كوكس أبلغ ابن سعود بلهجة قاطعة أنه هو من سيخطط الحدود بنفسه (أرشيف)
طأطأ سلطان نجد عبد العزيز آل سعود رأسه أمام المندوب البريطاني السامي في العراق بيرسي كوكس، وتهدّج صوته، ثم أخذ يتوسّل بمذلّة، قائلاً: «جنابك انتَ أبوي وانتَ أمي. وأنا مستحيل أن أنسى فضلك عليّ. انتو اللي سوّيتوني وأخذتوا بإيدي، وانتو اللي رفعتوني وشلتوني. وأنا مستعد، بإشارة منك، لأن أتنازل لك هالحين عن نص مملكتي... لا والله، أنا أتنازل عن مملكتي كلها، إذا جنابك تأمرني!».
كان هذا كل ما استطاعه السلطان عبد العزيز آل سعود من ردّ على توبيخ ضابط بريطاني له أثناء اجتماعهما في مؤتمر العقير الذي بدأ يوم 21 تشرين الثاني 1922، والذي تمّ فيه رسم الحدود بين سلطنة نجد ومملكة العراق ومشيخة الكويت. وكان سبب التوبيخ البريطاني أنّ الجنرال كوكس قرّر انتزاع مناطق من بادية السماوة، وإلحاقها بحدود العراق، متجاهلاً مطالبة ابن سعود بها. فلمّا أبدى الأخير اعتراضاً على ما اعتبره إجحافاً لحق بحدود سلطنته، ناله من مندوب التاج البريطاني تقريعٌ استوجب من سلطان نجد أن يردّ عليه بالتوسل والضراعة!
ولقد دُوِّنَ محضر ذلك الاجتماع، بما جرى فيه من توبيخ المندوب السامي البريطاني وتوسلات العاهل السعودي، في وثائق رسمية كتبها الوكيل السياسي البريطاني في البحرين (حينذاك) الكولونيل هارولد ريتشارد باتريك ديكسون (H.R.P.Dickson )، وأرسلها إلى وزارة الخارجية في لندن، يوم 26 تشرين الثاني 1922.
ثمّ بعد أربعة عقود، كتب هارولد ديكسون مذكراته الدبلوماسية عن السنوات المديدة التي عمل فيها سفيراً لحكومته في دول الخليج العربي، ونشرها في كتاب سمّاه «الكويت وجاراتها»، (نشر في لندن عام 1956). وأعاد سرد الواقعة التي جرت في بلدة العقير بالتفصيل، وكان هو شاهداً عليها، حيث إنه عمل مساعداً ومترجماً لبيرسي كوكس في الوفد البريطاني. ولقد سجّل السفير ديكسون في كتابه المذكور، النص الآتي:
«في اليوم السادس للمفاوضات في العقير، لم يطق السير بيرسي كوكس صبراً، واتهم عبد العزيز بن سعود بأنه يتصرف تصرفاً صبيانياً باقتراحه حدوداً عشائرية بين العراق ونجد. ولم يكن السير كوكس يُجيد اللغة العربية، فقمت أنا (ديكسون) بالترجمة. ولقد أدهشني أن أرى سلطان نجد يُوَبَّخُ من قِبَل المندوب السامي لحكومة صاحب الجلالة كتلميذ وقح. ثمّ إنّ السير كوكس أبلغ ابن سعود بلهجة قاطعة أنه هو من سيخطط الحدود بنفسه، بصرف النظر عن كل اعتراض. حينها انهار عبد العزيز وأخذ يتودد ويتوسل، مُعلناً أن السير بيرسي كوكس هو أبوه وهو أمه، وأنه هو الذي صنعه ورفعه من لا شيء إلى المكانة التي يحتلها، وأنه على استعداد لأن يتخلى عن نصف مملكته، بل عنها كلها إذا أمره السير بيرسي بذلك. إذّاك أخذ كوكس قلماً أحمر، ورسم خطوطاً على خريطة الجزيرة العربية توضح الحدود من الخليج إلى شرقي الأردن» (1).
ثمّ يكمل السفير البريطاني هارولد ديكسون رواية شهادته، فيسجّل النص الآتي:
«قرابة الساعة التاسعة من المساء، حدثت مُقابلة مدهشة. فلقد طلب عبد العزيز بن سعود لقاء السير بيرسي كوكس من جديد. فصحبته إليه. ووجدنا ابن سعود واقفاً وحده، وسط خيمته، وقد بدا عليه الاضطراب. ثمّ بادر عبد العزيز السير كوكس قائلاً له بصوت كئيب: «يا صديقي، لقد حرمتني من نصف مملكتي. والأفضل أن تأخذها كلها، وتدعني أذهب إلى المنفى». وقد ظل ذلك الرجل الضخم واقفاً أمامنا حزيناً، ثمّ إنه بغتة أخذ في البكاء» (2).
يا بهجة الرّوح، جُدْ لي بالوصال
إنّ قصة العلاقة بين عبد العزيز آل سعود وسلطات الاستعمار البريطاني داخَلها دوماً كثير من اللبس أو التهويل، ما جعل عدداً من الحقائق في تلك العلاقة يختلط بكثير من الأضاليل. ولقد دأبت السردية الرسمية السعودية مثلاً على تهميش الدور البريطاني في نشأة الكيان السعودي، أو تجاهله، متحاشية التطرق إليه. وأمّا السرديات المعارضة لآل سعود فقد أطنبت، بدورها، في تضخيم تلك العلاقة، والنفخ فيها، ووصفها بالمؤامرة حيناً، وربطها بالأصول اليهودية (المزعومة) للعائلة المالكة السعودية حيناً آخر (يمكن اعتبار كتاب «تاريخ آل سعود» لناصر السعيد أبرز مثال على ذلك التهويل الدعائي الفج). ولكنّ الوثائق البريطانية - ولا سيما ما تضمّنه القسم التاريخي في الموسوعة الرسمية «دليل الخليج الفارسي وعُمان ووسط الجزيرة العربية» (3) التي أشرف على إعدادها المستشرق والإداري والسياسي جون غوردن لوريمر في العقدين الأولين من القرن العشرين، لصالح حكومة الهند البريطانية - تمنحنا مدخلاً إلى رواية أكثر موضوعية ومنطقية واتساقاً وإنصافاً عن حقيقة الدور البريطاني في صنع مُلك عبد العزيز آل سعود. بل إنّ المراسلات التي تضمنها ذلك الدليل بين الدبلوماسيين البريطانيين في منطقة الخليج وبين رؤسائهم في نيودلهي تدحض تماماً السردية القائلة بأن عودة آل سعود الثالثة إلى السلطة في بداية القرن العشرين، كانت خطة بريطانية محبوكة.
في المقابل، فإنّ موسوعة «دليل الخليج» (التي صنفتها الحكومات البريطانية المتعاقبة زهاء 70 عاماً، تحت بند «سرّي/ حكر على العمل الرسمي») تطلعنا على جملة من المراسلات التي بدأت منذ سنة 1902، وبعثها عبد العزيز آل سعود وكذلك أبوه عبد الرحمن إلى الوكيل السياسي البريطاني في البحرين، وإلى المقيم السياسي البريطاني في بوشهر. وكان الهدف من تلك المراسلات خطب ودّ البريطانيين، وعرض خدماتهم عليهم. ولكن جميع تلك العروض السعودية التي تستجدي الوصال لم تلق أيّ صدى من طرف وكلاء بريطانيا في المنطقة. فطيلة عقد كامل من الزمن، لم يكلف نفسه المقيم السياسي في بوشهر (والذي لم يكن آنذاك سوى الرائد بيرسي كوكس)، ولا كلّف أيّ واحد من مساعديه الوكلاء السياسيين في المحميات الخليجية ليردّ على رسائل ابن سعود التي عرض في بعضها وضع إمارته الرياض تحت نظام مشيخات الساحل المتصالح التي يحميها التاج البريطاني، ويدبّر لها شؤونها الخارجية، بل إن عبد العزيز زاد فعرض أنه يقبل بوكيل سياسي بريطاني في الرياض، أسوة بمشايخ البحرين والكويت ومسقط، وتكون لهذا الوكيل سلطة الإشارة عليه أو نهيه (4).
ويبدو أنّ آل سعود استخلصوا من إقامتهم تحت جناح الشيخ مبارك الصباح أثناء سنوات المنفى الكويتي، دروساً عدة. وأبرزها أنّ كرسي الأمير لا تستقر قوائمه في صحراء العرب حتى يلوذ صاحبه بحماية بريطانية تمنحه صك الشرعية، وتردّ كيد الأعداء عنه. ولقد رأى عبد العزيز بأمّ عينه كيف أنّ سفينة حربية بريطانية واحدة (هي «بيرسيوس») ردّت بمدافعها غزو جيش ابن رشيد للكويت، وكانت قاب قوسين أن تسقط في يده، بعدما دحر الشيخ مبارك قبل ذلك بأشهر، في معركة الصريف عام 1901.
لكن الذي فات ابن سعود هو أنّ حسابات بريطانيا في حمايتها لابن صباح لا تنطبق بحال عليه. وذلك لأنّ الكويت كانت تملك أهم ميناء طبيعي في الخليج، وأمّا الرياض فلم تكن تهمّ بريطانيا في شيء، بل كانت زمنذاك قرية نائية في قلب الصحراء، لا يميزها عن غيرها في البادية القاحلة سوى الغبار والجهل والجلافة. ثمّ إنّ بريطانيا بإصباغها الحماية على الشيخ مبارك، إنما كانت تهيئ له كي يتطاول متشجعاً بمهابة مدافع سفنها، فيمدّ حدود مشيخته شمالاً، لتسدّ هذه الحدودُ الجديدة على العراق (العثماني حينذاك، والبلد الوحيد في الخليج الذي لم يكن لها سلطة عليه) منافذه إلى مياه البحر، ويصير الخليج بذلك بحيرة بريطانية خالصة، بضفتيه الفارسية والعربية. فذلك ما عنته الكويت لبريطانيا في بداية القرن العشرين: حاجز يخنق العراق في بَرّه، ويعيقه - إلاّ قليلاً - عن الوصول إلى ضفاف البحر. وأمّا إمارة ابن سعود الصحراوية فلم تكن تفيد بشيء ذلك التدبير كله.
ولقد وصل الصدود بالبريطانيين حدَّ أنهم عندما علموا بأن عبد الرحمن آل سعود (والد عبد العزيز أمير الرياض الجديد) سيقوم بزيارة للكويت في بداية عام 1905، صدرت أوامر إلى الوكيل البريطاني بالكويت الكابتن نوكس، لكي يتحاشى مقابلة «الإمام السعودي». بلى، لقد مرّ زمان كان فيه البريطانيون يعتبرون أي اتصال مباشر مع أمير سعودي أمراً غير مرغوب فيه!
على أنّ نظام المشيخات الخليجية المحمية من بريطانيا، والذي تمنى عبد العزيز أن يدخل في نطاقه، كان نظاماً يستحق التوقف عنده لفهم حجم الاستلاب الذي مثله المستعمر البريطاني لعبيده من شيوخ العرب. ولقد حفظت لنا المصادر باللغة الانكليزية مشاهد كثيرة طريفة ودالة. ومن ذلك ما حصل في البحرين، في 26 تشرين الثاني 1903، حين وصل نائب الملك في الهند اللورد جورج ناثانيال كيرزون إلى الأرخبيل العربي الصغير، في السفينة «هاردينغ»، وبرفقته ثماني سفن حربية بريطانية أخرى، للاجتماع بالشيخ عيسى بن علي بن خليفة. وكانت المنامة هي المحطة قبل الأخيرة ضمن محطات جولة كيرزون الخليجية في مسقط والشارقة وبندر عباس والكويت. ولم تكن موانئ المشيخات العربية الصغيرة في ذلك الزمن قادرة على استقبال سفن بريطانيا الحربية الضخمة. فكان الزوار يهبطون من سفنهم متجهين إلى البر عبر زوارق. وكان عبيد شيوخ الخليج يعمدون إلى استقبال زوارق الضيوف المبجلين وهم يَسُوسُون خيولاً وراءهم خائضين في البحر. كل ذلك ليمتطي الزائر الأوروبي حصاناً، فلا يضطر إلى تلويث حذائه بفضلات الغائط التي كانت تملأ أرجاء الشاطئ. وكان رجال البحرية البريطانية إذا نزلوا من سفنهم، يشعل كل واحد منهم سيجاراً لمكافحة تلك الروائح الكريهة المنبعثة من الشاطئ. وأمّا اللورد كيرزون وضباطه الكبار، فقد كان لهم نصيب آخر حافل من إجلال آل خليفة. فلقد أمر الشيخ عيسى أبناءه أنفسهم كي يحملوا على أكتافهم الرجال البيض المبجلين. ولكن اللورد أبى أن يلمسه أحد أو أن يرفعه فوق عنقه. فلم يجد شيوخ آل خليفة حينها بدّاً من أن يرفعوا على أكتافهم، بدلاً من اللورد، عرشه المصنوع من الذهب والفضة، والذي جاء به كيرزون خصّيصاً من الهند. وكانت تلك هي وسيلة أفراد الأسرة الحاكمة في البحرين للإعراب عن مدى إجلالهم وإخلاصهم لبريطانيا العظمى (5).
أخاصمك آه... أسيبك لا
لقد كانت هناك ثلاثة أسباب تفسر لماذا تجنبت بريطانيا التعويل على ابن سعود، في أوائل ظهوره على مسرح الأحداث النجدية في بداية القرن العشرين. وكان السبب الأول يكمن في صيت السعوديين السيئ الذي اكتسبوه قبل قرن، باعتبارهم جماعة دينية متطرفة، وغير مروّضة، وطالما أثارت القلاقل والشغب والمتاعب نتيجة تزمتها ودمويتها وشهيتها الدائمة للتوسع. وكان التراث الوهابي يثير شكوكاً حقيقية في إمكانية طمع السعوديين من جديد بما صار تحت أيدي البريطانيين من مشيخات الساحل المتصالح، إن استتب الأمر لابن سعود في نجد. وأمّا السبب الثاني فكان استرضاء تركيا - في المدى القصير - وهي التي ترى لنفسها حقوقاً وسيادة على «سنجق نجد». ولم يكن من مصلحة لندن أن تثير سخط اسطنبول أكثر بدعمها لبدوي متمرد عليها. وكانت السياسة الخارجية البريطانية تحسب للعثمانيين حساب أنهم ما زالوا المتحكمين في مضيق الدردنيل، وهو ممر بحري أساسي نحو روسيا. وأما السبب الثالث لصدود بريطانيا عن تودد عبد العزيز لها، فيكمن في أنّ حركته المغامرة لاسترداد ملك آبائه من ابن رشيد المتحالف مع العثمانيين، كانت فرصها في بداياتها أقرب إلى الفشل منها إلى النجاح، وذلك لتفاوت الإمكانيات الكبير بين الخصمين. ولقد كتب الوكيل السياسي البريطاني في الكويت بتاريخ 3 أيلول 1904 رسالة إلى المقيم البريطاني في بوشهر، قال فيها إن الاحتمال بعيد جداً في أن يستطيع ابن سعود تثبيت وضعه دون مساعدة خارجية، ما قد يعني سقوطه في وقت قصير. وهو لن يجد إلا حليفه مبارك ليلجأ إليه في كل مشكلة. ثمّ شرح الوكيل البريطاني بالكويت كيف أنّ مبارك يرسل للرياض دعماً أسبوعياً من الأسلحة والذخيرة والمؤن (6).
على أنّ الملاحِظَ يجد أنّ حكومة الهند البريطانية كانت تبدي في سياستها للخليج العربي تبايناً ما مع استراتيجية وزارة الخارجية في لندن. ولقد بدا ذلك في غضها الطرف وعدم وقوفها حجر عثرة في طريق دعم مبارك الصباح لأمير الرياض الجديد عبد العزيز. ولم تكن أحلام شيخ الكويت أيضاً خافية عنها، وهو الذي طالما هيّأ نفسه لكي يصير سيد بلاد نجد الجديد عبر تحريكه لابن سعود. ولقد ظلّ مبارك يتوهم دوماً أن عبد العزيز ما هو إلاّ «دمية» يحركها كما يشاء. وفي مراسلة إلى المقيم البريطاني في بوشهر بتاريخ 24 حزيران 1904، قرّرت حكومة الهند أنّه ليس من المصلحة أن يحظر السلاح عن ابن سعود المناوئ لابن رشيد الذي تسانده السلطنة العثمانية (7). ولقد كان التشجيع غير المباشر من حكومة الهند البريطانية لابن سعود، وتشجيعها المباشر لابن صباح كي يناوشا ابن رشيد، متسقاً مع خططها التقليدية، وسياستها للمشيخات العربية، وسعيها إلى خلق زعامات قبلية صغيرة ومتنازعة وخاضعة كلها لسيطرتها.
ولقد بقي ذلك التباين بين سياستي لندن ونيودلهي في النظرة إلى دور أمير الرياض عبد العزيز آل سعود قائماً إلى حدود ما قبل الحرب العالمية الأولى، حين حُسِم تماماً ذلك الجدل لصالح وجهة نظر الحكومة الهندية البريطانية، بعدما ضمت تركيا نفسها إلى محور أعداء لندن في الحرب. وفي أيلول 1914 فهمت بريطانيا أخيراً أنّ البدوي السعودي الذي ظل لمدّة اثنتي عشرة سنة مواظباً على كتابة رسائل الغزل لها، يستحق أن تنظر إليه الآن بشيء من الاهتمام. وهكذا فقد قررت وزارة الخارجية البريطانية أن ترسل الوكيل السياسي السابق في الكويت الكابتن وليام شكسبير - وكان هو الدبلوماسي البريطاني الوحيد الذي التقى سابقاً عبد العزيز وتعرَّف إليه عن كثب - ليتفاوض في شأن اتفاقية تعترف فيها لندن بمن صار يلقب بـ«حاكم نجد والحَسَا (الأحساء) والقطيف والجبيل وتوابعها ومراسيها على خليج فارس»، وتتعهد له بحماية شخصه ومُلكه، مقابل أن يتعهد هو تعهداً تاماً بأن لا يقطع أمراً يتعلق بسياسته الخارجية أو الاقتصادية من دون موافقتها، وأنه سوف يتبع نصائحها في ذلك دون تحفظ» (8). وكان الهدف الواقعي لبريطانيا من هذه الاتفاقية هو أن يشاغب ابن سعود أعداءها الأتراك وحلفاءهم آل رشيد في حائل، وأن تكون قواته مخلب قط لها تحارب بواسطتهم العثمانيين في جنوب العراق حتى تصل جيوشها لاحقاً من الهند إلى الشرق الأوسط. وكان للبريطانيين مطلب خاص آخر، وهو أن يصدر شيوخ الوهابيين فتوى دينية تحرّم على الجنود العرب الخدمة في صفوف الجيش التركي، وتدعوهم إلى الانشقاق عنه. (وكان الجنود العرب أكثرية بين الجنود العثمانيين في العراق والشام). وفعلاً، فلقد وجد المفتي الوهابي ذريعة لإصدار تلك الفتوى. ذلك أن تركيا قد والت - حسب رأيه - «الكفارَ» الألمان في القتال، وبذلك تحقق فيها حكم الآية القرآنية: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضُهم أولياء بعض. ومن يَتَوَلهُم منكم فإنه منهم}. وكانت تلك الفتوى الدينية مساهمة وهابية في بروباغندا بريطانيا «المؤمنة». وعلى أساس هذه المساعدة الإسلامية، فقد قرر السير بيرسي زكريا كوكس (ذي الأصول اليهودية) أن يمنح - باسم حكومة صاحب الجلالة - للأمير عبد العزيز بن سعود لقب فارس. وهكذا أصبح بالإمكان تسمية حاكم الرياض الوهابي «السير عبد العزيز بن سعود». وفعلاً، فقد أشارت إليه الوثائق البريطانية على هذا النحو لبضع سنوات. لكن عبد العزيز نفسه لم يستعمل لقب «السير» أبداً، وإنما لبس وسام النجمة ليوم واحد حتى يتمكن البريطانيون من تصويره به، ثم وضع الوسام في مكان ما، ولم يلبسه مرة ثانية على الإطلاق.
بسيفكَ لا بسيفِ الانكليز/ فتحت البَرَّ: easy ثمّ easy
لقد كان عزم بريطانيا في أن تُشغّل عبد العزيز آل سعود وجماعته لحسابها، متزامناً تاريخياً (بل وسابقاً) لمحاولات المندوب السامي البريطاني في مصر السير هنري مكماهون (بين تموز 1915 وكانون الثاني 1916)، تشغيلَ جماعة الهاشميين بزعامة شريف مكة حسين بن علي. لكن مسعى التعويل على عبد العزيز سرعان ما تعثر، بسبب خسارته المهينة ضد قبائل شمر في معركة «جراب» في 17 كانون الثاني 1915، والتي أعقبتها بعد ستة أشهر، خسارة أخرى أكثر فداحة ضد قبائل العجمان في معركة «كنزان» حيث جرح عبد العزيز نفسه، وقتل شقيقه الأصغر سعد. وهكذا صار ابن سعود ديكاً منتوف الريش تماماً، ويعيش أسوأ أوقاته. ولم يعد بالإمكان التعويل عليه حتى في مسائل محلية، فضلاً عن أمور تهمّ مقادير السياسة العالمية. ولقد تمردت عليه قبيلة العجمان في شمال نجد، وقبيلة المرة في جنوبه، وخرجت الأحساء كلها عن سيطرته، ما عدا الهفوف والقطيف، وأخذت سلطته الناشئة بالتفكك. لكنّ بريطانيا - لحسن حظ عبد العزيز - أوفت بوعودها التي قطعتها له بعد توقيعه اتفاقية دارين بالقطيف، في 26 كانون الأول 1915، فزوّدته بثلاثمئة بندقية تركية، وعشرة آلاف روبية عام 1915، ثمّ بألف بندقية إضافية، ومئتي ألف رصاصة، وعشرين ألف جنيه استرليني عام 1916 (تضاعف هذا المبلغ ليصل إلى ستين ألف جنيه في بداية العشرينيات). ولا شك أنّه لولا ذلك المدد البريطاني السخي لما تمكن «ملك الرمال» من الوقوف على ساقيه من جديد في وجه مناوئيه، وما كان ليخضع العجمان أو يعيد السيطرة على الأحساء، أو يستعيد سيطرته على المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية من جديد، بل لربما كان تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين قد تبدل تبدلاً دراماتيكياً، أو كتِبَ من دون ذكر لمملكة آل سعود.
وعلى مدى ثلاثين عاماً، منذ معاهدة دارين سنة 1915، التي وقعها ابن سعود مع بيرسي كوكس، وإلى حدود سنة 1945 حينما وقع العاهل السعودي معاهدته الجديدة مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على ظهر السفينة «كوينسي»؛ كان عبد العزيز طوال تلك المدة عبداً مطيعاً للإنكليز. فلم يكن غريباً حينئذ المشهد الذي وصفه السفير هارولد ديكسون قرب ميناء العقير، على ساحل الخليج العربي، حين طأطأ سلطان نجد عبد العزيز آل سعود رأسه أمام المندوب البريطاني السامي في العراق بيرسي كوكس، وتهدج صوته، ثمّ أخذ يتوسل بمذلّة، قائلاً: «جنابك انتَ أبوي وانتَ أمي. وأنا مستحيل أن أنسى فضلك عليّ. انتو اللي سوّيتوني وأخذتوا بإيدي، وانتو اللي رفعتوني وشلتوني. وأنا مستعد، بإشارة منك، لأن أتنازل لك هالحين عن نص مملكتي... لا والله، أنا أتنازل عن مملكتي كلها، إذا جنابك تأمرني!».
مراجع وهوامش
(1) هارولد ديكسون، الكويت وجاراتها، ج1، ص281.
(2) المصدر السابق، ص282.
(3) صدرت ترجمتان لموسوعة دليل الخليج الفارسي، منذ أن سمحت الحكومة البريطانية بنشره عام 1970، إحداهما في قطر والثانية في سلطنة عمان. وأما النسخة الأصلية للدليل فعنوانها الانكليزي هو:Gazetteer of the Persian Gulf, Oman and Central Arabia
(4) جون غوردن لوريمر، دليل الخليج الفارسي، القسم التاريخي، ج3، ص1721.
(5) أورد لوريمر في وثائق موسوعة دليل الخليج تفاصيل إضافية عن زيارة حاكم الهند كيرزون للمشيخات العربية في الأسبوع الأخير من نوفمبر1903. ولكن الكاتب البريطاني روبرت لايْسي تميز بإيراده تفاصيل «طريفة» لتلك الزيارة التاريخية، في كتابه
The Kingdom: Arabia and the House of Saud
(6) خالد محمود السعدون، العلاقات بين نجد والكويت (1319-1341هـ / 1902-1922م)، ص100.
(7) لوريمر، دليل الخليج الفارسي، القسم التاريخي، ج6، صص 3770 -3776.
(8) Alexei Vassiliev, The History of Saudi Arabia, p238
يذكر أنّ الكابتن شكسبير الذي فاوض ابن سعود قبل بيرسي كوكس على بنود هذه الاتفاقية، قتِل في 17 كانون الثاني 1915 في معركة «جراب» بين قوات آل سعود وقوات آل رشيد. وكان شكسبير قد تحمس أثناء وجوده في معسكر السعوديين قبيل المعركة لكي يساعدهم بخبرته في المدفعية. لكن السعوديين سريعاً ما انهزموا، وأما الإنكليزي فلم يلبث أن قتل، ثم قطع جنود قبيلة شمر رأسه، وأهدوه إلى الأتراك الذين طافوا به بين الناس، قبل أن يعلقوا خوذة الضابط البريطاني الحربية على بوابة المسجد النبوي في المدينة، كدليل قاطع على موالاة آل سعود للكفار الإنكليز.