جمال قارصلي: الغواصة الهدية تضع ألمانيا شريكا في الجريمة
قصيدة واحدة، بدت كقنبلة موقوتة طالت ترددات إنفجارها الهائل دول وشخصيات سياسية ونقاد من عالم الثقافة والأدب.
قصيدة ليست كسواها من القطع الأدبية العادية بل تحمل في ثناياها وأبعادها وجع كاتبها، الألماني غونتر غراس حامل جائزة نوبل، وهو يرى دولته تقدم إلى إسرائيل سادس غواصة مؤهلة لحمل الرؤوس النووية، بحجة حماية وجودها من الخطر الإيراني.
والأديب الألماني غونتر غراس ليس عاديا. في شبابه كما في كهولته، كانت مسيرة حياته شائكة وغامضة وبدت على الدوام محل إنتقاد وإتهامات متناقضة... في مطلع شبابه خدم في "شبيبة هتلر" وحمل تهمة "العداء للسامية". في شبابه، وبعد سقوط ألمانيا النازية، صبّ الأديب غونتر غراس إنتاجه الأدبي السلس المضمون والغزير، في صياغة "الندم ومؤاخذة الذات والتكفير عن الماضي"، وحمل بالتالي جائزة "نوبل" للسلام.
الجديد الآن، هو عدم قدرة هذا الأديب، وهو في التسعينات من العمر، على الصمت حيال ما يدور حواليه من آكاذيب وشائعات حول "هوية" الخطر على السلام العالمي: إيران أم إسرائيل؟.
..."ما يجب أن يقال" هو عنوان القصيدة – القنبلة التي كتبها غونتر غراس مؤخرا ليحدد هوية هذا الخطر: إنه إسرائيل وليس إيران، وأن الغواصة الألمانية (الهدية) إلى إسرائيل، خطرها على السلام العالمي واضح وملموس أكثر بكثير من الخطر الإيراني.
الشاعر الألماني غونتر غراس يرى أن جائزة "نوبل" للسلام حمّلته موجبات الدفاع عن السلام العالمي وإلى رفض الدخول في جوقة الإعلام الرسمي والمطبلين والمزمرين لمشهد الغواصة النووية الألمانية "الهدية" تصل إلى إسرائيل لحماية حدودها... ليس بمقدوره الصمت، فكانت قصيدته - القنبلة.. "ما يجب أن يقال"!
وما "يجب أن يقال" ليست قصيدة عادية. إنها تأتي بعد صمت طويل بقلم أديب ألماني، خدم في "شبيبة هتلر" في مطلع شبابه، ثم أدان "النازية" وحذّر في إنتاجه الأدبي السلس والغزير من خطر إنتشار الأسلحة والحروب، ليتمكن في أواخر القرن الماضي من إستلام جائزة "نوبل" للسلام العالمي بإمتياز. إنها قصيدة تصيب لبّ المشكلة الحقيقية في العالم: قضية فلسطين.
هل الغواصة النووية الألمانية الهدية إلى إسرائيل تساعدها على حماية حدودها وعلى فرض السلام في العالم؟ هل الخطر على السلام العالمي مصدره مفاعل ذري إيراني مزعوم، أم غواصات نووية واضحة ومكشوفة على شواطىء دولة إسرائيل؟
هذه العوامل والصفات، المتناضة والمشتبكة في تاريخ وهوية الأديب غونتر غراس، كما في تاريخ العلاقة بين ألمانيا "النازية" العرقية واليهود، وما صاحبها من تاريخ "الهولوكوست" المحرقة، وبالتالي قيام دولة إسرائيلية - يهودية على أرض فلسطين، وصولا إلى إلتزام ألمانيا الإتحادية بواجب الدفاع عن وجود إسرائيل وغمرها بالأسلحة... جميعها عوامل تلاقت في قصيدة واحدة من نتاج الأديب غونتر غراس الذي لا يستطيع الصمت.
وعليه، كانت ردود الفعل الأدبية والسياسية، الشاجبة أو المؤيدة لقصيدة "ما يجب أن يقال" وإلى مضمونها ذات البعد المختلف والبعيد عن "المصالح الدولية" والذي ينظر إلى خطر داهم وواضح للسلام العالمي في إسرائيل، وإلى "خطر مشبوه" في إيران.
وإلى ذلك، وربما لأن قصيدة "ما يجب أن يقال" كتبت باللغة الألمانية، أو ربما لما يسببه إنتقادها من إحراج لبعض النقاد العرب في الظرف الراهن، بقيت هذه القصيدة في دائرة "الصمت الإنتقادي" الأدبي، بإستثناء قلّة من السياسيين الأدباء، أبرزهم النائب الألماني السابق السوري الأصل جمال قارصلي، الذي تناولها من زاوية معاناته في مثلت العلاقة الألمانية الإسرائيلية والعربية...
ردود فعل السياسية والأدبية
بداية، وعلى الصعيد الدولي. في ألمانيا، انضم وزير الخارجية الألماني غيدو فيسترفيله إلى قائمة الذين وجهوا انتقادات إلى غونتر غراس. وكتب فيسترفيله في مقال بصحيفة "بيلد أم زونتاغ" الألمانية أن "من غير المعقول بل من العبث وضع إسرائيل وإيران على نفس المستوى الأخلاقي". وقال فيسترفيله إن لإيران الحق في استخدام الطاقة النووية لأغراض مدنية "لكن ليس لها الحق في امتلاك أسلحة نووية، والذي يقلل من التهديد الناجم عن هذا البرنامج فإنه يجافي الحقيقة".
أما في إسرائيل، فقد وصلت ردود الفعل حدود إعلان إسرائيل أن الأديب الألماني غونتر غراس، بات شخصا "غير مرغوب فيه"، وبالتالي لن تسمح له بالسفر إليها، وقال وزير الداخلية الإسرائيلي إيلي يشاي إذا استمر غراس "في نشر أعماله الملتوية والكاذبة، فإنني أقترح عليه، أن يفعل هذا من إيران"، وأضاف بتهكم أن غراس سيجد هناك "جمهورا متزنا".
أما دعاة السلام، فقد نظموا أكثلر من 70 مسيرة في ألمانيا من أجل السلام والمطالبة بسحب القوات الألمانية من كافة مناطق النزاعات في العالم.
ونظمت بعض المسيرات من أجل تأييد غراس وحمل المتظاهرون لافتات كتب عليها "غونتر غراس معه حق". و"شكرا غونتر غراس". وتنظم "مسيرات الفصح" في ألمانيا منذ 1960 من أجل مناهضة النزاعات المسلحة والطاقة النووية وما تمثله من تهديد على البشرية.
قارصلي: الغواصة شراكة في الجريمة
وفي موازاة الإبتعاد العربي عن الموضوع نظرا لما يسببه من إحراج في الظرف الراهن، فقد شاء النائب الألماني السابق (السوري الأصل) جمال قارصلي عدم الصمت بدوره وقول ما يجب أن يقال، فتناول العلاقة الألمانية-الإسرائيلية وإنتقد سكوت المسؤولين الرسميين الألمان حاليا وعدم إستنكارهم للتهديدات الإسرائيلية المتكررة بضرب إيران بسبب برنامجها النووي.
ونقلت صحيفة "برلينر مورغن تسايتونغ" عن النائب الألماني السابق جمال قارصلي قوله: "إن إسرائيل تكرّر بإستمرار حقها القيام بالضربة العسكرية الأولى المفاجئة ضد إيران، وهذا ما دفع الأديب الألماني غونتر غراس الحائز على جائزة "نوبل" للسلام إلى عدم الصمت وإلى إطلاق "الصرخة" الأولى ضد القيادة السياسية الألمانية عبر قصيدته "ما يجب أن يقال".
وإنتقد قارصلي الحكومة الألمانية واعتبر إقدامها على منح هدية الغواصة "دولفين" إلى إسرائيل، وهي الخطوة العسكرية السادسة من نوعها، يضع ألمانيا في موضع الشراكة الواضحة في الجريمة، وهي بذلك تضيف إلى سلسلة الحروب التي ارتكبتها ضدّ الإنسانية، نقطة إضافية مشينة.
وكتب قارصلي:"إن الكاتب غونتر غراس يسلط الضوء على الفارق الكبير بين القوة النووية الإسرائيلية والموجودة على أرض الواقع، وبين ما يمكن أن يتحول إليه البرنامج النووي الإيراني.
وأشار جمال قارصلي إلى الدور الخطير الذي يقوم به "اللوبي الصهيوني" في ألمانيا من خلال إستغلاله لقصيدة الأديب غونتر غراس "ما يجب أن يقال" بهدف زيادة الضغط على الحكومة الألمانية لدفعها إلى منح المزيد من الأسلحة إلى دولة إسرائيل.
يضيف قارصلي للصحيفة الألمانية: "إن عقدة العداء للسامية في ألمانيا هي لعبة قاتلة وهدفها إثارة عقدة الذنب لدفع القاتل بإستمرار إلى تزويد الضحية بالمزيد من الأسلحة.
إن هذا يعني بالضرورة تحويل الضحايا إلى قتلة... وهذا ما كان يتخوف منه صديقي الوزير الإقتصاد الألماني الراحل يورغن مولمان، الذي كان نائبا للمستشار هلموت كول، كما كان رئيسا لجمعية الصداقة العربية الألمانية... إن تكرار يورغن مولمان لمقولة:"إن تزويد القاتل للضحية بالسلاح"، هذا القول كان سببا لوفاته في العام 2003 وهو شاب في ظروف غامضة!.
ويكشف النائب السابق جمال قارصلي أنه لم يسلم من شظايا الحملة التي شنّها "اللوبي الصهيوني" في ألمانيا ضدّ الوزير الراحل يورغن مولمان، فكتب يقول:"إن الحملة التي شنها "اللوبي الصهيوني" الألماني ضدّي وضدّ مولمان كان هدفها تشويه صورتنا السياسية وقلب الحقائق رأسا على عقب من أجل التوصل إلى عزلي عن ساحة العمل السياسي بعد عشر سنوات...
وعلى سبيل المثال، فإن "اللوبي الصهيوني" في ألمانيا، والذي يهاجم الأديب غونتر غراس اليوم، قام بمهاجمتي شخصيا في العام 2002 ، واتهمتني وسائل الإعلام الألماني في حوالي ثمانين ألف مقالة بتهمة العداء للسامية فقط لقيامي بتشبيه ما قام به الجيش الإسرائيلي ضد سكان مخيم "جنين" في العام 2002 بما قام به الجيش الألماني النازي في "الغيتو" اليهودي في وارسو إبان الحرب العالمية الثانية.
وإستنكر النائب الألماني السابق جمال قارصلي دخول السفارة الإسرائيلية في برلين على خطّ الإنتقاد الأدبي وقيامها بتوجيه تهمة العداء للسامية إلى الأديب الألماني غونتر غراس وتصور قصيدة "ما يجب أن يقال" بأنها شبيهة بالتهمة التقليدية الموجهة تاريخيا إلى اليهود بأنهم قتلة المسيح. وتعتبر السفار الإسرائيلية في برلين أن الأديب الألماني غونتر غراس بات "نموذجا ذكيا لعداء السامية" وتصف قصيدته بأنها "وثيقة ثأر"!.
ويقول قارصلي للصحافة الألمانية عن التجربة البرلمانية الشخصية التي عاشها :"في المجتمع الألماني وخاصة بين المثقفين منهم، وأصحاب النفوذ يوجد خوف كبير من اللوبي الصهيوني. إن هذا الواقع لمسته شخصيا أثناء تجربتي البرلمانية لمدة عشرة سنوات في المانيا... في كل مرة كنت في حديث مع مسؤول سياسي ألماني حول السياسة الإسرائيلية، كانت أول ردة فعل يقوم بها هو الإلتفات في البداية يمينا وشمالا للتأكد بأن أحدا لا يسمعه، وعندها فقط يقول رأيه بصراحة... لقد عشت هذه التجربة مرات عديدة فكان بعض السياسيين يوافقون الرأي عند الإنفراد والخلوة وبعضهم يتهمني بالعداء للسامية في حال كان الحديث علانية حول فلسطين أو الدول العربية.
وتشير الصحافة الألمانية إلى هذه التجربة السياسة المميزة التي عاشها النائب السابق جمال قارصلي في البرلمان الألماني ودفعت به إلى تدوينها في كتاب بعنوان "ألمانيا بين عقدة الذنب والخوف" – تجربة نائب ألماني من أصل عربي، وصدر هذا الكتاب عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة في العام 2002. وإلى ذلك، فقد جرى تدوين هذه التجربة السياسية البرلمانية الألمانية ضد اللوبي الصهيوني على موقع الكاتب جمال قارصلي بعنوان "وصايا برلماني ألماني" (www.karsli.net).
يقول النائب السابق جمال قارصلي في وصاياه:"إن هناك أمثلة صارخة تدين السياسة الإسرائيلية ولكن لا أحد يتجرأ على أن إنتقادها في ألمانيا... إن كل من ينتقد هذه السياسة يتم شهر عصا اللاسامية" في وجهه. وهنالك أسئلة كثيرة حول هذا الموضوع يعمل "اللوبي الصهيوني الإعلامي في ألمانيا على طمسها، وعلى سبيل المثال:
- في العام 2003 ، كشفت إستطلاعات الرأي التي تمت على المستوى الأوروبي أن إسرائيل هي أكثر دولة تهدد أمن وسلام العالم ، فهل كانت هذه اللوائح تمثل عداءا للسامية؟
- إن إسرائيل ترفض تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي وتقوم ببناء جدران عنصرية على أرض مغتصبة؟
- إن إسرائيل هي القوة العسكرية الرابعة في العالم – بحسب جدول إنتشار الأسلحة- ورغم ذلك تزودها ألمانيا بغواصات تحمل رؤوس نووية؟
- إن إسرائيل هي التي تحرض الدول المجاورة على التسلح النووي لكي تحمي نفسها وتعيد التوازن الإستراتيجي للمنطقة؟
ويضيف النائب الألماني السابق جمال قارصلي:"إن ما يقوم به اللوبي الصهيوني والإعلام المقرب منه ليس جديدا على المراقبين السياسيين في ألمانيا. فمنذ أسابيع قليلة تم توجيه إتهامات بالعداء للسامية ضد رئيس الحزب الإستراكي الديمقراطي زيغمر غابرييل، عندما زار مدينة الخليل في فلسطين المحتلة وشبه الوضع هناك بالنظام العنصري السابق في جنوب أفريقيا سابقا وتكررت التهمة ذاتها ضدّ الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر. وإلى ذلك، فإن العديد من الشخصيات الألمانية تعرضت إلى توجيه تهمة العداء للسامية ضدها، ولا ينجو من هذه التهمة حتى السياسيين الألمان اليهود، الذين تعرضوا إلى تهمة اللوبي الصهيوني الألماني بقوله: إنهم أشبه بالطيور التي ترمي الأوساخ في أعشاشها.
... ويختم النائب السابق جمال قارصلي بالقول:"ربما بدأ ربيع الحرية في ألمانيا أيضا، وها هي قصيدة غونتر غراس تشكل كسرا لجدار الصمت الطويل حيال الخطر الإسرائيلي على السلام، فكانت قصيدة الأديب غونتر غراس، حامل جائزة "نوبل" للسلام الشجاعة... "ما يجب أن يقال"!