الكيف غلّاب. لذلك، لن تجد مُخدِّرا أكثر انتشارا في مصر من خداع النفس، فبغيره سيضطر غالبية المصريين لمواجهة حقيقة أنهم لم يسلموا مقاليد أمورهم لدولة، بل لتشكيل عصابي مسلح، يتخفى خلف أشباه مؤسسات، ليمرر من خلالها مصالحه، ويحتمي ببطشها الأمني وباطلها القانوني من الحساب والنقد.
دعك من كل القضايا المأساوية الدامية التي تحدث كل يوم، وخذ، مثلاً، مسألة تبدو هينة، مثل احتجاب برنامج (البرنامج) الشهير، وتذكّر كيف تورط متعلمون ومثقفون، بل وعاملون في الإعلام، في التأكيد على أن (البرنامج) لم يحتجب بسبب تدخلات حكومية، لأن زعيمهم الملهم عبد الفتاح السيسي أكبر وأقوى مما كان يقدمه مبدع (البرنامج) باسم يوسف، مع أنهم يعلمون أن برنامجاً يحظى بتلك النسبة المذهلة من المشاهدة الجاذبة للإعلانات، لم تكن محطة عاقلة لتحجبه، إلا بفعل تدخلات حكومية تضطرها لذلك.
هل تتوقع لهؤلاء أن يواجهوا أنفسهم بحقيقة أن قائدهم "الدكر" الذي يمتلك الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والمثقفين والجماهير، لم يتحمل استمرار ساعة أسبوعية من برنامج ساخر، لأنه حاول تنبيه الشعب إلى فضيحة جهاز الكفتة التي دعمها بنفسه، وفضح عقلية منافقيه الذين سمح لهم بأن يحتلوا جميع الشاشات والصحف، ألا تدرك أنهم لو سلموا بذلك، فإنهم يُسلمون بالتبعية أن القائد الذي "فوضوه على الناشف" وباركوا قتله وسجنه الآلاف، ليس قوياً كما يظنون، بل هو باطش، والفرق بين القوة والبطش شاسع، لمن يرغب أن يعيش في وطن محترم، وليس في "عشة فراخ"، وأنه ليس صاحب رؤية ومشروع، كما حاول مثقفوه أن يصوروه، لأن أصحاب الرؤية والمشروع لا يخافون من السخرية، ولا النقد، فهم يدركون أن قراراً صائباً ومدروساً يمكن أن يكون ردا مفحما على عشرين صحيفة وبرنامج.
لذلك، بعد التطورات المؤسفة في قضية (البرنامج)، لا تحاول تنبيه هؤلاء "المواطنين الشرفاء" إلى خطورة تحويل قضية تحكيم تجاري بين قناة تلفزيونية وشركة إنتاج، إلى وسيلة تنكيل سياسي، تم فيها تغريم باسم يوسف 50 مليون جنيه، مع أنه شاهد وليس طرفاً في النزاع التجاري، ولا تحدثهم عن خطورة تحويل حيثيات حكم، يفترض فيه الحياد، إلى مشتمة لصانعي (البرنامج)، تشكك في وطنيتهم وتبارك قمعهم، لا تنسَ أن هؤلاء "الشرفاء" لا يجدون أدنى مشكلة في أن يكون في مصر قضاة من طراز "هاكلمه في التليفون"، نراهم يعلنون على الملأ آراءهم الكارهة لمتهمين يمثلون بين أيديهم، من دون مراعاة "بُرقع شكليات العدالة" الذي كان يحرص عليه نظام مبارك، الذي قال السيسي لمثقفيه إنه "خرب البلد"، بينما هو يفعل بالبلد منذ لحظة التفويض، ما لم يجرؤ عليه مبارك بكل فساده واستبداده.
للأسف، إن أدرت حواراً مع أحد هؤلاء "الشرفاء"، ستجده ينظر بعين الإعجاب إلى ديكتاتور كوريا الشمالية، كيم جونج أون، الذي شن مؤخرا حرباً إلكترونية ضد شركة أميركية أنتجت فيلماً يسخر منه، ولوجدته يتمنى أن يكون السيسي قد عاد من الصين حاملاً أحدث خبراتها القمعية، لتطوير أدائه في قتل المتظاهرين وقمع المعارضين، وربما لو نجحت في كسب ثقته، لفضفض لك بأنه يعتقد أن السيسي "ابتدا يخيب"، فقد انخفضت أرقام القتلى والمعتقلين من المئات إلى العشرات فقط، فضلاً عن عودة نغمة المصالحة، لتتردد ولو على استحياء، بدلاً من شعار "افرم ياسيسي واحنا معاك" الذي كان يرج أنحاء البلاد.
لن يصدقك هذا "المواطن الشريف" الذي تمتلك مصر فائضاً مرعباً منه، لو قلت له إن مصالحه الشخصية المباشرة ورزق عياله وأمانهم، لن يحققها إلا حياته في مجتمع يصون كرامة كل أفراده، ويضمن حرياتهم، ويسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بينهم، فهو يتخيل أن خطب قائده المليئة بالكلام الساكت ستحل كل مشاكله. ولذلك، لن يواجه نفسه أبداً بحقيقة أنه وثق بتشكيل عصابي من عديمي الكفاءة والخيال، يتخيلون أن المستقبل يمكن صناعته بإعادة تطبيق كتالوج الماضي مع إضافة الكثير من الأغاني الوطنية والأدعية والنحنحة والدم، وأن مصالحهم يمكن أن تستمر بتطبيق "خلطتهم السحرية" التي تستلهم تجربة كوريا الشمالية والصين في القمع والإعلام، وتتهم كل معارض بالخيانة والعمالة لإسرائيل والغرب، في حين تحمي سلطتهم مصالح إسرائيل وأميركا، وتسعى لجلب المزيد من معونات أميركا وأوروبا، وتدلل رجال الأعمال طالما استمروا في توريد المعلوم، وفوق كل هذا، ترمي لغالبية الشعب بأقل من الفتات اللازم لبقائه على قيد التطبيل أو التطنيش، وهي خلطة بلهاء لو عرضتها على ديكتاتور كوريا الشمالية ذات نفسه، لسحب من حنجرته "واحدة شمالي"، قبل أن يقول لك بالكورية "فعلا الديكتاتورية لَمِّت فشخ".