منذ إسقاط الطاغية المخلوع وثورة 25 يناير تمر بمفارق طرق حاسمة، ونحن الآن على أهم هذه المفارق، وهى تحول قائد الانقلاب إلى ورقة محروقة صحيا وأدبيا . ونحن الآن مسلحون بخبرة 3 سنوات من المفترض أن تعصمنا من الزلل، وأن تسدد خطانا فى هذه اللحظة التاريخية.
الشرح التكتيكى للحظة
إن الموت المعنوى للسيسى بهذه التسريبات القاصمة وما تعرض له من محاولة اغتيال أخرجته من الخدمة لفترة غير قصيرة حدث مهم ليس لأهمية شخصه، فلطالما وصفناه بالرويبضة العميل. ولكن لأن من طبيعة المشروعات الاستبدادية أن تتمحور حول شخص، وترفع من شأنه إلى حد التقديس كعمود فقرى ومرجعية وزعامة ملهمة، حتى وإن كان شخصا تافها، وهذه طبيعة الانقلابات العسكرية؛ فالسيسى اكتسب أهميته من الاستثمار الإعلامى والسياسى فى شخصه، فهو ليس مجرد وزير دفاع حتى يقوم بمجرد انقلاب عسكرى، ولكنه ذلك الناصرى المختبئ فى جيش كامب ديفيد الذى ظهر فجأة لينقذ البلاد من براثن الإخوان الذين دفعوا البلاد إلى أحضان أمريكا! وتتساءل: لماذا لم يفعل ذلك وهو مدير المخابرات الحربية فى عهد مبارك؟ إذن مبارك لم يكن مرتميا فى أحضان أمريكا؟! بل الأحرى أن المشكلة مع الإخوان لأنهم هددوا مملكة القوات المسلحة الاقتصادية والسياسية ولا شىء سوى ذلك. المهم أن الإعلام بدأ يجعل من السيسى بطلا قوميا قبل الانقلاب بشهور، وبدأ السيسى فى الظهور الإعلامى مع الفنانين والفنانات، وبدأ فى طرح المبادرات السياسية، والإدلاء بالتصريحات السياسية التى تتجاوز مركزه كوزير دفاع، ثم تحول فى الأيام السابقة إلى مركز مواز للسلطة. وعندما دعا إلى التفويض كانت هناك خطة إعلامية وملايين الصور المطبوعة ليصبح السيسى زعيم مصر بـ(العافية) والإيحاء، ولتظهر صوره مع صور جمال عبد الناصر (مع أن كل حلمه أن يمتلك ساعة أوميجا). كانت الحملة الإعلامية فجة لأن السيسى لا تاريخ له ولا موقف، ولم يدخل حربا ولم يطلق رصاصة على العدو. كانت محاولة يائسة لتحويل الفسيخ إلى شربات.
المهم بدا الأمر أن السيسى من دون العسكريين هو الذى ورث المشروع القومى العربى من عبد الناصر، وأنه أذل الأمريكان وهدد بمنع مرور الأسطول الأمريكى من قناة السويس، بل هدد بقصف القطع البحرية لأمريكا وضرب «إسرائيل». رغم أنه لم يقل شيئا من ذلك، بل كان على الهاتف دائما مع رئيسه المباشر: وزير الدفاع الأمريكى وعلى اتصال دائم بإسرائيل. وتم افتعال قصة الانفتاح على روسيا فى محاولة يتيمة لتأكيد مصداقية هذا الكلام.
ما يهمنا الآن أن عملية النصب الانقلابى قامت على أساس أن الأمة وجدت زعيمها المختفى فى ثنايا القوات المسلحة، وأن السيسى شخص (محصلش) وأنه مبعوث العناية الإلهية، ولم يقولوا: المجلس العسكرى أو قيادة الجيش، وحتى إن قالوها فقد ظل التركيز على شخص السيسى لاعتبارات المشروع الاستبدادى التى لا بد أن تقوم على شخص فى غياب الفكر أو المشروع الحقيقى، وأيضا للتقليل من جرعة العسكرة: فالسيسى بطل وزعيم فى حد ذاته وليس لأنه عسكرى أو وزير دفاع. والآن يحصد الانقلابيون ما زرعوا؛ فالسيسى الذى صنع الإعلام منه نبيا وإلها، فطس بين أيديهم. وعليهم أن يبدءوا من جديد، وليبحثوا عن نبى آخر بين العسكريين، وإذا تتبعوا الأقدمية فستصبح نكتة، فإذا لجئوا الآن إلى رئيس الأركان فستصبح النبوة بالأقدمية العسكرية، وهو أمر غير مستساغ ويصعب ترويجه، كما أنه يؤكد أننا أمام انقلاب عسكرى (والعياذ بالله) وهذا ما ينكره أصحاب ما يسمى «ثورة» 30 يونيو.
لا شك أن المنظومة السياسية للانقلاب فى حالة ترنح وانكسار، وأن هذا التقدير يؤدى إلى ضرورة تشديد الهجوم الجماهيرى وتصعيد العصيان المدنى للإجهاز على الانقلاب. بالضبط كلحظة ترنح الملاكم فى الحلبة، فهى أنسب اللحظات لهجوم خصمه عليه لهزيمته بالضربة القاضية.
إننا لا نتصور أننا فى معركة مع شخص السيسى، بل لقد حذرنا مرارا من تركيز الهتافات والبيانات ضده كشخص. وقلنا إن هناك منظومة عسكرية أمنية تابعة للحلف الصهيونى الأمريكى هى التى تحكم مصر من أيام توقيع كامب ديفيد وحتى الآن، وإن المطلوب هو ضرب هذه المنظومة لصالح استقلال البلاد وتطهير المراتب العليا بالقوات المسلحة والشرطة من هذه الأدران. بل أحداث ما بين 17 من أكتوبر وحتى الآن تؤكد أن منظومة الانقلاب ظلت تعمل، رغم خروج السيسى من الخدمة طوال هذه المدة، ورغم افتضاح أمر اختفائه أخيرا الذى لعبت «الشعب» دورا أساسيا بعد «فيسبوك» فى إبرازه،وهناك محاولة مستميتة لإظهاره من حين لآخر ولو لدقائق أو لأخذ صورة ، وهذا لا يهم فقد قلنا منذ البداية أن السيسى لم يمت وإن إصابته غير مميتة . نقول رغم اختفاء السيسى ظلت المنظومة الانقلابية شرسة فى التعامل مع الطلاب، وإن ظلت ملتزمة بالتعليمات الأمريكية والنصائح الإسرائيلية بتقليل القتل والاعتقالات، والإكثار من الغاز! وبالفعل رغم حالة الهمجية غير المسبوقة فى اقتحام الجامعات وما يصحبها من قلة الحياء بل الفحش فى التصرف والقول، فإن عدد الشهداء اليومى أصبح منخفضا. وتمت مجموعة من الإفراجات شملت المئات، وإن كان هذا لم يمنع استمرار حملات اعتقال عناصر أخرى!
أى أن الانقلاب يريد أن يواصل خريطة الطريق، وأمريكا تؤيد ذلك.
وأزمة الانقلاب المستفحلة تجعله يدرك أن التوصل لتفاهم مع الإخوان المسلمين أصبح ملحا، وهذه أيضا توجيهات الأمريكان. وقلت مرارا إن الوضع الأمثل للأمريكان أن تكون اليد العليا فى البلاد للعسكر باعتبارهم الفئة الموثوقة لهم ولكن بدون إخراج الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية من الصورة تماما.
التفاوض بين العسكر والإخوان
المؤكد أن هناك تفاوضا جديدا يجرى بين العسكر والإخوان، وأن العسكر قدموا فيه التنازلات التالية:
تحميل وزارة الداخلية مسئولية الدماء التى سالت منذ بداية الانقلاب حتى الآن -توفير الخروج الآمن لأبرز عناصر الانقلاب وتسريبهم خارج البلاد- خروج المعتقلين كافة ووقف الإجراءات الانتقامية المتخذة ضد الإخوان- مقابل عدم عودة الرئيس «مرسى».
ويشترط ممثلو الإخوان فى التفاوض ضرورة عودة الرئيس مرسى على الأقل حتى لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
لذلك يقول العسكريون إن الإخوان متعنتون وإنهم رافضون المصالحة!
مع الأسف هذه المفاوضات لا تنقل إلينا بالطريق الرسمى فى «التحالف الوطنى لدعم الشرعية»، ولكننا نعرفها بوسائلنا الخاصة. ولكننا نصمت لأننا نعرف أن الشعب لن يقبل بأية مساومات جديدة. وأن الإخوان لن يصلوا إلى شىء على مائدة التفاوض، ما لم تفرض حركة الجماهير إرادتها، وتجبر العسكر على الرحيل إلى الثكنات، ومعاقبة كل القتلة والمجرمين الكبار الذين أصدروا أوامر القتل، والذين حركوا وحدات الجيش لإسقاط المؤسسات المنتخبة وإرهاب الشعب. حتى وصلت المسخرة والاستهزاء بشرف الجندية أن تتحول قوات الصاعقة، التى كانت تعيش فى الصحراء وتأكل الثعابين وتشرب البول لتتخفى خلف صفوف العدو الصهيونى وتعود حاملة قطعا من جثث العدو المحتل لسيناء؛ تتحول هذه القوات + قوات المظلات إلى محاربة بنات الأزهر، فأصبحت قوات بلا شرف ولا رجولة.
دعوتنا.. ووثيقة الاستقلال
إننا ندعو فى هذه اللحظة من مفارق الطرق إلى:
أولا: إن هذه لحظة هجوم الثوار بكل ما يملكونه من قوة لمحاصرة الانقلاب، لا لحظة التفاوض. ممكن أن يجرى تفاوض على إخراج العسكريين من المشهد السياسى، ولكن يجب ألا يؤثر ذلك فى تصعيد العمل الجماهيرى والعصيان المدنى. ومن المعروف فى فن التفاوض أن كل طرف يصعد قدرته فى الميدان من أجل تحقيق أكبر مكاسب ممكنة على الأرض قبل وقف إطلاق النار. علما بأننا كثورة غير مرتبطين بأى زمن فهذه معركة مصيرية، حياة أو موت، ولسنا فى عجلة من أمرنا، الانقلابيون هم المضغوطون لأن صورتهم أصبحت تجسد الفشل والإجرام فى كل المجالات، وهم الخائفون على أنفسهم، بينما نحن الثوار لا نخشى إلا الله، وإلا الهزيمة. أما الشعب المصرى فلم يعد لديه ما يخسره فى ظل هذا الحكم الانقلابى الاستبدادى الفاسد.
ثانيا: المقصود بالتصعيد، أن تتجه المظاهرات اليومية النهارية إلى وسط المدينة، وأن يسعى طلاب المدارس والجامعات إلى الخروج فى الاتجاه نفسه. وهذا فى حد ذاته يؤدى إلى حالة واقعية من توقف العمل وإلإضراب العام.
ثالثا: دعوة العمال والموظفين إلى الالتحاق بالاعتصامات والإضرابات فى أماكن العمل. كما بدأ يحدث فى بعض المصانع والمصارف والمؤسسات.
رابعا : تصعيد كل أساليب العصيان المدنى فى مجال مقاطعة دفع فواتير المياه والكهرباء والغاز والتليفون وغير ذلك من الوسائل .
خامسا: مع هذا الإصرار على مواصلة المظاهرات والاعتصامات والوقفات على مدار 5 شهور، لا شك أننا اقتربنا من النصر. أعلم أننا وغيرنا وعدناكم بالنصر القريب منذ الأسابيع الأولى للانقلاب، وكان لدينا تقديرات أكثر تفاؤلا للجيش، وقد أثبت استمرار الانقلاب حتى الآن المستوى الرهيب الذى انحدر إليه جيشنا، وهذا هو أحد أسباب تأخر النصر. ولكن لا شك أن الانقلاب فرصة تاريخية لتطهير هذه المؤسسة العظيمة من أدران كامب ديفيد، وأن التأخير يحقق هذه الغاية العزيزة والتى لن ينصلح حال البلد إلا بها.
لقد اقتربت اللحظة التى سيعجز فيها الجنود فى الشرطة والجيش عن مواصلة قتل أبنائهم وإخوتهم من الشعب، فهم ما بين إرهاق الجسد وإرهاق الضمير وإرهاق الفشل. (متوسط الثورات سنة، ونحن قطعنا 6 شهور، ولا يمكن إهمال ما سبق من مواجهات منذ 25 يناير 2011). وعندئذ سيسهل على الصف الثانى بالقوات المسلحة أن يصحح الأوضاع، ويعيد الجيش إلى ثكناته ومهماته الأصلية.
سادسا: الاتفاق على إعلان الاستقلال. ونحن نرى بوضوح أن عدم تبنى جوهر ومضمون هذا الإعلان من أهم أسباب تعثر ثورة 25 يناير حتى الآن ومن أهم أسباب تأخر النصر.. لا يمكن لجيش أن ينتصر على عدو غير ظاهر له، لا يمكن حشد شعب فى ثورة على هدف فرعى، أو على شخص السيسى والآن قد يكون صدقى صبحى. هذا الانقلاب هو انقلاب أمريكى إسرائيلى يستظل باتفاقيات كامب ديفيد، ولا بد أن يدرك الشعب -قياداتٍ ومواطنين- أن هذا الحلف المعادى هو الذى يسيطر على القرارات فى مصر وأنه هو سبب خرابها فى كل المجالات، وأن إصلاح مصر لن يبدأ إلا باستقلالها، فكيف يمكن إخفاء هذا الهدف عن الشعب بحجة «التكتيك»؟ التكتيك يكون فى الأمور الفرعية، أما تحديد العدو الرئيسى وشرح ذلك للشعب فهو من المقومات البديهية للنصر. والشعب بالمناسبة ليس مغيبا تماما عن القضية كما يتصور المثقفون، ولكنه لا يجد فى وسائل الإعلام من يحدثه عن الدور الإسرائيلى والأمريكى فى حكم مصر (سوى جريدة «الشعب») فهو لا يسمع عن ذلك من المهاجرين إلى قطر وقناة الجزيرة إلا لماما وهامشيا، ولا يسمع عن ذلك طبعا فى إعلام الدعارة الخاصة ولا الإعلام الرسمى. ومنذ فبراير 2011 والشعب لا يسمع إلا كلاما عن الصراعات الداخلية بين الإسلاميين والعلمانيين. وقد لعب حزب «النور» دورا مخططا أمنيا فى إثارة هذه النزاعات، وسوق الإعلام الإسلامى للتركيز فى الفروع والسخافات وتشويه صورة الحركة الإسلامية والإسلام ذاته، وكان خطأ الإخوان أنهم تحالفوا معه بصورة وثيقة رغم معرفتهم بارتباطاته الأمنية. (مع تقديرنا لكل السلفيين الذين خدعوا والذين انسحبوا تباعا من هذا الحزب المشبوه).
لا يوجد مبرر لدى الإسلاميين المخلصين أن يظلوا مغيبين عن قضية الاستقلال عن أمريكا، وليعلموا أن تغييب هذه القضية يرسخ معنى أن الصراع على السلطة والكراسى. صحيح أنهم وصلوا بانتخابات نزيهة، ولكن نحن بالأساس أصحاب رسالة، ولا يشغلنا أن نثبت أننا أصحاب العقار (السلطة) الشرعيين، بالانفصال عن رسالتنا، ولا بد لرسالتنا أن تصل إلى كل مصرى شريف. نحن نريد مصر مستقلة بدون قواعد أمريكية وبدون تسهيلات للجيش الأمريكى وبدون مناورت مشتركة معه، وبدون معونات أمريكية أو أوروبية وهى حرام شرعا بنص القرآن الكريم.. لا يجوز شرعا حرمان جيش المسلمين من التحرك بحرية على أرضه وعلى حدوده، لا يجوز شرعا وجود اتفاقية سلام أبدى مع عدو يستوطن فلسطين ويحتل المسجد الأقصى، لا يجوز شرعا السماح لشركات أمريكية وإنجليزية وإسرائيلية بالاستيلاء على ثرواتنا البترولية والمعدنية بالتعاون مع الجيش،لا يجوز شرعا استمرار العمل باتفاقية الكويز (وهى اتفاقية تعاون صناعى مع إسرائيل) فى ظل حكم وطنى إسلامى، لا يجوز استمرار التطبيع مع العدو الصهيونى فى الزراعة والتجارة والسياحة فى ظل حكم وطنى إسلامى.
سابعا: مشروعنا لإسقاط الانقلاب يدعو إلى إقامة مصر دولة عربية إسلامية مستقلة، تنطلق فى البناء والتنمية لإقامة مشروع حضارى إسلامى، ودولة تصبح منارة للعالمين، يرتكز مشروعها على تنمية الموارد الذاتية والاعتماد على النفس. والتعاون الندى والمتكافئ والمحترم مع الأشقاء وسائر المجتمعات والدول التى لا تعادينا. العمود الفقرى للمشروع هو القطاعات الإنتاجية، مع تركيز على الصناعة وبناء المجتمعات المنتجة فى الصحراء.. توطين التكنولوجيا والاعتماد على النفس فى تطوير البحث العلمى.. نقيم العدل بين الناس بالتركيز على إشباع الحاجات الضرورية للجماهير، وإيتاء الزكاة، ووقف المرتبات الفاجرة والمجنونة، لرفع الحد الأدنى للأجور فورا. الصندوق الانتخابى حكم بيننا، وهو ضمانة للجميع. ولن نخشى من نتائج الصندوق إذا اتفقنا على مشروع الاستقلال. هذا المشروع لم يطرحه العسكر ولا الإخوان ولا أى حزب علمانى بصورة واضحة حتى الآن.
وكل المصريين مدعوون للمشاركة فى هذا المشروع الذى يشرّف كل مصرى، ولا نتصور أن يرفضه أحد. وإذا اتفقنا عليه فسنجد الخلافات الراهنة رغم أهميتها: فرعية ولاحقة، وسنصل إلى حلها بسهولة أكبر.
اللهم وفقنا إلى ما تحبه وترضاه يا كريم.
magdyahmedhussein@gmail.com