا طائفة كبيرة ومتميزة في ظل نظام الإقطاع والذين كانوا ملزمين في مواجهة أمراء الإقطاع بالبقاء في الأرض قد تحول عدد كبير منهم ، حتى بعد إنهاء العرف الإقطاعي ، الى تابعين شخصيين للنبلاء . وهذا هو المقصود بعلاقة الخدمة لان الاقنان ، منذ البداية وحتى ان تحولوا الى خدم ، كانوا محرومين من أي حق سياسي ( باستيد - التوازن الدستوري) .
نرع الملكية يفترض الضرورة الاجتماعية ولا يجوز نزعها الا فى مقابل تعويض عادل يدفع مقدما (المادة ١٩) لا يجوز فرض الضرائب الا بموافقة المواطنين (المادة ٢٠) ان تدخل المجتمع لحماية المواطنين دين مقدس (المادة ٢١) وبالتالي فعلى المجتمع أن يشجع مقاومة الشعب للاستبداد (المادة ٢٢) والضمان الاجتماعي حق يكفل به المجتمع لكل فرد التمتع بحقوقه ، والمحافظة عليها وهو قائم على أساس من السيادة القومية (المادة ٢٣) ولا يمكن ان يتحقق هذا الا بالفصل بين السلطات ومسؤولية كل الموظفين ( المادة ٢٤) تكمن السيادة في الشعب وهي واحدة وغير قابلة للانقسام او الاكتساب بالتقادم أو التنازل (المادة ٢٥) ولا يجوز لاي جزء من الشعب أو فرد أن يستغلها لنفسه (المادة ٢٦ ـ ٢٧) وللشعب دائما حق إعادة النظر وتعديل دستوره (المادة ٢٨) ولكل مواطن حق مساو لغيره في أن يسهم في وضع القانون وفي أن يعين وكلاء عنه او مندوبين (المادة ٢٩) والوظائف العامة مؤقتة وتتضمن مسؤولية من يتولاها (المادة ٣٠ - ٣١) ولا يجوز في أية حالة منع او إيقاف حق الشكوى وتقديم العرائض (المادة ٣٢) وحق مقاومة الاستبداد هو نتيجة لكافة حقوق الإنسان الأخرى (المادة ٣٣) ويكون الاستبداد واقعا على المجتمع كله كلما مس فردا واحدا من أعضائه كما يكون واقعا على كل فرد فيه اذا مس المجتمع كله (المادة ٣٤) وعندما ما تخرق الحكومة حقوق الشعب تصبح المقاومة هي أقدس الحقوق وألزم الواجبات بالنسبة للشعب كله ولكل فرد فيه (المادة ٣٥) .
ثم جاء الدستور لتقنين هذه المبادئ . وكان على الجمعية الأساسية ان تنفض ليبدأ انتخاب المؤسسات الدستورية على أساس الدستور الجديد لولا " جبهة المستبدين " .
جبهة الاستبداد :
٤٢- لولا اننا نعرف معرفة اليقين ان التاريخ لا يعيد نفسه لقلنا مع القائلين ان تاريخ الاستبداد قد أعاد نفسه عشرات المرات ، ريما لأن الاستبداد هدم والهدم لا تحتاج الى ابداع انساني . انه كالزلازل التي لم تتغير قوانين حركتها المدمّرة منذ أول زلزال . اننا نتأمل الآن ما حدث للثورة الفرنسية فنكاد نرى رأي العين تعاون المستبدين في كل انحاء الارض ، ومن كل اتجاه ، وتحت مختلف الشعارات ، على ارادة الشعوب وتصفية ثوراتها قبل ان يكتمل لها النصر . وهو تعاون لا يحتاج الى وحدة المنطلقات الفكرية ، ولا يحتاج الى اتفاق على الاسلوب ، وقد يكون بين قوى متعادية اصلا ، ومع ذلك لا تلبث غايتهم الموحدة ، الاستبداد في الشعوب ، أن تجمعهم في جبهة واحدة وتنسج خيوط التعاون بين تحركاتهم ، بحيث تسهّل حركة بعضهم حركة البعض الآخر . فتكاد كل قوة منهم أن تكون مسخرة لخدمة القوى الاخرى او تكاد تكون كل قوى الاستبداد مسخرة للقيام بادوار مقسمة فيما بينها ، وهي تدري - او وهي لا تدري .
لو اردنا ان نستعير التعبيرات المتداولة فى الأدب السياسي المعاصر لقلنا انه ما ان سقط الاستبداد فى فرنسا حتى تعاونت ثلاث قوى على اعادة فرضه على الشعب الفرنسي فيما يمكن أن يسمى ثورة مضادة تساندها " الامبريالية العالمية " و" اليسارالطفولي " و" الرأسمالية الاقليمية ".
كان ما يقابل الامبريالية العالمية المعاصرة تخالف الرجعية الاوروبية بقيادة اكبر دولة استعمارية فى ذلك الوقت (انجلترا) . لقد انضم الاسطول الانجليزي الى حلف من الجيوش الروسية والبروسية والنمساوية بقيادة الملوك والامراء ورجالهم لتصفية الثورة تحت شعارات عدة اكثرها زيفا الدفاع عن الاسرة المالكة فى فرنسا ، وحقيقتها الدفاع عن الاستبداد فى المعسكر الاوروبي الرجعي ضد رياح التحرر الشعبي ، والدفاع عن المستعمرات ضد منافسة البورجوازية الفرنسية . ولقد عرفنا من قبل كيف كانت الثورة الفرنسية هي الحجة التي تعلل بها عتاة المستبدين فى انجلترا من أمثال بيورك وبلاكستون ..
وكان يقابل " اليسار الطفولي " جماعة من المثقفين الذين لا يستغلون الشعب ولا يتاجرون بقضاياه بل " يراهنون " بمصيره فى " بورصة " المزايدات السياسية بجرأة رعناء لا يقبل حتى محترف المضاربات فى السوق البورجوازي تعريض بضاعته التافهة لمخاطرها . كانت تلك الجماعة ، التي لم تبرز مستقلة بدورها الا بعد أن اطمانت إلى نجاح الثورة ، تجتمع للتآمر في دير لطائفة الدومينيكان المعروفة ايضا باسم طائفة اليعاقبة فحملوا اسمها . فما ان وضعت الثورة دستورها الديمقراطي وأصدرت اعلانها الشعبي ، وآن للجمعية الاساسية ان تنفض ليبدأ تشكيل المؤسسات الديمقراطية ، حتى انقضّت تلك الجماعة لمنع الجمعية من الانفضاض بالقوة ، بدعوى مواجهة الغزو- الخارجي الذي لم يكن جديدا وكانت الثورة قد الحقت به الهزيمة في معركة فالمي (٢٠ سبتمبر ١٨٩٢) بعد أن كانت الجيوش الغازية قد وصلت الى بعد ١٢٠ ميلا من باريس ، وردته عن الحكومة في معركة جيماب (٦ نوفمبر ١٨٩٢) . وكونت تلك الجماعة من قيادتها لجنة اسموها ( لجنة الامن العام ) ( يهوى اليسار الطفولي ويتقن صياغة الاسماء والشعارات) ثم حولوا الجمعية الى محكمة لا يجوز للمحامين ان يحضروا أمامها " لان المحلفين الوطنيين هم المدافعون عن المواطنين المتهمين بغير حق " . وتبني احكامها على أية أدلة وخاصة ما اسموه "الادلة المعنوية" وتحكم بعقوبة وحيده هي الموت . بدأوا باعدام الملك المخلوع بفارق صوت واحد (وافق على الاعدام ٣٦١ واعترض ٣٦٠) ، ثم بدأت " المقصلة " تجز رقاب الذين لم يوافقوا على الاعدام ثم المعارضة ايا كانت ، ثم المشتبه فى انهم معارضة ، ثم المحتمل ان يكونوا معارضة . وهكذا اغرقوا فرنسا في بحور من الدماء . كانت حصيلة الرؤوس ١١٠ (سبتمبر ١٧٩٣) ١٨٠ (اكتوبر) ٥٠٠ (نوفمبر) ٠ ٣٣٨ (ديسمبر) ٣٥٠٠ (يناير ١٧٩٤) ٨٠٠ (فبرا ير) ٦٠٠ (مارس) ١١٠٠ (ابريل) ١٣٠٠ (مايوـ يونيو) ٩٣٥ (يوليو) . من هذا العدد الاخير كان ٤٥ قد اعدموا يوم ٢٧ يوليو لمعارصتهم روبسبير رئيس لجنة الامن العام . بعدها بثلاثة ايام أي يوم ٣٠ يوليو اعدم روبسبير و١٠٤ من انصاره . كان كل هذا حصاد الاستبداد الارهابي من رؤوس المواطنين العاديين الذي قادته منظمة اليسار الطفولي (كميونة باريس) . ولقد بدأ استبداد اليسار الطفولي بإجراء عابث هو تغيير التقويم السائد واختراع تقويم جديد واسماء جديدة لاشهر السنة (ه اكتوبر ١٧٩٣ )" وما زال العبث يحمل اليسار الطفولي الى مواقع جديدة الى ان تجاوز حد ود العبث الى التخريب الاجتماعي حين دس ايديه الملطخة بالدماء في تاريخ الامة وتراثها وقيمها الروحية واخترع للشعب دينا جديدا اسماه " الدين الوطني " (٧ مايو ١٧٩٤) فطفح الكيل وسقطت رأس النبي الجديد روبسبير تحت المقصلة . وبدأت موجة الارهاب المسمى " الابيض " ليتجرع اليسار الطفولي مرارة الموت من ذات الكأس الذي تجرعه الشعب على يديه .
البورجوازية تنفض :
٤٣- كان أغلب ضحايا الارهاب اليساري في مراحله الاخيرة من القادة اليساريين مثل هيبر ودانتون وديهولان الذين طالبوا بايقاف الارهاب وتطبيق دستور الثورة (دستور ١٧٩٣ ) . ولقد كان هذا الدستور هو مطلب المقاومة الشعبية التي تحولت الى شبه حرب اهلية في غرب وجنوب فرنسا ومدنها الكبرى مثل ليون ومرسيليا وطولون . وكان من اثار الارهاب والمقاومة والفوضى انهيار القيمة الشرائية للعملة الجديدة التي اخترعها الارهابيون ، فامتناع الفلاحين عن بيع حاصلاتهم ، فمصادردها ، فالمقاومة ، فالاعدام ... الى آخر دائرة الاستبداد الجهنمية التي ما ان تبدأ حتى تتداعى حلقاتها . فلما جاء الارهاب اليميني صفى ما تبقى من قوى اليسار في حركة ابادة دموية لا تقل بشاعة عن الارهاب اليساري .
هكذا صغيت القوى اليسارية نتيجة تعاون فعلي بين القوى المعادية للشعب من أقصى اليمين واقصى اليسار فحرث الطرفان الارض لتزرع البورجوازية استبدادها . اذ بعد ان سقط اليعاقبة وصفي اليساريون لم يبق من أعضاء الجمعية الاساسية الا البورجوازيون او المرتدون او الانتهازيون (اهل المستنقع) فوضعوا دستورا عادوا فيه الى مبادئ دستور ١٧٩١ (دستور التواطؤ) ، ألغى الاقتراع العام وجعله على درجتين والغى الاستفتاء وقيد حق الانتخاب فاشترط لممارسته دفع ضرائب مباشرة اذ ـ كما جاء فى تقرير الدستور ـ " يجب ان يحكمنا الافضل علما
والأكثر اهتماما بالمحافظة على القوانين وهؤلاء لا يوجدون الا بين الملاك " ، فاقتصرت الحرية السياسية على افراد البورجوازية ناخبين ومنتخبين وأصبح لها وحدها سلطة اخذ القرار والتشريع "للغير" ( للشعب) .
فقام الشعب يوم ه اكتوبر ١٧٩٥ بآخر محاولاته الثورية لمقاومة الاستبداد البورجوازي واسترجاع دستور ١٧٩٣ . ولكن البورجوازية كانت قد جهزت نفسها واعدت عدتها للاستيلاء على السلطه نهائيا ، فتقدمت قواتها وسحقت الثورة بقيادة ضابط اسمه نابليون بونابارت ... بطل البورجوازية ورمز استبدادها . ومنذ ذلك التاريخ ، وحتى الآن ، ما يزال الاستبداد البورجوازي مفروضا على كثير من الشعوب .
الاستبداد البورجوازي :
٤٤- حين كانت فرنسا تحتفل بالعيد المئوي للثورة قال احد الكتاب معبرا عن المفهوم البورجوازي للديمقراطية : " ان الدولة الديمقراطية تستلزم ان يكون الحكم للصفوة . ويتوقف مستقبل الحكم الشعبي على شرط صريح هو ان تكتسب الجماهير الديمقراطية بالتعليم والممارسة فى النظم الحرة الوعي اللازم لكي تبرز من بين صفوفها اكثر" العناصر نقاء وحيوية وتعهد اليها بالسلطة " (فيرنيل- مبادىء١٧٨٩) . حق اتخاذ القرارات التي تنصب على المجتمع كله وتمس حياة كل فرد فيه هو ـ اذن ـ للصفوة طبقا للمفهوم البورجوازي .
أما عن الانتخاب والاقتراع فلم يحدث ابدا أن قال أي مفكر أو كاتب أو فيلسوف بورجوازي ان "النواب " يعبرون عن ارادة الشعب . فلم يحدث أبدا أن جرؤ واحد منهم على نقض ما قاله ووسو : " لا ببكن أن يكون هناك تمثيل في السيادة لنفس السبب الذي يجعلها غير قابلة للتنازل فهي تكون اساسا من الارادة العامة . والارادة العامة (ارادة الشعب) لا يمكن تمثيلها اطلاقا فهي اما أن تكون هي نفسها او لا تكون وليس هناك حل وسط " (العقد الاجتماعي – الفصل الخامس عشر) . انتهى ادعاء تمثيل الشعب منذ ان انتهى نظام الوكالة المكتوبة فى بداية صعود البورجوازية . ان النواب يمثلون الامة . ما الامة اذن ؟ اولا هي مجرد فكرة فلا تختلط بدلالة كلمة الامة كما نعبر عنها فى الأدب القومي حيث تطلق على تكوين اجتماعي تاريخي من البشر والارض والحضارة .. قال بارتلمي أكبر فقهاء البورجوازية فى كتابه المطول عن القانون الدستوري " ان رجال القانون قد اعادوا صياغة المبادئ الديمقراطية التي قال بها روسو وأكدتها الوثائق الدستورية للثورة (يعني دستور ١٧٩٣) بأن جعلوا من الامة شخصا قانونيا تسند اليه السيادة وهو شخص متميز عن الافراد الذين يتكون منهم " كان السبب فى ظهور فكرة سيادة الامة ان البورجوازية الليبرالية قد وجدتها سلاحا صالحا لتحد من سيادة الملك والنبلاء من ناحية وتحرم الشعب من ممارسة اية سلطة من ناحية اخرى كما يقول – بحق - موريس دوفرجيه (المؤسسات الدستورية فى القانون الدستوري - ١٩٧٠) كانت فكرة ابعاد الشعب بعناية وعناء عن ممارسة سيادته لحساب سيادة البورجوازية (جاريجولا جرانج - الازدواج الدستوري - مجلة القانون العام - ١٩٦٩) . ويقول الفقيه الكبير كاريه دي ملبوج فى كتابه " مساهمة فى نظرية الدولة " : " ان مايميز النائب انه يريد ويقول لحساب شخص أخر غيره . وبالتالي فإن كل نيابة تفترض بالضرورة شخصين ، احدهما الاصيل سابق وفوق الثاني النائب .
ان هذا هو مدلول كلمة النيابة ذاتها . فهي تعني ان واحدا يمثل الآخر ، وهو ما يتضمن ان هناك شخصا سابقا قابلا للتمثيل النيابي ... بناء على هذا يمكن القول بأن النظام المسمى نظام تمثيل نيابي ليس نظام تمثيل نيابي بالمعنى الصحيح للكلمة . لأن اعضاء الهيئة التشريعية لا يمكن اعتبارهم ممثلين لا للمواطنين ولا للامة . فمن ناحية هم لا يمثلون ارادة المواطنين لانهم - فيما عدا علاقة الانتخاب - يعتبرون مستقلين استقلالا تاما عن المواطنين . وعندما يوجد شخص له مطلق الحرية فى أن يريد لحساب آخر بدون ان يكون لهذا الأخر أية وسيلة لفرض ارادته هو ، لا يمكن القول بأن ثمة نيابة عن ارادة هذا الآخر او تمثيلا لارادته . ولا تكون ثمة فى الواقع الا ارادة ذلك الذي يستطيع ان يقرر بمطلق حريته ما يريد . فالنواب لا يمثلون ارادة سابقة للمواطنين لان هذا النظام لا يسمح للمواطنين بأن يريدوا غير ما يريده " النائب ". ومن ثم لا يمكن ان يقال ان ارادة المواطنين موضوع تمثيل او نيابة في نظام يعتبر ارادتهم غير موجودة اصلا ومن ناحية ثانية فان النواب لا يمثلون الامة . لان الامة فكرة لا تتجسد فى اشخاص الا بانتخاب النواب . فهي غير سابقة الارادة على ارادتهم . فتشكيل هيئة تشريعية او اية سلطة أخرى لها سلطة الارادة للامة هو تشكيل ليست غايته تمثيل ارادة الامة او شخصها ولكن تجسيد هذه الارادة والشخصية . أي ان النواب عن الأمة لا يمثلون ارادتها بل هم يخلقون الأمة فى أشخاصهم وارادتهم ... انتهى .
٤٥- حكم البورجوازية هو اذن حكم الأقلية الصفوة . مقطوع الصلة بارادة الشعب . ولكن بماذا كانوا صفوة . ما الذي يميزهم ؟ يقول موريس ديفرجيه : " ان صعود البورجوازية فى القرن التاسع عشر قد خلق انطباعا بأن السلطة ستقوم فيما بعد هذا البروز على أساس المال وان ذلك كان تطورا . ولقد كان هذا الانطباع نتيجة لكون " محدثي الثراء " البورجوازيين التافهين المظهريين اجتماعيا قد حلوا محل الطبقة الغنية البائدة التي كان افرادها متميزين بالاصالة والرقي . كما كان راجعا ايضا الى حقيقة ان الارستقراطية كانت تقيم سلطتها على الثروة والفروسية معا . وقد غطت الفروسية وقيمها البطولية الى حد كبيرعلى عنصر الثروة . واخيرا فقد كان هذا الانطباع راجعا الى أن البورجوازية قد اقامت نظاما " للقيم " على أساس من الثروة ايضا ولكنه فى هذه المرة صريح في أن المال هو مصدر القوة وليس مميزا لها فقط . لقد كانت الارستقراطية تعشق الثروة ولكنها لم تكن تتفاخر بها علنا على الأقل . اما البورجوازية فتتباهى بوقاحة بأن المال هو كل شيء ولا تكف عن تمجيده (علم اجتماع السياسة - ١٩٦٨) .
ويقول شومبيتر : " ارتقت الطبقة البورجوازية التجارية والصناعية على أنقاض السادة الاقطاعيين بفضل مهارتها فى شؤون المال . وقد صيغ المجتمع البورجوازي فى شكل اقتصادي محض . وارسيت اسسه وقامت عمده وبني هيكله من مواد اقتصادية . أما البناء بمجموعه فهو بناء حياة اقتصادية الخطأ فيها خطأ مالي والجزاء فيها جزاء مالي . يمتاز فيها من يكسب ماليا ويخطئ فيها من يخسر ماليا " ( الرأسمالية والديمقرا طية ـ ١٩٤٣) .
هذه القيم والمقاييس البورجوازية التي يقوم عليها استبداد البورجوازية ليست إلا الصيغ الحديثة لذات القيم والمقاييس التي نشأت بها وانشأتها طائفة " المعفرة اقدامهم "- التي تحدثنا عنها من قبل . المال هو مصدر الامتياز ومقياس الاحترام وأساس تولي السلطة او أساس الاستبداد بها .
٤٦- ولكنه استبداد " متحضر " . لأن البورجوازية تقر للناس بأنهم أحرار ، وأنهم متساوون أمام القانون وأصحاب حقوق طبيعية في حرية العقيدة والرأي والنشر وأن لهم جميعا حقوقا متساوية فى المساهمة فى اتخاذ القرارات التي تنصب على المجتمع كله وتمس حياة كل فرد فيه . وتصوغ البورجوازية كل هذه القواعد فى دساتير تضفي عليها صفة القدسية . ثم انها لا تميز بين الناس تبعا لأسرهم . ان العلاقة الأسرية المجردة من المنفعة والتي قد تزيد من سعر تكلفة " الحياة " عبء لا يطيقه البورجوازي . ولا تميز بين الناس تبعا لعملهم فهي تستأجر العلماء والمفكرين كما تستأجر العمال سواء كلهم فى المنفعة . ولا تميز بين الناس تبعا لعلمهم فهي تستأجر العلماء والمفكرين كما تستأجر العمال سواء ، كلهم فى خدمتها . ولا تميز بين الناس تبعا لانتمائهم الوطني فحيث لا يوجد ربح لا يوجد وطن . ولا يستحق الوطن الا من يملك المال . وهي لا تميز بين الناس تبعا لأديانهم فان فكرة الدين عند البورجوازية فكرة متخلفة فلا غرو ان يكون صعود البورجوازية هو صعود " العلمانية " ، والبورجوازية تسمي كل هذا " المساواة فى الفرص" ثم تطلق الناس فى حلبة الحياة ليلقى كل " فرد " مصيره تبعا لما تسفر عنه " المنافسة الحرة " .
وفى كل مكان وزمان تسفر مباراة المصير بين الناس عن فوز وبقاء وتدعيم استبداد البورجوازية ، لماذا ؟ لانه قبل ان تبدأ المنافسة الحرة تكون البورجوازية قد سلبت أغلب الناس الامكانات الفعلية للاشتراك فى السباق او الفوز فيه . تكون قد استحوذت على ما يمكن به ، وبه فقط ، ان تتحول الحرية من كلمة الى فعل ؛ وان تتحول به الحقوق من رخص عاطلة الى ممارسة فعلية ، وأن تتحول به المساواة من وهم الى حقيقة . تلك هي المساواة الاقتصادية . واذ تكون البورجوازية ممتازة اقتصاديا تستأثر بالسلطة وتستبد بها دون الشعب .
ان المنافسة الحرة بدون مساواة فى القوة " الاقتصادية " ليست أكثر ولا أقل من حرية الاحتكام الى القوة "الاقتصادية" فى حسم نتيجة المنافسة . ان عنصر المساواة الشكلي المتوفر لكل المتنافسين يعني - فقط أنهم يبدأون السباق من نقطه ثابتة واحدة . وليست وحدة نقطة الانطلاق هي العامل المؤثر في تقدمها او تخلف المتسابقين خلال الحركة ، فلا يبقى عاملا مؤثرا الا ما يتمايز به المتسابقون وهو ـ هنا ـ القوة الاقتصادية . ولنتصور سباقا لقطع مسافة عشرة أميال مثلا ، يقف عند خط بدايته على قدم المساواة متسابقون من الاطفال والشيوخ والعجزة والحفاة والمشاة وراكبو الدراجات ، والممتطون ظهور الدواب من خيل وبغال و حمير وسائقو السيارات وقائدو الطائرات ... ويقال لهم ها انتم متنافسون على جائزة السبق منافسة حرة لانكم متساوون في حرية المنافسة . مغالطة سخيفة . اليس كذلك ؟ هو كذلكد . وكذلك هي " الحرية " البورجوازية . انها حرية كل وحش فى الغابة المشتركة فى أن يفترس الأقل قوة . فلا يصبح سيدا للغابة الا اكثر الوحوش كسلا ومظهرية فارغة وهو الأسد ( تتولى اللبؤات عادة مهمة الصيد لتطعم منها الأسود) وتلك مرتبة تصل اليها البورجوازية سريعا . في البدء يدخل البورجوازي سباق الحياة او سباق السلطة مدعوما بقوته الاقتصادية ثم لا تلبث القوة الاقتصادية لبعض البورجوازيين ان تتضاعف فيطلقونها – وحدها - لتحصل لهم في النهاية على ما يريدون ولو كان ما يريدون هو السلطة .
لكل فرد في الولايات المتحدة الاميركية حق الترشيح لعضوية الكونجرس ورناسة الجمهورية . هكذا تقول الكلمات الميتة في صفحات الدستور . ولكن حق الوصول – فعلا – الى مقاعد الكونجرس او الى رئاسة الجمهورية يبقى مقصورا على من يستطيعون " انفاق ملايين الدولارات في المعارك الانتخابية . وهم ينفقونها في تمويل الحملات الانتخابية وشراء الصحف ورشوة الناخبين واستئجار الكتاب والفنانين وتشكيل جماعات الضغظ (اللوبي) وهم لا ينفقونها سرا او خفية كما هو متبع في أوروبا ولكن علنا وبدون حياء لان المال كقيمة ممتازة لا يجد في الولايات المتحدة الامريكية - حديثة التكوين - ما يوازيه او يحجبه من قيم خلقية ما تزال بقاياها كامنة في الضمير الاوروبي كما يقول موريس دوفرجيه ( دراسة في السياسة - ١٩٧٢ ) .
ومن قبل قال توكفيل : " ان ما يهم أيضا الديمقراطية بالدرجة الأولى ليس ايجاد الطريقة التي يحكم بها الشعب نفسه بل ان يختاروا للشعب افضل من يحكمه " . كان توكفيل يتحدث عن نظام الحكم في الولايات المتحدة الامريكية ( ذكره بوردو في كتابه عن الديمقراطية) .
وفي عام ١٩٢٣ كانت مصر بلدا فقيرا لا يكاد دخله القومي يتجاوز ثلاثين مليونا من الجنيهات . وكانت قد بدأت فيها حركة بورجوازية سياسية واقتصادية اتيحت لها فرصة لتكون أداة حكومية لاستبداد الاحتلال الانجليزي أو شريكة له في استبداده ، فتلقت الأذن بأن تصوغ للمصريين دستورا . فضمنته أولا كل الحريات التي تحرص البورجوازية على رص كلماتها في الدساتير . ولما جاءت عند وضع مواصفات الذين يمارسون تلك الحريات فعلا فرضت شروطها المالية حتى تبقى المقدرة على الممارسة الفعلية مقصورة على البورجوازيين في المدينة وكبار الملاك في الريف . وكانت شروطا قاسية ، لو حسبت طبقا لسعر العملة في وقتنا هذا لكان حق تمثيل الامة ووضع القوانين لها مقصورا على من يبلغ دخله السنوي (وليس ثروته) نصف مليون جنيه تقريبا ...
أو كان هذا هو مقياس " المستوى " الذي يفرق بين الحاكمين والمحكومين . كانت عضوية مجلس الشيوخ مقصورة على الوزراء والسفراء ورؤساء مجلس النواب ووكلاء الوزارات ومستشاري محكمة الاستئناف أو أية محكمة أخرى فى درجتها أو أعلى منها ، والنواب العموميين ؛ ونقباء المحامين ، والملاك الذين يؤدون ضريبة لا تقل عن مائة وخمسين جنيها مصريا فى العام (٣٠٠٠ بسعر العملة حاليا) .. الى أخر من لا يقل دخلهم السنوي عن الف وخمسمائة جنيه من المشتغلين بالاعمال المالية او التجارية او الصناعية او بالمهن الحرة (المادة ٧٨ من دستور١٩٢٣) . ولقد اراد واضعو الدستور ان ينسجوا مصفاة مالية لا تسمح بالتسرب الى مقاعد مجلس النواب الا للبورجوازيين فاختلفوا . هل يشرطون حدا أدنى من الثروة أم يفرضون للترشيح شروطا لا يطيقها الا الأثرياء . اختاروا الثاني ففرضوا على كل من يريد ان يرشح نفسه لعضوية مجلس النواب ان يودع تأمينا قدره ١٥٠ جنيها ( ٠ ٠ ٣٠ بسعر العملة الحالي) . يقول الاستاذان عبد السلام ذهني ووايت ابراهيم ان ذلك الشرط كان بديلا عن النصاب المالي لمن له حق الترشيح (القانون الدستوري) . بشكل عام يمكن القول بان مجلس الشيوخ كان مجلس الباشوات وان مجلس النواب كان مجلس البكوات فقد كانت الالقاب الملكية درجات موازية لدرجات الثروة .
تستبد البورجوازية لانها صفوة وان كانت قلة . وهي صفوة لأنها تملك المال ، لم لا ؟
أليس باب البورجوازية مفتوحا لكل "شاطر" من ابناء الشعب ؟ ما عليه الا ان يسبق فى ميدان المنافسة الحرة الاقتصادي " فيكون من الصفوة الحاكمة المستبدة .
ان هذا الاعتراض جدير بالتوقف عنده . وأني لأحسبه أكثر اعتراضات البورجوازية جدية . مساواة فى البداية وفى الفرص بدون تدخل من الدولة فلماذا يشكو المتخلفون ، ان السبق هنا لا يكون راجعا الا الى الكفاءة والمهارة والنشاط . لهذا تقول القاعدة البورجوازية الذهبية " ان القانون لا يحمي المغفلين " وهو لا يكافئ العجزة ولا الكسالى. فلماذا لا يكون الأكفاء المهرة النشطون حكاما ؟ باسم كل ضحايا البورجوازية من أفراد الشعب أقول أننا نقبل الاحتكام الى الكفاءة والمهارة والنشاط ونعترف بان الناس غير متساوين فى مقدرتهم على التفكير أو التدبير أو العمل . ونقبل ان يتمايز الناس طبقا لتمايز ملكاتهم هذه . ونقر ونعترف بأن المساواة التي نطالب بها ليست المساواة النمطية التي تتجاهل الفروق فى الملكات بين الافراد . أين المشكلة اذن ؟
٤٧- كان فرانسوا جيزو (١٧٨٧ - ١٨٧٤) قطبا من أقطاب البورجوازية الفرنسية ومدافعا نشيطا عن الليبرالية. أسس وقاد أول حزب ليبرالي فى فرنسا واختار له اسم " رابطة ساعد نفسك يساعدك الله " . ضاق ذرعا بتكلفة حروب نابوليون فاتصل بالملك فيليب الثامن في منفاه ولعب دورا رئيسيا في اعادة الملكية الى فرنسا " بشروط بورجوازية " وتولى الوزارة عدة مرات في العهد الملكي . في عام ١٨٤٠ عرض اقتراح في البرلمان الفرنسي بالغاء أو تخفيض الشرط المالي لحق الانتخاب ، وكان لمن يدفع ضريبة سنوية لا تقل عن ٢٠٠ فرنك فعارض جيزو التعديل معارضة شديدة . فلما قيل له أن بقاء هذا الشرط سيبقي على احتكار الأغنياء لحق الانتخاب قال : " اغتنوا اذن " ، فذهبت مثلا لمفهوم الحرية عن البورجوازية الليبرالية .
علق موريس دوفرجيه على ما قاله فرانسوا جيزو قائلا ان النظريات الرأسمالية تعتبر أن التمايز على أساس المقدرة المالية هو - في التحليل الاخير- ديمقراطي . ففي مجتمع يحكمه قانون "المنافسة الحرة " يكون في مقدور كل واحد أن يجمع مالا ويقتني ثروة وبالتالي أن يكون ذا نفون سياسي . ويقول أن بناء كاملا من الأدب الأسطوري المعاصر قد قام حول هذه الفرضية خاصة في الولايات المتحدة الامريكية . ثم يضيف أن عيب هذه النظرية هو قصورها اذ هي تتجاهل تراكم رأس المال الذي يؤدي الى تراكم القوة السياسية . ثم ينتقل التراكم المالي ـ السياسي عن طريق الارث ويتضاعف حتى بالنسبة لمن لم يكونوا ليستحقونه أصلأ . وهكذا مع تطور المجتمع الليبرالي تصبح حيازة رؤوس الاموال هي مصدر الثروة بدلا من العمل أو الصناعة . وحتى لو لم نقبل نظرة كارل ماركس للتي تقول ان هذا التراكم يؤدي الى افقار الطبقة العاملة فاننا لا نستطيع ان ننكر ان ثمة درجة نسبية من الافقار . ففي نطاق تزايد الدخل القومى نلاحظ أن نسبة ما يؤول فيه الى العمال تقل بدلا من أن تزيد على عكس نسبة ما يحصل عليه ملاك أدوات الانتاج فهي تزيد ولا تقل . وتبقى القوة المالية في أيدي الاخيرين بشكل رئيسي وطبقا لزيادة أو نقص النسبة من الدخل العام تزيد أو تنقص القوة السياسية لكل فريق (علم اجتماع السياسة) فنقول - أولأ- عندما تكون القوة السياسية متوقفة على القوة المالية وتكون القوة المالية نتيجة تراكم مالي لا يدخل فيه العمل فان أولى مغالطات البورجوازية تصبح مفضوحة . هنا يقوم المال بالتكاثر الذاتي كالخلايا السرطانية بدون حاجة الى كفاءة أو مهارة أو عمل . هنا تنطلق " الجنيهات لتحط على فروع المجتمع لتمتص أصوات الناخبين ومواقع المشرعين ومراكز الحكام وتاتي بها الى "خلية" صاحبها كما يفعل النحل مع صاحب الخلية الذي لن يلبث ان يتاجر في عائد نشاطها . هنا قوة "مادية" صرفة مجردة تماما من أي عنصر انساني او فكري أو روحي هي التي تبني وتبقي وتحافظ على استبداد البورجوازية .
ثم نسأل – ثانيا - اذا جنينا الثروة حصيلة العمل ، وما قد يكون فيها من تفاوت تبعا لتفاوت ملكات التفكير والتدبير والمهارة بين البشر وكيف تأتي الثروة بدون عمل ؟ كيف يلد الجنيه جنيها ... وأكثر ؟.. كيف تتكاثر أرقام الثروة بدون تدخل من صاحبها ؟.. ان الاجابة على هذه الاسئلة هي الاجابة على السؤال : ما هو المصدر الاساسي الجوهري لاستبداد ابورجوانية ؟ فنجيب : انه "الربا " .
٤٨- لهذا قلنا من قبل ونقول الآن أن الربا هو مفتاح باب الاستبداد. وما دام الربا مباحا فلن تقوم للحرية قائمة. ويحاول المتفقهون فى الاسلام حصر الربا تحريما فى العلاقة الفردية بين المقرض والمقترض تمهيدا لتأويل كلام الله على الوجه الذي يرتضيه المقرضون المرابون (الرأسماليون) . يقول الله تعالى : " يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا الريا أضعافا مضاعفة " (آل عمران ١٣٠) فيقول المنافقون انه لم يحرم الربا ان كانت الفائدة قليلة او لم تكن مركبة . فماذا يقول المنافقون فى قوله تعالى " يمحق الله ، الريا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم (البقرة ٢٧٦) و" الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " (البقرة ٢٧٥ ) و" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ، فان لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله" (البقرة ٢٧٩) .
قال الامام الأكبر الشيخ محمود شلتوت أن مرجع الاسلام فى تحريم الربا الى ان المجتمع الصالح المبني على أسس قوية هو المجتمع الذي يكون كل فرد من أفراده عضوا عاملا فيه . أما اذا كان بعض أفراده عاملين ، وبعضهم كسالى يعيشون عالة على غيرهم ، ويعتمدون فى بقائهم ومتاعهم على ما يقدمه الاخرون لهم فان هذا المجتمع يختل توازنه ، ويدركه الضعف والشقاء والتخاذل بقدر ذلك . وفى هذا يقول الامام الرازي : انما حرم الربا من حيت انه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب ، وذلك لأن صاحب الدرهم اذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدا كان او نسيئة ، خف عليه اكتساب وجه المعيشة فلا يكابد مشقة الكسب والتجارة والصناعة الشاقة وذلك يفضي الى انقطاع منافع الخلق ، ومن المعلوم ان مصالح العالم لا تنتظم الا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات " (تفسير القرن ١٩٦٥) .
فيقول المنافقون ان الريا قد أصبح فى عصرنا " المتحضر" أساسا من أسس الاقتصاد ٠ وان أساليب الحضارة ورقي الأمم تستدعي رصد الاموال وتجميعها من الافراد والاقتراض من الحكومات ... مقابل " ربح مقدر" (فائدة) .
فيرد الامام الأكبر الشيخ محمود شلتوت ان هذه النظم الاقتصادية التي يتشدقون بها ؛ ويأخذون على الاسلام عدم مجاراته لها ، قد صارت الآن فى موضع الشك والتزلزل عند أهليها والمتعاملين بها ، وأصبح العالم يميل الى نظام اشتراكي يحول بين ان يوجد فى الشعب طائفة قليلة العدد مستحوزة على المال ، منتفعة بما يدره عليها من الربح والجاه والنفوذ ؛ وطائفة من الكثرة العاملة الناصبة لا هم لها الا ان تكدح لهؤلاء وتجد فى تنمية ثرواتهم ثم لا ينالها من هذا الكدح والنصب الا أدنى القوت واحط المساكن والملابس وما الريا الا الاعتراف بحق اصحاب الاموال فى الامتيازعلى العاملين "(المرجع السابق).
٤٩- ختم الامام الأكبر بقوله " ان إباحة الربا جرأة على الله " فمن ذا الذي يجرؤ على الله ثم يخشى غضب البشر . وكيف يمكن أن تقوم للشعب حرية اذا كان النظام البورجوازي (الرأسمالي) يسلح البورجوازيين الرأسماليين بسلاح الغلبة أموالا تراكمت بفعل الربا فى حلبة السباق بين البشر على أساس من المقدرة الذاتية فى التفكير والتدبير والمهارة ، إن أراد الليبراليون أن يجعلوا الحياة سباقا بين البشر . هذا هو الاستبداد المتحضر ( البورجوازي ) وساقه الوحيدة (الربا) . وعلى كل الذين يتشدقون بكلمة الحرية الفارغة من مضمون يحولها الى فعل ، والى كل الذين احترفوا التنديد بالاشتراكية فى المحافل التي يقيمونها لرثاء الحرية والتشهير باستبداد الاشتراكيين نقول لهم ، دعكم الآن من الاشتراكية وامنعوا " الربا " ان كنتم صادقين حبا للحرية وكراهية للاستبداد ، أو ان كنتم مؤمنين . ولو ألغى الربا فسيكون الدخل من بابه الحلال : العمل . حينئذ قد يتمايز الناس بقدر ما يمتاز بعضهم على بعض فكرا او تدبيرا او مهارة ، ولكن لن يسبق أحد أحدا لانه اكثر مالا. ولن يستبد احد باحد على الطريقة البورجوازية .
٠ه ـ على أي حال ان الاستبداد البورجوازي هو النموذج المتحضر الذي يحل ـ او يتوهم انه يحل - التناقض بين وحدة المجتمع وتعدد الافراد فيه بالغاء المجتمع وابقاء التعدد . ففي المجتمع البورجوازي (الليبرالي سياسيا الرأسمالي اقتصاديا) يبقى تعدد الافراد واحتياجاتهم وآراؤهم فى كيفية اشباع تلك الاحتياجات ومعتقداتهم التي تقوم عليها تلك الآراء ، ويبقى لكل واحد منهم الاعتراف " الرسمي " بحريته الفردية ولكن يلغى المجتمع بالنسبة الى أغلبية الافراد بالغاء عنصر المشاركة الشعبية في امكاناته المتاحة ، وذلك بأن تستحوز البورجوازية على أغلبية الامكانات وتستأثر "بالمفاتيح" الاقتصادية التي تحدد - في التحليل الاقتصادي الاخير – لكل فرد المضمون "الحقيقي" لحريته . ومع القدرة على التحكم المباشر او التحكم غير المباشر (السوبرنتك) في حرية الشعب ، تحكم ابورجوانية . وبينما يبقى مسطورا في صف الدساتير ان الشعب هو مصدر السلطة ، تستبد البورجوازية بالسلطة دون الشعب .
الوصاية :
٥١ ـ النموذج المتحضر الثاني من الاستبداد هو ما نسميه الوصاية . ان الوصي لا يستحوز لنفسه على مال القاصر ، ولا ينكر حقوق القاصر في ماله ، بل يديره لحسابه . والفرض ان يكون الوصي أمينا وكفؤا (وهما في الشريعة الاسلامية شرطان لازمان) . الوصاية اذن نظا تحقيق مصلحة القاصر . كل ما في الامر ان صاحب المصلحة - القاصر- يكون محجوب الارادة عن مصلحته بارادة الوصي النافذة . نظام اجتماعي قانوني رائع يحفظ للقصر انفسهم ( ولاية على النفس) وأموالهم ( ولاية على المال) ويرد عنهم بطش الأقوياء واختلاس اللصوص وحيل النصابين ، الى أن يبلغوا سن الرشد فيكون لهم في أمر أنفسهم وأموالهم الرأي الأول والرأي الأخير" وأول ما يتاح لهم من رأي أن يحاسبوا أولئك الذين كانوا عليهم اوصياء . ان تكن ولاية فهي رعاية . لا شك في هذا . ولكن لو وقع على غير القاصر (ومثله المجنون والمعتوه والسفيه) ما يحجب ارادته عن مصلحته ويطلق فيها ارادة غيره فلن تكون ولاية ولا رعاية بل تكون قهرا وسلبا او ما هو أشد جرما . انها حينئذ لا تكون حجبا للارادة بل تكون اهدار للحرية ، هذا مثل ضربناه لنموذج من الاستبداد يكون للمستبدين فيه الولاية على المجتمع والوصاية على الشعب . ولقد اخترناه بالذات حتى نتجنب أية مناقشة حول ما اذا كان هذا النموذج من الاستبداد يحقق او لا يحقق مصلحة الشعب . نفترض انه يحققها .
لو فتشنا التاريخ بحثا عن أكثر هؤلاء المستبدين أمانة وإخلاصا وكفاءة في الولاية على "المصالح" لوجدناه في شخص جوزيف ستالين ، الولي الأمين المخلص الكفء على مجتمع الاتحاد السوفيتي . الوصي المستبد الطاغية على شعبه . لا يشك أحد بحق في أن ستالين قد نقل المجتمع السوفيتي من أكثر الدول تخلفا في أوروبا الى أكثرها تقدما في فترة ولايته من عام ١٩٢٨ الى عام ١٩٥٣ (بعد وفاة لينبن في يناير ١٩٢٤ كان ستالين احد اعضاء قيادة جماعية مكونة منه وزينوفييف وكامنيف ثم انفرد بالقيادة بعد فصل الأخيرين من الحزب عام ١٩٢٨) . بعد وفاة ستالين (ه مارس ١٩٥٣) بثلاث سنوات قال خليفته نكيتا خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي : " ان الاستبداد الذي يماوسه شخص واحد يشجع الاخرين على ممارسة الاستبداد ضد غيرهم . ومن ثم فان الاعتقالات واسعة النطاق ونفي الألاف من الناس ، والاعدام بغير محاكمة وبغير تحقيق خلقت أوضاعا يشوبها الشعور بعدم الامان والخوف واليأس أيضا ".
ونشرت جريدة الشعب الصينية يوم ه إبريل ١٩٥٦ تقريرالمكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني تحت عنوان " عن الخبرة التاريخية لديكتاتورية البروليتاريا " جاء فيه : " ان كل قائد حزب أو دولة بمجرد أن يستعلي على الحزب والجماهير بدلا من ان يبقى في وسطها ، ويعزل نفسه عن الجماهير ، يفقد المقدرة على النظرة الكاملة الثاقبة في شئون الدولة . اذا حدث هذا فلا مفر حتى لرجل عظيم مثل ستالين من أن يصدر في المسائل الهامة قرارات خاطئة وغير مطابقة للواقع .
عندما لم يتعظ ستالين من الأخطاء المحدودة والجزئية والعابرة المتعلقة ببعض المشكلات لم يستطع ان يحول دون تحولها الى سلبيات خطيرة تؤثر في الأمة كلها وإلى زمن طويل . في السنين الأخيرة من حياة ستالين اتجه ستالين شيئا فشيئا الى عبادة شخصيته ... وقد جره هذا الى ارتكاب أخطاء جسيمة مثل مبالغته الشديدة في ردع المضادين للثورة " .. كيف حدث هذا ؟
٥٢- يدعى ميركين جتزيفتش في كتابه عن " النظرية العامة للدولة السوفيتية " ان مرجع الاستبداد في الاتحاد السوفيتي الى انعدام سيادة القانون . يقول هذا الليبرالي بالرغم مما قد يوحي به اسمه : " ان الذي يفرق بين الدولة السوفيتية وبين دولة القانون ، ان القانون بمعناه الصحيح لا يلعب أي دور في الدولة السوفياتية " . لو كان هذا صحيحا لكنا تحدثنا عن هذا النموذج من الاستبداد حين تحدثنا عن الاستبداد المتخلف . قد يمكن اسناد الاستبداد المتخلف الى ستالين اذا صدق ما قاله خروتشوف عن " الاعدام بغير محاكمة وبغير تحقيق ". ولكن لا يمكن - بالقطع - الحديث عن استبداد متخلف في الاتحاد السوفياتى او أية دولة تنتهج المنهج الماركسي . ذلك لأن سيادة القانون على الدولة ذاتها ليست أقل رسوخا في المجتمع الاشتراكي منها في أي مجتمع رأسمالي (ميشيل هلبك - الدولة) . وفي كتاب " الدولة السوفيتية والقانون " نشر شخيكفادز ان الشرعية في الاتحاد السوفياتى تعني " التزام اجهزة الدولة والمنظمات الجماهيرية والموظفين والمواطنين باحكام الدستور السوفييتي والقوانين واللوائح الصادرة طبقا له وانها تفرض قبل كل شيء وجود القانون .. وان جوهرها الاساسي هو احترام وتنفيذ قواعد التشريع السائد من قبل اجهزة الدولة والمنظمات الجماهيرية والموظفين والمواطنين . وان القانون قد يكون مناسبا في ذاته ولكنه يبقى عميقا في صفحات القانون اذا لم يحترم ". وقد نذكر ان احد شراح القانون السوفييتي حاول ان يحتج على سيادة القانون بالضرورة السياسية فرد عليه فيشينسكي (أحد بناة القانون السوفيتي وأحد قادته السياسيين) قال : " ان القانون السوفيتي قائم على المصالح السياسية والاقتصادية للعمال والفلاحين ومهمته الأساسية هي حماية تلك المصالح . ولكن هذا لا يعني ان تنقلب القاعدةا لقانونية الى قاعدة سياسية . اذ لا يجوز ان تحل العلة محل المعلول . واذا صح أن القانون ليس الا قاعدة سياسية فكيف يمكن ان نفسر المادة ١١٢ من الدستور السوفييتي التي تنص على ان القضاء مستقل ولا يخضع في قضائه الا للقانون " استويا نوفتش - فلسفة القانون في الاتحاد السوفدتي) . يهمنا هنا ان نلفت الى العلاقة بين القاعدة السياسية والقاعدة القانونية كما اشار اليها فيشينسكي . القاعده السياسية علة والقاعدة القانونية معلولة . أو القاعدة القانونية هي خطاب عام ملزم بالقرار السياسي ، ثم يسود القانون . نعود الى ستالين لنسمع رأيه في موضوع حديثنا .
٥٣- يقول لويس فيشر في كتابه " حياة وموت ستالين " انه كان من بين وفد امريكي قابل ستالين يوم ٩ سبتمبر ١٩٢٧ وان الوفد قد سأل ستالين - ضمن أسئلة أخرى - عما اذا كان يمكن القول بأن الحزب الشيوعي يهيمن على الحكومة السوفيتية ؟.. فأجاب ستالين : أن الأمر يتوقف على ما تعنيه كلمة الهيمنة . أن للهيمنة في البلاد الرأسمالية معنى خاصا الى حد ما . انني اعرف - الحديث لستالين - أنه بالرغم من وجود برلمانات ديموقراطية في عدد كبير من الدول الرأسمالية فانها خاضعة لهيمنة البنوك الكبيرة . يعلن البرلمان انه يهيمن على الحكومة ولكن الواقع ان تشكيل الحكومة ونشاطها محدد وخاضع لهيمنة المجموعات المالية العملاقة . من الذي يجهل انه لا يمكن ان تتشكل وزارة في اي بلد رأسمالي ضد إرادة كبار الماليين . يكفي ممارسة ضغط مالي ليغادر الوزراء مناصبهم كما لو كان قد مسهم الشيطان . ها هنا هيمنة حقيقية تقوم بها البنوك على الحكومة بالرغم مما يقال عن هيمنة البرلمان . أما اذا كان القصد من السؤال هو قيادة الحزب للحكومة فإن الاجابة نعم . كيف ؟.. قال ستالين ان الحزب يحاول تعيين الشيوعيين في كافة المراكز الحكومية الرئيسية وينجح في هذا أغلب الحالات . من ناحية أخرى ينظر الحزب في عمل الوزراء ... والموظفين ويصحح أخطاءهم ويكمل قصورهم ..
٥٤- الحزب يقود الحكومة او يوجهها طبقا لقرار سياسي تحول الى قانون ، هذه هي خلاصة ما قاله ستالين وفيشنسكي . أين يمكن ان يوجد الاستبداد ؟.. ليس في الخروج " الستاليني " على القانون ولكن فى القانون الذي هو صيغة تشريعية ـ او تعميم ملزم ، لقرار الحزب . فهل ثمة استبداد ؟.
نعود الى الأصل . فلم يكن ستالين ولا فيشنسكي الا ماركسيين وليس الاتحاد السوفييتي الا واحدة من دول عدة تقول كل منها أو يقال عنها ، انها ماركسية . فهل الماركسية نظرية استبدادية ؟ هذا هو السؤال ؟.. ولقد أجاب عليه ستالين بما قاله من أن الأمر يتوقف على ما تعنيه الكلمة . نحن اوردنا فى بداية الحديث ما نعنيه بالاستبداد نتذكره فنقول : فيما بين وحدة المجتمع وتعدد الافراد فيه تناقض محتوم . تتعدد احتياجات الافراد الى ما لا نهاية ولا يتيح المجتمع لاشباعها الا امكانات ذات نهاية . فلا بد من " قرار" يشبع من الاحتياجات المتعددة ما يمكن اشباعه . هذا القرار لا يمكن ان يكون إلا واحدا صحيحا فى مجتمع معين فى زمان معين - بصرف النظر عن ارادة الناس فيه.
المشكلة السياسية هي كيفية اكتشاف القرار الصحيح موضوعيا الذى ينصب على المجتمع كله ويمس حياة كل فرد فيه . الديموقراطية هى اسلوب مساهمة افراد الشعب جميعا في اكتشاف القرار الصحيح موضوعيا . الاستبداد هو أحد نظم ثلاثة . احتكار فرد أو قله امكانات المجتمع وقرار استعمالها معا ، وهو الاستبداد المتخلف . احتكار قلة لأغلب امكانات المجتمع مع ترك أغلبية الناس وما يشاؤون بدون امكانية تنفيذ ، وهو أحد نماذج الاستبداد المتحضر (البورجوازية) . النظام الثالث يقوم على توظيف امكانات المجتمع لاشباع احتياجات الشعب طبقا لقرار تحتكر وضعه الأقلية ، وهو نموذج متحضر مثاله الماركسية .
الماركسيون لا ينكرون هذا النظام ولكنهم ينكرون بشدة تسميته استبدادا . وعذرهم في هذا ان اتهام الماركسية بالاستبداد كان يأتي - تقليديا - من جانب البورجوازية ولخدمة استبدادها الخاص . ولكنا نعتقد ان تلك مرحلة - تخطاها الاشتراكيون وأن كثيرا منهم ومن الماركسيين أيضا قد تحرروا من قيود "رد الفعل " ولم يعودوا يخشون اتهام البورجوازية أو الاتهام بالبورجوانية - على أي حال لن ندخل الى الماركسية من الباب البورجوازي بل من الباب الماركسي والتقليدي أيضا . الباب الذي يحمل لافتة تاريخية مكتوب عليها : " ان الديمقراطية شكل من أشكال الدولة بينما نحن الماركسيين ضد كل وأي نوع من أنواع الدولة " ( لينين ـ مهام البروليتاريا في ثورتنا) .
٥٥ ـ نقر اولا بأن الماركسية مذهب في الاشتراكية . وأن للماركسيين فضل السبق الى المعرفة العلمية بأسس النظام البورجوازي واستبداده . كما ان لهم فضل السبق الى محاولة اقامة نظام اشتراكي ، وانهم قد أوفوا - نيابة عن الاشتراكيين كلهم - بالاثمان الفادحة التي اقتضتها تجارب التطبيق فى النظام الجديد وان كل الاشتراكيين مدينون لهم بخلاصة التجربة الماركسية حيث تحولت الاشتراكية من كلمة مجردة توصف بما هو أكثر منها تجريدا (إلغاء استغلال الأنسان لأخيه الانسان) لتصبح " نظام توظيف الموارد المادية والبشرية المتاحة في مجتمع معين لاشباع احتياجات الشعب المتجددة أبدا طبقا لخطة مركزية شاملة ". لا شبهة اذن في أن أي نظام ماركسي " لا يلغي المجتمع " بالنسبة الى الشعب ولا يستأثر فيه فرد أو قلة ـ دون الشعب - بالامكانات المتاحة أو بأغلبها . بقي السؤال : من الذي يختار " قرار " توظيف الموارد المالية ... الى آخره .
الجواب الماركسي الاول هو : الطبقة العاملة . لماذا ؟
لأن الحاكمين فى ظروف تاريخية معينة ( بعد ان يجسدوا سلطتهم فى شكل دولة يبقى عليهم ان يسبغوا على ارادتهم المحددة بتلك الظروف صفة التعبير العام وذلك بان يجعلوا منها .. قانونا (شخيكافادز ـ الدولة السوفيتية والقانون) ويصدق هذا أول ما يصدق على البورجوازية . لهذا كان ماركس وانجلز صادقين حينما قالا للبورجوانيين : " ان قانونكم ليس الا إرادة طبقتكم مصوغة فى قانون عام " (البيان الشيوعي - ١٨٤٨) . وهو يصدق أيضا عل حكم الطبقة العاملة في مرحلته الاولى اذ " بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي تقوم مرحلة ثورية للتحول من
الواحد الى الأخر . تصاحب هذا أيضا مرحلة تحول سياسي لا يمكن ان تكون الدولة خلالها الا الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا " (ماركس - نقد منهج جوتا) ، أما بعد ذلك فلن تكون هناك دولة ولن يكون هناك قانون . يتلاشيان . قال لينين وهو يتحدث عن مصير القانون والدولة : " عندما لا يكون على الأرض احتمال للاستغلال ، عندما لا يصبح هناك من يملكون الارض او المصانع ، عندما لا يوجد المتخمون بجوار الجوعى ، عند ما تصبح تلك الأمور مستحيلة ، عندئذ فقط سنضع تلك الأداة بين المهملات " ( لينين - المختارات) . المرحلة موضوع حديثنا ـ اذن - هي التي تبدأ بتولي الطبقة العاملة السلطة وتنتهي بالشيوعية . وهي المرحلة التي قبل الماركسيون ان تسمى بالاشتراكية . (ابتداء من عام ١٨٨٨ ) فى هذه المرحلة يكون " من السخف الحديث عن دولة شعبية حرة .. وطالما تستعملها البروليتاريا فانها لن تستعملها من أجل الحرية بل من أجل اسقاط اعدائها (ماركس وانجلز - المختارات) . أو كما قال ستالين " إن ديكتاتورية البروليتاريا ذات سلطة قانونية غير محددة ضد البورجوازية ".
تصفية البورجوازية ليست استبدادا بل هي تصفية لاستبداد القلة البورجوازية . يبقى الشعب فلنستمر . يقول روماشكين ، وهو أحد فقهاء القانون السوفيتي " ان القانون الاشتراكي والشرعية الاشتراكية يدعمان ويحميان نظام الدولة الاجتماعي وأسسه الاقتصادية (النظام الاشتراكي والملكية الاشتراكية) وحقوق وحريات المواطنين السوفييت ويؤمن تطوير وتقوية العلاقات الاشتراكية في المجتمع ( اسس القانون السوفييتي) .
نتوقف هنا قليلا لنلخص : الطبقة العاملة تحكم ، تصفي البورجوازية ونظامها ، لتقدم النظام الاشتراكي الذي يدعم ويحمي حقوق وحريات الشعب كله (المواطنين) . إلى حيث القت البورجوازية ونظامها . ثم نسأل : لماذا تستبد الطبقة العاملة باتخاذ القرار (القيادة) دون باقي المواطنين ؟ . لم يكن من الممكن ان يوجه هذا السؤال الى كارل ماركس ؛ لأن كارل ماركس كان يرى أن الثورة الاشتراكية لن تقوم الا بعد أن يؤدي التطور الرأسمالي إلى أن تصبح الطبقة العاملة هي الأغلبية . ولا أحد يتهم حكم الأغلبية بأنه استبداد . أما بعد ماركس ، وابتداء من لينين ، فان الطبقة العاملة تحكم حيث تستطيع أن تستولي على السلطة حتى لو كانت أقلية . فيثور السؤال الذي نطرحه : بعد عزل او تصفية البورجوازية لماذا تستبد الطبقة العاملة باتخاذ القرار ( القيادة) دون باقي المواطنين . نعني قرار" توظيف الموارد المالية والبشرية ... الخ " . قرار ادارة الدولة الاشتراكية . يقال لانها صاحبة المصلحة في الاشتراكية . فنقول ان كان هذا يعني أن باقي الشعب من مثقفين وجنود وفلاحين وطلبة وشيوخ ونساء وأطفال ...الخ ، ليس لهم مصلحة في الاشتراكية فهو قول لم يقله اشتراكي واحد ، ولا يقوله الا الذين يشهرون بالنظام الاشتراكي . وآية هذا أن الطبقة العاملة تثور لاسقاط ديكتاتورية البورجوازية التي تفرض استبدادها على الشعب كله . وآيته الثانية أن الطبقة العاملة اذ تلغي الملكية "البورجوازية" الخاصة لادوات الانتاج الاساسية لا تحيلها الى ملكية " عمالية " خاصة . انها تلغيها لحساب الشعب كله فتصبح ملكية اجتماعية . فلماذا تستبد الطبقة العاملة دون باقي المواطنين باتخاذ القرار (القيادة) في ادارة الملكية الاجتماعية لادوات الانتاج ؟ . يقال ، لانها أكثر ثورية من باقي المواطنين . فنتحفظ على هذا القول ثم نفترض صحته مع ملاحظة الفرق بين مهمة اسقاط وتصفية النظام البورجوازي ومهمة اقامة وإدارة النظام الاشتراكي . ثم نقول ولكنها قد لا تكون أكثر المواطنين معرفة بالقرار الصحيح لتوظيف الموارد المادية والبشرية ... إلى أخره . ومن قبل عبر لينين عن هذا الاحتمال بأكثر الصيغ مبالغة حين قال : " قد يكون الواحد منا شيوعيا فاضلا أمينا مخلصا لمبادئه ، مضحيا في سبيلها ، ولكنه مع هذا لا يصلح تاجرا لأنه ليس رجل أعمال ، ولانه لم يتعلم ذلك ، او لا يريد أن يتعلم ، ولا يعرف انه يجب أن يبدأ من ألف باء . هذا الشيوعي الثوري الذي قام باكبر ثورة فى تاريخ العالم ، والذي تحدى أربعين دولة لا أربعين قرنا ، يلزمه أن يتعلم درسا من سمسار عادي لم يفعل إلا الجري عشرات السنين بين بيوت التجارة (المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي السوفييتي - مارس ١٩٢٢) . ونقل عنه مؤلفو "أسس الماركسية اللينينية " قوله : " بين كل ما كتبه الاشتراكيون فى الموضوع لم استطع أن أذكر دراسة اشتراكية واحدة أعرفها ، اورأيا لعالم اجتماعي عن المجتمع الاشتراكي المقبل للتغلب على الصعوبة العملية الواقعية التي ستقوم أمام الطبقة العاملة بعد أن تستولي على السلطة
مؤدى هذا انه لا يوجد أي مبرر من المصلحة او الخبرة او النظرية لاستبداد الطبقة العاملة بالحكم والقيادة او اتخاذ " القرار " دون باقي أفراد الشعب بعد اسقاط الاستبداد البورجوازي . ومهما تكن الصفات التى يهوى بعض المثقفين (صغار البورجوازيين) اسنادها نفاقا الى الطبقة العاملة للوصول الى مواقع القيادة منها ، فانها لا تعني ان تلك الصفات مقصورة على الطبقة العاملة (والا لكان على هؤلاء المثقفين استبعاد انفسهم) . كما أنه لا يجدي شيئا اخفاء او تجاهل الواقع الموضوعي وهو أن كل فرد فى المجتمع شريك بالتساوي مع كل فرد آخر في امكانيات المجتمع المشترك المتاحة ، وانه صاحب حق اجتماعي في أن يسهم في اتخاذ القرار الذي ينصب على المجتمع كله ويمس حياة أي فرد فيه . وان احتكار الاقلية ، اية اقلية ، حق اتخاذ القرار " للشعب " هو استبداد يلغي التعدد ولو أبقى على وحدة المجتمع . هذا بدون مساس بما عرضناه في كتب اخرى عن الخطأ المنهجي فى اعتبار العمال " طبقة " طبقا لذات المقاييس التي تبرر اطلاق اسم " طبقة " على البورجوازية
٥٦ - ومع ذلك نقول أن الطبقة العاملة فى النظام الماركسي ليست مستبدة . لسبب بسيط هو أن الذي يتولى الحكم والقيادة والقرار باسم الطبقة العاملة هو الحزب . والحزب اقلية منظمة من الطبقة العاملة أو المنتسبين اليها فكريا يتولى قيادة الطبقة العاملة . لماذا يستبد الحزب بالقيادة واتخاذ القرار دون باقي الطبقة العاملة ؟ . تتكون الاجابة على هذا السؤال من سلسلة مقولات فكرية متراكمة . اولها ما قال ماركس فى نقد الاقتصاد السياسي " من أن القانون لا يؤخذ بذاته من خلال ما يسمى بالتطور العام للعقل الانساني ولكن تلتمس جذوره في الظروف المادية للحياة . ولم يكن هذا الا تفريعا عن الأصل الماركسي العام : ان اسلوب الحياة المادية يحدد مجرى الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية بوجه عام . ان وعي الناس لا يحدد وجودهم ، بالعكس ، ان وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ( ماركس وانجلز - المختارات) . ومن ثم فان القانون " القرار" ليس الا " عاكسا علويا مثل الاخلاق والعدالة والدين نفسه ينبثق من الظروف الاقتصادية المتغيرة " ( رينيه ديفيد - القانون السوفيتي) . بناء على هذا كله لا يكون اسلوب اكتشاف القرار الصحيح موضوعيا هو استطلاع رأي الافراد او استفتاؤهم ولكن استخدام القوانين الموضوعية التي تحكم حركة تطور الحياة المادية . وهذا لا يكون ممكنا الا عن طريق حزب مسلح بالنظرية العلمية التي تتضمن تلك القوانين الموضوعية وكيفية استخدامها ؛ الماركسية . فالمسألة اذن ، ليست مسألة استبداد باتخاذ القرار ولكن معرفة علمية بالقرار الصحيح . والحزب هو الجهاز المؤهل ماركسيا لهذه المعرفة العلمية ، فهو - فى الواقع - جهاز الطبقة العاملة في معرفة القرار الصحيح الذي يجب على الطبقة العاملة ان تنفذه .
فليكن . مؤقتا . ننتقل اذن الى داخل الحزب . الى داخل " مجتمع " من الاقلية الواعية ماركسيا ، الاتقياء اشتراكيا ، القادة وأصحاب القرار باسم الطبقة العاملة لها وللشعب كله . هنا لا أثر للملكية او الصراع الطبقي او الجهل بالمارمكسية . الحزب يناقش ، يتبادل الرأي ، ينتهي الى قرار فيتفذ . هذا هو ما يتم بالاجماع او بالاغلبية . ولكنا هنا نحتكم الى وعي الاعضاء بالقرار الصحيح ونتكل عليه في تقرير ما يجب ان يكون وليس على واقع الحياة المادية . وهذا منهج غير ماركسي . انما يصبح اقرب إلى الماركسية عندما تقاس صحة الوعي ذاته ؛ وعي أعضاء الحزب ؛ على الحقيقة الموضوعية فلا يعتد بآرائهم الا بقدر ما تكون قريبة من هذه الحقيقة . لا بد ، إذن ، من " أحد " يكون أكثر الناس وعيا بالحقيقة المادية وقوانينها الموضوعية وبطرق استخدامها ليكون رأيه مقياسا لصحة آراء الباقين . وأكثر الناس وعيأ هم قادة الحزب وقمته بحكم انهم قد وصلوا الى قمة القيادة . ومن هنا يصبح القرار النافذ هو قرار قيادة الحزب الذي تفترض فيه الصحة الموضوعية فتكون مخالفته انحرافا ذاتيا يستحق التصفية . ونكون في مواجهة ستالين الذي صفى من بين من صفى اغلبية كوادر الحزب . تنتهي هذه السلسلة الماركسية باستبداد قيادة الحزب بالقرار ، دون اعضاء الحزب ، دون افراد الطبقة العاملة ، دون باقي الشعب ، ويصاغ قرارها ليكون قانونا نافذا على الكافة ، يدار المجتمع طبقا له ولكن لمصلحة الشعب كما يراها صاحب القرار . فنتذكر مثل " الوصاية " ....
٥٧- لم لا ؟.. ما دام المجتمع يدار لمصلحة الشعب على الوجه الذي يشبع احتياجاته ؟.
يقال عادة لأن رأي الفرد ، أو رأي القلة ، ينطوي على احتمالات الخطأ أكثر من رأي الجماعة أو الشعب . قد يكون هذا صحيحا ولكنا لا نعتد به كثيرا لاننا لم نسلم ابدا بأن مجرد ان يكون الرأي صادرا من الاغلبية او حتى مجمعا عليه ، يعني انه – بالضرورة - مطابق لما هو صحيح موضوعيا . وانما نقول ان ادارة المجتمع لمصلحة الشعب كما يقدرها فرد أو أقليةلن تشبع ابدا احتياجات الشعب بقدر ما هو ممكن موضوعيا . مستحيل ، مستحيل علميالسببين بسيطين .
الأول نعرفه من تحليل الحركة الجدلية التي تنتهي ينفاذ القرار (القانون) . قال لينين : من الواقع الى الفكر الى الواقع هذا هو الجدل . نبسط ما قال فنقول من المشكلات الاجتماعية ، الى القرار المتضمن حلها ، إلى العمل تنفيذا لهذا القرار ، هذا هو الجدل . يستطيع القادة ان يعرفوا معرفة علمية صحيحة اساليب وأدوات ونظم العمل اللازم لتنفيذ قراراتهم بدون حاجة الى الرجوع الى الشعب . ولكن جدوى هذا العمل ، اي نجاحه او فشله - يكون متوقفا على ما اذا كان تنفيذا لحل صحيح ام لا ، (قرار صحيح) . ويستطيع القادة ان يعرفوا معرفة صحيحة علميا الموارد المالية والبشرية المتاحة فى المجتمع والاساليب العلمية لادارتها وتوظيفها وان يصوغوا من علمهم هذا حلا (قرارا) بدون حاجة الى الرجوع الى الشعب . ولكن جدوى هذا الحل أي نجاحه او فشله يكون متوقفا على ما اذا كانت تؤدي او لا تؤدي الى اشباع احتياجات حقيقية لافراد الشعب . وهكذا تصبح جدوى العمل واساليبه وأدواته ونظمه واحصائيات الموارد المادية والبشرية وتوصيفها وتوظيفها وخطط هذا التوظيف وجدوى القيادة والكوادر والمنفذين ... تصبح جدوى كل هذا في مجتمع معين يزمان معين متوقفة على مدى توافق حصيلتها كمّا ونوعا مع الاحتياجات الحقيقية لافراد الشعب في هذا المجتمع المعين في هذا الزمان المعين . كيف يمكن أن يعرف القادة هذه الاحتياجات ؟ ممكن أن يعرفوا كم سعرأ حراريا يحتاجه الجسم لكي يعيش . ما هي الادوية المناسبة لبعض الامراض . ممكن أن يعرفوا اشياء كثيرة من مشكلات الحياة الفيزيائية ... ثم تنقطع سبل المعرفة الا سبيل واحد : ان يعبر الشعب تعبيرا بدون اكراه مادي أو ادبي عن احتياجاته الحقيقية . عن كل احتياجاته الحقيقية حتى غير القابلة للاشباع بما هو ممكن ، اذ من بين كل تلك الاحتياجات يمكن ان يعرف القادة ذلك القدر القابل للاشباع فى زمان معين وما لا يقبل الاشباع الا بعد زمان معين . ويمكن بالتالي اقامة ذلك النظام المميز للاشتراكية ؛ التخطيط . هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى فلما كانت احتياجات الشعب متجددة ابدا ، ما أن تشبع حاجة حتى تبرز حاجة جديدة فان القادة لن يعرفوا الاحتياجات الجديدة المتجددة للشعب إلا باستمرار تعبير الشعب تعبيرا حرا عن تلك الاحتياجات . وكما انه لا يوجد علم يستطيع القادة ان يعرفوا به الاحتياجات الحقيقية للشعب بدون الرجوع الى الشعب نفسه ، فانه لا يوجد ولا يمكن ان يوجد العلم الذي يتنبأ بما سيحتاجه الشعب فى المستقبل ( فيما عدا ما هو فيزيائي) . من هنا نرى ان هناك استحالة علمية فى أن يكون " القرار" الصادر باشباع الاحتياجات الحقيقية للشعب صحيحا بدون مساهمة الشعب في هذا القرار عن طريق التعبير الحر عن احتياجاته . واستحالة المعرفة العلمية لا تنفي الصدفة كما هو معروف . ولكن القرارات التي تأتي متفقة مع ما يريد الشعب " مصادفة " تخرج عن نطاق دراسة النظم دراسة علمية . من هنا قلنا فى غير هذه الدراسة ، ونقول الان ، ان الاستبداد بالقرار دون الرجوع الى الشعب ليس مجرد سلب لحق شعبي بل هو" فشل " فى حل المشكلات الاجتماعية . وهو فشل يسند إلى المستبدين أنفسهم الذين يتوهمون ان أفكارهم التي يعتقدون انها صحيحة هي صحيحة موضوعيا . ومنه نعرف انه فيما عدا النجاح صدفة فان كل مستبد هو حاكم فاشل .
السبب الثاني يرجع الى ما يعرفه او لا يكف عن الحديث عنه كل الماركسيين . نعني الطبيعة الموضوعية لقوانين الحركة وحتميتها . اضفنا اليها ونعيد التذكير بأنه بالاضافة الى القوانين الكلية التي تضبط حركة كل الاشياء والظواهر بما فيها الانسان ، يخضع الانسان ، مثله مثل اي نوع آخر ، لقوانين نوعية متميزة . من هذه القوانين انه " جدلي " . يتذكر ، فيتخيل ، فيريد . ولا يستطيع انسان ان يوقف حركته هذه . لا يستطيع ان يمحو ذاكرته او أن يطمس خياله ، أو أن يسقط ارادته . وارادته دائما ذات مضمون قد يكون ممكن التحقيق وقد لا يكون . هذا المضمون المفتقد هو ما نعبر عنه بالحاجة ، وهي حاجة يستطيع الانسان أن يتخلى عنها حين يدرك انها غير قابلة للتحقيق . ولكن ليريد مضمونا غيرها . وهي حاجة يمكن أن يقهر على الحرمان منها ولكنه لا يمكن أن يتحرر من ارادتها . ومن هنا نتبين ، ان كل احتياجات الشعب المادية والمعنوية والروحية ، المؤقتة والدائمة ، الآنية والمتجددة ، تتوالى على مدى الزمان فى نطاق حاجة انسانية غير قابلة للتوقف هي ان تتحقق ارادته . وهذه هي الحرية . فنقول ان الانسان حر بالضرورة .
ثم يمكننا القول ، انه حتى لو أمكن للقيادة ان تشبع ، بقرار منفرد منها ، كل الاحتياجات المادية والمعنوية والروحية للشعب وحدود الممكن موضوعيا في مجتمع معين في زمان معين فانها لن تشبع تلك الحاجة الاساسية غير القابلة للتوقف ، الحاجة الى الحرية . ومنه نعرف ان الاستبداد بالقرار دون الرجوع الى الشعب ، حتى لو نجح في اشباع احتياجات " الحياة المادية " فانه فشل في أشباع " حاجة " انسانية لا يشبعها الا تعبير الشعب عن ارادته . عن طريق المساهمة بالرأي في القرار . وبه يصدق القول بأن كل استبداد ينطوي على اكراه وكل مستبد طاغية .
٥٨- الغريب في أمر هذا الاستبداد (الوصاية) انه لم يعد " ماركسيا " الا لأن الماركسية التقليدية هي التي تفسره . أما الأن فيقول الماركسيون المحدثون في الاتحاد السوفييتي أن التجرية التاريخية الغنية قد قدمت اضافة اساسية وهامة الى النظرية الماركسية - اللينينية هي " ان الدولة التي قامت كدولة ديكتاتورية البروليتاريا قد أصبحت في المرحلة المعاصرة الجديدة دولة كل الشعب ، اي جهازا يعبر عن مصالح وارادة الشعب " . ويقولون : " ان الحصول على اغلبية برلمانية صلبة معتمدة على الحركة الجماهيرية الثورية للطبقة العاملة وحلفائها ممكن ان يخلق الظروف لاحداث تحولات اشتراكية جذرية " . ويقولون : " يزعم المراجعون ان النظام البرلماني يفترض وجود نظام تعدد الاحزاب ووجود معارضة وان ديكتاتورية البووليتاريا تستبعد هذا تماما .
لقد أثبتت خبرة الديموقراطيات فعلا انه من الممكن الاحتفاظ بنظام تعدد الاحزاب خلال فترة البناء الاشتراكي " (أسس الماركسية - اللينينية) . وخارج الاتحاد السوفييتي وخاصة فى اوروبا الغربية ما تزال الاحزاب الماركسية ـ أواغلبها - تقبل المباراة الديمقراطية وتحتكم إلى الشعب ، كل الشعب .
صحيح ان ثمة احزابا ماركسية ما تزال عالقة - كبعض النباتات العقيمة – بمقولات الفكر الماركسي التقليدي وخاصة في مجتمعات العالم الثالث حيت يملكون الكتب ويفتقدون التجربة ، الا أن الغالب في استبداد الوصاية ان تمارسه حكومات واحزاب غير ماركسية او معادية تماما للماركسية . ولكنها جميعا تتفق في جوهر هذا الاستبداد : افتراض صحة موقف الحزب في مواجهة الشعب ، وافتراض صحة موقف قيادة الحزب في مواجهة اعضائه ، لينتهي الامر إلى ارادة القيادة الفردية أو حتى الجماعية . كان هذا هو اسلوب الاستبداد لمصلحة الرأسمالية الكبيرة في حزب اسمه " النازي " . وكان اسلوب الاستبداد لمصلحة البورجوازية الصغيرة فى حزب اسمه الفاشست وله نماذج كثيرة من الاحزاب والحكام في العالم الثالث يصعب حتى معرفة على أي زعم من التفوق اقاموا وصايتهم على الشعوب .
على أي حال عرفنا نموذجين من الاستبداد المتحضر ، ومن قبلهما عرفنا نماذج من الاستبداد المتخلف ، وما تزال في جعبة الاستبداد نماذج اخرى ، ولكننا - حتى لا يطول الحديث أكثر مما طال – سنختار اكثرها " عصرية " . والعصرية تعني ، من بين ما تعني ؛ صقلا في الاسلوب ومضاء في السلاح . وتعني بالنسبة الى الاستبداد مقدرة أكبر على تضليل الشعوب . انه الاستبداد الذي نحب أن نسميه " الاستبداد الديمقراطي " .
***
3 ـ الاستبداد الديمقراطي :
الديمقراطية :
٥٩ ـ قال الفيلسوف استاذ الفلسفة شيخ الفلاسفة في مصر الدكتور زكي نجيب محمود : " ظاهرة تستوقف النظر في ميدان الفكر الفلسفي على اختلاف العصور وفي شتى أقطار الأرض ، وهي أن ذوي الاصالة من أصحاب هذا الفكر يغلب ان يكونوا من هواته . وقل أن يكونوا من محترفيه . ربما كانت العلة في هذا هي أن هؤلاء المحترفين تشغلهم دراسة المذاهب القائمة فلا يجدون لانفسهم من الفراغ ما يمكنهم من الانصراف الى تناول المشكلات الحية بالتفكير المبتكر الأصيل . او ربما كانت العلة في أن هؤلاء المحترفين على صلة اوثق من سواهم بعمالقة الفكر الفلسفي فيكونون أقرب الى استصغار انفسهم واستخفاف جهدهم : اذ ، ماذا في وسعهم أن يقولوا - هكذا يوحون الى انفسهم - بالقياس الى ما قالة العمالقة الضخام ؟ وانظر على سبيل المثال الى فلاسفة الانجليز منذ عهد النهضة حتى اليوم ؛ فرانسيس بيكون ؛ جون لوك ؛ باركلي هيوم ، جون ستيورات مل ، برتراند رسل ، تجدهم جميعا من غير جماعة المحترفين . لا بل ان منهم من حاول جهده ان يجد طريقه الى كرسي الاستاذية في الجامعات مثل هيوم فلم يوفق بحجة انه لم يؤهل للاستاذية في الفلسفة . لكنهم يخرجون مذاهبهم في مؤلفات فما هو الا ان تصبح تلك المؤلفات نفسها مشغلة الدارسين في أقسام التخصص بالجامعات (مجلة الفكر المعاصر- اكتوبر- ١٩٦٥) .
لم يذكر استاذنا معلم " الديمقراطية " جان جاك روسو مع انه أولى بانتباه الذين يستوقف انظارهم ، وقد يدهشهم ، اندفاع تيار الفلسفة العبقرية من القاعدة الى القمة . من الشوارع الى المكاتب . من الشعب الى القادة .
لقد ولد جان جاك روسو في جنيف عام ١٧١٢ ولم ينتظم في أية مد رسة ؛ وهجره والده في سن العاشرة ، ومنذ ذلك الوقت عاش مشردا بمعنى الكلمة . التحق بأحد الاديرة عام ١٧٣١ ثم هرب منه . حاول ان يعمل في أماكن كثيرة ومهن مختلفة ولكن مهنته التى كان يعتبرها اساسية هي تعليم الموسيقى . وقد عمل فعلا استاذا للموسيقى وألف عدة اوبرات دون ان يكون هو قد تعلم الموسيقى . وبقي سنين طويلة بدون أي عمل في ضيافة اشخاص متعددين فاحترف القراءة . فى عام ١٧٤٩ قرأ اعلانا عن جائزة . لمن يكتب افضل بحث في : " هل تفسد العلوم والفنون الاخلاق ام تنقيها " . فكتبه عام ١٧٥٠ وحصل على الجائزة الأولى وبدأ نجمه في الصعود ، اعني اشتهر فكريا لأنه ظل طوال حياته لا يعبأ بالجانب المادي للحياة لأنه قد قرر " ان يبقى فقيرا " ونفذ قراره . نشر كتابه " العقد الاجتماعي " عام ١٧٦٢ فأصبح مطاردا حتى من وطنه جنيف التي احرقت الكتاب فرد عليها بالتنازل عن جنسيته . لجأ فترة الى منزل ميرابو الذي لعب دورا هاما في مقدمات الثورة الفرنسية ثم لجأ الى انجلترا فترة . مات غريبا عام ١٧٧٨ ولكن وفاته نقلت بعد الثورة الى البانثيون حيث يدفن عظماء الرجال في فرنسا .
كان روسو فنانا واديبا وفيلسوفا وثائرا شعبيا ، ولا بد لفهمه من النظر إلى آرائه في الديمقراطية على ضوء هذه الابعاد المتعددة لشخصيته العبقرية . وهي عبقرية لانه سبق القرن العشرين بقرنين . وكان طبيعيا الا تحتمل الظروف الاجتماعية والطبقة الوسطى (البورجوازية) بالذات افكاره فلم تطبق الا في حدود ضيقة وغير مؤثرة . ولكن القرن العشرين يتجه بقوة وثبات لا شك فيهما نحو افكار روسو التي سبقت عصره . فعند روسو نجد المبادئ الاولية للديمقراطية الاشتراكية التي تكسب كل يوم انصارا جددا . يكفي ان نعرف أن روسو قد قال منذ قرنين " اذا بحثنا عما يتكون منه بالضبط أكبر قدر . من الخير للجميع ، وهو ما ينبغي ان يكون هدف كل نظام تشريعي ، سنجد انه يتلخص في شيئين رئيسين : الحرية والمساواة . الحرية لان كل تبعية خاصة هي قدر من القوة ينقص من جسد الدولة . والمساواة لانه لا بقاء للحرية بدونها . (الفصل الحادي عشر- الكتاب الثاني من العقد الاجتماعي) . انه لا يبرر الحرية بذلك التبرير الفردي الذي كان سائداً في عصره فهي حق طبيعي مقدس لا يجوز الانتقاص منه ، ولكنه يبررها اجتماعيا على أعلى مستوى فكري وصل اليه فلاسفة القرن العشرين . فالانسان الحر طاقة من طاقات المجتمع . وحرية الفرد جزء من حريته . وعندما يفقد الانسان حريته ، وهو يفقدها - عند روسو- بمجرد التبعية لغيره ، تنقص طاقة المجتمع كله ، وحرية المجتمع كله ، بقدر ما فقد ، أحد اعضائه . والحرية - عند ووسو - ليست ارادة متحررة من القهر كما كان سائدا في عصره ، بل هي مقدرة فعلية على تحقيق الارادة . قال : " لكل فعل حر سببان يجتمعان لانتاجه : احدهما معنوي وهو الارادة التي تحدد الفعل والآخر مادي وهو المقدرة على التنفيذ " (الفصل الاول - الكتاب الثاني) وهي النتيجة التي وصلت اليها البشرية بعد معاناة الاكتفاء بالحرية الليبرالية السلبية طوال قرنين .
ثم انه عندما ينتقل الى المساواة التي لا بقاء للحرية بدونها يقول : " اما فيما يتعلق بالمساواة فيجب الا نفهم من هذا اللفظ انه يجب التساوي الكامل فى درجات القوة والثراء ولكنه يعني فيما يتعلق بالقوة انها تسمو على العنف وانها لا تمارس الا على أساس المركز القانوني " (الفصل الحادي عشر - الكتاب الثاني) فهي – اذن - مساواة في القوة القانونية ، أو مساواة امام القانون وليست مساواة نمطية . يقول : " ان الميثاق الاصلي لأبعد ما يكون عن القضاء على المساواة الطبيعية ، بل على النقيض من ذلك ، انه يحل مساواة قانونية ومعنوية محلها ، مقابل ما قد تكون الطبيعة قد خلقته من عدم مساواة اجتماعية بين الناس وبذلك يصيرون جميعا متساويين قانونا واتفاقا وان كان بينهم تفاوت في القوة والذكاء " (الفصل التاسع - الكتاب الاول) .
وعندما ينتقل الي الحديث عن المساواة فى الثروة يربط بينها وبين الحرية فيقول " اما فيما يتعلق بالثروة فانها (المساواة) تعني الا يبلغ أي مواطن من الثراء ما يجعله قادرا على شراء مواطن آخر والا يبلغ مواطن من الفقر ما يدفعه الى بيع نفسه " ، ويضيف في الهامش : " اذا اردت ان تضفي على الدولة ثباتا قرّب بين الحدود القصوى بقدر الامكان فلا يبقى فيها غنى فاحش ولا فقر مدقع . فهذان الوضعان اللذان لا ينفصلان عن بعضهما البعض مضران بالخير العام . ان احدهما يؤدي الى وجود اعوان الطغاة والآخر الى الطغاة . وفيما بينهما تشترى الحرية وتباع . احدهما يشتريها والآخر يبيعها " (الفصل الحادى عشر - الكتاب الثاني) . ولا نكاد نعرف في كل الفكر المعاصر من استطاع كشف العلاقة بين الملكية والحرية على هذا الوجه العبقري . فالملكية ليست حقاً بدون حدود . بل هي محدودة بالا تستعمل في شراء حريات الآخرين . وهو هنا يرد ، ويدحض كل حجج الليبرالين . والغاء الملكية ليس هدفا في ذاته ولكنه يصبح هدفا بالقدر وفي الحدود التي لا تسمح للملكية بأن تشتري حرية الآخرين . وهو هنا يرد على ماركس قبل ان يظهر ماركس بقرن كامل . وما هو جدير بالتأمل العميق لما قال ذلك الرجل العبقري قوله عن الغنى الفاحش والفقر المدقع انهما " وضعان لا ينفصلان عن بعضهما البعض " .
وهو يكرر هذا المعنى في موضع آخر من كتابه فيقول " اذ اردنا ان تكون الدولة في نفس الوقت اقوى ما تكون وأفضل ما يمكن حكما وجب علينا توزيع السكان بالتساوي في الاقاليم كلها وممارسة الحقوق نفسها في كل مكان والعمل على تحقيق الرخاء والحياة في كل ركن من اركانها ".
" ولنتذكر ان المدن تتكون من أطلال منازل القرى . واني لأرى بعين الخيال بلدا بأسره تحول الى انقاض كلما رأيت قصرا جديدا يشيد في العاصمة " . ( الفصل الثالث عشر – الكتاب الثالث) . ان روسو يتحدث هنا ، ومنذ قرنين على أساس من نظرية " الندرة " اتيي ما تزال تحكم الاقتصاد العالمي حيث ما يزال الطلب الكلي أكثر من العرض الكلي ، وذلك بدون ان يعرفها . ففي مجتمع معين في زمن معين اذا وجد غنى فاحش فلا بد أن يوجد فقر مدقع فهما متلازمان على المستوى الرأسي (اغنياء وفقراء) : وعلى المستوى الافقي (مدن وريف) .
ولا يكتفي فيلسوف الحرية بطرح قضيته في صيفتها الفردية ، بل كعادته ـ في كتابه كله ـ ينظر اليها على أساس اجتماعي ديمقراطي . فهو لا يدين الاثرياء ثراء فاحشا ولا يبرئ ، الفقراء فقرا مدقعا ، بل يحمل التناقض ذاته مسؤولية انعدام الديمقراطية وسيادة الطغيان . فهو طغيان يشترك في اقامته الاثرياء ثراء فاحشا (الطغاة) والغغنراء فقرا مدقعا ـ (اعوان الطغاة) ، لأن الأولين يشترون الحرية والأخرين يبيعونها . إن روسو في كل هذا لم يكن عاطفيا ، ولا كان سفسطائيا كما وصفه الفرنسي ديجي ، بل كان عالما ذا منهج موضوعي عرف النظام الديمقراطي وارسى قواعده الاجتماعية قبل ان يكتشف الناس تلك القواعد بقرن ونصف او أكثر .
٦٠- يتلخص الجوهر المميز للديمقراطية كما بشر بها جان جاك دوسو في الاسطر الاتية : " لا يمكن أن يكون هناك تمثيل في السيادة لنفس السبب الذي يجعلها غير قابلة للتنازل فهي تكون اساسا من الارادة العامة (الشعبية) . والارادة العامة لا يمكن تمثيلها اطلاقا فهي اما أن تكون هي نفسها او لا تكون . وليس هناك حل وسط . ومن ثم فان مندوبي الشعب ليسوا الا مبعوثين فلا يستطيعون البت في شيء بتا نهائيا . وكل قانون لم يصدق عليه الشعب بنفسه باطل وهو ليس قانونا اصلا . يعتقد الشعب الانجليزي انه حر ولكنه مخطئ تماما . فهو لا يكون حرا الا اثناء انتخابه اعضاء البرلمان . ويمجرد ان ينتهي انتخابهم يعود الشعب عبدا " . " اذا لم يكن القانون الا تعبيرا عن الارادة العامة فانه من الواضح ان الشعب لا يمكن ان يكون له نواب فيما يتعلق بالسلطة التشريعية " (العقد الاجتماعي - الفصل الخامس عشر - الكتاب الثالث) .
ولقد تعرض روسو لنقد الكثيرين ودافع عنه كثيرون . ولكن أفضل ما صادفنا من نقد هو ما قاله الفقيه الفرنسي موريس ديفرجيه من أن وجهة نظر روسو ديموقراطية اكثر مما يجب (النظام الديموقراطي والنظام البرلماني) . هذا اذا اخذنا " ما يجب " على انه المناسب مع درجة نضج الظروف الموضوعية والذاتية في مجتمع معين للنظام الديمقراطي كما ارسى روسو قواعده . والواقع ان روسو نفسه لم يقل ان النظام الديموقراطي كما عرضه قابل للتطبيق في كل المجتمعات في كل الاوقات . وله في هذا تعبيره المشهور : " لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بطريقة ديمقراطية فهذا النوع من الحكم الذي يبلغ حد الكمال لا يصلح للبشر " (العقد الاجتماعي - الفصل الرابع - الكتاب الثالث) .. ان هذا القول ينفي ما نسب الى روسو من انه كان مثاليا ، ويؤكد انه كان واقعيا وهو يعرض المثل الاعلى " للنظام الديموقراطي . اذ المثالية هي فرض " الفكرة " ولو كانت مثلا اعلى على الواقع الذي لم تتوافر فيه الظروف الموضوعية لتجسيدها . ونهاية المثالية الى الفشل . ثم يبقى المثل الاعلى قادرا على الهام البشر معا الطريق الى الخلاص . والواقع ان الاتجاه الغالب في الفكر السياسي والقانوني يقر بأن النظام الديمقراطي الذي بشر به روسو هو الديمقراطية حقا ، و يسمونها " الديمقراطية المباشرة " . ويقيسون عليها النظم قربا وبعدا فيقولون "ديموقراطية شبه مباشرة " و" ديموقراطية نيابية" ويعتذرون عن عدم تطبيقها بصعوبات عملية هي عدم امكان اجتماع الشعب كله للاقتراع او مناقشة ووضع القوانين .
٦١- بعيدا عن المثالية لم تكف افكار روسو الديمقراطية عن التأثير في الواقع الاجتماعي كسلاح في أيدي الشعوب ضد الاستبداد البورجوازي ، وكمؤشر يعين للشعوب الاتجاه الصحيح الى الديمقراطية الصحيحة . فلم ينقض القرن التاسع عشر الا وقد استقر ان الوحه الديمقراطي لأي نظام ليس وجهه الحكومي بل هو ما يتمتع به الشعب فعلا من مقدرة على التعبيرعن ارادته فبرز ما اصبح يعرف " بالرأي العام " وجسد ذاته في ممارسات او نظم ومؤسسات لم يعد احد ينكر انه لا ديمقراطية بدونها مهما كانت المؤسسات الحكومية .
يقول بورجس ان الدستور الانجليزي لم يوجد الا عام ١٨٣٢ (ذكره روبرت رد سلوب - النظام البرلماني) مع ان كل ما حدث في عام ١٨٣١ هو بدء ما يسمى بالاصلاح الانتخابي بتخفيف القيود المفروضة على حق الاقتراع . ولكن هذا الاصلاح سيتكرر في اعوام ١٨٦٧، و ١٨٨٤ و١٩١٨ و
١٩٢٨ و١٩٤٨ ليصبح الانتخاب في انجلترا عاما وعلى درجة واحدة وبدون قيود مالية . ولقد تم كل هذا تحت ضغط الرأي العام خارج المؤسسات البرلمانية وضدها . يقول الدكتور مصطفى كامل : " كان الرأي العام في تلك المرحلة هو القوة الوحيدة التي تحد من سيطرن مجلس العموم اذ أن كلا من الملك والوزارة واللوردات كانوا عاجزين عن هذا . او كان نفوذ الأمة يزداد كل يوم منذ الاصلاح الانتخابي في عام ١٨٦٧ و ١٨٨٤ الذى وحد بين جماعة الناخبين والشعب ..، وعن طريق حل مجلس العموم درجت الحكومة على استفتاء الشعب فى كل مرة يثور فيها نزاع على السلطة او تعرض لها مسألة خطيرة " ( النظام الديمقراطي والبرلماني ـ ١٩٣٩) .
ويعدد الفقهاء عناصر الرأي العام وأدواته فيقولون انها : حرية التعبير وحرية الاجتماع وحرية الصحافة ... الخ . فنلاحظ ان حرية التعبير يقصد بها حرية التعبير خارج البرلمانات . وحرية الاجتماع يقصد بها حرية اجتماع المواطنين خارج مجالس الوزراء واللجان الادارية بغير دعوة او تكليف من أية سلطه حكومية . وحرية الصحافة يقصد بها حرية اصدار الصحف غير الرسمية .. الخ . وهكذا نرى أن الديمقراطية تقوم او لا تقوم خارج مؤسسات الدولة وحيث يوجد الشعب .
ويقال الآن لا ديمقراطية بدون معارضة . فنلاحظ ان المعارضة داخل المجالس النيابية يمثلها ذلك الفريق الذي لا يشارك فى الحكم . وهو ـ بالمفهوم النيابي ـ لا يمثل ارادة الامة ، اتما تمثلها الاغلبية ناخبين والاغلبية اعضاء . وما يصدر عن الاغلبية يعبر عن ارادة الامة . هذا هو الاصل في نظام التمثيل النيابي ، وهذا الأصل يمكن ان يقوم ويستمر بدون حاجة الى المعارضة .
انما تأتي القيمة الديمقراطية للمعارضة من انها - في مجلس الحكومة - تحاول ان تعبر ، او حتى تدعي التعبير ، عن ارادة الشعب وليس ارادة الناخبين . وان المعارضة في المجالس النيابية تمثل حقيقة القيد ، او "الفرملة " للنظام النيابي ومبادئه ، استنادا الى قوة الرأى العام ، أو كما تدعيه ، خارح مجلس النواب .
٦٢- واخيرا يأتي " النشاط الحزبي " فينقل الينا اساتذة القانون والعلوم السياسية قولا مترددا: " لا ديمقراطية بدون احزاب سياسية ". والسؤال الذي يهمنا طرحه هنا هو : لماذا ؟. . . ما علاقة الاحزاب بالديمقراطية ؟. ان الاحزاب منظمات شعبية فهي ليست اجزاء من نظام الحكم ؛ القائم ، أي نظام حكم قائم .. فاذا تولى حزب منها الحكم أصبح حكومة . ولا تعتبر أية حكومة ديمقراطية لمجرد انها " حكومة الحزب بدلا من أن تكون حكومة " الفرد ". والواقع ان مجرد أن تكون الحكومة حكومة حزبية لا يعني شيئا ذا دلالة خاصة بالنسبة الى الديمقراطية . وفي بعض الحالات تكون دلالة " حكومة الحزب " مساوية شكلا ومضمونا لدلالة " استبداد الحزب بالحكم دون الشعب ". فنعرف ان القول بالديمقراطية بدون احزاب سياسية يعني أحزابا سياسية غير الحزب الحاكم .
٦٣- وهكذا نرى كيف ان كل الممارسات الديمقراطية والمؤسسات المعترف بانها لازمة للديمقراطية تتم وتقع خارج نطاق ممارسة الحكم ومؤسسات النظام الحاكم . الاقتراع يقوم به اشخاص من خارح النظام . حريات الرأي والاجتماع والصحافة تتم ممارستها خارج النظام . الرأي العام يتجسد قوة خارج النظام . الأحزاب تنتظم مؤسسات ديمقراطية خارج النظام . نعني نظام الحكم . فيقال بأنه على قدر ما توجد وتنشط هذه الممارسات والأساليب والمؤسسات " الشعبية يستمد نظام الحكم ذاته ما يستحقه من وصف الديمقراطية . فيتأكد ان اطراد وجود نشاط هذه الممارسات والاساليب والمؤسسات الشعبية على مدى التاريخ السياسي كان وما زال يمثل اطرادا انتصار الديمقراطية ضد الاستبداد . واقترابا مطردا نحو المثل الاعلى الديمقراطي حيث يحكم الشعب نفسه بنفسه او ما يسمونه " الديمقراطية المباشرة " .
الاستفتاء الشعبي :
٦٤- ولقد أتاحت الظروف في بعض المجتمعات فرصة لخطوة ديمقراطية هائلة "نحو" الديمقراطية المباشرة " عن طريق الاستفتاء الشعبي ، الذي يفرض ، بدلالته الديمقراطية التي لا شك فيها ، على فقهاء القانون وأساتذة العلوم السياسية ان يصفوا أي نظام يداخله الاستفتاء الشعبي باسم " الديمقراطية المباشرة " تعبيرا عن اقترابه من الديمقراطية من ناحية وعن انه ما يزال دونها من ناحية أخرى .
والاستفتاء الشعبي أسلوب ديمقراطي في ممارسة الحكم اخذ اسمه اللاتيني من التقاليد القديمة لنظم الحكم في المقاطعات السويسرية . حيث المقاطعات محدودة عدد السكان الى درجة كان يمكن بها اجتماع أغلب المواطنين لمناقشة وإصدار القرارات . وكانت المقاطعات السويسرية تكوّن فيما بينها جامعة لها مجلس ذو اختصاصات تشريعية . وكانت كل مقاطعة تمثل في المجلس بمندوبين اثنين تزودهما بتعليمات محددة لا يجوز لهما مخالفتها او تجاوزها الا بعد الرجوع إليها . وكان أسلوب عودتهما ان تطرح المسألة التي جدت في المجلس على شعب المقاطعة للمراجعة "للاستفتاء" (بورتولي - المرجع السابق ، دولافريير - المرجع السابق) . وأول ما نلاحظه ان الرجوع الى الشعب هو بقصد اخذ رأيه في موضوع لم يكن المندوبان مفوضين أصلا برأي فيه . ولم يكن لاختيار مندوبين آخرين . فهو يختلف اختلافا أصليا عن انتخاب الأشخاص سواء كان الشخص رئيسا للدولة أو نائبا في البرلمان . ومع انه كانت للاستفتاء الشعبي تطبيقات معاصرة للثورة الفرنسية وبعدها في سويسرا والولايات المتحدة الأمريكية الا ان أهمية الاستفتاء الشعبي بدأت في الظهور بعد الحرب العالمية الأولى في دول وسط أوروبا . فبدلا من ان يكون الاستفتاء الشعبي منظما احتياطيا لنشاط النظام النيابي أو عاملا ثانويا بجواره ادخل فى صلب النظام بالدستور وأصبح فيه الضابط الرئيسي إن لم يكن ضابطا موازيا للتمثيل النيابي (جاريجو لاجرانج - المرجع السابق) . ودافع عنه بمقدرة فائقة واحد من ألمع فقهاء القانون العام هو الأستاذ كاريه دي مالبرج في مقال طويل نشره فى مجلة القانون العام الفرنسية عام ١٩٣١، قال فيه ان التطور الدائم لإدخال الاستفتاء الشعبي فى النظام النيابي مماثل للتطورات التى أدت الى ظهور النظام النيابي كحصانة ضد استبداد الملكيات المطلقة ، وانه يؤدي ذات الدور في مواجهة السلطات المطلقة للبرلمانات التي أسفر عنها النظام النيابي ويجب ان ينظر إليه على هذا الأساس وانه على أي حال نتيجة طبيعية للنظام النيابي ذاته ، وذلك لأنه منذ البداية ظهر النظام النيابي بقصد تدعيم سلطة البرلمان في مواجهة استبداد التاج . ولكن هذا لا يعني إغفال ان سلطة البرلمان قد قامت منذ البداية أيضا على أساس علاقة مفترضة بالشعب المعترف له بالسيادة . وهذا يقتضي ان نتوقع تزايد حقوق الشعب في ظله ، الى الحد الذي يحمله على أن يتمسك بها في مواجهة البرلمان ذاته . ومن هذه الزاوية يمكن القول بان النظام النيابي نظام انتقالي ما بين استبداد الملوك وديمقراطية الشعب وان مصيره الطبيعي ان يؤدي ، ان لم يكن الى الديمقراطية الكاملة ، فعلى الاقل الى تزاوج بين المؤسسات النيابية والمؤسسات الديمقراطية ( مجلة القانون العام - ١٩٣١) . ويقصد الفقيه الكبير بالمؤسسات الديمقراطية الاستفتاء الشعبي على وجه التحديد .
هذه التجارب الديمقراطية لم يكتب لها الاستمرار بفعل النظم الديكتاتورية (النازية والفاشية) التي سادت أوروبا في العقد الرابع من هذا القرن . ولكن ما أن انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة الديكتاتورية الفاشية حتى عاد الاستفتاء يأخذ مكانه أولا في دستور ايطاليا الصادر عام ١٩٤٧ (المادة ٧٥) ، ثم يشكل اكثر قوة وثباتا فى فرنسا ابتداء من عام ١٩٤٦، إلى أن استقر جنبا إلى جنب مع التمثيل النيابي كأسلوبين دستوريين لإصدار القوانين في دستور١٩٥٨ . يقول الدستور في المادة الثالثة : " السيادة القومية ملك للشعب يمارسها عن طريق ممثليه وعن طريق الاستفتاء الشعبي
٦٥- وفي مصر قامت الثورة ونجحت بقيادة جمال عبد الناصر يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢ معلنة ان احد أهدافها إقامة حياة ديمقراطية سليمة . ويكاد يجمع فقهاء القانون العام في مصر على أن فشل النظام النيابي في عهد ما قبل الثورة كان أحد أسباب قيامها (سيد صبري مصطفى أبو زيد ، كامل ليله ، عبد الفتاح ساير داير ... الى آخرهم) . وفي ١٠ ديسمبر ١٩٥٢ أعلن القائد العام للقوات المسلحة سقوط دستور١٩٢٣. وفي يوم ١٣ يناير٣ه١٩ صدر مرسوم - لجنة من خمسين عضوا لتعمل في " وضع مشروع دستور يتفق مع أهداف الثورة . وقد أعدت مشروعها وقدمته فعلا إلى مجلس الوزراء يوم ١٧ يناير ١٩٥٥. ولكن قيادة الثورة لم تقبله ووضعت دستورا أعلنته يوم ١٦ يناير ١٩٥٦ . وكان سبب رفض المشروع الذي وضعته اللجنة انه " يقصر" دور الشعب على مهمة انتخاب نوابه في فترات معينة من الزمن دون أن يفسح مجالا ليمارس الشعب بعض سلطاته بنفسه اثناء هذه الفترة (ثروت بدوي - موجز القانون الدستوري - ١٩٧٣ وعبد الفتاح ساير داير- القانون الدستوري ، وسليمان الطماوي ـ القانون الدستوري المصري) . وهكذا دخل الاستفتاء الشعبي مصر محمولا على الاتجاه الديمقراطي الثابت لثورة ٢٣ يوليو تحت قيادة جمال عبد الناصر . فدستور ١٩٥٦ نص على أن يرشح مجلس الأمة بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه رئيس الجمهورية ويعرض الترشيح على المواطنين لاستفتائهم فيه (مادة ١٢١) . كما نص على أن لرئيس الجمهورية ، بعد أخذ رأي مجلس الأمة ، أن يستفتي الشعب في المسائل الهامة التي تتصل بمصالح البلاد العليا (مادة ١٤٥) وفي المادة ١٨٩ نظم إجراءات تعديل مادة او أكثر من الدستور تنتهي بعرض التعديل على الشعب لاستفتائه في شأنه . وأخيرا نص في المادة ١٨٦ على : " يعمل بهذا الدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء " .
أما دستور ١٩٦٤ فقد أعاد النص في المادة ١٠٢ على الاستفتاء على رئيس الجمهورية الذي يرشحه مجلس الأمة . وأعاد النص في المادة ١٢٩ على أن لرئيس الجمهورية ان يستفتي الشعب في المسائل الهامة التي تتصل بمصالح البلاد العليا ولكن بدون اشتراط اخذ رأي مجلس الأمة كما كان الأمر في دستور ١٩٥٦. ولما كان دستور ١٩٦٤ دستورا مؤقتا فانه لم يطرح للاستفتاء ، ولكن نص في ديباجته على أن يعمل به ابتداء من تاريخ صدوره (٢٥ مارس ١٩٦٤) إلى ان يتم مجلس الأمة وضع مشروع الدستور الدائم ويطرح ( مشروع الدستور الدائم) على الشعب لاستفتائه فيه .
وفي ١١ سبتمبر ١٩٧١ استفتى الشعب في الدستور الدائم ووافق عليه . وأعاد تأكيد الاستفتاء الشعبي كوسيلة لاختيار رئيس الجمهورية (المادة ٧٦) ولإقرار كل تعديل في أحكامه (المادة ١٨٩) . وان لرئيس الجمهورية ان يستفتي الشعب في المسائل الهامة التي تتصل بمصالح البلاد العليا (المادة ١٥٢) . ولكنه استحدث نصا لم يكن واردا في دساتير مصر من قبل ذلك هو نص المادة ٧٤ التي تقول : " لرئيس الجمهورية اذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية او سلامة الوطن او يعوق مؤسسات الدولة عن آداء دورها الدستوري ، ان يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر ، ويوجه بيانا الى الشعب ، ويجري الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها " . كما استحدث نصا آخر هو نص المادة ١٢٧ التي تقول : " لمجلس الشعب ان يقرر بناء على طلب عشر أعضائه مسئولية رئيس مجلس الوزراء ويصدر القرار بأغلبية أعضاء المجلس . ولا يجوز ان يصدر هذا القرار الا بعد استجواب موجه إلى الحكومة وبعد ثلاثة أيام على الأقل من تقديم الطلب . وفى حالة تقرير المسؤولية يعد المجلس تقريرا يرفعه الى رئيس الجمهورية متضمنا عناصر الموضوع وما انتهى إليه من رأي في هذا الشأن وأسبابه . ولرئيس الجمهورية ان يعرض موضوع النزاع بين المجلس والحكومة على الاستفتاء الشعبي . ويجب ان يجري الاستفتاء خلال ثلاثين يوما من تاريخ القرار الأخير للمجلس وتقف جلسات المجلس في هذه الحالة فإذا جاءت نتيجة الاستفتاء مؤيدة للحكومة اعتبر المجلس منحلا ، والا قبل رئيس الجمهورية استقالة الوزراء "
وأخيرا ، استحدث دستور ١٩٧١ نصا ثالثا هو نص المادة ١٣٦ التي تقول : " لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس الشعب الا عند الضرورة وبعد استفتاء الشعب . و يصدر رئيس الجمهورية قرارا بوقف جلسات المجلس وإجراء الاستفتاء خلال ثلاثين يوما من تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء . ويجتمع المجلس الجديد خلال الأيام العشرة لإتمام الانتخاب " .
٦٦- اما عن استعمال أسلوب الاستفتاء الشعبي فبالإضافة الى الاستفتاء على الدساتير ورئاسة الجمهورية ، لجأ إليه الجنرال دي جول في فرنسا أربع مرات في المدة من ١٩٦١ حتى ١٩٦٩ .
كانت المرة الأولى يوم ٨ يناير ١٩٦١ وفيها استفتى الشعب الفرنسي في الإجابة على سؤالين الأول خاص بتنظيم السلطات في الجزائر والثاني خاص بمبدأ " حق الجزائر في تقرير مصيرها. وكانت المرة الثانية يوم ٨ ابريل ١٩٦٢ وفيها طرحت الى الاستفتاء اتفاقيات ايفيان التي أبرمت بين الحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر وبين الحكومة الفرنسية بعد مفاوضات سرية طويلة بدأت في مايو ١٩٦٠. وكانت المرة الثالثة يوم ٢٨ أكتوبر ١٩٦٢ وفيها طرح رئيس الجمهورية على الاستفتاء مشروع قانون يتضمن تعديل نص في الدستور خاص بطريقة انتخاب رئيس الجمهورية . وكانت المرة الرابعة والأخيرة يوم ٢٩ ابريل ١٩٦٩ وفيها طرح الجنرال دي جول على الاستفتاء مشروع قانون خاص بتقسيم إداري لفرنسا وتعديل في اختصاصات مجلس الشيوخ .
وفي مصر طرحت على الاستفتاء يوم ٢ مايو ١٩٦٨ وثيقة سياسية مطولة عرفت باسم " بيان ٣٠ مارس " وفي يوم ١٥ مايو ١٩٧٤ طرحت على الاستفتاء وثيقة سياسية مطولة أخرى عرفت باسم " ورقة أكتوبر " . وفي يوم ١٠ فبر اير١٩٧٧ طرح على الاستفتاء قانون كامل يتضمن ١١ مادة .
وفى يوم ٢١ مايو ١٩٧٨ طرحت على الاستفتاء مجموعة كبيرة من الأفكار والمبادئ عرفت باسم " مبادئ حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي ". وفي يوم ٢ ابريل ١٩٧٩ طرح على الاستفتاء موضوعان رئيسيان الأول : معاهد ة السلام وملحقاتها بين جمهورية مصر العربية ودولة اسرائيل . والثاني : حل مجلس الشعب . وفيما بينهما ١٢ موضوعا آخر ، وفي يوم ٢٢ مايو ١٩٨٠ طرح على الاستفتاء تعديل الدستور.
الاستبداد الديمقراطي :
٦٧- لم نقل عن الاستبداد البورجوازي انه استبداد ديمقراطي لأن أسلوب البورجوازية في استبدادها او - على الأصح - في تغطية استبدادها هو نظام التمثيل النيابي . ونحن لا نسلم بان التمثيل النيابي أسلوب ديمقراطي أصلا . بل نقول مع رينيه كابيتان ان نظام التمثيل النيابي في أصله قام بعيدا عن الديمقراطية ومضادا لها (الديمقراطية والممارسة السياسية - ١٩٧٢) .. أما هنا فإننا نسلم تسليما كاملا بأن " الاستفتاء الشعبي " أسلوب ديمقراطي ، بل نزيد فنقول انه هو الأسلوب الديمقراطي الأصيل . اذ من ذا الذي يعترض على ما يريده الشعب ؟ لا أحد الا المستبدون . من هنا تأتي رهبة الحديث عن " استبداد ديمقراطي " لأنه يدور تحت إرهاب الاتهام بالاعتراض على ما يريده الشعب . وهو اتهام بإثم عظيم . ومع ذلك نقول ان كون الاستفتاء الشعبي أسلوبا مسلما بديمقراطيته يجعله صالحا ليكون ستارا عصريا مروعا ـ ولا نقول رائعا ـ للاستبداد . ثم نتحدث عن الاستبداد الديمقراطي بحذر شديد لا خوفا من الاتهام بالوقوف ضد ما يريده الشعب ولكن خوفا من ان ينزلق بنا الحديث الى موقف مضاد للديمقراطية .
استجابة لدواعي هذا الحذر نبادر الى استبعاد الحجة المتداولة بين الذين يناهضون الاستفتاء الشعبي او يحذرون من مخاطره : التزييف . ان هذه الحجة تستند الى أن نتائج الاستفتاء الشعبي تأتي دائما مؤيدة " للقرار" المطروح على الاستفتاء وبنسبة " غير معقولة " . ولهم في التدليل على عدم معقوليتها طرائف من بينها انه في عام ١٩٦٦ طرح فرانكو حاكم اسباني الراحل قانون الوراثة من بعده على الاستفتاء الشعبي فأسفر عن أن عدد الذين قالوا " نعم " أكثر من عدد المقيدين في جداول الانتخاب . ومنها ان أول استفتاء شعبي حدث في فرنسا عام ١٧٩٣ كانت نسبة من قالوا نعم فيه ٩٩،٩٩ ٠/' وان هذه النسبة لم تقلّ عن ٠٩٠/' في خمسة استفتاءات جرت خلال نصف قرن (٧ فبراير ١٨٠٠ دستور نابليون - ٢ أغسطس ١٨٠٢ نابليون قنصل مدى الحياة - ١٨ مايو ١٨٠٤ نابليون إمبراطور - ديسمبر ١٨٥٠ تفويض لويس نابليون في وضع دستور ١٨٥٢ لويس نابليون إمبراطور) .
وفي مصر أعلن أن نسبة الذين قالوا " نعم" إلى الذين أدلوا بأصواتهم كانت ٩٩، ٠٩٩/' في الاستفتاء على " بيان ٣٠ مارس " في ٢ مايو ١٩٦٨. وكانت ٩٥، ٩٩ ./• في الاستفتاء على "ورقة أكتوبر " يوم ١٥ مايو ١٩٧٤. وكانت ٤٢، ٩٩./' في الاستفتاء على القرار بقانون رقم ٢ لسنة ١٩٧٧ يوم ١٠ فبراير ١٩٧٧. وكانت ٢٩، ٠٩٨/' في الاستفتاء على " مبادئ حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي " يوم ٢١ مايو١٩٧٨.
وكانت ٩٠، ٩٩ ٠/' في الاستفتاء على " معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية وأسس تنظيم الدولة تدعيما للديمقراطية " يوم ٢٠ أبريل ١٩٧٩. وكانت ٥٦،٩٨ ٠/' في الاستفتاء على التعديلات الدستورية يوم ٢٢ مايو ١٩٨٠. وتماثل هذه النسبة ما يعلن عن عدد الذين شاركوا في الاستفتاء الى عدد المقيدة أسماؤهم في جداول الانتخاب وهي نسبة تزيد أضعافا عن نسبة الذين يشاركون فعلا في انتخابات المجالس النيابية . وقد لوحظ أنه في ١٦ سبتمبر ١٩٧٦ أجرى استفتاء شعبي على شخص رئيس الجمهورية فأعلن أن قد حضر الى مقار الاستفتاء واشترك فيه تسعة ملايين مواطن . في ذلك الوقت نفسه كانت انتخابات أعضاء مجلس الشعب الجديد قائمة على قدم وساق . وكانت المنافسة فيها دائرة بين حوالي ٢٠٠٠ مرشح .. تساندهم منظمات شبه حزبية (منابر) . وقد قضى المتنافسون أكثر من شهرين يصولون ويجولون في القرى والكفور والمدن والشوارع والأزقة ويطرقون بيوت المقيدة أسماؤهم في جداول الانتخاب ، وينفقون مئات الألوف من الجنيهات في تحريض أو تشجيع أو إغراء الناخبين على المساهمة في الاقتراع ، ويضعون تحت تصرفهم وسائل الانتقال من منازلهم الى مقار لجان الاقتراع ، إذ كان حضور الناخبين وإدلاؤهم بأصواتهم " هدفا مشتركا " لكل المرشحين بالإضافة الى أهداف كل مرشح على حدة . ومع ذلك فإن الذين اشتركوا في انتخاب أعضاء مجلس الشعب لم يزيدوا عن ثلاثة ملايين ، أي حوالي ٣٠ ٠/' من الذين أعلن أنهم شاركوا في الاستفتاء بالرغم من أن الفترة الزمنية التي كانت قد انقضت بين الاستفتاء والانتخاب هي ٤٢ يوما فقط . فيتساءلون : هل هذا معقول ؟.. هل يعقل أن يتفق ٩٩ ٠/' من الناس في أي مجتمع ، في أي زمان ، على أي شيء ؟.. هل يعقل أن يكون المتطوعون للإدلاء بأصواتهم أضعاف الذين تتوافر لديهم أسباب أخرى بالإضافة الى الرغبة في الاقتراع ؟ وينتهي الأمر بكثيرين إلى القول بأن كل الاستفتاءات زائفة وأن النتائج المعلنة بعيدة عن المساهمة الفعلية من جانب المواطنين فى الاستفتاء وليست بعيدة عن ارادة الذين أسهموا فعلا فقط .
يبدو كل هذا معقولا ولكنه محل خلاف فمهما تكن ظواهر التزييف الا ان دلالتها غير قاطعة . وقد حدث " مرة " في التاريخ أن قال الشعب الفرنسي" لا " ردا على أسئلة استفتاه في الإجابة عليها أعظم قادة تاريخه الحديث وأكثرهم شعبية . وكان ذلك يوم ٢٩ إبريل ١٩٦٩ حين طرح الجنرال دي جول على الاستفتاء الشعبي مشروع قانون يتضمن تقسيما إداريا جديدا لفرنسا وتعديلات في اختصاصات مجلس الشيوخ . وقد استقال الجنرال دي جول من رئاسة الجمهورية على أثر هذا الاستفتاء معتبرا أن عدم موافقة الشعب على مشروع القانون سحب للثقة به ، فأثبت انه أكثر قادة التاريخ الحديث احتراما للشعب والتزاما بالديمقراطية بالرغم مما اتهمه به الكثيرون من أنه قد اتخذ من الاستفتاء الشعبي وسيلة ليتحول الى قيصر مستبد (بوردو ـ المرجع السابق ، وبرتولي المرجع السابق ، وهرفي دوفال - المرجع السابق ، وبيريلا - مجلة القانون العام ١٩٦٢، وجاك جوجريل ـ نقد وإصلاح دساتير الجمهورية) . صحيح أنها مرة واحدة يتيمة في التاريخ ولكنها تحد من إطلاق الاتهام بالتزييف على كل استفتاء . والواقع أن تزييف الاستفتاءات أو قابليتها للتزييف تتوقف على مقدرة الشعوب أو عجزها عن فرض إرادتها وحماية أسلوب التعبير عنها ولا تتوقف على الاستفتاء ذاته . فكما تزيف الاستفتاءات تزيف الانتخابات .
من ناحية أخرى قد تكون النسب المرتفعة الى حد غير معقول في الظروف الاجتماعية العادية نسبا معقولة في ظروف اجتماعية غير معقولة . هب أن الشعب يعرف من خبرته التاريخية أن ليس له في الاستفتاء ناقة ولا جمل ، وأن الأمر كله إجراء شكلي ، وأن موقفه لن يغير القرارات التي صدرت ونفذت .. فليس من المستبعد أن يكون الذكاء الشعبي قد رأى في يوم الاستفتاء " إجازة " متاحة . أو رأى في " الاستفتاء " إعفاء من غرامة مالية مفروضة على من يتخلف عن الإدلاء بصوته . فإن حضر وقال نعم فلأنه " لا فائدة من قول لا " ..
٦٨ـ تعرف بعض النظم الدستورية حالات يتوقف فيها نفاذ القرار على رأي الشعب كما يعبر عنه في الاستفتاء . ومثاله ما يسمى " بالاستفتاء التصديقي " وفيه يطرح على الاستفتاء مشروع قانون وافق عليه البرلمان وتوقف نفاذه على رأي الشعب . (ايسمان - المرجع السابق ، بارطمي - المرجع السابق) ومنه ما يسمى " بالاعتراض الشعبي " ومثاله ما كان ينص عليه دستور جمهورية فيمار (المادة ٧٣) ودستور ايرلندة الصادر في ٢٥ أكتوبر ١٩٢٥ (المادة ٤٧) وفيه يتوقف نفاذ القانون إلى أن يستفتى فيه الشعب . ومنه استفتاء الشعب في قرار نافذ منذ صدوره
ليكون للشعب أن يوقف نفاذه أو يوافق على استمراره . ومثاله ما نصت عليه المادة ٧٤ من الدستور المصري الصادر ١٩٧١، حيت تكون الإجراءات التي تتخذ طبقا لهذه المادة نافذة منذ صدورها ثم تعرض على الاستفتاء الشعبي فينتهي نفاذها أو يستمر طبقا لما يسفر عنه الاستفتاء .
فى كل هذه الحالات يوجد استفتاء شعبي حقيقي تكون نتيجته ذات أثر قانوني وفعلي في مصير القرار موضوع الاستفتاء . فيمكن أن يكون ثمة وجه للحديث عن تزييف أو عدم تزييف الاستفتاء . ولكن فى بعض الحالات يكون القرار موضوع الاستفتاء قد صدر ونفذ فعلا وقانونا بدون توقف على نتيجة الاستفتاء . فى هذه الحالات لا يوجد استفتاء شعبي أصلا بأي معنى من معاني الاستفتاء الشعبي ، فيكون الحديث عن تزييف أو عدم تزييف الاستفتاء حديثا عابثا ، وفي العبث تستوي دلالة "لا" ودلالة " نعم" .. فلماذا يقول أي شعب ذكي" لا" بدلا من" نعم"..
٦٩ـ كان ايمانويل جوزيف سييز رجل دين فرنسيا ومثالا تاريخيا للسياسي الانتهازي العابث . ولد عام ١٧٤٨ وتوفي عام ١٨٢٦ . كتب قبيل اجتماع الجمعية الوطنية كتيبا دافع فيه عن الشعب فبرز كرجل شعبي ولكنه انحاز الى التيار البورجوازي السائد . فلما تشكلت الجمعية الأساسية بعد ذلك واتخذت موقفا شعبيا انحاز أيضا إلى التيار السائد فولته منصبا فى رئاسة الدولة . فلم يلبث أن تآمر للاستيلاء على السلطة ثم اختفى إلى أن عاد نابليون من مصر فاتصل به وتآمر معه وعينه نابليون بعد نجاح الانقلاب في مجلس رئاسة الدولة أيضا .
هذا الرجل هو مخترع أسلوب العبث بإرادة الشعب ، نعني استفتاء الشعب في قرارات نفذت فعلا بقصد " المساندة " . قال : " يجب أن يأتي النفوذ من أعلى والمقدرة من أسفل . إن الشعب هو أساس البناء ولكن لا يجب عليه إلا أن يساند ويدعم القمة " (ذكره لافريير - المرجع السابق) . وقد فعلها نابليون كأول سابقة في التاريخ . أعد له سييز دستورا وضعه موضع التنفيذ فعلا يوم ٢٥ ديسمبر ١٧٩٩ واستفتى فيه الشعب يوم ٧ فبراير ١٨٠٠ أي بعد تنفيذه بشهرين .
وفي يوم ١٨ مارس ١٩٦١ ألقى الرئيس الفرنسي دي جول خطابا طويلا أعلن فيه موافقته على اتفاقيات ايفيان الخاصة باستقلال الجزائر . وفي اليوم التالي وقع على الاتفاقيات فأصبحت نافذة طبقا للسلطات المخولة له كرئيس للجمهورية في المادة ٥٢ من الدستور بدون حاجة الى استفتاء الشعب فيها . ومع ذلك فإنه قد طرحها على الاستفتاء الشعبي الذي تم يوم ٨ إبريل ١٩٦٢ فكان ذلك محل نقد ساخر من جانب أساتذة القانون والعلوم السياسية (بوردو – المرجع السابق ، وبورتولي- المرجع السابق) .
وفى يوم ٢٦ مارس ١٩٧٩ وقع رئيس جمهورية مصر العربية اتفاق سلام مع دولة إسرائيل ..
وأصدر به القرار الجمهوري رقم ١٥٣ لسنة ١٩٧٩ ووافق عليه مجلس الشعب بتاويخ ١٠ إبريل ١٩٧٩.
فأصبح الاتفاق نافذا وله قوة القانون طبقا للمادة ١٥١ من الدستور بدون حاجة إلى استفتاء الشعب فيه . ومع ذلك فإنه قد طرح الاتفاق الذي أسمي " معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية على الاستفتاء الشعبي يوم ٢٠ إبريل ١٩٧٩.
فى كل هذه الأمثلة لم يوجد استفتاء أصلا حتى يمكن أن يقال أن إرادة الشعب قد زيفت أو لم تزيف . وليس لكلمة " نعم " أو كلمة " لا " أية دلالة على الإطلاق حتى يمكن أن يقال أن نسبة الذين قالوا " نعم " غير معقولة . بل يمكن أن يقال ويكون قولا قريبا من الصحة أن ذكاء الشعوب وخبرتها بالمستبدين وحيلهم قد تجعلان نسبة الـ ٠٩٩/' أو حتى الإجماع على كتابة " نعم " على ورقة الاستفتاء هي النسبة المعقولة في استفتاء غير معقول .
أيا ما كان الأمر فإننا نفترض أن الاستفتاء الشعبي قد تم صحيح الشكل لم يفسده التزييف لنستطيع بأكبر قدر من الوضوح كشف غطائه السليم عن الاستبداد الشائه الذي يختفي تحته . ولنتعرف - بوجه خاص - على " سيكولوجية " الاستبداد الديمقراطي . سنجد في كل صوره أن مصدر القرار المستبد يعرف تماما أنه مستبد ولكن تنقصه شجاعة مواجهة المسئولية عن قراره . المسئولية الدستورية أو الجنائية ، أو السياسية أو حتى المسئولية التاريخية . فيبحث عن أسباب البراءة قبل المحاكمة ، ويعد وسائل الدفاع ضد أي اتهام محتمل وذلك بأن يتنصل من قراره ويسنده الى الإرادة الشعبية عن طريق الاستفتاء الشعبي . ثم يتخذ من الإرادة الشعبية المزعومة مبررا لمزيد من الاستبداد والبطش . وهكذا يجد نفسه محمولا على حلقات دائرة الاستبداد الجهنمية من استفتاء الى استفتاء . سنفتقد المعرفة الدقيقة بهذا الاستبداد إذا ما انصرف انتباهنا إلى ما قد يرد على الاستفتاء الشعبي من تزييف أو تزوير ، وهو احتمال وارد حتى لو كان الاستفتاء ديمقراطي المضمون . لهذا نستبعد حجة التزييف من حديثنا عن الاستبداد الديمقراطي .
الاستفتاء المحرم :
٧٠- الأصل أن المرجع في معرفة ما اذا كان قرار مستبدا أو غير مستبد إلى أمرين عرفناهما : أن يكون معبرا عن إرادة فرد أو أقلية (إلغاء التعدد) أو يكون متضمنا استثار فرد أو أقلية بالإمكانات المتاحة في المجتمع أو أغلبها (إلغاء المجتمع) . وقد رأينا من قبل كيف يكون الاستبداد في المجتمع المنظم . كيف يكون بالقانون . وأسميناه استبدادا متحضرا . وقدمنا له نموذجين : البورجوازي والماركسي . الاستبداد الديمقراطي نموذج متحضر أخر وإن كان أكثر عصرية . ومعنى هذا أنه يتم في مجتمع منظم يحكمه دستور ويسوده القانون . ويتميز الاستبداد الديمقراطي بإشراك الشعب في اتخاذ القرار وهو ما يصلح ستارا مروعا - كما قلنا من قبل - لتغطية القرارات الفردية أو التي تعبر عن إرادة الأقلية . ولكن معرفة ما اذا كان الاستفتاء الشعبي أسلوبا ديمقراطيا أم ستارا لاستبداد فردي يحتاج الى الرجوع الى النظام ذاته . إلى الدستور الذي ينظم أساليب اتخاذ القرارات ومضامينها . فحيث نجد أن الاستفتاء يجري بالمخالفة للدستور نقول أنه " محرم " دستوريا . ولما كانت مخالفة الدستور هي في ذاتها استبدادا ، فإن كل استفتاء شعبي يقع مخالفا للدستور هو ستار ديمقراطي للاستبداد أو - كما نسميه – استبداد ديمقراطي . إلا الاستفتاء على الدستور وتعديلاته . فبالرغم من كل الحجج التي ساقها الفقيه الفرنسي ايسمان ضد طرح الدستور على الاستفتاء الشعبي وتفضيله أن ينتخب الشعب نوابا عنه يضعون له الدستور (ايسمان - المرجع السابق) ، نقول كما قال هربرت سبنسر: " كيف يخلق النائب حقا لخالقه هو نفسه " (الإنسان ضد الدولة) . ذلك لأن الدستور هو القانون الأساسي والأول ، بمعنى أن قبله لا يوجد تنظيم لكيفية اتخاذ القرارات التي تنصب على المجتمع كله وتمس حياة كل فرد فيه . وبدونه لا يوجد مجتمع منظم أصلا . وبالتالي لا توجد أية جهة أو أحد له حق إصدار دستور أو تعديله ما لم يقبله الشعب . أما في نطاق الدستور فكل استفتاء شعبي ينطوي على مخالفة للدستور هو ستار ديمقراطي للاستبداد .
٧١- في حكمين صادرين يوم ٢٩ يونيه ١٩٦٧ و١٩ يوليو ١٩٥٨ قضت المحكمة الإدارية العليا في مصر العربية بأن كل قانون أو قرار يكون باطلا ومعدوم الأثر إذا خالف نصا دستور قائما أو خرج على روحه ومقتضاه وهو قضاء مستقر ومدعم بتأييد الفقه بدون استثناء . يضيف الأستاذ جورج بوودو في " موسوعة العلوم السياسية - الجزء الرابع " إيضاحا فيقول ان الدساتير قد بدأت تاريخيا أدوات للحد من السلطة . ولا شك في أنها كانت بذلك تعبيرا عن السيادة الشعبية . ولكن الدساتير تصدرها الشعوب يستعملها الحكام الذين جاؤوا من بين الشعب حقا ، ولكنهم بتوليهم الحكم يصبحون خارجه وفي مواجهته . انهم الطرف الأخر في العلاقة الدستورية .
وهكذا تفترض فكرة الدستور ذاتها التفرقة بين الحاكمين والمحكومين . ويكون الدستور تحديدا لنظام ممارسة السلطة على وجه لا يتوقف على الحكام أنفسهم . ومع ذلك فإن المفهوم التقليدي للديمقراطية ونعني به الديمقراطية الليبرالية يستبعد الاستبداد نظريا ما دام الشعب يسود ولا يحكم ، اذ يصبح كل فعل صادر من الحاكمين طبقا للشكل الدستوري مشروعا . أي مطابقا للدستور من حيت هو نظام للسلطة .
في هذا النظام لا تنبع السلطة من الحاكمين ولا تتوقف غايتها عليهم . اذ انهم حين يتولونها يجدون أنها محددة من قبل بالقواعد الدستورية ، فلا يكون ثمة دور يلعبونه الا ممارستها في تلك الحدود المرسومة لها . ولا شك في أن النص في الدستور على ما هي السلطة وحدودها وشروط ممارستها ومن يتولاها وكيف تكون ولايتها لازم لقيام نظام دستوري . ولكن التطور الدستوري قد أضاف الى كل هذا قواعد وأحكام تحدد ما يجب ان يكون عليه جوهر القرارات والقوانين التي يصدرها الحكام في حدود اختصاصاتهم الدستورية الشكلية . وأصبح كل دستور في العالم يتضمن إعلانا للحقوق سابقا عليه أو في مقدمته أو في أبوابه الأولى ما يعبر عنه بالمبادئ الأساسية.
ان تلك المبادئ لا تقرر سلطة مضافة الى السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ولا تحدد اختصاصات لمن يتولاها ولا تتضمن بيانا بإجراءات نفاذها ، إنها تفعل ما هو فوق هذا كله . انها تحدد الغايات التي يجب على من يتولى السلطة أن يستهدفها وهو يماس سلطاته المقررة في الأبواب الأخرى .
ومن هنا فإن شرعية تصرفات الحاكمين لم تعد متوقفة على مجرد توفر الشروط الشكلية : أن تصدر من مختص في حدود اختصاصه . بل أضيف شرط آخر أن تكون متفقة ومؤدية الى الأهداف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عينها الدستور ذاته . لا يماري أحد في هذا الآن وإن كانوا في الماضي يمارون . لم يكن يتفق كثيرون مع ما قاله منذ أكثر من قرن سان سيمون " ان الدستور تقنين لفكرة سياسية أو تطبيق لنظام فلسفي " . أما في هذا القرن فعندما نص الدستور الفرنسي الصادر عام ١٩٤٦ على أن تكون الإدارة الاقتصادية للدولة طبقا لخطة اعتبر التخطيط الاقتصادي غاية دستورية وليس مجرد شكل لممارسة الإدارة الاقتصادية . فقال مقرر الدستور عند مناقشته : " لقد أدخلنا النص على التخطيط في الدستور وهو تعبير عن نظام اجتماعي اقتصادي متميز سيكون فرضا على المشرع أن يلتزمه فيما بعد " .
على ضوء هذا نرى فنعرف أن الاستفتاء الشعبي يكون غطاء للاستبداد (مخالفة الدستور) في ثلاث حالات أولاهما : أن يكون واردا على قرار محرم بنص في الدستور . ثانيتها : أن يكون مخالفا لنص في الدستور . والثالثة - ثالثة الأثافي - آن يرد على قرار لا يتفق مع المبادئ الأساسية التي نص عليها الدستور .
٧٢ـ في مصر العربية دستوران صدر كل منهما عن طريق الاستفتاء الشعبي . أول الدستورين والأسبق إلى الصدور هو الدستور الاتحادي الذي استفتي الشعب فيه يوم أول سبتمبر ١٩٧١ ووافق عليه بأغلبية كاسحة ، وبه قامت دولة الاتحاد بين مصر وسورية وليبيا . الدستور الثاني خاص بمصر . لم تطبق كل أحكام الدستور الاتحادي . وما طبق منها لم يستمر تطبيقه طويلا . وهو الآن منكور سياسيا من المسئولين عن تطبيق أحكامه . ومع ذلك فإن القواعد الدستورية لا تلغى بمخالفتها أو الامتناع عن تطبيقها ولا تسقط بالتقادم ولا يلغى الدستور الاتحادي الا باستفتاء شعبي آخر (المادة ٦٨ من الدستور ذاته) . واذا أريد أن تلقى مسؤولية عدم تطبيق أحكامه على آخرين من الحكام أو الدول فان ما يهمنا - في هذا الحديث - هو سيادة القانون (الدستور) أو عدم سيادته في مصر العربية . والدستور الاتحادي قائم في مصر ملزم لحكامها فيما يملكون منفردين من أمر تنفيذه على الأقل . وهم يملكون ـ قطعا - المقدرة على عدم مخالفته إذ لا يحتاج هذا الى تعاون آخرين . وبالرغم من ذلك فقد طرح : الاستفتاء الشعبي في مصر قرار محرم تحريما قاطعا بصريح نصوص الدستور الاتحادي الذي أصدره الشعب يوم أول سبتمبر ١٩٧١.
بيان هذا ان الدستور الاتحادي يتكون من وثيقتين . أولهما ( إعلان بنغازي عن قيام اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة " الذي تضمن " الأحكام الأساسية لاتحاد الجمهوريات العربية " وقعه وأصدره رؤساء جمهورية مصر العربية والجمهورية السورية وليبيا يوم ١٧ ابريل ١٩٧١ . والوثيقة الثانية هي ما أطلق عليه اسم ' الدستور الاتحادي " . وقد نص الدستور الاتحادي في المادة ٧٠ منه
على أن يستمد هذأ الدستور مبادئه من الأحكام الأساسية لاتحاد الجمهوريات العربية ويفسر على ضوئها ". كما نص في المادة ٧٠ على أن " يطرح على الاستفتاء الشعبي مع الأحكام الأساسية لاتحاد الجمهوريات العربية الصادون بنغازي بتاريخ ١٧ أبريل ١٩٧١".
تضمن إعلان بنغازي الذي استفتي فيه كجزء من الدستور النص الآتي : قرر الرؤساء الثلاثة بالإجماع ما يلي ( ١ ) ان تحرير الأرض المحتلة هو الهدف الذي ينبغي أن " تسخر في سبيله الإمكانات والطاقات (٢) انه لا صلح ولا تفاوض ولا تنازل عن أي شبر من الأرض العربية (٣) انه لا تفريط في القضية الفلسطينية ولا مساومة عليها " .
وبالرغم من هذا فقد فاوضت مصر حكومة إسرائيل وعقدت معها صلحا منفردا يوم ٢٦ ماس ١٩٧٩ صدر به القرار الجمهوري رقم ١٥٣ لسنة ١٩٧٩ يوم ه أبريل ١٩٧٩ ووافق عليه مجلس الشعب يوم ١٠ أبريل ١٩٧٩ ٠ الى هنا لا يوجد أدنى شك في مخالفة المفاوضة والصلح والاتفاق لدستور أول سبتمبر ١٩٧١. وهي مخالفة يتحمل مسئوليتها الذين اقترفوها والذين اشتركوا في اقترافها . ويعرفون جميعا أنهم خالفوا دستورا قائما فأرادوا أن يستروا المخالفة بإسنادها الى الإرادة الشعبية . وهكذا عرض الاتفاق مع إسرائيل على الاستفتاء الشعبي يوم ٢٠ أبريل ١٩٧٩ . ومنذئذ لم يكف كل قادر على الكلام من مؤيدي الاتفاق عن القول بأن ٩، ٠٩٩/' من الشعب قد وافقوا على معاهدة السلام مع إسرائيل .
هذا مثال للاستفتاء الشعبي على قرار محدد حرص الدستور على تحريم صدوره أصلا .
وهو مثال نادر لم نجد له شبيها في فرنسا أو في أية دولة . أما أمثلة الاستفتاء المخالف للدستور فكثيرة في فرنسا وفي مصر .
٧٣- على أثر المحاولة الفاشلة لاغتيال الجنرال دي جول رئيس جمهورية فرنسا طرح على الاستفتاء الشعبي يوم ٢٨ أكتوبر ١٩٦٢ مشروع قانون بتعديل المادتين ٦و٧ من الدستور الخاصتين بكيفية انتخاب رئيس الجمهورية . كان الدستور يشترط موافقة البرلمان فجاء مشروع القانون مقررا أن يكون الانتخاب بالاقتراع العام قبل موافقة البرلمان . واستند الاستفتاء الى نص المادة ١١ من الدستور . وهي مادة هامة سنعود اليها . تقول المادة " لرئيس الجمهورية ، بناء على اقتراح الحكومة أثناء دورات الانعقاد ، أو بناء على اقتراح مشترك من مجلسي البرلمان ، ينشر كل منهما في الجريدة الرسمية ، أن يطرح على الاستفتاء الشعبي أي مشروع قانون يتعلق بتنظيم السلطات العامة أو يتضمن الموافقة على اتفاق بين أسرة الدول (المجموعة الفرنسية) أو يستهدف التفويض بالتصديق على معاهدة يمكن ، حتى مع عدم مخالفتها للدستور ، أن يكون لها أثر في أداء المؤسسات وظائفها . وعندما يسفر الاستفتاء الشعبي عن قبول المشروع يصدره رئيس الجمهورية في المدة المحددة في المادة السابقة (١٥ يوما) " .
يلاحظ أن هذه المادة تبيح الاستفتاء الشعبي على مشروعات قوانين في الحالات الواردة فيها على سبيل الحصر . أما ما كان مطروحا على الاستفتاء يوم ٢٨ أكتوبر ١٩٦٢ فهو تعديل لنصين في الدستور ، لا يدخل أيهما في الحالات المشار اليها في المادة ١١ . المخالفة واضحة وصريحة . فلجأ مؤيدو الاستفتاء الى إسناده الى المادة ٣ من الدستور بدلا عن المادة ١١ . تقول المادة ٣ : " السيادة القومية ملك للشعب يمارسها بممثليه أو عن طريق الاستفتاء الشعبي ". أولا ، رغبة في التخلص من الاعتراض بالمادة ١١ . وثانيا ، للقول بأن تعديل الدستور هو ممارسة للسيادة القومية التي أبيح للشعب أن يمارسها اما بممثليه واما عن طريق الاستفتاء الشعبي .
لم يقتنع رئيس مجلس الشيوخ فلجأ الى المجلس الدستوري يطلب رأيه في دستورية ما أسفر عنه الاستفتاء من تعديل لنص المادتين ٦ و٧ من الدستور فأفتى المجلس " بعدم اختصاصه " . وقال أنه يبين من روح الدستور الذي أقام من المجلس الدستوري منظما لنشاط السلطات العامة أن القوانين التي عناها في المادة ٦١( التي تعرض على المجلس للتأكد من دستوريتها) هي القوانين التي يصدرها البرلمان فقط .. وليست القوانين التي يصدرها الشعب عن طريق الاستفتاء الشعبي لأن هذه تمثل تعبيرا مباشرا عن السيادة القومية ( ذكره بورتولي - المرجع السابق) .
والواقع أن هذه الفتوى السلبية يمكن النظر إليها من ناحيتين . الناحية التي احتج بها المجلس وهي عدم جواز تعديل أو إلغاء قانون أصدره الشعب باعتباره تعبيرا مباشرا عن السيادة القومية . وقد رد عليها الأستاذ جوح بوردو بقوله : " إذا سلمنا أن الشعب بصفته سلطة تشريعية هو فوق البرلمان فانه بجب أن نقرر ان القانون الذي يسفر عنه الاستفتاء الشعبي لا يجوز تعديله بقانون عادي يصدر من البرلمان ، ولكن الأمر على غير هذا ، اذ ما دام الدستور قد نظم طريقة لتعديل أو إلغاء القوانين فلا بد من أعمال نصوصه " (موسوعة العلوم السياسية) . الناحية الأخرى هي جواز أو عدم جواز تعديل الدستور عن غير الطريق الذي رسمه الدستور ذاته . ولقد نظم الدستور الفرنسي طريقة تعديل أحكامه في المادة ٩٨. طبقا لهذه المادة يطرح التعديل على الاستفتاء الشعبي بعد موافقة مجلس النواب ، أو ، إذا رأى رئيس الجمهورية ، يعرض على المجلسين مجتمعين ويوافق عليه بنسبة ثلاثة أخماس الأصوات . ومعنى هذا أنه يمكن أن يعدل الدستور بدون طرح التعديل على الاستفتاء الشعبي السؤال الآن هو : مع التسليم بحق الشعب في ممارسة السيادة القومية عن طريق الاستفتاء الشعبي طبقا للمادة ٣ ، ومع التسليم بحقه في إصدار القوانين في الحالات التي نصت عليها المادة ١١ ، هل يجوز أو لا يجوز أن يتقيد الشعب في ممارسته للسيادة القومية بالدستور ذاته ؟ إن الإجابة بالغة الأهمية . اذ لو قيل ان الشعب لا يتقيد بالدستور لما جاز الاستناد إلى المادة ٣ من الدستور التي قررت له حق ممارسة السيادة القومية عن طريق الاستفتاء الشعبي . لأن الدستور غير الملزم لا يكون مصدرا لقرارات ملزمة . أما إذا قيل أن الشعب يتقيد بالدستور فقد كان لا بد من تعديل المادة ٩٨ من الدستور أولا ، لتتاح الفرصة لتعديل المادتين ٦ و ٧ منه عن غير الطريق الذي رسمته المادة ٩٨. وهذا ما لم يحدث . فلا نشك لحظة في أن استفتاء ٢٨ أكتوبر ١٩٦٢ كان غطاء ديمقراطيا لارادة الجنرال دي جول المخالفة للدستور .
٧٤ـ قلنا ان في مصر دستورين . أحدها الدستور الاتحادي الصادر يوم أول سبتمبر ١٩٧١ أما الثاني فهو ما أطلق عليه " الدستور الدائم " وقد صدر عن طريق الاستفتاء الشعبي أيضا يوم ١١ سبتمبر ١٩٧١. ولقد ولد يحمل في ذاته حكما على مدى القوة الملزمة للاستفتاءات الشعبية ومدى الالتزام بها . ففي يوم ٢ مايو ١٩٦٨ كان الشعب قد وافق في استفتاء شعبي بنسبة ٩٩،٩٩./' على " بيان ٣٠ مارس ". ويتضمن " بيان ٣٠ مارس " هذا نصا يقضي بتأجيل إصدار الدستور الدائم ، الذي كانت قد تشكلت لجنة لوضع مشروعه ، الى ما بعد إزالة أثار العدوان الصهيوني الذي وقع عام ١٩٦٧ . ولكن على اثر وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ ، وتولي الرئيس أنور السادات اتجه سيادته الى الإسراع في إصدار الدستور الدائم .
على أي حال كان المصدر الأساسي للقواعد المنظمة للحكم وسلطاته هو الدستور الفرنسي الصادر عام ١٩٥٨. وقد تضمن أحكاما تكاد تكون منقولة نصا عن هذا الدستور الأخير . وضعت اللجنة التحضيرية لمشروع الدستور صيغته الأولى في شكل مجموعة مبادئ وقدمته الى مجلس الشعب حيث ناقشه . كان المبدأ الثالث منها ينص على : " السيادة للشعب وحده وهو مصدر السلطات . ويحمي الشعب هذه السيادة ويصون الوحدة الوطنية ، وتكون ممارسة الشعب للسيادة عن طريق الاستفتاء الشعبي وعن طريق ممثليه على الوجه المبين في الدستور " . واضح من الفقرة الأخيرة انها منقولة عن المادة الثالثة من الدستور الفرنسي ، وأنها لو أقرت لما كان ثمة شك في إمكان صدور القوانين في مصر عن طريق الاستفتاء الشعبي . ولكن هذه الفقرة بالذات لم يوافق عليها وحذفت من مشروع الدستور فجاءت المادة الثالثة من الدستور الذي استفتي عليه وصدر خالية منها . وتأكيدا لهذا الاتجاه جاء الدستور خاليا أيضا من مقابل المادة ١١ من الدستور الفرنسي التي تنظم حالات الاستفتاء على القوانين . وبدلا منها نص الدستور في المادة ٨٦ على أن " يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع ". وهكذا تأكد أن المشرع الدستوري ، بالرغم من علمه ، بالنصوص الدستورية الفرنسية ، وبالرغم من محاولة نقل كثير منها الى دستور ١١ سبتمبر ١٩٧١، لم يشأ أن يمارس الشعب سلطة التشريع ممارسة مباشرة عن طريق الاستفتاء الشعبي ، بل اكتفى بأن يمارسها بواسطة ممثليه فى مجلس الشعب.
٧٥- بالرغم من ذلك أصدر رئيس الدولة يوم ٣ فبراير ١٩٧٧، بينما كان مجلس الشعب منعقدا ، قرارا بقانون رقم ٢ لسنة ١٩٧٧ يتضمن ١١ مادة . وجاءت المادة الأخيرة " يطرح هذا القرار بقانون ، إعمالا للمادة ٧٤ من الدستور على الاستفتاء الشعبي خلال أسبوعين من تاريخ نشره ". وقد أورد رئيس الدولة فى البيان الذي أذاعه كمقدمة لهذا القرار مذكرة تفسيرية تتضمن مبررات إصداره جاء فيها : " بالنظر الى ما دبر من حوادث شغب وتخريب وعدوان على المال العام والخاص في أحداث ١٨ و ١٩ يناير ١٩٧٧ مما يؤثر على تحقيق الأهداف القومية ويعوق المسيرة الوطنية . وحيث أن احتمال تكرار مثل هذه الحوادث يعد تقويضا جذريا لكل مكاسب الشعب ومؤسساته الدستورية ، والضمانات التي يوفرها له الدستور لإقامة مجتمع اشتراكي ديمقراطي يأمن فيه كل مواطن على نفسه وعلى عمله وعلى كسبه المشروع ، واستلهاما لما عبرت عنه جماهير شعبنا من تمسكها بالشرعية الدستورية ومؤسساتها الديمقراطية في ظل مجتمع يقوم على أساس سيادة القانون ، ورغبتها الأكيدة في الحفاظ على ثرواتها القومية من كل عبث وتخريب ، وحيث ان الوطن فوق ذلك يمر بمرحلة دقيقة لا يزال العدو فيها جاثما - على جزء غال من الأرض المصرية والعربية ، وبعد الاطلاع على المادة ٧٣ من الدستور التي تنص على أن رئيس الدولة يسهر على تأمين سيادة الشعب وعلى احترام الدستور وسيادة القانون وحماية الوحدة الوطنية والمكاسب الاشتراكية ويرعى الحدود بين السلطات لضمان تأدية دورها في العمل الوطني ، وبعد الاطلاع على المادة ٧٤ من الدستور التي تنص على أن ( لرئيس الجمهورية اذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري ، أن يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر ويوجه بيانا الى الشعب ويجري الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها) وإعمالا للصلاحيات المخولة لنا بمقتضى المادة ٧٤ من الدستور قررنا ..... وتلى ذلك نص القرار بقانون .
أساتذة القانون العام الذين تصدوا لشرح المادة ٧٤ حرصوا على إبراز ما تتضمنه من مخاطر . فذهب رأي إلى أن " من أخطر الأحكام التي تضمنها دستور ١٩٧١ ما قررته المادة ٧٤ من أن (... النص) . ومن الواضح أن الحكم الذي تتضمنه هذه المادة بالغ الأهمية والخطورة لأنه يمنح رئيس الجمهورية فى حالات معينة سلطات مطلقة لا تخضع لأي قيد . ولم تتضمن الدساتير المصرية السابقة على الثورة أو اللاحقة لها أي حكم مماثل لذلك . الذي تقرره المادة ٧٤ من دستور ١٩٧١ (محمد حسنين عبد العال - القانون الدستوري) . أما الرأي الآخر فبعد أن قال والحقيقة أن هذه المادة بالغة الخطورة " قال : " وإنا لنرجو بصدق وعمق أن لا يحدث في بلادنا من ألوان الخطر الداهم ما يدعو رئيس الجمهورية إلى اللجوء الى هذه المادة قط " (يحيى الجمل - النظام الدستوري في جمهورية مصر العربية) . ولعل هذه أول مرة في تاريخ القانون يتمنى أستاذ للقانون الدستوري الا يطبق نص في الدستور . أمنية تعبر بذاتها عن اليأس من سيادة القانون .. - أو- الفزع من أسلوب تطبيقه . أيا ما كان الأمر فإن المادة ٧٤ قد أثارت وتثير خلاف بين الشرّاح . يعرف الجميع أنها مستوحاة من بعض نصوص المادة ١٦ من الدستور الفرنسي التي تنظم حالة الضرورة . تقول المادة ١٦: " في حالة ما إذا تعرضت مؤسسات الجمهورية أو استقلال الأمة او سلامة أراضيها أو تنفيذ تعهداتها الدولية لتهديد خطر جسيم وحال ، او كانت ممارسة السلطات العامة الدستورية لسلطاتها ممارسة منتظمة قد انقطعت ، فإن لرئيس الجمهورية أن يتخذ الإجراءات التي تطلبها هذه الظروف بعد التشاور رسميا مع رئيس الوزراء ورئيس مجلس البرلمان وكذلك المجلس الدستوري . ويبلغ الأمة ببيان عمّا اتخذه . ويجب ان يكون محرك هذه الإجراءات ان تؤمن للسلطات الدستورية العامة ، في اقل وقت ممكن ، وسائل ممارسة مهامها وأن يستشار المجلس الدستوري في شأنها . وينعقد البرلمان بقوة القانون . ولا يجوز حل الجمعية الوطنية (مجلس النواب) خلال استعمال تلك السلطة الاستثنائية " .
من هنا يرى أغلب شرّاح القانون الدستوري في مصر أن تطبيق المادة ٧٤ يخضع للشروط التي تتوافر بها حالة الضرورة (محمد حسنين عبد العال - يحيى الجمل - ثروت بدوي ...الخ) .
ويذهب ري آخر الى أنها تنظم سلطات رئيس الدولة لتحقيق الأهداف التي جاءت في المادة السابقة عليها وأنها تختلف عن المادة ١٦ الفرنسية على الأقل في خصوصية الاستفتاء خاصة وأن حالة الضرورة منظمة في الدستور المصري بمقتضى المادة ١٠٨. وينتهي هذا الرأي الى إدخال الاستفتاء المنصوص عليه في المادة ٧٤ في النوع المسمى " الاستفتاء التحكيمي " (فؤاد العطار ١لنظم السياسية والقانون الدستوري ، وعصمت سيف الدولة ـ النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية) ..
٧٦- الذي يهمنا من كل هذا هو نوع " الإجراءات " التي يباح لرئيس الدولة اتخاذها فيما لو تحققت شروط المادة ٧٤. هل يجوز أولا أن يكون " الإجراء " قانونا يصدره رئيس الدولة ويطرحه على الاستفتاء الشعبي ؟ سبق أن عرفنا كيف اتجهت إرادة المشرع الدستوري الى استبعاد إصدار القوانين عن طريق الاستفتاء الشعبي وحذفه ما كان في مشروع الدستور ، منقولا عن الدستور الفرنسي ، مبيحا إصدار القوانين عن طريق الاستفتاء . نضيف هنا أن المادة ٧٤ استعملت كلمة " إجراءات " وهي قاطعة الدلالة على أن الدستور لم يقصد القوانين . ذلك ـ أولا ـ لأنه حيث قصد الدستور " تشريعا " صادرا عن مجلس الشعب أطلق عليه تعبير" قانون " وحيت قصد تشريعا " صادرا عن رئيس الجمهورية أطلق تعبير" قرار له قوة القانون " كما فعل في المادتين ١٠٨ و ١٤٧ . ولو أراد الدستور أن يخول رئيس الدولة سلطة إصدار قوانين والاستفتاء عليها طبقا للمادة ٧٤ لاستعمل أحد التعبيرين . وثانيا ـ لأن الدستور قد استعمل تعبير الإجراءات في المواد ٧٦ و٧٨ و ٨٥ و ٩٩ و ١٢٠ و ١٦٠ و ١٦٧ و ه١٧و١٧٩. في كل هذه النصوص ، وبدون استثناء واحد ، جاءت كلمة الإجراءات دالة على أعمال تنفيذية وليس قاعدة تشريعية . بل أن المادة ١٧٩ قد خولت المدعي الاشتراكي " اتخاذ الإجراءات التي تكفل تأمين حقوق الشعب وسلامة المجتمع ونظامه السياسي والحفاظ على المكاسب الاشتراكية والتزام السلوك الاشتراكي . ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى وكون خاضعا لرقابة مجلس الشعب وذلك كله على الوجه المبين في القانون " . وهو صريح فى أن الإجراءات تعني تصرفات خاضعة لرقابة مجلس الشعب ينظمها قانون . وهذا ينفي أن تكون قانونا .
لا شبهة اذن في أن وحدة المشرع الدستوري ووحده الدستور ووحدة استعمال كلمة إجراءات في أكثر من موضع تحتم أن تكون لهذه الكلمة دلالة واحدة . وبالتالي يسقط الادعاء أنها تعني قانونا " في المادة ٧٤ ولا تعنيه في بقية مواد الدستور .
ولم يحل كل هذا دون أن يصدر القرار بقانون رقم ٢ لسنة ١٩٧٧ وأن يطرح على الاستفتاء الشعبي لتتحول إرادة رئيس الدولة الى قانون ، بالرغم من قيام مجلس الشعب ، وبالرغم من أن الدستور قد خص مجلس الشعب - دون غيره ـ بإصدار القوانين .
٧٧ـ مثال آخر لاستفتاء شعبي مخالف لنصوص الدستور . انه الاستفتاء الذي جرى يوم ٢٠ أبريل ٠١٩٧٩ كان من بين الموضوعات التي طرحت على الاستفتاء " حل مجلس الشعب " . ودستور ١٩٧١ يحرم حل مجلس الشعب إلا في حالتين . الحالة الأولي اذا قرر المجلس مسئولية رئيس الوزراء . تقول المادة ١٢٧: "... ولرئيس الجمهورية أن يعرض موضوع النزاع على الاستفتاء الشعبي ... فإذا جاءت نتيجة الاستفتاء مؤيدة للحكومة اعتبر المجلس منحلا . هذه الحالة لم تكن واردة يوم ١٩ أبريل ١٩٧٩ ولا قبله . كانت الحكومة قد وافقت على اتفاق الصلح مع إسرائيل وعرضته على مجلس الشعب فوافق عليه ولم يثر بينهما أي نزاع . الحالة الثانية جاءت فى المادة ١٣٦ التي تقول : " لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس الشعب الا عند الضرورة وبعد استفتاء الشعب . ويصدر رئيس الجمهورية قرارا بوقف جلسات المجلس وإجراء الاستفتاء خلال ثلاثين يوما من تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء ويجتمع المجلس الجديد خلال الأيام العشرة التالية لإتمام الانتخاب".
ولم تكن ثمة ضرورة بأي معنى لحل مجلس الشعب . ربما يقال أن هناك ضرورة ديمقراطية " . فان حدثا خطيرا مثل عقد معاهدة صلح مع إسرائيل كان يقتضي حل المجلس وإعادة الانتخاب . ألا يفعلون ذلك في الدولة الديمقراطية كلما جد حدث هام أو خطير لم يكن مطروحا يوم أن تم انتخاب أعضاء البرلمان ؟.. ليتنا نستطيع أن نوافق .. الأمر جرى عكس هذا تماما . فقد تمت موافقة الحكومة ومجلس الشعب على معاهدة الصلح قبل أن بحل المجلس . ثم أنه عندما جرت انتخابات المجلس الجديد صدر قرار جمهوري ، وقرار من وزير الداخلية يحرمان على المرشحين نقد معاهدة الصلح أو التعرض لها أثناء الحملة الانتخابية ويعتبر ان ذلك جريمة .
وهكذا قيل أن الشعب قد وافق بوم ٢٠ أبريل ١٩٧٩ بأغلبية ٩، ٠٩٩/' على حل مجلس الشعب الذي وافق على معاهدة الصلح مع إسرائيل . وبنفس النسبة في ذات الاستفتاء على معاهدة الصلح مع إسرائيل التي وافق عليها مجلس الشعب ، لتصبح دلالة الاستفتاء الشعبي متهاترة يلغي بعضها بعضا.
٧٨- مثال آخر لاستفتاء شعبي يخالف المبادئ الأساسية في الدستور . قبل أن نقص قصته نقول انه فى يوم ٢٢ مايو ١٩٨٠ طرح على الاستفتاء الشعبي إلغاء المادة ه من الدستور . كانت هذه المادة الواردة ضمن المبادئ الأساسية للدولة تنص على : " الاتحاد الاشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الذي يمثل بتنظيماته القائمة على أساس مبدأ الديمقراطية تحالف قوى الشعب العاملة من الفلاحين والعمال والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية . وهو أداة هذا التحالف في تعميق قيم الديمقراطية والاشتراكية وفي متابعة العمل الوطني في مختلف مجالات ، ودفع هذا العمل الوطني الى أهدافه المرسومة . ويؤكد الاتحاد الاشتراكي العربي سلطة تحالف قوى الشعب العاملة عن طريق العمل السياسي الذي تباشره تنظيماته بين الجماهير وفي مختلف الأجهزة التي تضطلع بمسئوليات العمل الوطني ... "
هذه المادة كانت تقنينا دستوريا لصيغة الممارسة الديمقراطية كما جاءت في ميثاق العمل الوطني الذي أصدره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ووافق عليه المؤتمر الوطني للقوى الشعبية يوم ٣٠ يونيه ١٩٦٢ . يقول الميثاق " ان الوحدة الوطنية التي يصنعها تحالف هذه القوى الممثلة للشعب (الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية) هي التي تستطيع أن تقيم الاتحاد الاشتراكي العربي ليكون السلطة الممثلة للشعب والدافعة لإمكانيات الثورة والحارسة على القيم الديمقراطية السليمة ". " ان الحاجة ماسة لخلق جهاز سياسي جديد داخل إطار الاتحاد الاشتراكي العربي يجند العناصر الصالحة للقيادة وينظم جهودها ويطور الحوافز الثورية للجماهير - احتياجاتها ويساعد على إيجاد الحلول الصحيحة لهذه الاحتياجات ".
هكذا رأى " الميثاق " أن أسلوب ممارسة الديمقراطية يكون بتنظيم الشعب كله في وحدات جماهيرية كقاعدة يقوم عليها هرم تنظيمي واحد اسمه " الاتحاد الاشتراكي العربي " في ظل قانون كان ما يزال ساريا هو القانون رقم ٣٤ لسنة ١٩٥٣ الذي منع تكوين الأحزاب السياسية. فجاء دستور ١٩٧١ وحول الأسلوب الذي جاء في " الميثاق" الى نص يتصدر الدستور ويقع ضمن المواد الست الأولى الخاصة بنظام الدولة ذاته .
بالإضافة الى الاستفتاء الشعبي الذي صدر الدستور بمقتضاه تأيد نص المادة الخامسة باستفتاء شعبي آخر جرى يوم ١٥ مايو ١٩٧٤ . كان رئيس الجمهورية قد أنشأ دراسة أطلق عليها " ورقة أكتوبر"، وطرحها على الاستفتاء الشعبي وأعلن أن الشعب قد وافق عليها بنسبة ٩٥، ٠٩٩/'. تضمنت هذه الورقة النص التالي : " لقد ارتضى الشعب نظام تحالف قوى الشعب العامل إطارا لحياته السياسية . واننا في معركة البناء والتقدم لأحوج ما نكون لهذا المجتمع . ومن ثم فإني (أي رئيس الجمهورية) أرفض الدعوة الى تفتيت الوحدة الوطنية بشكل مصطنع عن طريق تكوين الأحزاب ".
وتأيد نص المادة الخامسة من الدستور مرة أخرى في أوائل عام ١٩٧٦ (١٦مارس) . كان رئيس الجمهورية قد أنشا دراسة أخرى أطلق عليها " ورقة تطوير الاتحاد الاشتراكي العربي وتشكلت ثم انعقدت لجنة أسميت " لجنة مستقبل العمل السياسي ، جمعت واستمعتا الى آراء الهيئات والمؤسسات والنقابات والأفراد حول تطوير الاتحاد الاشتراكي العربي . ثم كونت لجان فرعية لتحليل ودراسة الآراء التي قيلت . ثم وضعت تقريرا مستفيضا وعرضته على الهيئة
البرلمانية للاتحاد الاشتراكي العربي ولجنته المركزية فأقرتاه . كان استطلاعا واسعا ومنظما لآراء قطاعات عريقة من الشعب أسفر عن ثلاث نتائج . الأولى رفض الأحزاب . الثانية الإبقاء على الاتحاد الاشتراكي العربي . الثالثة السماح بتجمعات فكرية داخل الاتحاد الاشتراكي تتمايز فيما بينها بالاتجاه السياسي العام . او كما أسميت "منابر" .
وقبل ذلك كان قد صدر قانون الوحدة الوطنية (٣٤ لسنة ١٩٧٢) ونص فى المادة الثانية - منه على أن " الاتحاد الاشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الوحيد المعبر عن تحالف قوى الشعب العاملة . وهو يكفل أوسع مدى للمناقشة الحرة داخل تشكيلاته والتنظيمات الجماهيرية المرتبطة به . ولا يجوز إنشاء تنظيمات سياسية خارج الاتحاد الاشتراكي العربي أو منظمات جماهيرية خارج المنظمات الجماهيرية التي تشكل طبقاً للقانون وفرض على مخالفة هذا عقوبة جنائية أضيفت الى العقوبات المقررة بالمادة ٩٨ أو ٩٨ مكررا من قانون العقوبات .
٧٩ـ هذه المادة الخامسة التي تبدو محصنة فى موقعها من الدستور بدروع من الاستفتاءات والقوانين والعقوبات والمواثيق أهدرت إهدارا كاملا بسلسلة من القرارات والقوانين والاستفتاءات أيضا .
كان القرار الأول يوم ١١ نوفمبر ١٩٧٦. ففي بيان ألقاه رئيس الجمهورية أمام - الشعب فى ذلك اليوم بمناسبة افتتاح دورة انعقاده الأول قال : "... وقد اتخذت قرارا سيظل تاريخيا يرتبط بكم وبيوم افتتاح مجلسكم الموقر هو أن تتحول التنظيمات الثلاثة ابتداء من اليوم الى أحزاب ... ان يد الاتحاد الاشتراكي بالضرورة سترتفع نهائيا عن الأحزاب وسوف يصبح كل حزب حرا تماما في إدارة نشاطه فى حدود القوانين والدستور" .
هكذا ولدت فى مصر المنظمات التي أسميت " أحزابا " . جاءت صراحة وعلنا وقطعا نتيجة قرار منفرد تمت صياغته خارج نطاق الدستور وبالمخالفة لأحكامه الأساسية . ولم يهتم أحد حتى بالتظاهر" باحترام الدستور، بل اهتم أصحاب القرار والمنتفعون منه بإقامة " المظاهرات الفكرية ترحيبا بالأحزاب الوليدة سفاحا بدون نسب الى الدستور . ثم بدأ البحث عن طريقة التحوّط ضد المسئولية بإسناد القرار الى الإرادة الشعبية أو إشراك الشعب في مسئولية خرق الدستور عن طريق الاستفتاء الشعبي . فأقحم قرار إنشاء الأحزاب في كل الاستفتاءات التي حدثت بعد ذلك .
كان أولها الاستفتاء الذي جرى يوم ١٠ فبراير ١٩٧٧ على القرار بقانون رقم ٢ لسنة ١٩٧٧ .
كانت مبررات هذا الاستفتاء - كما رأينا - اتخاذ إجراءات سريعة لمواجهة مخاطر تهدد سلامة الوطن قيل أنها نشأت على اثر أحداث الانتفاضة الشعبية يوم ١٨ و ١٩ يناير ١٩٧٧ . ومع ذلك فان المادة الأولى من القرار بقانون الذي عرض على الاستفتاء تنص على حرية تكوين الأحزاب مكفولة طبقا لما ينص عليه القانون الخاص بإنشاء الأحزاب حال صدوره من السلطة التشريعية . فلنتأمل . ان هذه المادة مثل يضاف الى المثل الذي ضربناه من قبل للاستفتاء الشعبي على قرار محرم بنص صريح في الدستور . ولكنا نشير اليها هنا كنموذج لمحاولة تغطية القرارات المخالفة للدستور بالاستفتاء الشعبي في الحالات التي لا يجوز فيها الاستفتاء الشعبي . هنا لا يستفتى الشعب في إجراء أو إقرار أو حتى تشريع قابل للتنفيذ . انما يستفتى " مؤخرا " لتغطية قرار كان قد صدر ونفذ وأنشأ أحزابا بالمخالفة للدستور . ويستفتى " مقدما " فيما سيصدره مجلس الشعب في تاريخ غير محدد من قانون أو قوانين تنظيم الأحزاب طبقا للشروط التي سيضعها مجلس الشعب حينئذ غير المعروفة حين الاستفتاء .
ماذا يمكن ان يقال عن مثل هذا الاستفتاء ؟
استفتاء على مخالفة الدستور ؟.. نعم . تفويض غير مشروط ليضع مجلس الشعب قانونا لهذه المخالفة ؟.. نعم . ثم قد يقال أنه أسلوب معروف من أساليب الاستفتاء الشعبي يسمونه الاقتراح الشعبي " ويضربون له مثلا ما كان ينص عليه دستور الاتحاد السويسري الصادر عام ١٨٤٨ المعدل عام ١٨٧٣ . كان لمجموعة محدودة من أفراد الشعب المتمتعين بحق الانتخاب ( ٠٠٠ ه في دستور الاتحاد الاشتراكي السويسري و١٢٠٠٠ في دستور مقاطعة برن) أن يقترحوا على المجلس التشريعي إصدار قانون معين . نعم كان الأمر كذلك ولكنه لم يكن تفويضا غير مشروط . كان لا بد ، بعد أن يستوفي الاقتراح الشعبي شروطه ويصاغ مشروعا لقانون ، أن يعرض المشروع على الاستفتاء الشعبي ليقره . ولكن فكرة أن يستفتى الشعب في التصريح للمجلس التشريعي بإصدار قانون في الوقت الذي يريده ويضمنه الأحكام التي يريدها ، فكرة غريبة عن كل مفاهيم الاستفتاء الشعبي . لأن النهاية أن يصدر القانون من المجلس التشريعي طبقا لصلاحياته الدستورية وعلى مسئوليته الدستورية أيضا . وهنا بيت القصيد كما يقولون . اذ المقصود ان يسند الى الشعب قانون سيصدر فيما بعد يتحمل الشعب ـ مقدما - مسئولية صدوره مخالفا للدستور بالإضافة الى تحمله مؤخرا " مسئولية القرار الذي صدر يوم ١١ نوفمبر ١٩٧٦ بإنشاء أحزاب ثلاثة .
.٨- ثم جاء استفتاء شعبي آخر على مواضيع أخرى تتصل بشروط تولي الوظائف العامة ، وتنظيم الصحافة وتحديد اختصاصات المدعي العام الاشتراكي . إنه استفتاء يوم ٢١ مايو ١٩٧٨. فكان فرصة أخرى ليقحم موضوع الأحزاب فيه لتسند الى الشعب القيود الثقيلة التي أريد وضعها في أيدي وأرجل " الأحزاب " الوليدة . فأعلن ان الشعب قد قال نعم بنسبة ٢٩, ٩٨ ٠/' على المبادئ الآتية :
" أولا : ............
" ثانيا : لا يجوز الانتماء إلى الأحزاب السياسية أو ممارسة أي نشاط سياسي (١) لكل من تسبب في إفساد الحياة السياسية قبل ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ سواء كان ذلك بالاشتراك في تقلد المناصب الوزارية منتميا الى الأحزاب السياسية التي تولت الحكم حتى ٢٣ يوليو ١٩٥٢ أو بالاشتراك في قيادة الأحزاب وإدارتها . ذلك كله فيما عدا الحزب الوطني والحزب الاشتراكي (مصر الفتاة) . (٢) لكل من حكم بإدانته من محكمة الثورة ممن شكلوا مراكز قوى بعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وأحيلوا الى محكمة الثورة في الجناية رقم ١ لسنة ١٩٧١ مكتب المدعي العام . وكذلك من حكم بإدانته فى إحدى الجرائم الخاصة بالمساس بطريقة غير مشروعة بالحريات الشخصية للمواطنين أو إيذائهم بدنيا أو معنويا . (٣) لكل من يثبت ضده أنه أتى أفعالا من شأنها إفساد الحياة السياسية في البلاد أو تعريض الوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي سواء كان ذلك بالذات او بالواسطة وسواء كان ذلك بصورة فردية او من خلال تنظيم حزبي او تنظيم معاد لنظام المجتمع . ويعد من قبيل إفساد الحياة السياسية وتعريض الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي للخطر نشراً او كتابة او إذاعة مقالات و إشاعات كاذبة أو مغرضة يكون من شأنها المساس بالمصالح القومية للدولة او إشاعة روح الهزيمة والتحريض على ما يمس السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية .
" ثالثا : ..............الى آخره .
٨١- أراد الشعب الأحزاب يوم ١٠ فبراير١٩٧٧ . وأراد الشعب فرض قيود على الأحزاب يوم ٢١ مايو ١٩٧٨ . بقي أنه فيما بين حلقات القيود الضيقة مسافات قد تسمح للحزب بان يصوغ فيها مبادئه التي تميزه عن الأحزاب الأخرى ، وتكون مؤشرات على ما يريد ولو كانت مؤشرات غامضة . لا . لا بد أن " يريد الشعب " مبادئ معينة وأن " يصوغ الشعب " تلك المبادئ لتلتزم الأحزاب ، كل الأحزاب ؛ بتلك المبادئ (لماذا تتعدد اذن ؟..) فجاء استفتاء ٢٠ أبريل ١٩٧٩. كان موضوع الاستفتاء معاهدة السلام التي وقعتها الحكومة المصرية مع حكومة إسرائيل وحل مجلس الشعب .
ولكن الاستفتاء ذاته كان فرصة أخرى وليست أخيرة - لتوضع للأحزاب مبادئ محددة ثم تسند إلى الإرادة الشعبية .
"١- ...........................
" ٢ـ إطلاق حرية تكوين الأحزاب .
"٣- إعلان حقوق الانسان المصري .
"٤ـ الالتزام بالحفاظ على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والاشتراكية الديموقراطية .
"ه ـ ................
" ٦ـ الشرعية الدستورية في الدولة تقوم على مبادئ وإنجازات ثورة ٢٣ يوليو وثورة ١٥ مايو في : (أ) انتماء مصر العربي حقيقة ومصير (ب) التزام بسياسة عدم الانحياز (ج) القضاء على الفساد الحزبي والإقطاع وتطهير الحياة السياسية . (د) الالتزام بنسبة الخمسين في المائة للعمال والفلاحين في جميع التنظيمات (ه) الالتزام بالسلوك الأخلاقي الذي ينبع من ديننا ومن القيم الأساسية لأرض مصر ...
بعد هذا الاستفتاء بعام كامل سيصدر في مصر قانون يسمى " قانون حماية القيم من العيب " . سيفرض عقوبات الحرمان من الترشيح لعضوية المجالس النيابية - العامة أو الشعبية المحلية وتأسيس الأحزاب السياسية أو الاشتراك في إدارتها أو عضويتها والمنع من السفر والانتقال ، على من ارتكب واحدا من أعمال كثيرة منها " مخالفة التقاليد الأصيلة لمجتمع العائلة المصرية " .. وسيقيم محاكم خاصة مشكلة من قضاة وأشخاص عاديين .
وستقول الهيئة القضائية عن مشروع القانون أنه " اعتداء صارخ على استقلال القضاء " . وتقول عنه نقابة الصحفيين " استهانة بعدد من البيانات العالمية لحقوق الإنسان " وتقول عنه نقابة المحامين " ينطوي على مساس بكافة الحريات الأساسية للشعب المصري ، وتقول عنه هيئة التدريس في كلية الحقوق بجامعة القاهرة مخالف لمبدأ الفصل بين السلطات . وتقول عنه جمعية حقوق الإنسان " اعتداء على حق الإنسان المصري في العمل والعقيدة واعتناق المبادئ التي يؤمن بها وستعارضه الأحزاب التي أنشأتها قرارات واستفتاءات ٢٠ أبريل ٠١٩٧٩ ألم ينص الاستفتاء على " الالتزام بالسلوك الأخلاقي الذي ينبع من ديننا ومن القيم الأساسية لأرض مصر ؟
بلى . إذن ، من الذي يريد ان يتحدى إرادة الشعب ؟
إنها ذات الدائرة الجهنمية التي تتداعى حلقاتها من استبداد الى استبداد الى استبداد .
ولكن في هذه المرة باسم الشعب . طبقا للإرادة الشعبية كما عبر عنها في الاستفتاء . في هذه المرة استبداد باسم الديمقراطية . في هذه المرة " استبداد ديمقراطي " والتي حاولوا إنهاءها أخيرا بإلغاء المادة الخامسة من الدستور( استفتاء ٢٢ مايو ١٩٨٠) وهو ما يدل على أن الأمر كله كان منذ البداية مخالفا لهذه المادة .
الاستفتاء المستحيل :
٨٢ - كانت تلك نماذج من الاستفتاء الشعبي المحرم دستوريا اما لانه وارد على قرار ممنوع بنص صريح في الدستور ، واما لأنه وارد على قرار مخالف للمبادئ الأساسية في الدستور ، واما لأنه استفتاء غير جائز دستوريا . ووجه الاستبداد في هذا النوع من الاستفتاء الشعبي مكشوف . فما هو محرم دستوريا أو مخالف لمبادئ الدستور ونصوصه استبداد بدون شبهة . نفترض أن ليس ثمة مخالفة دستورية فهل يمكن ان يكون الاستفتاء الشعبي غطاء للاستبداد ؟.. نعم . ان لعبة تغطية الاستبداد بالديمقراطية لعبة مغرية وذات جاذبية خاصة . ولا حدّ لفنون الوصول الى ما هو مغر وجذاب .
يكون الاستفتاء الممكن " دستوريا " غطاء للاستبداد حينما يكون مستحيلا موضوعيا " .
كيف يكون الاستفتاء الشعبي مستحيلا موضوعيا ؟. تسهل الإجابة على هذا السؤال اذا تذكرنا نسبة المواطنين الذين لهم الحق في الإدلاء بأصواتهم الى عدد أفراد الشعب . انها دائما نسبة قليلة ( الربع في مصر العربية) ذلك لأن الاستفتاء ، مثل الانتخاب ، هو وسيلة يقوم الشعب عن طريقها "باختيار أحد البدائل المعروضة عليه . فهو يتوقف إمكانا أو استحالة على المقدرة على "الاختيار". لهذا ليس من حق كل مواطن أن يبدي رأيه فى الاستفتاء الشعبي أو يقترع في الانتخاب ، بل يشترط ـ في كل الدول وكل النظم - أن يكون قد وصل الى سن معينة تفترض فيها المقدرة على الإدراك والاختيار . من هنا لا يساهم الملايين من الأطفال والغلمان واليافعين في الاستفتاءات أو الانتخابات . لا بسبب عدم وجود مصلحة لهم في الاختيار ، فهم مواطنون مثلهم مثل الآخرين ، ولكن لأنه يفترض افتقادهم المقدرة على الإدراك والاختيار بحكم صغر السن . فنقول ان استفتاء من هم دون السن المقررة – حكما - للمقدرة على الادرك والاختيار استفتاء مستحيل استحالة " ذاتية " . ولكن الاستحالة لا تكون دائما استحالة ذاتية . فقد تكون المقدرة الذاتية على الإدراك والاختيار متوفرة ولكن موضوع الاستفتاء يكون غير قابل للإدراك والاختيار . فنقول ان الاستفتاء مستحيل موضوعيا وهو شائع .
٨٣- حدث في فرنسا أن طرح على الاستفتاء الشعبي يوم ٢١ أكتوبر ١٩٤٥ سؤالان يتصلان بوضع دستور النظام الجديد بعد تحرير فرنسا . كان أول السؤالين هل تقبل أن تقوم الجمعية المنتخبة بوضع الدستور ؟ وهو سؤال مركب ، جزء منه يتعلق بما اذا كان الدستور تضعه جمعية أم لا . والجزء الثاني يتعلق بما اذا كانت الجمعية منتخبة أم لا . فأثار السؤال عاصفة شديدة من النقد . قيل أولا أنه لا يجوز أن يطرح على الاستفتاء سؤالان متداخلان ليجاب عليهما معا إجابة واحدة "نعم " أو " لا " . وقيل ثانيا كيف يستفتى الشعب في أمر يختلف فيه أساتذة القانون (بورتولي- المرجع السابق ، ولافريير- المرجع السابق) أو كما قال هرفى دوفال : " ان السؤال المطروح يجب أن يكون مبسطا الى أقصى حد .. يمكننا أن نقبل أو نرفض ملكا . وأن نختار بين الملكية والجمهورية . ونعطي أو لا نعطي النساء حق الانتخاب . ولكن الاستفتاء الشعبي الذي يرد على مشروع دستور أو مشروع قانون دقيق مكون من عشرات المواد فهو بدون معنى . قد لا يكون استغلالا للشعب ان نطلب منه ما اذا كان يريد اختيار رئيس الدولة بالانتخاب العام أم لا . ولكن من السخرية به أن نطرح عليه دستورا مكونا من مائة وست مواد كما حدث عام ١٩٤٦ أو سبعا وستين مادة في قانون كما حدث عام ١٩٦٩ في فرنسا (الاستفتاء الشعبي والاقتراع بالثقة) .
من أجل هذا قلنا من قبل أننا " نتحدث عن الاستبداد الديمقراطي بحذر شديد لا خوفا من الاتهام بالوقوف ضد ما يريده الشعب ولكن خوفا من أن ينزلق بنا الحديث الى موقف مضاد للديمقراطية انه المنزلق الذي وصل إليه السيد هرفي دوفال . الاحتجاج ضد الاستفتاء بأن الشعب جاهل ، أو بأن المواد المعروضة عليه كثيرة ، أو بأنها تحتاج الى علم خاص ... ليس الاستعلاء على الشعب أو اتهامه هو المدخل الصحيح الى الديمقراطية . انه المدخل الصحيح الى الاستبداد . استبداد الفرد أو استبداد الصفوة . في مواجهة الشعب ليس أمام أمثال هرفي دوفال من المثقفين ورجال القانون الا أن يضعوا ثقافتهم أو علمهم فى خدمته . ان كان هرفي دوفال قد وجد أنه من السخرية بالشعب أن يستفتى في قانون من مائة مادة فليس البديل عن السخرية بالشعب اغتصاب حق الشعب فى أن يمارس حقوقه الدستورية . كان أمامه بديل آخر . أن يصاغ قانون المائة مادة في الف " قاعدة " بسيطة وأن يقول الشعب " نعم " أو " لا " لكل قاعدة على حدة ، ثم يتولى رجال القانون بعد ذلك حساب القواعد القانونية التي وافق عليها الشعب لتصاغ فى قانون .
الفارق الدقيق بين الاستفتاء الشعبي الذي يعبر عن إرادة الشعب ، والاستفتاء الشعبي الذي يغطي الاستبداد هو أن يكون الاختيار بين " نعم " و " لا " منصبا على سؤال يقبل الإجابة عليه " بنعم " او" لا " وهو لا يكون كذلك الا إذا كان بسيطا وواضح الدلالة بذاته . بسيطا بمعنى أن يكون دالا على شيء واحد يقبل أو يرفض . وواضح الدلالة بذاته بمعنى أنه لا يحتاج في إدراكه الى شروح من خارجه . هذا ـ طبعا - بالإضافة الى أن يكون معلوما كما هو قبل الاستفتاء عليه . هذه الشروط لازمة في موضوع الاستفتاء حتى يمكن معرفة ما أراده الشعب حينما قال " نعم " أو" لا "على وجه الدقة . وبدونها لا تكون لكلمة " نعم " أو " لا " دلالة موثوقة . فحين يطرح على الشعب – مثلا - موضوعان أجيب عنهما معا " بنعم "، قد تعني نعم هذه قبول الموضوعين ، أو قبول أحدهما ترجيحا على الثاني ، أو قبول الثاني ترجيحا على الأول . ولا يمكن القطع بما تدل عليه " نعم " من بين هذه الاحتمالات . وحين يطرح على الشعب موضوع غير واضح الدلالة بذاته فأجيب عليه " بنعم " فان دلالة " نعم " هذه ستكون منصبة على الموضوع المستفتى فيه " كما فهمه كل واحد " ممن قالوا نعم . ولما كان الاستفتاء لا يكشف عما فهمه كل واحد من الموضوع فإن " نعم " تصبح بدون دلالة . أما إذا كان الموضوع غير معلوم أصلا فالمسألة كلها تصبح بدون دلالة سواء كانت " نعم " أم كانت " لا " ... إذا كان هذا واضحا فلنتأمل بعض النماذج .
٨٤- اذا افترضنا إن استفتاء .١ فبراير١٩٧٧ على القرار بقانون رقم ٢ لسنة ١٩٧٧ ممكن دستوريا فإن الإجابة عليه بنعم أولا مستحيلة موضوعيا . إذ لا يمكن أن يعرف أية مادة أو أكثر من بين مواده الإحدى عشر اختار كل من قال " نعم " .. لقد نص هذا القرار بقانون على : " حرية تكوين الأحزاب مكفولة ... " (المادة الأولى) ، وعلى أن " ترفع الضرائب كلية عن الفلاحين الذين يملكون ثلاثة أفدنة فأقل وعلى الدخول التي لا تتعدى ٥٠٠ جنيه في السنة " (المادة الرابعة) وعلى أن " على كل مواطن أن يتقدم ببيان ما لديه من ثروة مهما تنوعت وأينما تكون هو وزوجته وأولاده القصر في خلال ثلاثة أشهر من صدور هذا القانون " (المادة الخامسة) ، وعلى أن " يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة كل من دبر أو شارك في تجمهر ... " (.المادة السادسة) . وعلى أن " يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة العاملون الذين يضربون عن عملهم ... ( المادة السابعة)... الى أخره .
كل مادة ، وجزء من مادة ، من هذه المواد يمكن أن يكون موضوع اختيار ببن " نعم " أو"لا" . وكان من الممكن أن يطلب من المواطنين أن يختاروا بين نعم أو لا بالنسبة لكل مادة على حدة . ولكن طرح هذه المواد معا ليجاب عليها بكلمة واحدة اما " نعم " واما " لا " يجعل الاختيار مستحيلا . لا لأن المواطنين لا يدركون ما تعنيه كل مادة ولكن لأن المواد معا تكون موضوعا غير قابل للاستفتاء عليه ، فهو استفتاء مستحيل موضوعيا . ولا تعني ملايين كلمات " نعم " التي أعلن عنها شيئا يفيد أن الشعب كان قادرا على الاختيار بين" نعم" و" لا".
٨٥- مثال آخر للاستفتاء المستحيل موضوعيا . تنص المادة ١٥٢ من دستور ١٩٧١ على أن لرئيس الجمهورية ان يستفتي الشعب في المسائل الهامة التي تتصل بمصالح البلاد العليا . يسمون هذا الاستفتاء " الاستفتاء الاستشاري " وقد بحثنا عن أصل له فلم نجد . فالفقهاء العرب (ثروت بدوي، كامل ليلة... الخ ) ينقلون عن فقهاء فرنسا (ايسمان ، برتلمي ، بوردو ، لافريبر... الخ) الذين أوردوه وناقشوه كافتراض نظري رفضه ايسمان ودافع عنه بارتلمي وشكك في صحته بوردو . أما على المستوى الدستوري فيذكر بارتلمي انه كانت ثمة محاولتان لإدخال الاستفتاء الشعبي الاستشاري في الدستور الفرنسي عام .١٩١ وعام ١٩١١ وفشلتا للتناقض القائم بين الوظيفة التشريعية للبرلمان وبين تخليه عن هذه الوظيفة باستشارته الشعب قبل موافقته على القانون .
ويضيف بوردو ان محاولتين أخريين بذلتا عام ١٩٥٥ وعام ١٩٦٨ لإعطاء البرلمان حق الاستفتاء الشعبي الاستشاري ورفضتا . الفقيه الذي ضرب أمثلة للاستفتاء الاستشاري هو لافريير . فقد أشار في هامش صفحة ٤٢٤ من كتابه عن القانون الدستوري الى المادة ٣٠ من مشروع الدستور الذي قدمه "الجيروند" إلى الجمعية الأساسية عام ١٧٩٣ في فرنسا . كانت المادة المذكورة تخول الهيئة التشريعية حق استطلاع رأي اللجان الشعبية في المسائل ذات الأهمية الأساسية للجمهورية كلها . وهو مثال لا يفيد لأن مشروع دستور الجيروند قد رفض أو تعدل ، وعندما صدر معدلا لم يرد به هذا النص . كما أشار الأستاذ لافريير في الموضع ذاته الى المادة ٤٩ من الدستور السويدي التي تنص على : " في الحالات التي تقتضي أهمية مسألة ما أو طبيعتها الخاصة معرفة رأي الشعب قبل اتخاذ قرار نهائي فيها ، يمكن ان يصدر قانون لاجراء استفتاء شعبي ". أشار أيضا إلى أن برلمان النمسا يلجأ " في بعض الأحيان " الى الاستفتاء الشعبي الاستشاري . لم نستطع العثور على أثر لنص دستوري يعطي برلمان النمسا حق الاستفتاء الاستشاري . أما عن الدستور السويدي فإن للملك والبرلمان أن يصدرا معا قانونا بإجراء استفتاء وطريقة إجراءه . وعندما ينتهي الاستفتاء - وهذا هو المهم - فإن القرار الذي يصدر يعامل معاملة القوانين الأساسية . إذن فما هو مقرر في الدستور السويدي ليس استفتاء استشاريا بل هو استفتاء على قاعدة تشريعية ذات حجية دستورية ملزمة للدولة وكافة مؤسساتها .
هذا مع أن الإجماع منعقد في الفقه العربي والفرنسي بدون استثناء واحد على أن الاستفتاء الاستشاري استفتاء سياسي غير ملزم . ومع ذلك فان الفقهاء في فرنسا يصبون جل نقدهم على هذا الاستفتاء بالذات ويلحون إلحاحا شديدا على أنه مدخل خطير الى الاستبداد . يبدو هذا غريبا . كيف لا يكون ملزما ويكون مدخلا الى الاستبداد فى الوقت ذاته ؟ الجواب بسيط .
في المجتمع المنظم تقوم المؤسسات الدستورية بأداء وظائف حددها الدستور وحدد السلطة التي تقوم بها . البرلمان للتشريع ، الحكومة للتنفيذ ، القضاء للفصل فى الخصومات . فلماذا تريد أية سلطة منها استشارة الشعب في أمر أوكله الدستور إليها وحملها مسئولية آدائه ؟ نترك السلطة التشريعية والسلطة القضائية ليكون السؤال أكثر وضوحا . لماذا تريد السلطة التنفيذية على وجه التحديد استشارة الشعب عن طريق الاستفتاء في سياستها .. يقولون ان قيصر هو أول من بدأ هذا التقليد الاستبدادي . كان يخطب في الرومان ويبلغهم قراراته فإذا قوبل بالهتاف اعتبر ان الشعب قد وافق على ما قرره . ولهذا يسمونه " الاستفتاء القيصري " ويتهمون كل من يلجأ اليه بأنه " قيصر" وهي تساوي ـ في لغة علم النظم السياسية - كلمة " مستبد ". أكثر من هذا قربا الى التحليل العلمي للاستفتاء الاستشاري أن يقال أنه ليس استفتاء أصلا ولكنه اقتراع بالثقة . فالأصل في الاستفتاء ان يرد على موضوع . اما الاقتراع بالثقة فهو يرد على " سياسة الحاكم ، ويكون المقصود به منحه الثقة أو تأكيدها كما يحدث ـ ولكن يشكل أكثر وضوحا - على اثر حل مجلس النواب وإعادة انتخابه . ففي الحالتين يكون الانتخاب متضمنا موضوعا لا شك يدخل في تقدير الناخبين عند الاقتراع ، ولكن قبول أو رفض هذا الموضوع يأتي من خلال الثقة أو عدم الثقة بصاحبه . وهنا يكمن الخطر الذي يتخوف منه بعض فقهاء القانون الفرنسي حين يصبح الاستفتاء الاستشاري " وسيلة يلجأ اليها رئيس السلطة التنفيذية ليسند سياسته الخاصة الى الإرادة الشعبية فيصادر الدور الرقابي الذي تقوم به - أو المفروض أن تقوم به ـ المؤسسات الدستورية الأخرى بالإضافة الى المؤسسات الشعبية من أحزاب وصحافة .. الخ . وقد حاول الفقه الفرنسي أن يحد من مخاطر الاستبداد الكامنة في هذا النوع من الاستفتاء فاشترط لصحته ألا يتضمن الاستفتاء ما يعتبر مخالفة لقاعدة دستورية أو قاعدة تشريعية او استفتاء سابق . (بوردو، بورتولى بيريلا ، هرفي دوفال ، جاك جورجيل .. الخ .
٨٦ـ على أي حال فإن الاستفتاء الاستشاري وارد بصريح نص المادة ١٥٢ من دستور مصر العربية الصادر في ١٩٧١. ومن قبله كان واردا بنص المادة ١٢٩ من دستور ١٩٦٤. ومن قبله كان واردا بنص المادة ١٤٥ من دستور ١٩٥٦ . وبه تتميز الحياة الدستورية في مصر العربية عنها في أية دولة أخرى في العالم . استنادا الى هذه المواد تم الاستفتاء على " بيان ٣٠ مارس " يوم ٢ مايو ١٩٦٨ وعلى ورقة أكتوبر يوم ١٥ مايو ١٩٧٤ وعلى " مبادئ حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي " يوم ٢١ مايو ١٩٧٨ وعلى " معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية وأسس تنظيم الدولة " يوم ٢٠ ابريل ١٩٧٩ .
٨٧- كل هذه الاستفتاءات ، كما جرت في مصر العربية ، استفتاءات مستحيلة موضوعيا لأن ما طرح فيها - وفي كل مرة - كان موضوعا أو موضوعات غير واضحة الدلالة بذاتها . نأخذ ـ من أجل الاختصار - استفتاء ٢٠ أبريل ١٩٧٩ . قيل أن الشعب قد وافق بنسبة ٩،٩٩ ٠/' على " إعلان حقوق الإنسان المصري " و " الالتزام بالحفاظ على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والاشتراكية والديمقراطية " و " وتقنين الصحافة كسلطة رابعة ضمانا لحريتها وتأكيدا لاستقلالها هذه مجرد أمثلة مما جاء في الاستفتاء . لا بأس في أن نضيف إليها أمثلة مما قيل أن الشعب قد وافق عليه في استفتاء ٢١ مايو ١٩٧٨ بنسبة ٢٩، ٩٨‘/' . قيل أنه وافق على " حرمان " كل من يدعو أو يشارك في الدعوة " لمبادئ تتنافى مع أحكام الشرائع السماوية أو تعرض بها ". وعلى " ميثاق الشرف الصحفي " .
قال الشعب (نعم) لكل هذه ؟ فليكن . ولكن ما هي دلالة نعم هذه ؟ أنها لا تدل على أن الشعب قد وافق على" إعلان حقوق الإنسان المصري" أو" الوحدة الوطنية" أو" السلام الاجتماعي " أو" الاشتراكية الديمقراطية " أو " الصحافة كسلطة رابعة " ... إنما تدل على أن كل من قال " نعم " قد وافق على " ما فهمه هو " من هذه الكلمات . ولما كانت تلك الكلمات غير واضحة الدلالة بذاتها بل تصلح كل منها عنوانا على مفاهيم مختلفة فان النتيجة الموثوقة للاستفتاء هي موافقة الشعب على مفاهيم مختلفة وليس على الكلمات التي تصلح عناوين لهذه المفاهيم . نضرب مثلا.
قال الشعب " نعم " لتحريم الوظائف العامة على كل من يدعو أو يشارك في الدعوة لمبادئ تتنافى مع أحكام الشرائع السماوية أو تعرض بها " فليكن . ومع ذلك يمكن تأكيد أن المسلمين قد قالوا نعم لمبدأ التوحيد وأن الحكم لله وحده ، وأن القرآن دستور وأن السياسة من الدين والدين سياسة . كما قالوا نعم لمبادئ تعدد الزوجات حتى أربع لمن عدل ، وإباحة الطلاق اتفاقا أو بإرادة منفردة من الزوج أو بناء على طلب الزوجة للضرر ... فكل هذه من أحكام شريعتهم السماوية . ولا شك في أن المسيحيين قد قالوا نعم " للتثليث ". وأن ما لله لله وما لقيصر لقيصر وأن الزواج بواحدة وأن الطلاق حرام . أما اليهود فقد فهموا ان من أحكام الشريعة انهم شعب الله المختار وانهم موعودون من الله بأن تكون لهم أرض فلسطين ، وان أرملة الأخ المتوفي تصبح زوجة لأخيه بمجرد الوفاة بدون حاجة الى قبول او عقد جديد ، فقالوا نعم . قال كل مؤمن بشريعة سماوية نعم لما يعتقد أنه "أحكام الشرائع السماوية"... وهي شرائع تنطوي أحكام مختلفة . أليس كذلك ؟ أم انها "البهائية" التي تصوغ من الشرائع السماوية أحكاما موحدة ؟. فما الذي تدل عليه كلمة " نعم" أو كلمة "لا" ؟ لا شيء . مثل آخر .
سيكون شيئا ممتعا للدارسين الحائرين منذ قرنين أن يعرفوا ما هو المضمون الموحد الذى قال له الرأسماليون والعمال والفلاحون والعاطلون والأميون في مصر" نعم " عندما قالوا " نعم " للاشتراكية الديمقراطية .. كل الذي نعرفه نحن أن الدستور ينص في المادة الأولى منه على ان جمهورية مصر العربية دولة نظامها " ديمقراطي واشتراكي " وان المادة الخامسة (الملغاة) كانت تنص على ان الاتحاد الاشتراكي العربي هو أداة تحالف قوى الشعب العاملة فى تعميق قيم " الديمقراطية الاشتراكية " . ونعرف ان دلالة تلك التعبيرات كانت واردة بالتفصيل فى الدستور ذاته فى باب " المقومات الأساسية للمجتمع " ، وأنه حين كان الأمر يحتاج الى مزيد من التفسير كان يرجع الى وثائق ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ التي وصلت الى أرقى وأسمى وأوضح صيغة لها في "الميثاق " الذي أصدره المؤتمر الوطني للقوى الشعبية يوم ٣٠ تموز ١٩٦٢ " ليكون إطارا لحياتنا وطريقا لثورتنا ودليلا لعملنا من أجل المستقبل ونعرف أن الرجوع الى الميثاق كمصدر فكري للدستور اذا أريد تحديد مضمون بعض نصوصه أو نصوص التشريعات الأخرى كان مسلما حتى فبراير ١٩٧٧ . فنجد اللجنة التشريعية في مجلس الشعب وهي تناقش مشروع القانون رقم ٤٣ لسنة ١٩٧٤ الخاص باستثمار الأموال الأجنبية والعربية تعود الى الميثاق وتحاول الاستناد الى بعض ما جاء به من مبادئ ( التقرير الرابع عشر- مشترك ه ـ يوم ٢ يونيو ١٩٧٤ ـ مطبوعات مجلس الشعب في دور الانعقاد العادي الثالث - الفصل التشريعي الأول) . كما نجد اللجنة ذاتها خلال مناقشتها لمشروع القانون رقم ٤٠ لسنة ١٩٧٧ الخاص بالأحزاب تجاهد من أجل الملاءمة بين هذا القانون والمبادئ التي وردت في الميثاق فيقول تقريرها : " كذلك فقد استعادت اللجنة الوثائق السياسية المصرية المتعلقة بالموضوع فدرست أحكام الميثاق الوطني الصادر عام ١٩٦٢ وبيان ٣٠ مارس سنة ١٩٦٨".
كان كل شيء قابلا للمعرفة . " الديمقراطية والاشتراكية " مترجمة الى نصوص تطبيقية فى عشرات المواد فى الدستور . ومستندة إلى وثائق فكرية معروفة لمن يريد مزيدا من المعرفة . ثم .. بدأ يتردد في الخطب والبيانات وأجهزة الإعلام تعبير" الاشتراكية الديمقراطية " بدلا من " ديموقراطي واشتراكي " أو بدلا من " الديمقراطية الاشتراكية " . ولم يكن في ذلك بأس كبير ما دامت دلالة التعبير محكومة بما جاء في نصوص الدستور ووثائقه الفكرية .
ولكن المسألة لم تتوقف عند هذا الحد . فبناء على تكليف من رئاسة الجمهورية تشر في أول يوليو١٩٧٨ كتاب بعنوان " إشتراكيتنا الديمقراطية - أيديولوجية ثور ١٩٧١" طبع على نفقة السلطة ووزع بدون مقابل . أسند إلى مجموعة من أساتذة الجامعة وحمل إسم الدكتور صوفي أبو طالب رئيس جامعة القاهرة حينئذ ورئيس مجلس الشعب بعدئذ . المضمون الفكري لهذا الكتاب لا يستحق المناقشة مثل كل الكتابات التي تنتقي الأفكار وتلفق بينها لتصل إلى نتيجة صادر بها أمر سابق . خلاصته أنه يحاول أن ينشئ لنصوص الدستور تفسيرات لاحقة لها ومضادة للوثائق التي صدرت على أساسها . فبينما نرى هذا الكتاب يؤكد في مواضع كثيرة منه أن مناط الشرعية هي القواعد التي جاءت في الدستور نراه يذهب في كل مواضعه تقريبا الى " اختراع مفاهيم جديدة للنصوص الدستورية . فيبدأ بما يسميه " القيم الحضارية العربية " وينتهي بما يسميه " ما بشرت به المسيحية " ليصل الى ما يريد قوله : " وهذا يقتضينا ان نرد جميع مبادئ الاشتراكية الديمقراطية في مصر الى أصولها الفكرية العربية ونفسر كل مبدأ على ضوء تراثنا الفكري " . ثم يقول بجرأة بالغة الغرابة على التاريخ القريب جدا ، أو التاريخ المعاش فعلا ، ان ما أسماه ثورة مايو ١٩٧١ قد اتخذت من الاشتراكية الديمقراطية منهاجا وفلسفة لها واعتمدت على مصدر فكري أصيل هو القيم الحضارية العربية مع الاسترشاد بالفكر الاشتراكي الديمقراطي المعاصر . وان كل ذلك قد تم تقنينه في الدستور الدائم الصادر عام ١٩٧١ . في حين ان كل ما حدث فيما أسماه ثورة مايو ١٩٧١ ان رئيس الجمهورية قد أعفى نائبه من منصبه وقبل استقالة خمسة وزراء ثم قدمهم جميعا ومعهم آخرون للمحاكمة بتهم انهم حاولوا الانقلاب على السلطة الشرعية ونسب اليهم الانحراف عن خط ثورة ٢٣ يوليو الثابت في وثائقها الفكرية . فمتى وكيف اتخذت ثورة مايو ١٩٧١ الاشتراكية الديمقراطية منهجا وفلسفة ؟.
ثبت بعد ذلك أن المسألة أبعد من مجرد الجدل حول الألفاظ والوثائق وان استعمال " تعبير الاشتراكية الديمقراطية " بدلا من تعبير " الاشتراكية والديمقراطية " الوارد في الدستور كان مقصودا لمساندة سياسة الانفتاح الاقتصادي التي أوقفت التحول الى الاشتراكية وارتدت الى النظام الرأسمالي بالمخالفة الصريحة للمبادئ الأساسية الواردة في الدستور تحت عنوان " المقومات الاقتصادية " . أريد أن تعطي نصوص الدستور دلالات مناقضة لما جاء في وثائقها الفكرية وأعمالها التحضيرية ، فأنشئ كتاب " الاشتراكية الديمقراطية ". ثم في أول فرصة بعد تشره أقحمت " الاشتراكية الديمقراطية " في استفتاء ٢٠ أبريل ١٩٧٩. ليعلن بعد ذلك أن الشعب قد قال " نعم " للاشتراكية الديمقراطية . بأي معنى ؟ المعنى الذي أرادته السلطة هو ما جاء في كتابها الذي كان قد نشر قبل نحو عام . فهل قال الشعب " نعم " لهذا الكتاب ؟.. ان هذا مستحيل موضوعيا ، اذ يستحيل موضوعيا أن يكون كتاب من أكثر من مائة صفحة (قطع كبير) قابلا بذاته على أن بجاب عليه بنعم أو لا . مثل آخر .
٨٨- يقولون أن الشعب قد وافق على الوحدة الوطنية . فليكن . ولكن أية وحدة وطنية ؟
وعلى ماذا الوحدة الوطنية ؟ عند ما تكون الوحدة الوطنية أمرا موجها الى الكافة بنص في الدستور أو القانون تدل بذاتها على أن ثمة قوى أو اتجاهات مختلفة في الوطن الواحد . بدون التسليم بأن هناك خلافا بين القوى الاجتماعية في الشعب وأن ثمة مبررات موضوعية (مصالح) لذلك الخلاف ، تكون دعوة الوحدة الوطنية شعارا فارغا ويكون الأمر بها عبثا . إذ لولا الخلاف وأسبابه الموضوعية لكان الشعب موحدا وبالتالي لما كان ثمة مبرر للدعوة الى الوحدة الوطنية وتحويلها الى قاعدة قانونية آمرة يلقى من يخالفها جزاء . ثم يأتي مبرر الوحدة الوطنية بين القوى الاجتماعية المختلفة عندما تواجه تلك القوى (موقفا) مشتركا فتتوحد لتأمين مصالحها جميعا . تؤجل - أقول تؤجل ولا أقول تلغي أو تتنازل - تؤجل خلافها وصراعها لتوحد جهودها في هذا الموقف المشترك . يترتب على هذا ان الوحدة الوطنية لا يمكن أن تقوم من أجل المفهوم الرومانتيكي " للوحدة الوطنية أو خوفا من ردع القوانين التي تصاغ لفرض الوحدة الوطنية . تلك الأفكار طفولية . انها تتم أو يمكن أن تتم ـ أقول يمكن أن تتم ولا أقول يتظاهر الناس بقبولها ـ اذا تحدد لها مضمون يجيب إجابة لا تحتمل التأويل على السؤال الأتي : ما الذي نوحد عليه جهودنا ونؤجل من أجله خلافاتنا ؟ .
فإذا استفتي الشعب على " الوحدة الوطنية " هكذا بدون تحديد لمضمونها فان كل واحد سيضع لها المضمون الذي " يعتقد هو" أنه يجب أن تتم الوحدة الوطنية عليه . الجيل الفخور بأنه هزم محاولات الاستعمار الانجليزي التفرقة بين الأقباط والمسلمين خلال ثورة ١٩١٩ سيتذكر مضمون الوحدة الوطنية الذي نقش على أعلام الثورة فيقول " نعم " للوحدة الوطنية وهو يعني وحدة الانتماء الى الوطن بصرف النظر عن الانتماء الديني . الجيل الذي عاصر تجربة عبد الناصر تحت شعارها : الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب يقول " نعم " للوحدة الوطنية بمعنى وحدة الشعب ضد أعدائه . الوطنيون الذين ما زالوا يذكرون الشعار الذي استفتي عليه الشعب في ٢ مايو ١٩٦٨ وقالوا له " نعم " لا صوت يعلو على صوت المعركة (بيان ٣٠ مارس) يقولون " نعم " للوحدة الوطنية على تحرير الأرض ورفض الاستسلام . الاشتراكيون يقولون " نعم " للوحدة الوطنية على التحول الاشتراكي . الرأسماليون يقولون " نعم " للوحدة الوطنية على الانفتاح الاقتصادي...الخ . وحين يقول كل واحد نعم للوحدة الوطنية يكون قد قال نعم ان هناك اختلافا بين القوى الاجتماعية . وهو يقول " نعم " للوحدة الوطنية على موقع وموقف ومصالح القوة الاجتماعية التي ينتمي اليها ...
٨٩ـ قلنا ان الاستفتاء الاستشاري هو في حقيقته اقتراع بالثقة . فلماذا لا يقال ان الشعب قد قال نعم لتلك المفاهيم التي سيختارها من استفتاه " ثقة " منه فى مقدرته على تحديد تلك المفاهيم ؟.. نقول فليكن أيضا . ولكن المسألة ستكون حينئذ اختبارا بين مفاهيم رئيس الجمهورية وبين مفاهيم " لا أحد"... بين الموجود والمعدوم . فيكون الاستفتاء مستحيلا موضوعيا أيضا . إذ ما يقال له "اختيارا " وارد على واحد لا بديل له هو اختيار مستحيل . ألف مليون " نعم " فى مثل هذه الاستفتاءات لا تساوي شيئا كما لا تساوي شيئا أيضا ألف مليون لا ، لأن الاستفتاء كله مستحيل موضوعيا. لماذا يجرونه إذن ؟.. لأن ثمة قرارات يراد فرضها بدون تحمل مسؤوليتها الدستورية أو الجنائية أو السياسية أو التاريخية فتسند الى الإرادة الشعبية عن طريق الاستفتاء الشعبي . انه استبداد ديمقراطي .
٩٠- أدهى من كل هذا وأمر الأ يكون موضوع الاستفتاء معلوما لمن استفتوا فيه . لا أقول العلم الفعلي بل نكتفي بالعلم الحكمي . العلم الفعلي يتطلب - على الأقل ـ معرفة القراءة وهي معرفة مقصورة على أقلية من المصريين . ولو أخذنا بالعلم الفعلي لكان علينا أن نتأكد من أن موضوع الاستفتاء قد وصل إلى علم كل واحد على حدة . ولفتحنا الباب على مصراعيه ليقول كل واحد انه - شخصيا- لم يعلم موضوع الاستفتاء أو القانون . في كل الدول وفى كل النظم تخصص " جريدة رسمية " لنشر نصوص القوانين والقرارات وتكون متاح لكل من يريد الحصول عليها. بمجرد النشر، أو بعده بمدة في بعض الحالات ، يفترض أن القانون أو القرار المنشور معلوم للكافة . جزاء هذا الفرض " ألا يعذر أحد بجهله بالقانون " . نعود الى الاستفتاء . رأينا أن الدستور السويدي يشترط أن يصدر قانون بموضوع الاستفتاء وموعده وكيفية اجرائه ، ليكون الكافة على علم به . ومن قبل ذلك عندما بدأ أول تقليد فى الاستفتاء على التشريعات فى الدستور الفرنسي الصادر يوم ١٠ أغسطس ١٧٩٣ نص الدستور على أن تطبع مشروعات القوانين وتوزع على اللجان الشعبية مرفقا بها تقرير شارح قبل الاستفتاء عليها (المادة ٥٦ - ٦٠ ) . كما أن المادة ١١ من الدستور الفرنسي الصادر عام ١٩٥٨ تنص على نشر الاقتراح بالاستفتاء الشعبي فى الجريدة الرسمية قبل إجرائه .
أما في مصر العربية فقد أجريت استفتاءات على أمور مجهولة تماما . اما لأنها غير موجودة أو لأنها غير منشورة . ألم نر كيف قيل ان الشعب قد وافق على قانون تنظيم الأحزاب قبل أن يصدر (١٠ فبراير ١٩٧٧) ورأينا كيف قيل ان الشعب قد وافق على " إعلان حقوق الإنسان المصري " أو " ميثاق الشرف الصحفي" يوم ٢١ مايو ١٩٧٨ ولم يكن في مصر شيء يسمى " إعلان حقوق الإنسان المصري " أو " ميثاق الشرف الصحفي " . أكثر من كل هذا وأخطر انه في يوم ٢٠ أبريل ١٩٧٩ استفتي الشعب فى ما يلي بالنص : " معاهدة السلام وملحقاتها بين جمهورية مصر العربية ودولة إسرائيل والاتفاق التكميلي الخاص بإقامة الحكم الذاتي الكامل في الضفة الغربية وقطاع غزة الموقع عليها في واشنطن في ٢٦ مارس ١٩٧٩ " هذه المعاهدة وملحقاتها من وثائق وخرائط والاتفاق التكميلي لها كانت مجهولة تماما من الشعب المصري يوم أن استفتى عليها . كانت جريدة الأهرام قد نشرت " ترجمة صحفية " لبعض نصوصها يوم ٢٧ مارس ١٩٧٩ (هل انفرد شعب مصر بعادة الاحتفاظ بالصحف اليومية توقعا للاستفتاء عليها ؟ ثم قدمت نصوص المعاهدة الى مجلس الشعب يوم ٩ أبريل ١٩٧٩ ووافق عليها يوم ١٠ أبريل ١٩٧٩. وصدر القرار بدعوة الشعب الى الاستفتاء عليها يوم ١١ أبريل ١٩٧٩ أي في اليوم التالي . لم يكن الشعب يعرف عنها الا ما نقلته أجهزة الإعلام من أنها معاهدة سلام " تنتهي بها الحرب ويبدأ بها الرخاء " . هذا اذا كان الشعب في مصر يتابع ما تنقله أجهزة الإعلام . أما باية شروط فلم يكن احد يعرف أو يستطيع أن يعرف حتى لو أراد . ومع ذلك قيل أن الشعب قد وافق بنسبة ٩، ٠٩٩/' على " معاهدة السلام وملحقاتها .. والاتفاق التكميلي الخاص بإقامة الحكم الذاتي ... الخ ". فكيف يوافق الشعب أي شعب ، على ما يجهله ؟.. انه لم يجهله لأنه غير قادر على الإدراك والاختيار ، بل كان يجهله لأنه كان" مجهولا " فأصبح الاستفتاء عليه مستحيلا موضوعيا . ولا تعني ألف مليون كلمة " نعم " شيئا يدل على أن قائليها قد قبلوا ما لم يكن لهم به علم . والواقع انه لم يكن المقصود من الاستفتاء أن يختار الشعب أو يرفض معاهدة السلام مع إسرائيل ، إذ كانت تلك المعاهدة ، قد نفذت بقبول رئيس الجمهورية لها وموافقة مجلس الشعب عليها ، بل كان المقصود إسناد قبولها الى الإرادة الشعبية وتحميل الشعب مسئولية إبرامها . ولعل أقوى ما يؤكد هذا أنه بعد هذا الاستفتاء وبناء عليه حل مجلس الشعب وجرت انتخابات جديدة كان المفروض أن تكون المعاهدة أحد الموضوعات الأساسية التي يدور حولها الحوار بين الناخبين والمرشحين . وكان من الممكن أن تكون تلك فرصة ليعرف الشعب حقيقة تلك المعاهدة . فبادرت السلطة الى اتخاذ الإجراءات الصارمة لتبقى المعاهدة مجهولة ، وذلك بصدور قرار جمهوري بتحريم نقدها واعتباره جريمة .
التدمير :
٩١- يستحق هذا القرار أن تذكر بعض نصوصه . تقول المادة الأولى منه :
" يستبدل بنص المادة الحادية عشرة من القانون رقم ٣٨ لسنة ١٩٧٢ في شأن مجلس الشعب النص الآتي : تلتزم الأحزاب السياسية وكل مرشح لعضوية مجلس الشعب في الدعاية الانتخابية بالمبادئ التي وافق عليها الشعب في الاستفتاء بتاريخ ٢٠ من أبريل ١٩٧٩. وكذلك بالمبادئ المنصوص عليها في المادة الأولى من القانون رقم ٣٣ لسنة ١٩٧٨ بشأن حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي المشار اليه . وكذلك بالوسائل والأساليب المنظمة للدعاية الانتخابية وبالحد الأقصى للمبالغ التي يجوز إنفاقها عليها وذلك طبقا للقواعد التي يصدر بها قرار من وزير الداخلية . ويعلن قرار وزير الداخلية المشار إليه في جريدتين يوميتين واسعتي الانتشار . وللمحافظ المختص أن يأمر بإزالة الملصقات وكافة وسائل الدعاية الأخرى المستخدمة بالمخالفة لأحكام القواعد المشار اليها في الفقرة الأولى على نفقة المرشح .
" ويعاقب كل من يخالف أحكام الفقرة الأولى بالعقوبة المنصوص عليها في المادة الثالثة عشرة من قانون حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي رقم ٣٣ لسنة ١٩٧٨ (الحبس مدة لا تقل عن ثلاثة شهور وغرامة لا تقل عن ثلاثمائة جنيه ولا تزيد عن ثلاثة ألاف جنيه)...
وتعتبر مخالفة أحكام هذا القانون من الجرائم الانتخابية وتسري عليها أحكام المادة الثانية من قانون تنظيم الحقوق السياسية رقم ٧٣ لسنة ١٩٥٦ فيما يتعلق بالحرمان من مباشرة الحقوق السياسية " .
٩٢- فأصدر وزير الداخلية قرارا يقول فيه : (١) يجب على المرشح أن يراعي في جميع الاجتماعات ووسائل وأساليب الدعاية الانتخابية أحكام القوانين واللوائح النافذة ، واحترام المبادئ التي وافق عليها الشعب في الاستفتاء بتاريخ ٢٠ من أبريل سنة ١٩٧٩، وأن يكون استخدامه لها مقصورا على التعريف بنفسه وبرنامجه الانتخابي للناخبين بالدائرة الانتخابية . (٢) يحظر أن تتضمن الدعاية الانتخابية أية عبارة أو رسوم أو صور أو أية طريقة أخرى للتعبير اذا كانت تنطوي على الدعوة الى ازدراء أو كراهية أو مناهضة أو رفض المبادئ التي وافق عليها الشعب في الاستفتاء على معاهدة السلام ومبادئ تنظيم الدولة بتاريخ ٢٠ من أبريل ١٩٧٩ أو على أي أمر من الأمور الآتية : أولا.... ثانيا.... ثالثا... رابعا.... خامسا.... ساد سابعا... الخ " لا مبرر لإعادة النصوص إذ أنها إعادة لكل المبادئ ، والمقولات ، والعناوين التي جاءت فى الاستفتاءات السابقة .
اذن ،
تحت تهديد سلاح الحرمان من ممارسة الحقوق السياسية والسجن حرم على المصريين ناخبين ومرشحين وعلى الأحزاب السياسية نقد المبادئ والمقولات والعناوين التي جاءت في الاستفتاءات ونقد معاهدة السلام مع إسرائيل خلال معركة انتخابية .. بالرغم من أن نقد الدستور ذاته والمطالبة بتعديله أو إلغائه واستبداله بدستور غيره مباح . أصبحت المبادئ والمقولات والعناوين التي تطرح على الاستفتاء ذات قدسية فوق قدسية الدستور ذاته . فبلغ الخطر الذروة .
٩٣- وهو لم يبلغها مرة واحدة . فالواقع أن أحدا لم ينفذ " بيان ٣٠ مارس " أو" ورقة أكتوبر" وقيل أنهما ورقتان قديمتان انتهت قيمتهما ولم يحتج أحد بالاستفتاء عليهما . كما لم ينفذ أحد ما جاء فى المادة 5 من القرار بقانون رقم ٢ لسنة ١٩٧٧ التي تلزم كل مواطن ببيان ما يملك من أموال هو و زوجته وأولاده القصر ولم يحتج أحد بالاستفتاء على تلك المادة . ولكن بعد هذا الاستفتاء الذي جرى يوم ١٠ فبراير ١٩٧٧ واستطاعت به السلطة التنفيذية تخطي السلطة التشريعية واستصدار قانون عن طريق الاستفتاء الشعبي تصاعد هذا الاتجاه . الاتجاه الى أن تحكم مصر العربية طبقا لقرارات فردية تتم تغطيتها عن طريق الاستفتاء الشعبي وكانت بداية التجربة الاستفتاء الذي جرى ٢١ مايو١٩٧٨ على عنوان " مبادئ حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي " . فنجد أن هذا الاستفتاء قد تضمن .. رابعا : يضع مجلس الشعب التشريعات المنفذة لهذا الاستفتاء كما يسن العقوبات المناسبة لكل من يخالف هذه المبادئ " .
الاستفتاء الشعبي استشاري وغير ملزم (الدستور) . الاستفتاء الشعبي وسيلة من وسائل التشريع موازية لمجلس الشعب (استفتاء ١٠ فبراير ١٩٧٧) . الاستفتاء الشعبي ملزم لمجلس الشعب بإصدار قوانين وفرض عقوبات (استفتاء ٢١ مايو ١٩٧٨) . وقد صدر فعلا القانون رقم ٣٣ لسنة ١٩٧٨ . صاغ تلك المبادئ التي جاءت في الاستفتاء فى صورة مواد وفرض عقوبات على مخالفتها . ألغيت اذن وظيفة السلطة التشريعية الا في الحدود التي يراد لها ان تمارس فيها . بقيت الأحزاب ، بقيت الصحافة ، بقي الرأي العام ، تلك الأدوات الشعبية التي تستمد كل النظم نصيبا من الديمقراطية بقدر فاعلية تلك الأدوات ، فلا بد من فرض القيود عليها باسم الشعب وعن طريق الاستفتاء الشعبي . فجاء استفتاء ٢٠ ابريل ١٩٧٩ ليحرم الآراء التي رأى صاحب القرار تحريمها ، فشلت تلك الأدوات او ألغيت فاعليتها . ما الذي بقي ؟. لا شيء يستحق الذكر . وما بقي قابل للإلغاء باستفتاء جديد ....
٩٤- وهكذا تحول الاستفتاء الشعبي الى أداة لمخالفة الدستور وإلغاء المؤسسات الدستورية ، وإلغاء حريات العقيدة والرأي والتعبير والإجماع ... ولفرض القرارات الفردية بالإكراه على الشعب . اين الإكراه ؟ أولا ، عندما تنعدم القدرة على الاختيار يكون الشعب مكرها على أن يقول " نعم " . وثانيا ، تحدي المؤسسات الدستورية والمؤسسات الشعبية بإرادة الشعب ، إكراه لا شك فيه خاصة انه مدعوم بعقوبات جنائية . ثالثا ـ وهو أخطر أنواع الإكراه ـ وضع الشعب في موضع الخيار ما بين ما هو قائم او لا شيء . بين قرارت لا دستورية او لا دستور . ببن الاستبداد او الفوضى . بين قوانين معيبة او لا قوانين . بين الاحتكام الى القوانين ناقصة السيادة وبين الاحتكام الى القوة السافرة . بين لا أحزاب أو أحزاب غير شرعية .
ولا شك في أن كل الشعوب لها مصلحة تجنح إليها هي ، الا تعود الى ما قبل سيادة القانون . فهي مستعدة لتحمل حتى الاستبداد بالقانون ما دام ثمة أمل في تعديل القانون او تغييره . ولكن لا يوجد شعب مستعد لقبول العودة الى ما قبل بدء الحضارة بحيث يحتكم كل واحد الى ما يملك من مقدرة مادية على فرض إرادته على الآخرين .
ثم تتميز الشعوب النامية بمصلحة خاصة : التقدم نحو الديمقراطية . قلنا منذ البداية " في المجتمعات المتخلفة او النامية لا تكون الديمقراطية نظاما دستوريا يطبق بل حياة ديمقراطية تسعى الشعوب الى تحقيقها وتناضل من أجلها . هنا لا يكون السؤال الأساسي هو : هل ثمة نظام ديمقراطي بمقياس العصر أم لا ؟ بل يكون هل نتقدم نحو نظام ديمقراطي بمقياس العصر أو لا ؟. هنا يكون النظام الديمقراطي" مثلا أعلى يوجه ويقود جهد البشر" كها قال رينه كابيتان (الديمقراطية والممارسة السياسية - ١٩٧٢) . وهنا تكون كل خطوة فكرية او قانونية او سياسية او اقتصادية او اجتماعية او تربوية تحرر الشعب من التخلف الديمقراطي هي خطوة ديمقراطية نحو النظام الديمقراطي . وهنا ـ أخيرا - تكون كل ردة فكرية او قانونية او سياسية او اقتصادية او اجتماعية او تربوية عما اكتسب فعلا هو هدم وتدمير في بناء الديمقراطية غير المكتمل يعود بالشعب الى بداية الطريق .
قلنا هذا في البداية وبه نختم الحديث عن الاستبداد . لقد حققت الشعوب كل مكاسبها الديمقراطية من خلال نضال يحرض عليه الاستبداد الظاهر بحيث يمكننا ان نقول ان المستبدين المتخلفين والمتألهين والأوصياء والبورجوازيين قد أسهموا من حيث لا يدرون او لا يريدون في إيضاح الطريق الى الحرية . كما يتضح الأبيض من خلال ظلمة السواد . كان المستبدون يعمقون التناقض بين الحرية والاستبداد ، ويساعدون على فرز قوى الحرية من قوى القهر ؛ فيحرضون الشعب على مقاومة استبدادهم أنفسهم . وخلال حل التناقض الأساسي بين الحرية والاستبداد حققت الشعوب انتصارات ، او ـ نقول تقدمت خطوات نحو غايتها البعيدة الديمقراطية
وجاء الاستفتاء الشعبي أداة ديمقراطية رائعة تدريب الشعوب على ممارسة الديمقراطية ، لتكسب الشعوب الثقة في سيادة القانون ، في إرادتها ، في انها حقا مصدر السلطات . وكانت ممارسة الاستفتاء الشعبي في شكله "الاستشاري " وعلى أوسع نطاق ، وفي جميع المجالات ، قمينا بأن يتحول هذا الأسلوب الديمقراطي الى مدرسة للديمقراطية ، تتخرج فيها الشعوب أكثر وعيا وأكثر دراية وأكثر مقدرة على فرض إرادتها .. ولكن ، وكما تتحول الطاقة الذرية - أرقى اكتشافات العصر- من أداة تعمير الى اداة تدمير بنفس الكفاءة ، تحول الاستفتاء الشعبي من أسلوب لممارسة الديمقراطية الى أسلوب لفرض الاستبداد . ولكنه أخطر من أي استبداد سابق . ففيه تخسر الشعوب كل مكاسبها ، وترتد عائدة الى مراحل الاستبداد المتخلف . استبداد أرباب الأسر او استبداد المتألهين ، وتترك في طريق ردتها كل ما كانت قد تعلمته من المساواة والحرية وسيادة القانون والديمقراطية النيابية ، والأمل في الديمقراطية الشعبية ، بدون ان تتلقى صدمة الاستبداد التي تنبهها الى انها وهي تحاول ان تملك كامل إرادتها من خلال الاستفتاء الشعبي تخسر كامل حريتها بالاستفتاء الشعبي . وليس ثمة خطر على حريات الشعوب اشد فتكا من الاستبداد بها بأسلوب لا شك في ديمقراطيته . ليس ثمة خطر على حريات الشعوب اشد فتكا من " الاستبداد الديمقراطي" .