بقلم: سري سمور
ما يجري في سورية يؤثر على كل المنطقة بل على العالم بأسره، و أكثر من يتأثر بتداعيات الأزمة السورية هي القضية الفلسطينية؛ فلو قرر نتنياهو اليوم شن حرب جديدة على غزة فلن يكون هناك كبير اهتمام حتى على المستوى الإعلامي نظرا لانشغال الفضائيات بتغطية الأزمة السورية كل بطريقتها الخاصة...فمن الطبيعي أن نكتب عن سورية وعما يدور فيها وحولها.
(1) حجج المعارضة
المعارضة السورية المنقسمة على نفسها والمهددة بانقسامات فوق انـقساماتها المعلومة، تعزف هذه الأيام على وتر قديم-جديد في مواجهة النظام؛ فتقول عبر منابرها الكثيرة بأن إسرائيل معنية ببقاء النظام لأن وجوده ضمان لهدوء جبهة الجولان التي لم تطلق منها رصاصة واحدة منذ حرب تشرين أول/أكتوبر 1973م ويتصيد المعارضون تصريحات لهذا المسئول الإسرائيلي أو ذاك ويعكفون على التقاط ما يكتب في هآرتس أو يديعوت أحرونوت لتأييد حجتهم، والنظام يستخدم أسلوبا مماثلا حيث يستعرض إعلامه تصريحات إسرائيلية أخرى ومقالات من ذات الصحف ترى بأن رحيله في صالح إسرائيل...وفي كل الأحوال فإن إسرائيل ومسئوليها وأصدقائها وإعلامها ليسوا مرجعية مقدّسة كي يتمترس أي طرف خلف ما يصدر عنهم مستقويا به على الطرف الآخر!
ويقول معارضون بأنهم في حال أسقطوا النظام فلن يتخلوا عن فلسطين وشعبها، ويؤكدون ألا مزية للنظام في هذا الشأن لأن مواقف سورية تجاه فلسطين لم تتبدّل منذ عهد الرئيس شكري القوّتلي، وينسى هؤلاء أو يحاولون التعمية على أن المطلوب أمريكيا وأوروبيا بالتحالف مع نظم عربية معروفة هو تحوّل سورية إلى كانتونات متنازعة ضعيفة يستشري فيها القتل بالسيارات المفخخة كما هو حال العراق، و تستـقوي بالأجنبي على بعضها البعض، و لهم –الغرب- هدف استراتيجي هو أن تـقيم إسرائيل فيها قواعد لموسادها وشركات لدعم اقتصادها مثلما هو حاصل في شمال العراق، ونرى استشرافا للحالة المطلوبة يتمثل مثلا بعدم استعداد أي دولة عربية بما في ذلك مصر الثورة لاستقبال قيادة حماس جماعيا إلا إذا غيرت مواقفها من الكيان، وأن المصير الذي ينتـظرهم في دمشق شبيه بمصير أبي العباس في بغداد، مع ما قد يتعرض له اللاجئون الفلسطينيون في سورية من مذابح وتشريد!
وقد سارع برهان غليون إلى تـقديم أوراق اعتماد لإسرائيل والغرب بإعلان التخلي سلـفا عن التحالف مع إيران وحماس والجهاد وحزب الله، ثم عمد مؤخرا إلى «لحس» تـفوّهاته-بسبب ما أثارت من ضجة- كعادته المتقلبة بين الماركسية والليبرالية وتصنع دور الـمثـقف الوطني ثم المعارض الذي «ينط» من حضن إلى آخر..ما علينا، أما بسمة قضماني التي صرحت علنا «بأننا بحاجة إلى إسرائيل» فلا داعي للتعليق عليها إلا بسؤال صريح:لماذا لم يتم فصلها من المجلس؟ من حقي القول بأن هؤلاء لو حكموا سورية فإنهم سيسيرون نحو إسرائيل وسيتنازلون عن الجولان بعقد تأجير يصل إلى 99 سنة قابلة للتمديد، وسيجلبون مستشارين أمنيين من إسرائيل إلى مكاتبهم!
ويهاجم معارضون ادعاء النظام السوري تمثيل حالة ممانعة عربية، ويقولون بأن دعمه للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية زائف، وأن مواقفه ليست سوى وسيلة لصناعة شرعية يبقى من خلالها ممسكا بخيوط السلطة والحكم وضمان استمرارية البقاء بهذه الذريعة التي يقللون من شأنها، ولا يظهر من طرفهم ما يوازيها بل العكس، كما ينسى هؤلاء في حمأة دعاياتهم بأن هذه المواقف التي يسخرون منها كانت عملة نادرة في زمن عربي ولج مرحلة البؤس والإفلاس السياسي منذ أن حطت طائرة السادات على أرض فلسطين المحتلة، ومن المنطقي الخوف من اتفاق 17 أيار سوري على نمط ما جرى في لبنان فأسقطه النظام السوري مع أصدقائه اللبنانيين.
ومعارضون آخرون يلعبون على وتر الطائفية في تحليل المواقف فيعللون دعم حزب الله بكونه شيعيا والنظام علويا، وينسون أن المذهب الجعفري يختلف عن العلويين في أساسيات لا فرعيات، ويهملون أن حركة أمل حليفة سورية خاضت حربا استمرت سنوات عدة مع حزب الله حليف إيران، وأن عناصر حزب الله تعرضوا للـقتل والبطش على يد السوريين أكثر من مرة، ولكن قيادة الحزب كظمت الغيظ، وغلّبت الحكمة والمصلحة الاستراتيجية فأنهت الخلافات مع أمل وزادت من التنسيق مع سورية، مما كان له انعكاس إيجابي على المعركة مع إسرائيل.
ومؤخرا اتهم معارضون أمريكا بدعم النظام، وقالوا بأن ما تظهره من عداء للنظام يستعدي الجماهير العربية التي لها مزاج ضد أمريكا، وأن أمريكا تسعى لإخراج النظام من أزمته، وطبعا لم يقدموا دليلا مقنعا على هذا الكلام.
(2) سورية حالة خاصة
هناك من نصح المعارضة منذ البداية بإعلان العداء الصريح لإسرائيل ونبذ المشاريع الأمريكية بنصوص لا تقبل التأويل، إلا أنهم لم يوافقوا لأن بعضهم أصلا يدعو لتدخل أمريكي يحملهم على متن دبابات غزو يشتهونه إلى القصر الرئاسي، ولهؤلاء ارتباط واضح بأمريكا ومؤسساتها الأمنية والسياسية، والبعض الآخر الوطني الذي له مطالب بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية آثر مسايرة الفريق الأول حتى يسقط النظام مراهنا على دعم أمريكي ولو مرحليا..وكلاهما غرق في ظنون خاطئة بأن سورية مثل ليبيا أو مصر!
فلقد خان الدهاء السوري المعروف عبر الـقرون كلّا من النظام والمعارضة؛ فالنظام غاص في الحل الأمني القاسي منذ بداية الأزمة، وعارض بالتزامن ثورة ليبيا وثورة البحرين، فلا هو كسب حياد ليبيا الجديدة، ولا حصل على موقف أو ثمن كان يرجوه من دول الخليج التي يعكف حاليا على التشنيع عليها، بعد أن أيد تجريفها لدوّار اللؤلؤة.أما المعارضة فقد اعتبرت ليبيا حالة يمكن تكرارها في سورية بذات النتائج، وهذا خطأ يقع فيه كثيرون حتى الآن؛ فالقذافي حالة غرائبية، وفي أواخر سني حكمه السوداء انشغل بالأفرقة والخضرنة، فقد سعى إلى لقب وهمي لإشباع جنون العظمة الذي أصيب به منذ زمن، وقد منحه الأفارقة هذا اللقب طمعا في صنابير أموال ليبيا، هذا إضافة لرغبته بطلاء كل ليبيا بالأخضر ولو بـقي لأمر الرجال والنساء بصبغ شعورهم بهذا اللون...إلا أن الأهم من كل ذلك أن القذافي في السنين الأخيرة ارتمى في حضن الغرب و«شلح» ما كان بحوزته من برنامج نووي ومعلومات قيمة عن العديد من حركات التحرر، كي يضمن البقاء بدعم غربي، وكان له ما أراد، بل تكشفت بعض جوانب علاقته بالمأفون طوني بلير إبان ترؤسه لحكومة بريطانيا، وتوغّل القذافي في مراقبة الشواطئ والحرب على ما يسمى الإرهاب، وانكشفت بعض من أوراق تلك العلاقة التي كان ذراع القذافي الأمني موسى كوسا مهندسها، وتسربت وستتسرب لاحقا معلومات عن ملايين قدمها القذافي إلى ساركوزي وبرلسكوني وغيرهما من زعماء أوروبا التي تتقن هي وأمريكا التكيّف مع ما يستجد بمقتضى المصالح.
كما أن نظام القذافي منذ الأيام الأولى بدأ يتفكك ويتشظّى في مفاصله الرئيسة، بعكس النظام السوري الذي يعمل كورشة متكاملة متماسكة فمثلا بشار الجعفري لم يترك بشار الأسد مثلما فعل عبد الرحمن شلقم مع القذافي، ووليد المعلم وبثينة شعبان كل يكمل دور الآخر، ولم يكن هناك سفراء انشقوا عن النظام في دمشق، مع أن الحديث يدور عن مغريات كبيرة، ولعل هذا يعود إلى طبيعة القذافي ونظامه الذي عمل على إلغاء الجميع وحرص على عدم ظهورهم من أجل ذاته وشخصيته العجيبة وتـقديم نفسه كخبير وحيد أوحد في الدين والسياسة والاقتصاد وفن الطبخ، بعكس النظام السوري الذي سمح بالتميز والعمل والحركة لكل من يكنّ الولاء له، كما أن ليبيا تعوم فوق بحر كبير من الذهب الأسود وهذا ما لا ينطبق على سورية...بعبارات أكثر وضوحا فإن القذافي لم يقدم نفسه-كما فعل سابقا- كبطل قومي عربي، بل ارتمى في حضن الغرب الذي ركب الموجة حينما أيقن أنه «اكسبيرد»!
أما حسني مبارك فقد كان همه إتقان لعق الحذاء الإسرائيلي والسعي لإرضاء أمريكا من بوابة الانحناء للإسرائيليين دون أن يلتفت إلى حنق الجمهور المصري والعربي، وورقة التوت بأنه صاحب الضربة الجوية الأولى سقطت منذ زمن...وأما زين العابدين فستكشف الأيام رتـبته وراتبه في الموساد أو السي آي إيه!
هؤلاء تخلى الغرب عنهم بعدما عجز عن إنقاذهم ولنتذكر كيف أن هيلاري كلينتون وصفت نظام حسني بالمستقر بعيد ثورة تونس، كما أننا يجب أن نضع في الحسبان ما قالته العقرب السامة كونداليزا رايس بأن على الرئيس بشار الأسد أن يختار طريق معمر القذافي أو مصير صدام حسين!
فالنظام السوري استظل بعلاقة مع روسيا حتى في أوج هيمنة أمريكا وجبروتها، وأتـقن اللعب مع أمريكا بانحناءات تكتيكية وصفقات موضعية دون أن «يشلح» ما يملكه من أوراق لا سيما تحالفه وصداقته مع إيران، كما استغل النظام رغبة الصين بلعب دور أكبر في سياسات المنطقة. و النظام مبني بطريقة عقدية حتى لو كان قائما في المجال العسكري والأمني على عناصر وقيادات من طائفة معينة متحالفة مع شبكة مصالح...فالحالة السورية خاصة بامتياز، فأنت أمام نظام لم يكن في جيب الغرب حتى يرميه ويدوسه وقتما اقتضت المصلحة، إلا أن الوضع بات مركبا ومعقدا لأن سورية تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات بين قوى دولية وإقليمية جميعها لها مصالح ولا يستهان بأي منها، هذا مع ما لا يجوز التعامي عنه أو التنكر له من مطالب الحرية والديموقراطية ومحاربة الفساد وهيمنة الحزب الواحد وسيطرة عقلية تجاوزها الزمن على بلد وشعب جذوره ضاربة العمق في الحضارة الإنسانية.
(3) الأصوات القبيحة
لم يصرخ المعارضون في وجه سمير جعجع :اخرس فلست سوى قاتل عميل، تماما مثلما سكتوا عن أصوات أخرى شدّت على أيديهم معروفة الارتباط بالمشاريع الصهيو-أمريكية، فكان من الطبيعي أن نرى هذا الانقسام تجاه الملف السوري، ولا غرابة أن تحدث مشادّات بين مؤيدي ومعارضي النظام في أماكن شتى من بلاد العرب والعجم.
والبعض قال لي:لماذا يؤخذ الأمر بهذه المنهجية وهذا المنطق العدمي؛ أي إما أن نكون مع برهان غليون و بسمة قضماني و سمير جعجع ومن هم على شاكلتهم، أو مع بشار الأسد؟ لماذا لا نكون مع شعب سورية وحقه في الحرية والديموقراطية؟ وعاتـبني أخ سوري من إحدى عائلات حمص العريـقة بأنه من المعيب أن تنظر لدماء السوريين كأرقام في بورصة مضاربات وتصفية حسابات القوى المختلفة...ومع الأسف فإن المعارضة والمخاوف منها وممن يؤازرها ولو بالكلام هي السبب في هذا الوضع، لأنها لم تحسم موقفها تجاه إسرائيل والغرب، وأظهرت استمتاعا مستفزّا بأصوات قبيحة تشيد بها وتـثني عليها، فلا لوم على من يرى أنظمة معروفة ماهية ارتباطاتها ومرجعياتها ويلحظ تزامن الأزمة السورية مع تصعيد ضد إيران كرمال عيون إسرائيل، أن يتخذ موقفا متحفظا أو حذرا أو حتى مضادا لإسقاط النظام السوري!
(4) هيا إلى الجولان!
وحيث أن الحسم يبدو مستحيلا، وإذا كان ممكنا فسيكون لصالح النظام ولكن مع خسائر فادحة لا نرجوها لسورية، ودعكم من أوباما المنشغل بعدّ أيام بقاء الأسد، فربما تـنـقضي أيامه في البيت الأبيض قبل أن يفرغ مما يعده، ودعكم من الحديث عن مبادرات وخطط تحاكي الحالة اليمنية أو غيرها...فحل الأزمة من بوابة الجولان فقط!
فإذا كان المعارضون يغمزون ويلمزون من قناة النظام ويعيبون عليه تهاونه وتـقاعسه في تحرير هذا الجزء من سورية، وإذا كان النظام هو الآخر يواجههم بذات التهم، فيما نزيف الدم مستمر؛ فهناك حلّ ينطبق عليه المثلين الشعبيين «المية تكذب الغطاس...وهاي الحمرا وهاي الميدان!»؛ فليعلن المعارضون عن مبادرة صريحة بأنهم يريدون تحرير الجولان واسترجاعه، وأن سلاحهم وجهدهم سيكون في خدمة هذا الهدف، وأنهم على استعداد فوري لتأجيل وتجميد الشأن الداخلي والتعاون مع النظام ومؤسساته إذا قبل بمبادرتهم، و يفترض أن تحرير الجولان محل إجماع الكل السوري؛ فإذا رفض النظام باستحضار أي مبرر أو ذريعة أو عذر فتكون الحجة قد أقيمت عليه، وإذا وافق فبها نعمت، وإذا امتنع المعارضون عن تـقديم هذه المبادرة -ولو تحت حجة أن حرية الإنسان قبل حرية الأوطان- فلا مصداقية أبدا لما يطرحون عن عمالة النظام.وعليه فلتشكل قيادة مشتركة من النظام والمعارضة تشرع بالمهمة الوطنية الكبرى التي ظلت محل مزايدات ولغط عشرات السنين، ولتعلن التعبئة العامة بالتزامن مع وقف لإطلاق النار بين النظام والمعارضة، وإطلاق سراح المعتقلين، وتوحيد جميع الجهود والطاقات لغاية التحرير.
وأنا أعلم بأن هذا يبدو في نظر البعض خيالا جامحا، إلا أنه ينهي الجدل ويزيل الغبش، ويجعل شرعية الضلوع بمهمة التحرير واسترداد الكرامة التي انتهكتها إسرائيل حاوية أو بوتـقة ترمم ما تضرر من النسيج السوري، وأتذكر في هذا السياق أن قناة الجزيرة استضافت محمود موسى العملة(أبو خالد العملة) في إحدى برامجها في بواكير انتفاضة الأقصى وطرحت عليه عرضا قدمته حركة الإخوان المسلمين السورية بأنها على استعداد-في حال قبل النظام- أن تخوض مقاومة شعبية مسلحة على جبهة الجولان على غرار ما جرى في جنوب لبنان وسيرى النظام النتيجة، وبالطبع استهان العملة بهذا العرض بحجة أن سكان الجولان المحتل 16 ألفا وتحدث عن الصمود والممانعة وبقية الأسطوانة، ولكن السبب الحقيقي أنه في ذلك الوقت لم تكن الحرائق مشتعلة في درعا وحمص وحماة وإدلب وغيرها...والآن أجد إخوان سورية أمام اختبار لمصداقيتهم فليعيدوا تقديم هذا العرض ولا يتحججوا بفوات الأوان، لأن تحالفاتهم مع خدّام ومع غليون أساءت لهم ووضعتهم في موقف محرج قد لا يرونه في ظل صخب الفضائيات!
وإذا سأل سائل:وماذا بعد؟فإننا نفاخر بعين جالوت ونعتز بكل من قطز و بيبرس مع أن الثاني بعيد المعركة قتل الأول، ولكن خطر التتار كان قد أزيل، فبعد التحرير ليكن ما يكون، ومن الترف الفكري الخوض في مثل هذه السيناريوهات.
إن هذا العرض يظهر حقيقة من هو العميل والمتآمر والمتاجر والمزايد ومن هو نـقيضه..أما إذا بقي الحال على ما هو عليه فيا حسرة عليك يا سورية، فستتحول إلى دولة فاشلة غارقة في الدم الذي يتهم كل طرف خصمه بإراقته، ويا حبذا لو أساله «شلومو»، وسيتسارع الانهيار الاقتصادي، والتفكك الاجتماعي، وستزداد المنافسة وتحتدم بين القوى الإقليمية والدولية التي تريد تصفية حساباتها مع بعضها البعض داخل سورية التي ستدفع ثمنا باهظا يتصاغر دونه ثمن التوجه الجماعي إلى الجولان!
اللهم هل بلغت؟....اللهم فاشهد