كان الملاكم الشهير جو لويس يقود سيارته الصغيرة عائدا من وحدته العسكرية ذات حرب. وكان سيد الحلبات متعبا حد الإنهاك، ومرهقا حد الإعياء يمني أعصابه المتشنجة برقدة هانئة بعيدا عن صفارات الإنذار ودوي الانفجارات، لكن حظه العاثر طارده حتى آخر منعطف.
عند تقاطع مهجور، اصطدم العائد من الذكريات الدامية بإطارات شاحنة مسرعة دفعته من فوق قضبان الأحلام إلى رصيف الواقع. وعندها، أخرج سائق الشاحنة رأسه من إطار نافذته العالية ليلقي على لويس سيلا من الشتائم والسباب.
لم يفتح جو لويس العائد من الحرب الميدانية إلى الحرب النفسية فمه أو باب سيارته، وظل قابعا خلف إطار مقوده حتى انتهى الرجل من وصلة سبابه وانصرف حاملا غضبه. وبالقرب من حلبة الواقعة وقف أحد أصدقاء لويس ليشهد تصرف صديقه المخزي.
وحين التقى الصديقان، صاح الرجل في وجه لويس قائلا: "رأيتك وأنت تجلس كالهر المذعور خلف مقودك تتلقي سيل الإهانات دون أن تحرك ساكنا. لماذا لم تخرج من سيارتك وتجذب السائق من قفاه وتوسعه لكما وركلا؟ أكنت تخشاه؟" عندها ضحك جو لويس ملء خياشيمه وقال لصديقه: "وهل غنى المطرب كاروسو لمن أهانه وسبه؟"
كان جو لويس يدرك أن ميدان بطولته محاطا بزوايا الحلبة، وأن اللكمة في غير محلها إهانة لرجولته. كان بوسعه أن يتدرب في وجه السائق الصفيق وأن يصلح ما أفسده الشقاء في جمجمة الرجل وصلعته، لكنه كان يعلم أن البطولة الحقة تكمن في السيطرة لا في الفتونة، وأن ممارسة شعائر القسوة في غير محلها عربدة وبلطجة.
كان الرجل القادم من أتون الحرب الكونية الثانية يدرك الفرق بين رأس ورأس، ويعلم جيدا أن التصويب على أعين الرفاق يُكسب مجدا زائفا وعارا مجللا أبديا، لهذا كان يدخر بقايا لكماته لأعداء يعرف ملامحهم جيدا ويفرق بين وجوههم وقسمات مواطنيه الذين أفسد القهر والحزن ملامحهم.
لكن المواطنين العاديين جدا من أمثال رفيق لويس - وهم كثر - لا يميزون عادة بين خرائط الميلاد وخرائط الهدم، ولا يفرقون بين ساحات الحرب وساحات الجيران. كل الوجوه في عيونهم شواخص من ورق تستحق التصويب باللكمات والكلمات وما تيسر من خراطيش ومولوتوف. ولأنهم يمتلكون قبضات مغيبة، تراهم يهيمون في كل ناد يستعرضون سخافاتهم على كل رائح وغاد ويكتبون تاريخ الفشل بقبضاتهم المعقوفة كخناجر مسمومة تتجه دوما نحو صدور أبناء الهم الواحد والبؤس المشترك.
لكن هؤلاء للأسف أعلى صوتا وأكثر جلبة، وأقدر على تعطيل ترامات الأمل ومترو الأحلام. أما لويس وأمثاله، فهم محدودون بزوايا حلبة القيم، ويعرفون مدى قبضاتهم، ولا يحملون السلاح إلا عند جبهات القتال ولا يوجهون لكماتهم لسائق فقد سيطرته على مقوده ذات تعب، أو أخرج البؤس لسانه من غمده ذات غضب. هؤلاء حتما سيذكرهم التاريخ، لكنه لن يلتفت إليهم يقينا وهو يعد وليمة الحزن لأصحاب القبضات اليابسة.
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com
*******************
أقساط الخيانة
في العام الثامن والعشرين بعد الميلاد، تزوجت أجريبينا الصغرى، وبعد اثني عشر عاما بالتمام والحزن، وارت زوجها التراب وعادت إلى بيت بؤسها وفي يدها طفل، لتغادره بعد عام واحد بفضيحة إلى المنفى بعد أن سرت شائعة لم يستدل الرواة على مدى دقتها بأنها كانت تمارس زنا المحارم مع أخيها الإمبراطور كاليجولا.
وبعد ثمانية أعوام، استطاعت المرأة الحديدية أن تقنع الملك كلوديوس بالزواج منها وتبني طفل الشؤم نيرو. وبعد أن استقر جسدها على كرسي العرش، خططت للتخلص من شريك الفراش بشربة سم قاتلة ليخلو الجو لكنغرها الصغير ليتبوأ مقعدا يسعهما معا.
كانت المرأة تعرف أن زيجتها بالكرسي غير كاثوليكية، وأن فرخ وقواقها سرعان ما سينبت ريشه وأنه لن يقبل بها شريكة في الملك. هذا ما أسر به العراف في أذنها ذات طموح. لكن المرأة التي أحرقت خلف رغباتها كافة المراكب قررت أن تندفع خلف غرورها حتى الموت.
كانت أجريبينيا تنام كل ليلة على فراش الوجع تتقلب يمينا وشمالا لترى من أين سيأتيها خنجر وليدها الملك. وذات خيانة، قرر نيرو أن يحقق نبوءة العراف ويتخلص من حرارة ضمتها إلى الأبد. لكن المرأة المتحفزة لقدرها استطاعت أن تغافل الموت خمس مرات قبل أن تقتنع بحتمية الفرار.
كانت تعلم أنها لن تفر من قدرها، لهذا تركت بصمات خوفها فوق طريق الموت. وفي خدرها المحشو بالرعب أقبل عليها سفير الموت المأجور بسيف في يده. وحين أرادت الهرب، لحق بها وضربها فوق قحفها لتفقد توازنها وتلقي بجسدها المنهك فوق الأريكة. حينئذ، كشفت عن ثدييها وصرخت في وجه لم تحمل له ذات يوم ضغينة: "مزق هذين أولا لأنهما أرضعا وحشا كنيرو."
ما الذي كانت ترجوه تلك الآثمة في لحظات يأسها الأخير، وقد راهنت على العرش بكل ما أوتيت من آدمية. ألم تكن تعلم وهي تضع السم لمليكها ذات غدر أنها تضع كل بيضها في سلة بؤس واحدة؟ ألم يخبرها عراف الحي يوما أن الجزاء من جنس الخيانة وأنها قاب قوسين أو أدنى من كأس السم؟
لماذا نرتكب الآثام المغلظة، ونظن أننا - رغم كل شواهد الفجيعة - في مأمن من الكارثة؟ كم هي غريبة تلك الشهوات التي تطغينا حد الغفلة، لنبحث في ساحة القصاص عن أي مهرب ونناشد الجلاد أن يترأف بنا! وغريب ذلك العشق الجيني في دماء فطرتنا للجلوس فوق أي كرسي وإن كان فوق جرف هار أو تلة منحدرة. فمن أجل شهوة العرش، باعت المرأة أنوثتها ودفء فراشها. ومن أجل الكرسي شق فرخ الوقواق ثديي أمه لتنفجر نوافير الدماء من منبت الحليب. ومن أجل الكرسي، يواصل الطغاة كتابة التاريخ بنفس الغباء ونفس الدماء ونفس الرغبة المحمومة في التهرب من دفع أقساط الخيانة. ومن أجل هذا نذكر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com
****************
في ملاعب السياسة
الانتخابات في عالمنا الثالث مسرحية هزلية لا تبدأ فصولها عند صناديق الاقتراع، ولا تنتهي بالفرز. فقبل ذلك وبعده، تكمن جملة من القفشات المضحكة المبكية. وبين الطوابير المعلقة في حلوق الشوارع وبصمات الثقة داخل مربعات الوهم تنتهك آلاف القصص قدسية المنطق، وتتجاوز المسموح به من الخبل.
إلى المضحكات المبكيات في بلاد ما وراء الوعي، أضاف رئيس وزراء كمبوديا نصا مغرقا في الهزلية والسخف. إذ قرر رجل الدولة الملهم ذات تأمل أن يؤجل الانتخابات التشريعية في بلاده ثلاثة أسابيع كاملة حتى يكتمل حاصل جمع أرقام تاريخ التصويت تسعة، لأن الرقم تسعة رقم سعده.
ويوم اعترض المراقبون على سير العملية الانتخابية لأنها لا تتوافق مع المعايير الدولية، رفع الرجل حاجبيه وصوب نحوهم سهام عينيه الغائرتين ليقول متهكما: "المعايير الدولية مكانها ملاعب الكرة لا ملاعب السياسة."
المهم أن يجيد اللاعبون التصويب نحو الهدف وإقناع المواطن البسيط أن بينه وبين الجنة الموعودة بضع خطوات، وأن كل خطوة يخطوها نحو الصناديق تمحو خطايا سنة بعد عن كعبة الديمقراطية. المهم أن يحصد اللاعبون أكبر عدد من أصوات من لا ناقة لهم ولا جمل. المهم أن يقتنع الرجل البسيط بأن وقفته أمام صناديق الدجل فرض عين وأنها من أجل الحرية.
وفي بلادنا المقيمة في غياهب الفقر حد الاستبسال، يقدم الرجل صوته على طبق من ورق لكل من يدفع الثمن، وليس بالضرورة أن يكون زيتا أو أرزا كما يدعي فريق من فرق الزيف. فالطيبون في بلادنا تسيرهم العاطفة التي تتلاعب بها الخطب المنبرية والفضائيات الموجهة في ماراثون الكراهية والنبذ والعنف. وغالبا ما يقع المواطن المسكين ضحية لإحدى الحسنيين: الرغيف أو العاطفة.
ولا تنتهي الانتخابات في بلادنا كما تنتهي في بلاد الله طولا وعرضا بالفرز وإعلان النتائج، فلدينا جبهات عدة على الفائز بالانتخابات اجتيازها قبل أن يواجه حملات الحجارة والمولوتوف وأسراب المعارضين أمام عتبة بابه.
فهناك جبهة الإعلاميين التي تحولت في بلادنا بقدرة فاجر من بث الحدث إلى صناعته، ومن التعليق إلى التحقيق والرفض والإدانة. ناهيك عن جبهة القضاة الذين قرروا خلع حيادهم واصطفوا في تحد غير مسبوق لمعايير النزاهة الدولية - التي لم تعد موجودة في بلادنا حتى في ملاعب الكرة. أضف إلى ذلك كله جبهة السياسيين الذين يتحولون فجأة من صفوف المفسدين إلى صفوف المقاومة والممانعة دون أن يجرؤ أحد على انتقادهم وإلا اتهم بمعاداة الثورة السامية ونال من الثوار ما لا يتحمل لص في مولد.
في بلادنا، يسخر السياسيون من القانون ويهزؤون بالمنطق ويتنكرون لوعودهم الانتخابية كما تتنكر الساقطة لوليدها، ويديرون ظهورهم لمن تورمت أقدامهم في طوابير عبثية بحثا عن خرقة أمل تواري فظاظة الواقع الكئيب. في بلادنا، يسمي السياسيون الشوارع باسم خصيانهم، ويغيرون التقاويم لتناسب مواسم رعي ماشيتهم، ويغيرون مواعيد الانتخابات لتوافق أرقام حظهم. وفي بلادنا، يزداد الفقراء كل يوم فقرا، وينفقون ثمن قوت أولادهم على طباعة الاستمارات وشراء الأحبار التي لا تغير من الفقر شيئا. وفي بلادنا تتمرد ملاعب الكرة وملاعب السياسة على المعايير الدولية ليصبح العته سيد المنطق، وتصبح الصناديق حكما غير نزيه في ملاعب السياسة.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com