فقد التيار القومي في الوطن العربي بريقه الذي كان عليه طيلة العقود
الماضية لأسباب مخزية منها مؤازرته للنظم الاستبدادية أينما حلت أو تفشت، فضلا عن
عدائه غير المبرر للتيار الإسلامي، وتقوقعه حول الشخص وليس الفكرة..
وتجاهل أنصاره في ذلك حقائق أكدتها التجربة: أن الاستبداد غالبا هو
نتاج للتبعية للخارج وهو الأولى بالمحاربة لو كانوا حقا يسعون لاستقلال ووحدة
القوم..
وأن “الإسلامي” ليس عدواً بل هو ابن الفصيل الأقرب إليهم فكرياً عملا
بمبدأ أن الإسلام والعروبة وجهان لعملة واحدة، وأن الإسلام هو النهج الرباني
الأقدس الذي قدمه النبي العربي -عليه الصلاة والسلام- للعالم.
وعلى إثر ذلك “الحَوَل”، انحرف المشروع القومي على يد بعض منتسبيه من
كونه مشروعاً تقدمياً وحدوياً جامعاً لأبناء الأمة بجميع توجهاتهم الفكرية
والمعتقدية وحتى الاثنية إلى مشروع إقصائي استبدادي، منشغل بالبحث عن أدوات الهدم
لا البناء، والتفريق لا التوحيد.
البعثي والناصري
هذا “الحَوَل” ساهم بشكل كبير في اندثار القاعدة الشعبية للتيار
الناصري التي شهدتها الساحة العربية طوال النصف الثاني من القرن الماضي، لينتهي به
المطاف إلى هلام وحالة صوتية بائسة فاقدة للمنطق تتمركز حول تعظيم شخص عبد الناصر
وليس حول سبل رعاية ونهضة المجتمع..
خاصة أنهم لم يقدموا طرحا للقومية العربية ذي قيمة منفردة سوى خليطاً
من الشعارات الاشتراكية التي تجاوزها الزمن مع عبثيات باءت بالفشل..
فيما نسف “الحول” مبكرا الولع المتوقع بفكر “البعث” بين الشباب العربي
الطامح لتحقيق الوحدة العربية، وجعله حزبا محلا للشبهات والصفات المشينة حتى لو لم
تكن فيه.
ولقد انتبه البعث في نسخته العراقية متأخرا لخطورة تحويل علاقات
التكامل مع التيار الاسلامي إلى عداء، فطرح صدام حسين قبيل احتلال بغداد ما أسماها
النزعة الايمانية لربط العروبة بالاسلام.
وبعد ذلك استكمل نائبه عزة الدوري هذا التحول باطلاقه “الطريقة
النقشبندية” لتنظيم عمل المقاومة المسلحة العربية والاسلامية ضد الاحتلال
الامريكي، وهي الحركة التي كانت مثالاً عملياً قوياً على وحدة شباب التيار القومي
والإسلامي في ساحات التحرير.
وعلى النقيض تماما ، فإن تجربة الحزب في سوريا جعلت من مجرد ذكر اسم
“البعث” يوحي للأذهان بإيحاءات تعد مرادفا للدم والظلم والطائفية والاستقواء
بالأجنبي وطوابير اللاجئين والهاربين.
ولعل المؤسف حقا هنا أن نجد أن من احتمى بالطائفة والأجنبي وكان مضربا
للأمثال في الفظاعة “ما زال باقيا على كرسي الحكم” على أنقاض شعبه، أما من توجه
للإيمان والصمود في وجه الأجنبي وحظي بحب قطاع كبير من الشارع العربي فقد “رحل”.
الأحزاب الناشئة
ولما كان ذلك يحدث في الأصول والنماذج الكبيرة من الأحزاب
المنتمية للتيار القومي ، فإن الفروع لابد لها أن تسير على نفس الخطى من “الشف”
والتقليد وتتقوقع في نفس الأهداف لتكرر في النهاية نفس الفشل.
وعلى سبيل المثال، سلك غالبية القوميين الحزبيين في تونس نفس الطريق
الداعم للديكتاتوريات، فما أن قام الرئيس التونسي قيس سعيد بالانقلاب على
الديمقراطية حتى سمعنا على الفور ومن دون تريث صدى إشاداتهم بهذا الانقلاب يصم
الآذان..
وراحوا يبررون إشادتهم بانقلاب سعيد على البرلمان بأنه لا يعبر عن رأي
الشارع التونسي وأنه تم انتخابه بالرشى واستغلال حاجة الناخبين.
ورغم أنه تبربر كاذب وسخيف يهين الملايين من الناخبين التونسيين، إلا
أنه أيضا مردود عليه بأنه إذا استجاب الشعب لهذه الرشى غير مغصوب ولا مجبر، ولا
مخدوع أو مغيب وعيه، وراح يصوت لمن لا يريد، فالعيب هنا إذن في الشعب.
وتناسي هؤلاء كذلك أن شرعية الانتخاب التي يهاجمونها في أعضاء
البرلمان هي نفسها من خولت السلطة للرئيس الذي يؤيدونه.
ومما لا شك فيه أن الذين فجروا ثورة الياسمين لا ينقصهم الوعي ولا
الجرأة للتحدي والرفض، ولا يمكن أن يقبلوا بالعودة لزمن كانت تزور فيه إرادتهم،
كما لا توجد آلية أخرى معروفة لقياس إرادة الشعب غير الانتخاب، ولا توجد غيرها
لاختيار برلمان أو رئيس جديد.
حركة الشعب
كما أن اتهامات بطلان البرلمان لو صحت فستنسحب أيضا على البرلمانيين
مؤيدي قرارات الرئيس، ليصبحوا هم من فاقدي الشرعية لأنهم سيكونون حينئذ قد فازوا
بالرشاوى مثلهم مثل بقية زملائهم، ومن بين هؤلاء نواب كتلة حركة الشعب “القومية”
الممثلة بنسبة 6,7% في البرلمان بـ 15 نائبا..
وهى الكتلة التي عرف عن أمينها العام “زهير المغزاوي” حبه الشديد
للرئيس السوري بشار الأسد لدرجه أنه وصفه في مؤتمر بدمشق مؤخرا بأنه قائد عظيم،
وأن الحرب التي يخوضها هي نفس الحرب التي تخوضها تونس الآن، وأن الشعب التونسي
يؤيد بشار الأسد في حربه ضد الإرهاب!!
ويلاحظ هنا أن “المغزاوي” وثب بالصراع التونسي من طبيعته السياسية
المعتادة بين الكتل المنتخبة ديمقراطيا إلي صراع عسكري، وكأنه يرحب بتكرار التجربة
السورية المريرة في تونس.
كما أنه خول لنفسه التحدث باسم الشعب التونسي رغم أن كتلته البرلمانية
لا تمثل في خيارات هذا الشعب التصويتية سوى 6% مقارنة بنحو 59% لحركتي النهضة
والكرامة.
عموما فإن ما يبعث على الطمأنينة هو أن الجيش التونسي أكثر عقلانية
واستقلالا من نظيره السوري، وأن هناك أصواتا قومية تونسية ما زالت تتمسك بالمسار
الديمقراطي.
ويبقى السؤال: هل سيتخلص الفكر القومي من شوائبه أم سيواجه خطر
الانقراض؟
https://ajm.me/29ab43
للمزيد
https://ajm.me/ymkc4m
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق