المحطات الفكرية في حياة القائد المؤسس رحمه الله
بمناسبة الذكرى الثالثة والعشرين لوفاته
الحلقة الثانية
جابر خضر الغزي
لقد تناولنا بالحلقة الاولى ثلاث محطات فكرية للقائد المؤسس رحمه الله، هي مرحلة الثلاثينيات بعد عودته من فرنسا وانخراطه في خضم الكتابة وكانت صحف دمشق تقدمه ك(اديب وشاعر) ويقدم رسالة الى العربية (لنيتشه واندر جيد) حيث كان متاثرا بادب اندريه جيد وميله الى اليسار مما اثر في حياته وحمله (نكهة جديدة ونفحة من التجديد والصدق، لم يشهد الادب الفرنسي مثيلا لها بعد مذكرات جان جاك روسو..)
حيث استقطب رحمه الله الجيل العربي في سوريا العروبة واصبح فيما بعد (محل اعجاب طلابه بل والجيل كله) فكان ينظر الى مرحلة حياته بعد عودته من الدراسة في فرنسا هو بناء الحزب وخوض مضمار العمل القومي "الا انه لم يتنصل من مرحلة انتاجه الادبي ولم يشعر بادنى عيب تجاهها"
اما المحطة الثانية التي ركز عليها القومية العربية باعتبارها حقيقة حية، وهي حب قبل كل شي، وهي قدر محبب.
والمرحلة الثالثة كانت مرحلة الخمسينيات ركز على الوحدة العربية باعتبارها هي الحاجة ولانقاذ للامة العربية وهي امضى الاسلحة الفكرية والمادية في عصر التكتلات الدولية.
اما في هذه الحلقة ساتناول بقية المحطات الفكرية في حياته وهي :
المحطة الرابعة : مرحلة الستينيات التي ركز في هذه المرحلة على الاشتراكية باعتبارها الضرورة المنبعثة من صميم القومية العربية لمواجهة تشويه حركة الثورة العربية، حيث دابت بعض التشويهات الفكرية في هذا الجانب في الحياة الداخلية للحزب خاصة في المؤتمر القومي السادس " بعض المنطلقات النظرية عام 1963 والذي اراد بعض الرفاق ذو الجذور الشيوعية والماركسية ان ينسفوا تاريخ الحزب، الا انه واجه تلك العناصر بروح مبدئية مؤكدا بان الاشتراكية العربية تعني الطريق الخاص العربي للاشتراكية "مادة زائدا روح"
كما ان بعض الاحزاب العربية والمنظمات الفلسطينية الفدائية تاثرت ايضا بهذه الموجة الماركسية فتحولت من الفكر القومي الى الفكر الماركسي، وسمي في حينها هؤلاء "باليسار الظرفي" خاصة بعد نكبة الخامس من حزيران عام 1967.
المحطة الخامسة : مرحلة السبعينيات من القرن الماضي حيث ركز رحمه الله على القضية الكردية باعتبارها حركة وطنية لشعبنا الكردي في العراق قائلا : " ان الحركة الكردية تعتمد على شعور وطني عند المواطنين الاكراد. شعور مشروع وغير مشبوه لكن القوى الاستعمارية والرجعية تستغله وتشوه مقاصده ". وهذا للاسباب التالية :
اولا : ان اكثرية الاكراد موجودة في بلدان غير عربية والقسم الموجود في العراق هم اقلية نسبيا، بالنسبة لتلك البلدان تحديدا " ايران وتركيا "
ثانيا : واقع الاكراد في البلاد العربية يختلف عن واقعهم في البلدان التي هم فيها كثرة : تركيا وايران، فالاكراد عاشوا قرونا طويلة مع العرب وحتى الان ما عرف في طول هذا التاريخ أي تمييز بينهم، كانوا كشعب واحد وابطاله السياسيون والعسكريون في هذا التاريخ المشترك كانوا هم ايضا ابطال العرب "
الا انه مع الاسف الشديد بان الحركة الكردية في الوطن العربي والعراق خاصة " كانت موضوع الاستغلال الاستعماري هي اقل البلاد ملاءمة لظهور الثورة الوطنية الكردية.. فعندما تقوم حركات تمردية تضطر الحكومات الى مواجهتها او مجابهتها بالقمع وتتكرر هذه العمليات، تنشا مع الزمن احقاد وثارات، تتخذ فيما بعد اساسا ومنطلقا للمطالبة بالانفصال الذي لم يكن له في البدء مبرر، فواجب الحكم الثوري في العراق ان يدرك هذه الحقيقة ويفشل المخطط الاستعماري بان يمنع استمرار وتراكم الاحقاد والمبررات المفتعلة " وعلى ضوء ذلك حقق البعث في العراق من خلال الحكومة الوطنية حل المسائلة الكردية حلا سلميا ديمقراطيا واعلان بيان اذار التاريخي عام1970 وبعد اربع سنوات وحسب ما مثبت بالاتفاق مع المرحوم ملا مصطفى البرزاني والقيادة الكردية من جهة وقيادة البعث المتمثلة بالرفيق الشهيد صدام حسين رحمه الله بمنح شعبنا الكردي حكما ذاتيا كما اكد رحمه الله بان "الحركة الوطنية الكردية لايمكن ان تتناقض مع الثورة العربية، اذا تناقضت فيكون الاستعمار وراء هذا التناقض سواء في خلق لقيادات عميلة لهذه الحركة او بدفعه وتوريطه لحكومات عربية رجعية او انفصالية للتصدي لتلك الحركة بالاساليب التي تساعد على التفاقم طوال قرون عديدة "
ويقول إيضا" "فالحركة الوطنية الكردية هي جزء مشروع وأصيل من الثورة العربية ضد الاستعمار والصهيونية والأستغلال الطبقي والتخلف والتجزئة، وكل ماينحرف بالحركة الوطنية الكردية نحو الإلتقاء والتواطؤ مع الامبريالية والصهيونية ويضعها في صف الطبقة الاقطاعية وفي صف الانفصال، يجب ان يكشف ويفضح كتأمر على الثورة العربية والحركة الوطنية الكردية في ان واحد وأن تكون مطالب الحركة الوطنية الكردية في إطار هذا الانسجام بينها وبين مسيرة الثورة العربية"
المحطة السادسة : مرحلة الثمنانينيات حيث ركز رحمه الله على الظاهرة الدينية السياسية وعلى الدين والتراث في محاضراته التي القاها في (مدرسة الأعداد الحزبي) أي ان التركيز على الاسلام والتراث، لم يكن كلاما للمناسبات العامة وأنما كان مادة فكرية لاعداد القيادات الحزبية ومواد هذا الجانب سابقة في تاريخها على قيام الثورة الايرانية..(فلم تكن مزايدة اسلامية على الشعارات الاسلامية التي رفعتها هذه الثورة على الشاطئ الاخر للخليج!! فهو أذن موقف فكري اصيل، فيه تصاعد وتفصيل وتوضيح وتعميق وتطوير لموقف جنيني) كما يصفها المفكر العربي الاسلامي الدكتور محمد عمارة.
وثبت أن فشل الأحزاب السياسية المغطاة بغطاء الدين في أقطارنا العربية كان مرده في أكثرها إلى أن هذه الأحزاب لم تتمكن من أرواء ضمأ جماهيرنا العربية الذي لم ينسى تاريخه وفي نفس الوقت أن يكون عصريا أي الاصالة والحداثة حيث قال القائد المؤسس رحمه الله (أن يكون الأنسان العربي المكتمل الشخصية المؤمن بدينه، بتراثه، برسالة امته، وفي الوقت نفسه الأنسان العصري المتحضر المسيطر على وسائل الرقي لكي يعطي ويعبر عن جوهر العروبة وقيمها الاخلاقية، ليس بالشكل السلبي، شكل الشكوى والضعف وإنما بالشكل الأيجابي من منطلق القوة والثقة بالنفس والقدرة والعطاء وعندها أقول عروبة، تعرفون أقول الأسلام أيضا" لا بل أولا، العروبة وجدت قبل الاسلام ولكن الأسلام هو الذي أنضج عروبتنا وهو الذي اوصلها الى العظمة وإلى الخلود، هو الذي جعل القبائل العربية امة عربية عظيمة، امة عربية حضارية فالأسلام كان وهو الأن وسيبقى روح العروبة وسيبقى هو قيمها الانسانية والاخلاقية والاجتماعية، هذا هو الاخلاص للشعب، هذا هو حب الشعب صحيح إننا نصل اليها في المطالعة وفي قراءات التاريخ، ولكننا نصل اليها بصورة أعمق وأصدق، عندما نقترب من شعبنا ونصغي الى دقات قلبه وإلى خلجات ضميره، إلى هذا الترادف، هذا التمازج بين العروبة والاسلام)
وفي الحرب العراقية الايرانية أكدت بأنها ليست تشابك الاسلحة بين المتنازعين وإنما هي حرب ايرادات، هي حرب فكرية بين العروبة والاسلام التي كان يمثلها جيش العراقي الباسل وشعبه الابي وعمقه العربي وبين الدجل والتزوير والكذب والضلالية عقلية القرون الوسطى صكوك الغفران اصبحت مفاتيح (الجنة) أكد رحمه الله على أنتصار العراق فقال (.. هل بغير الاسلام أنتصر؟ الم يحارب منذ اليوم الأول وحتى الان بروح الاسلام ومبادئه وقيمه السامية وذكريات قادته وابطاله الخالدين؟ اليس بروح الاسلام وقيمه واخلاقه هي روح العروبة وقيمها واخلاقها؟) وفي كلمته في 7 نيسان عام 1986 يقول رحمه الله (بدافع من الحب للامة العربية احببنا الاسلام منذ السن اليافعة، وبعد ان اقتربنا أكثر من فهم الاسلام، أضحى حبنا لامتنا يتلخص في حبنا للاسلام، وفي كون الامة العربية هي امة الاسلام، ان هذه العلاقة الحميمة بالاسلام، هي من النوع التاريخي، الموسوم بالتجرد الخالص! وإن ثقة عميقة تملا نفوسنا بأننا اخلصنا كل الاخلاص، طوال عمرنا بامتنا، لمصلحتها، ولتاريخها، ولعقيدتها، ولمستقبلها، واننا دوما حيث العروبة الصحيحة والاسلام الصحيح)
وخلاصة على ماتقدم : ان المحطات الفكرية في حياة القائد المؤسس "أنها روح واحدة... عبرت عن نفسها في مناسبات قناعات فكرية، لم تختلف، لكن الظروف السياسية وظروف المجتمع، وصعوبة العمل الثوري في مجتمعنا، هذه الامور اخرت هذه الافكار وإعطاها الاهتمام المطلوب " وبهذه المناسبة ان فقيدنا الراحل رجل امتزجت فيه عناصر الزهد والتصوف والثورة والفكرية والخلقية والروحية والسياسية والحضارية " حتى صارت مثلا يحتذى.. هذا هو ميشيل عفلق، وهذا هو دوره فأمثاله من الرجال يولدون مع المراحل التاريخية ويشكلون عصارة فكر الامة، تبقى اسماؤهم خالدة لانها بعثت الحياة في امتهم،
وبهذه الذكرى العطرة اننا نخص بالتقدير والاحترام عائلة مؤسس البعث التي تحملت اعباء النضال لهذا الرجل وتحملت التضحية والغربة بكل ماتعنيه هذه الكلمة. ونتطلع معهم إلى العلي القدير، ان يسكن فقيدنا فسيح جناته وسيبقى اسم أحمد يوسف عفلق خالدا في قلوبنا وفي تاريخ امتنا العربية المجيدة التي انجبته وتاريخ الانسانية. واخيرا اختتم هذه الحلقة ببيت شعري لشاعر البعث الرفيق محمد جميل شلش بمناسبة اربعينية القائد المؤسس عام 1989 في بغداد
وفكرة لو مشينا خلف مبدعها لصيرتنا زهادأ لا سلاطين
واليوم يجسد ذلك في ارض الجهاد الوريث الشرعي والدستوري والقانوني لسيد شهداء العصر صدام حسين رحمه الله القابض على جمر المبادئ الزاهد المتصوف الرفيق المناضل عزة ابراهيم الامين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي
جابر خضر الغزي
أواخر حزيران 2012