من الدعايات التي يجري ترسيخها في
مصر هذ الأيام، أن الانقسام الحاصل في المشهد السياسي هو بين الاخوان والقوى الاسلامية الأخرى من جهة، وبين المجتمع المدني بكل تنويعاته من جهة أخرى.
الأولون مع الشرعية التي افرزتها صناديق الانتخاب، والآخرون مع الانقلاب على هذه الشرعية، باعتبار أن الحضور الجماهيري يمثل الشرعية التي لا تعلو عليها شرعية، وهذا من تأتثير المقرر الليبي الشهير ‘الكتاب الأخضر’، حيث أنه تحدث عن المشاركة التي تقوم بها الجماهير بشكل مباشر، وهي أكثر وجاهة من الديمقراطية الغربية التي تؤمن بفكرة الوكالة عن الشعب.
القذافي ليس محظوظاً لأنه مات دون ان يعيش هذا الانتصار الكبير لنظرياته والتي اثبت بالأخذ بها الان، أنه كان سابقاً لعصره عندما وضع مؤلفه العظيم ‘الكتاب الأخضر’، ونظرياته الخلاقة عن معنى ارادة الجماهير، وليس هذا موضوعنا، فالدعاية السابقة، ولأن أصحابها يخافون عليها من الهواء العليل، فان لديهم استعداد لأن يضعوا أنفسهم في موضع الحرج، ويبدون أمام الناس كما لو كانوا يطلقون نكاتاً.
قبل أيام حللت ضيفاً على برنامج ‘ساعة حرة’، والذي استضاف أيضاً السياسي المستجد محمد أبو حامد، وهو شخص لم أسمع عنه، الا بعد انتخابات مجلس الشعب في سنة 2011، ثم ظهرت ميوله الثورية بعد ذلك. فلم نشاهده في المظاهرات الكثيرة التي خرجت في عهد مبارك، تندد به وتطالب باسقاطه، ولم يكن معلوماً لدينا والشعب المصري يخرج الي ميادين النضال ليسقط المخلوع، ولا أظن انه كان قبل مرحلة التجلي الثوري، مشغولاً بالنضال، فقد مثلت ثورة يناير في دائرته الانتخابية السيدة جميلة اسماعيل، والتي لم يحالفها الحظ، لأنها وجدت نفسها امام انفاق مالي غير مسبوق، ولا قبل لها به.
عندما بدأ ابو حامد يتشكل ثورياً، كان ضد المجلس العسكري الحاكم في المرحلة الانتقالية، وشكل مع أحد شباب الثورة النائب زياد العليمي ما سمي بمجلس قيادة الثورة، وفي المرحلة التالية انقلب على عقبيه، واعتذر عن هجومه على العسكر، وبدا في ادائه اقرب للفلول، وقد اختار له عدواً جديداً هو الاخوان.
عندما أطل بطلعته البهية عبر برنامج قناة ‘الحرة’ شعرت بعدم ارتياح، وكان واضحاً ان الرجل ولانه حديث عهد بالسياسة لا يعرفني، وربما يعرفني وأراد ان يمارس ‘موضة’ هذه الايام، وهي التأكيد على ان أصحاب الرأي الاخر هم من الاخوان.. وتعلمون ان أول مرة سمعت فيها كلمة ‘موضة’، كنت لا زلت اعيش في الصعيد، وقرأت حينئذ ان موضة سنة 1984، هي ‘الشعر المنكوش’.
باختصار، أنا من الذين يرون ان ما جرى يوم 3 يوليو الجاري هو انقلاب عسكري، استند الى الحضور الجماهيري يوم 30 يونيه، وبعض الناس لا يرون هناك مشكلة في حكم العسكر، لكن انا عندي مشكلة، فأنا مؤمن بقضيتي: الحرية والديمقراطية، وأرى أن تغيبيها تم بفعل فاعل بعد رحيل الاستعمار عن أوطاننا العربية، وكان هذا سبباً في تأخرنا وتخلفنا، وأري أن العسكر اذا دخلوا من الباب قفزت الحرية والديمقراطية من الشباك.
لست متأخوناً
عندما قلت ما قلت، تعامل صاحبنا مع الموقف ببساطة، فالمتحدث من الاخوان، وفكرت أن اتجاوز ما قال، لأن الرد في هذه الحالة لا يقدم ولا يؤخر، وأحد الناس أصر كثيرا على اتهامي بأنني متأخون، فصححت له المعلومة: أنا اخوان.
بيد أن حسين جراد مقدم برنامج ‘ساعة حرة’ لفت انتباه السياسي المستجد بأن محدثه السيد يمكن ان يرد ويقول انه ليس من الاخوان وان له كتابات ضدهم، فرماني الفتى بالتي كانت هي الداء، عندما قال عني بثقة، لم اعهدها سوى في ضباط مباحث امن الدولة الذين يصورون انفسهم انهم يعرفون أين يخبئ القرد ابنه، بأنني ‘خلية نائمة’.
شعرت بالطرب لهذه العقلية المعملية الجبارة، التي تمكنت من سبر أغواري، وان كان عز عليّ أن اكون مجرد ‘خلية نائمة’، ظلت نائمة حتى في مرحلة المد الاخواني، وعندما انتقل الاخوان من مجرد قلة قليلة يخافون ان يتخطفهم الأمن، الى حكام يعمل لهم الناس حساباً، وجهر من ليس منهم بأنه منهم، وكنت اقول دائماً، أن الوحيد قبل مرحلة ‘التمكين الافتراضي’ للجماعة من زملائي الذي كان يعترف بأنه من الاخوان هو الصحافي قطب العربي، وغيره كنا نعرفهم ولا يعترفون، حتي من صار وزيراً للاعلام والمعروف للجميع بأنه اخوان وهو زميلنا صلاح عبد المقصود، كان يعلن امامنا: انه فقط يحترمهم.
لكن بعد ان صار الاخوان حكاماً فوجئت بمن لا علاقة له بهم، يعلن انه اخوان، ويبالغ في الهجوم على من ينتقدهم، وكثيراً ما تجاوز هؤلاء ضدي، وقد اختفوا الان في ظروف غامضة.
بيع الثورة
ليس في الاتهام بأنني اخوان مشكلة، لكن القول بأنني مجرد ‘خلية نائمة’ هو ما يحط من القدر، ومن في قدري وباعتباري من زعماء قبائل البشتون، لو كنت اخوانياً لكنت الان انافس على موقع المرشد العام للجماعة، لا أن اكون ‘خلية نائمة’ تستيقظ في الوقت الضائع ليتمكن سياسي هاو هو محمد ابو حامد من اكتشافها.
ما علينا، فأنا اعلم أنني اتسبب في حرج لكثيرين من مؤيدي الانقلاب، عندما يرجون بأن الحاصل في مصر، هو خلاف بين القوي الاسلامية من ناحية، والقوى المدنية من ناحية أخرى، في حين أنني ضد الاخوان، منذ ان كان صاحبنا في المهد صبياً، وقد أوذيت في حكم القوم، وانتقدت اداء الرئيس مرسي وجماعته، وخرجت مع الخارجين اهتف بسقوط حكم المرشد، والاخوان عصفوا بي في الانتخابات البرلمانية، وصدقوا مع خصمهم الجديد حمدين صباحي، وحرموني من عضوية المجلس الاعلى للصحافة، المقررة لي قانوناً، فأقمت ضدهم دعوي قضائية لا تزال متداولة الى الآن أمام القضاء الاداري.
لكن مثلي لا يمكنه ان يكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً، فأبيع الثورة كراهية في الاخوان، وأوافق على العصف بالديمقراطية بتأييد انقلاب، قدم علامة مميزة على وجوده منذ اللحظة الاولى له، من خلال الهجمة الشرسة على الفضائيات المنحازة للشرعية، واغلاقها، وارهاب العاملين فيها، والقبض على من تصادف وجوده في استوديوهاتها بدون سند من قانون، أو طلب من جهة تحقيق، والقمع هو ما عرف من سلطات الانقلاب العسكري بالضرورة.
لم يفعلها الرئيس محمد مرسي مع فضائيات الثورة المضادة، رغم أنها كانت اداة لاهانته والتطاول عليه، وبشكل غير مسبوق، وعندما كان هناك من يلوح ولو من بعيد بفكرة اغلاقها، بترديد نفس الاتهامات، التى نسمعها في مواجهة حملة الابادة الاعلامية ضد الفضائيات المنحازة للشرعية، كنا نخرج محذرين ومنذرين، ولم يجرؤ محمد مرسي على الانتصار لنفسه، ربما لأنه لم يكن يرغب في الانتصار لها.
لمن يريد التوصيف، فان الانقسام في مصر هو بين من يؤيدون الشرعية، ومؤيدو الانقلاب، وليس بين القوى الاسلامية والقوى المدنية، فالحوادث اثببت أنه لا يوجد عندنا قوى مدنية بالمعنى المتعارف عليه دولياً، فنحن لدينا قوى عندما عجزت عن تحقيق ما تريده عبر صناديق الاقتراع دعت الجيش للتدخل، وقد طالعنا هذه الدعوات من قبل ما جرى يوم 30 يونيه، وكانت هذه الدعوات واضحة، على الرغم مما تمثله من تراجع هذه القوى عن مطالبها السابقة باقامة الدولة المدنية، ودولة القانون.
شرعية الحناجر
آسف لوصلة النكد هذه، فقد كانت حلقة برنامج ‘ساعة حرة’ مبهجة، جرى فيها التأسيس لشرعية الحناجر على النحو الذي اكد عليه الضيف الثالث، والذي أكد باعتباره فقيها دستورياً لا يشق له غبار، أن الفقه الدستوري لا يعترف بشرعية الصناديق، ولكنه يقر شرعية الحناجر، وهي الشرعية التي تحققت على أرض مصر يوم 30 يونيه، وكان الرجل حريصاً وقد استمعت له قبل بدء البرنامج على أن يكون توصيفه ‘الفقيه الدستوري’، وأسرف في الحديث عن الفقه الدستوري، قال، والفقه الدستوري، عاد، وهناك وضع وظيفي يمثل كلمة السر التى تفتح ابواب الفضائيات المغلقة تتمثل في صفة ‘الفقيه الدستوري’ والتي لا تعادلها سوى وظيفة ‘الناشط السياسي’.
بعد البحث والتحري اكتشفت ان اعلاه لاعلاقة له بالفقه الدستوري، فهو متخصص في فرع من فروع القانون الدولي.
ما علينا، فما دام الفقه الدستوري ‘شخصياً’ توصل الي شرعية جديدة هي ‘شرعية الحناجر’ فعلى كل انسان ان يحافظ على حنجرته.
يقولون ان مشروب اليانسون مفيد جداً للحنجرة، وهذه نصيحة من واحد خبير في شؤون الحناجر باعتباره كان خلية اخوانية نائمة.. ‘نوافي العوافي’، وقد استيقظت من نومها بحول الله، على حين غرة.
صحافي من مصر
azouz1966@gmail.com