إلى حد بعيد يشبه الوضع الفلسطيني وضع إبراهيم أبو ثريا ، هذا الرجل الذي حمل علم فلسطين وذهب إلى الحدود ليتلقى رصاصة مقصودة ومتعمدة وبدم بارد من العدو الإسرائيلي الذي لم يرحم عجزه ولم يفكر أنه مسالم لا يحمل سوى علم بلاده في يده .
لم أر في حياتي إصراراً وعناداً مثل هذا الإصرار وهذا العناد الذي يشع من عيني إبراهيم .
ولم أر رجلاً يكافح من أجل البقاء بشتى السبل مثل إبراهيم ، فهو مثل باقي شعبه ينحت في الصخر من أجل الاستمرار والبقاء على قيد الحياة.
في بدء حياته فقد رجليه ، وكانت هذه هي نكبته الأولى تماماً مثل شعبه الذي فقد جزءً كبيراً من فلسطين وتشرد في القفار والصحاري حولها وفي ما بقي منها حيث بنى مخيمات اللجوء منتظراً العون من بني جلدته فساعدته الشعوب واحتضنته ، فنكبته هي نكبتها ، أما الفرج المنتظر من أنظمتها فلم يأت أبداً ، وكيف يأتي وقد كانوا سبب المأساة أساساً !
احتاج إبراهيم وقتاً ليتعافى وتشفى جروحه ويفيق من أثر الصدمة بفقدان رجليه ، واحتاج الشعب الفلسطيني وقتاً ليفيق من أثر الصدمة بفقدان وطنه وليتأقلم على الوضع المفروض عليه.
وإرادة الحياة عند إبراهيم لم تقعده عن العمل ، فالعمل شرف مهما كان العمل وضيعاً ، كذلك إرادة الحياة عند الشعب الفلسطيني فقد تمخضت عن تكوين التنظيمات المسلحة التي رفعت شعار تحرير فلسطين كل فلسطين بالكفاح المسلح ثم إقامة دولة ديمقراطية يعيش فيها أتباع الأديان الثلاثة بدون تحيز وعلى قدم المساواة.
استيقظ الشعب كله ، ضمد جراحه وهب ليحقق هذه الأهداف السامية وقدم قوافل الشهداء بدون بخل ولا تقتير ، إلى أن تولى قيادة المسيرة من لا يتمتع بالذكاء الكافي والتحليل الصحيح ودراسة العدو دراسة جيدة لكي يدرك أنه لا بد من الاستمرار في القتال حتى النهاية لتحقيق الهدف السامي وله في تجارب الشعوب العبر الكافية والدروس .
وهنا اختلفت مسيرة إبراهيم عن مسيرة شعبه ، فإبراهيم لم يخن القضية ، ولكن قادة الشعب فعلوا وقدموا التنازلات تلو التنازلات وكلما تنازلوا طلب عدوهم منهم المزيد.
والمقابل كان حكماً هزيلاً على السكان بينما الأرض تسرق بشكل منظم، وهم يعرفون أنهم يقدمون للعدو احتلالاً مريحاً لا يكلفه شيئاً. وازدادت ورطتهم وباعوا شعبهم بحجة محاربة الإرهاب ، وتجسسوا عليه وقالوا إن هذا تنسيق أمني.
ولأكثر من عشرين عاماً جروا على شعبهم الويلات والهزيمة تلو الهزيمة ، وكان الشعب يقدم الدم على مذبح القضية ، ولم يبخل بأرواح شباب في عمر الزهور في انتفاضتين عظيمتين ولكنهم احتالوا على شعبهم ، ليس ذلك فحسب بل إنهم سحبوا كافة الأسلحة فلم يجد سوى السكاكين يدافع بها عن نفسه .
هل فوجئوا بقرار الولايات المتحدة اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل ؟ أليس من المفترض وهم القيادة أن يعرفوا أنها لم تكن وسيطاً نزيها منذ تأسيس إسرائيل ؟
هل يفيد اعترافهم بأن الولايات المتحدة خدعتهم؟ هل يفيد التهديد بانضمام السلطة الفلسطينية إلى 22 منظمة دولية بل إلى ألف منظمة دولية ؟ وإذا انضموا إلى هذه المنظمات الدولية فهل ستتحرر فلسطين !!؟
أليس من المفترض بمن فشل وخاب رهانه أن يقدم استقالته فيرتاح ويريحنا معه؟ أهم أفضل من مسعود البرازاني الذي اعترف بفشله فانسحب من الحياة السياسية غير مأسوف عليه؟ لماذا سيظل الشعب الفلسطيني يدق الماء في الهاون على أيدي هؤلاء الفاشلين؟ الا يستحق قيادة أفضل توظف هذه التضحيات الجسيمة ليحصد مقابلاً لها؟
لم يكن ما قام به إبراهيم وهو يواجه العدو بصدر عار انتحاراً ! لقد أراد أن يوصل رسالة لشعبه أن دماءه ستظل شعلة لمن يليه وأن الحياة رخيصة من أجل فلسطين ، وهنا ستختلف مسيرة الشعب عن مسيرة إبراهيم .
لن يتم خداع هذا الشعب مرة أخرى وليس هناك سوى طريق المقاومة والنضال.
نم هانئاً يا إبراهيم ، يوماً ما سيوضع تمثال لشاب مقعد يحمل علماً في أكبر ساحة من ساحات حيفا أو يافا ، وهذا اليوم لن يكون بعيداً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق