الشرق الاوسط \ بتصرف
بعد سنوات قليلة مقبلة لن
يرى العراقيون أو أي زائر لبغداد أي نصب فنية, فبعد أن اقترفت السلطات الحالية جرائم
بحق الحضارة العراقية عندما أزالت نصب «المسيرة» للفنان الراحل خالد الرحال، الذي كان
في منطقة «علاوي الحلة» ويحكي عن قصة مسيرة الحضارة العراقية، بينما اعتبرته الحكومة
يرمز لمسيرة حزب البعث العربي الاشتراكي، وبعد إزالة نصب «اللقاء» للفنان علاء بشير
في ساحة اللقاء بحي المنصور، الذي يرمز للعلاقات الإنسانية، وهو عبارة عن رمزين لرجل
وامرأة، ونصب «قادة ثورة مايس» الأربعة في العراق عام 1941 وإهمال نصب «الشهيد» للفنان
الراحل إسماعيل فتاح الترك، ونصب الجندي المجهول للرحال، والتهيؤ لإزالة قوس النصر
في ساحة الاحتفالات الكبرى، وفي خطوة وصفت بالكارثة الفنية، وآخر جرائم عصر ما بعد
التغيير في العراق، علمت «الشرق الأوسط» من مصادر رسمية موثوقة عن عزم الحكومة المفروضة
إزالة نصب «النسور» للفنان الراحل ميران السعدي في ساحة تحمل اسم النصب بجانب الكرخ
من بغداد بعد أن اتهمته بانتمائه للبعث وحكمت عليه بالاجتثاث بحجة تمثيله لحقبة النظام
الوطني، مفسرين (الحكومة) النسور بأنها ترمز إلى الطيارين العراقيين الذين شاركوا في
الحرب العراقية - الإيرانية مدافعين عن حياض الوطن حيث كانوا يلقبون إعلاميا بـ«نسور
العراق»، مع أن النصب أقيم قبل قيام الحرب بأكثر من عشر سنوات.
اللجنة التي أقرت إزالة النصب
هي ذاتها لجنة إزالة آثار النظام السابق التابعة للأمانة العامة لمجلس الوزراء التي
شكلت في 2005 وضمن مهامها الأساسية إزالة النصب والتماثيل التي تشير أو تمجد حزب البعث
العربي الاشتراكي خلال فترة حكمه الممتدة من عام 1968 إلى عام 2003. وهذا يعني إزالة
العشرات من الأعمال الفنية التي تمثل فترة طويلة من تاريخ العراق.
ويرمز نصب «النسور» الذي يقع
في وسط ساحة واسعة بحي اليرموك ببغداد ونفذ عام 1969، إلى القوة والطموح لدى العراقيين
منذ بدء حضاراتهم القديمة وحتى الوقت الحاضر، إضافة إلى أن النسور تمثل الجيل المعاصر
واندفاعه إلى الأمام بخطى ثابتة للوصول إلى الأهداف المنشودة، كما أن هذه الساحة ذاتها
التي استشهد بالقرب منها العشرات من أبناء العراق بدم بارد في عام 2006 بعد أن تعرض
لهم أفراد شركة «بلاك ووتر» في مجزرة عرفت بـ«مجزرة النسور».
وزارة الثقافة الحالية وتحت
ضغط الحركة الفنية العراقية، سجلت وعبر مذكرة رسمية وجهتها إلى اللجنة الوزارية المكلفة
بإزالة النصب والتماثيل، رفضها القاطع تلك الخطوة، موضحة فيها أسباب وأهمية النصب في
الحركة الفنية العراقية، وعدم أي صلة بينه وبين النظام الوطني، لكنها تقول إن اعتراضها
لن يغير شيئا ولن يكون ملزما لتلك اللجنة للأخذ به.
مسؤولون ومثقفون عراقيون أعربوا
خلال أحاديثهم لـ«الشرق الأوسط» عن أسفهم وشجبهم الشديد لهذه الخطوة، وقال حامد الراوي
المستشار الثقافي في وزارة الثقافة، لقد «سجلت الوزارة وعبر مذكرة رسمية اعتراضا واضحا
لقرار إزالة النصب، تم التأكيد فيها على أن هذا النصب لا يمت بصلة للنظام السابق، ولا
يمجد أفكاره، ولا يمجد ثقافة العنف كما يروج، وهو عمل نحتي مهم يعد الوحيد في تناول
فن الحداثة في مجمل النصب والتماثيل في بغداد»، مضيفا أن «اللجنة أخطأت في تقدير إزالته
بشكل كبير كونها لم تستشر أحدا من المختصين في دائرة الفنون التشكيلية التابعة للوزارة
مثلا، وهي (اللجنة) لا تضم في عضويتها أيا من الفنانين المتخصصين لأجل الاستعانة برأيه
في هذا المجال ومعرفة خلفية كل عمل نحتي تاريخا وجماليا».
وعبر الراوي عن أسفه قائلا:
«مع الأسف أن وزارة الثقافة لا تملك سلطة أو صلاحية رفض قرارات تلك اللجنة، ودورها
ينحصر في الاقتراح والرأي فقط».
بدوره، سجل المهندس محمد الربيعي
عضو مجلس محافظة بغداد اعتراضه الشديد وتحفظه على عمل اللجنة الوزارية المكلفة بإزالة
آثار النظام الوطني؛ من بينها النصب والتماثيل، وقال إن «اللجنة شكلت قبل نحو أربع
سنوات ولا تزال تعمل حتى الآن وقراراتها نافذة على الرغم من كل الاعتراضات التي جابهت
عملها»، وأضاف: «في كل دول العالم التي شهدت تغيرات في أنظمة الحكم فيها، حرصت قياداتها
الجديدة على إبقاء تلك النصب والرموز كونها تشير إلى ذكريات ذلك الزمان وتاريخه بل
وتحويل بعضها إلى معالم أثرية وسياحية مهمة تشير إلى تلك الحقبة وتعرف الأجيال بتاريخ
البلاد»، مؤكدا: «إننا نرفض إزالة أي نصب في بغداد، خاصة نصب النسور لأنه معلم مهم
فيها وشكل علامة فارقة على مدى سنوات طويلة، خصوصا أن العراق بلد يتجه نحو التحول الديمقراطي
والحضاري الذي يتحدث به السياسيون في خطاباتهم الرسمية
وبنبرة لا تخلو من سخط واضح،
أكد الفنان التشكيلي قاسم سبتي، رئيس جمعية الفنانين التشكيليين قائلا: «وضع الفن في
العراق يتجه نحو خراب كبير، ولا يمكن السكوت عنه بعد»، وأضاف: «لقد هدموا الكثير من
المنجزات التي حصلت في زمن النظام السابق، فهل كانت سيئة كلها؟ إنها قضية مخجلة حقا
أشعر بعدها أننا نسير في طريق مسدود».
وتساءل بالقول: «لماذا لا
نقول إنها عراقية، هل استشاروا جمعية الفنانين التشكيليين، عبر الخبرات الموجودة فيها..
هناك أناس لا يفقهون شيئا يحاولون تخريب كل شيء جميل، وفي كل مرة نخسر معلما مهما من
معالم بغداد العريقة»، مشيرا إلى أن «النصب عبارة عن مجموعة من النسور فقط، وليس لها
أدنى علاقة بالنظام السابق، بالأمس أزالوا نصب ساحة اللقاء، في حين أن العمل عبارة
عن امرأة ورجل ملتقيين بشكل تجريدي فني، وكان بالإمكان تحوير العمل بتلك الساحة، لكن
التأويل لديهم يعمل على نحو آخر كما يبدو، وليس له أية علاقة بالفن؛ بل بجملة تراكمات
سلبية عندهم».
الفنان العراقي المغترب منذر
علي قال إن «الإنسان حين يكون جاهلا، فعليه أن لا يمد جهله وينشره على الآخرين، ونصب
(النسور) للفنان الكبير ميران السعدي، يعد أحد أهم أعمال الحداثة الراقية في بغداد،
وتفسيره بأنه يخص حقبة النظام السابق ينم عن جهل مطبق وابتعاد كبير عن الفن الجمالي
للنصب»، وأضاف: «إزالته تعني خسارة لن تعوض، بل وكارثة على مستوى الذائقة الإبداعية
في العراق، فالنصب شهادة واضحة على ألق الفن العراقي، وامتيازه»، وأكد: «سبق أن أزالوا
أحد أهم أعمال الفنان العراقي الراحل خالد الرحال وهو نصب (المسيرة) في منطقة العلاوي
وسط بغداد، بحجة إشارته لمسيرة حزب البعث، إضافة إلى إزالة نصب (الجيش العراقي) في
منطقة الباب المعظم ، إضافة إلى نصب (أبو جعفر المنصور) الذي هدم وأعيد بعد أن تبرع
أحدهم لإعادته، هم الآن صاروا يحاربون النصب والتماثيل كأنها عدو جديد لهم !!
أما الفنان إبراهيم رشيد،
فقال في معرض رده على موضوعة إزالة النصب: «لقد عاصرت الفنانين العراقيين الذين أسسوا
الحركة التشكيلية، ونصب (النسور) واحد من النصب النحتية الفنية المميزة التي شكلت هوية
مميزة، وهي تعبر عن أفكار وطنية عامة»، وأضاف: «يجب حفظ المعايير الفنية السليمة، والنصب
شكل هوية مهمة للمدينة، هي تعبير عن فكر جمالي للمكان.. هناك بعض الاختلافات في صيغة
التعامل بين الجهات المعنية بتقييم الأعمال الفنية، لكن أعتقد كفنان، أنه من الضروري
جدا في عملية اتخاذ أي قرار فني يتعلق بنصب صار جزءا من تاريخ المدينة، العودة إلى
المختصين من الفنانين والمعماريين والمثقفين والسياسيين أيضا».
من جانبه، اعتبر الرسام العراقي
عماد الطائي، المقيم في لندن أن «هذه العملية مرفوضة عالميا وإنسانيا»، مشيرا إلى أن
«تهديم النصب هو تدمير لذاكرة الشعوب وهويتها، وهذا أكثر قسوة من القصف والتفجيرات،
فالإنسان يرحل، لكن الحضارة تبقى.. الأهرامات وأسد بابل والزقورة وآثار بابل باقية
على الرغم من رحيل الملوك والشعوب، بعيدا عن أن هذه الأعمال تخص هذه الفترة أو تلك،
فنصب (المسيرة) يشكل جزءا مهما من ذاكرتنا البصرية وهو هوية بارزة لتطور النحت العراقي».
وعبر الطائي عن «خشيتنا من أن تمتد هذه الأيدي الجاهلة إلى أعمال رائعة أخرى مثل نصب
(الحرية) أو تمثال (الأم).. هذه الأعمال الفنية هي الأهم، وعلينا أن نقترح صيغة أفضل،
وما يعيشه العراق لا يليق به».