يتصدر اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل مجمل المقالات والتحليلات في العالم العربي . ولوم ترامب على ما فعل كأن يضع الإنسان رأسه في الرمل كالنعامة هرباً من الحقيقة. ولا شك أن تعامل ترامب مع تهديد جدي من كوريا الشمالية يعطي المثل في كيفية التعامل مع الأقوياء وكيفية التعامل مع الضعفاء ، فهو يستعين بالروس والصينيين للتوسط مع الكوريين بينما يعامل الأنظمة العربية كالعبيد والأجراء لديه. فهل نلوم ترامب أم نلوم أنفسنا؟
لم تكن المعادلة بهذا الوضوح مثلما هي الآن ، أنظمة الحكم العربية المتحالفة مع إسرائيل علناً مقابل الجماهير العربية تتقدمها المقاومتان اللبنانية والفلسطينية.
فلمدة طويلة استطاعت هذه الأنظمة وبمكر ودهاء لا مثيل لهما خداع الجماهير العربية بالقول إنها تقف في صفها وأن هدفها تحرير فلسطين أو على الأقل إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية يرجع الحقوق الى أصحابها.
والمواطن العربي صابر يعيش على هذا الأمل ، ففي قرارة نفسه ثقة أننا أمة كثيرة العدد وأننا نستطيع توفير ما يلزم من الجند ونحن نمتلك الذكاء اللازم لمواجهة تحديات العصر ونرى بأم أعيننا نجاح وتفوق أفرادنا عندما يهاجرون وتتاح لهم الفرصة لإثبات تفوق العقل العربي ثم إن الله تعالى قد حبانا ثروة طائلة من الطاقة يحتاجها العالم ولا يسير إلا بواسطتها.
وللمواطن العربي الحق في أن يرتاح وينام مطمئناً فهذه المقومات لا تتوافر للشعوب الأخرى، ولسان حاله يقول ما هي إلا بعض العثرات التي يجب التغلب عليها وأهمها اتفاق الرؤساء بعضهم مع بعض .
عند كل قمة عربية كان هذا المواطن يحدوه أمل كبير في اتفاق زعمائه متمنياً وحدتهم وعملهم معاً لحل المشاكل العربية ، وفي اعتقاده أن كل هذه المشاكل ثانوية وأن عليهم التفرغ والعمل بجد لحل القضايا الأساسية . أما شيوخ المساجد من المحيط الى الخليج فكانت دعواتهم صادقة أن يهدي الله زعماءنا لما فيه خير أمتنا. وعند كل قمة عربية كان الأمل يتبخر شيئاً فشيئاً حتى وصل الى الصفر بعد اكتشاف المواطن أن العمل العربي المشترك مزحة كبيرة.
ولتسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة ولتوخي الدقة فيمكننا أن نطلق على الجامعة العربية اسم جامعة الرؤساء العرب ، أما مجلس التعاون الخليجي فهو مجلس تعاون أمراء الخليج، وهكذا باقي أشكال العمل العربي المشترك . وبهذا نضع الأمور في نصابها وتاريخ الجامعة يشهد بذلك، فقد طردت دولة بأكملها مثل مصر لأن رئيسها في ذلك الوقت غنّى على هواه دون استشارة أقرانه أو شعبه، ثم تم إرجاعها لأن رؤساء الجامعة رضوا عن رئيسها الجديد رغم أنه لم يغير الخط أو السياسة التي اتبعها سلفه!
ثم طردت دولة سوريا لأن الملك السعودي يكره الرئيس السوري ويستطيع توظيف باقي الرؤساء لطرده من النادي. ( يبدو الأمر كذلك ولكن المسألة تتعدى ذلك فهناك مخطط كبير تقوم البيادق العربية بتنفيذه) .
إذاً فطرد دول بأكملها من الجامعة مسألة في منتهى السهولة مثلها مثل تغيير الدساتير ، إن وجدت، بجرة قلم لتلائم رغبة الرؤساء، أما القضايا الجانبية مثل فتح الحدود بين دولتي الجزائر والمغرب والمغلقة لمدة تزيد على ربع قرن فهي مسألة معقدة ، مثلها مثل رؤية السودان ينقسم الى دولتين ، فالرؤساء لا يمتلكون الاهتمام أو القدرة بل كان بعضهم يغذي هذه الصراعات المدمرة . ولهذا فمن حق المواطن العربي أن يفقد الأمل ، فطيلة هذا التاريخ لم يكن هناك سوى بيانات التأييد أو الشجب والاستنكار أما العمل فلا غالب الا الله.
في المؤتمر قبل الأخير لوزراء خارجية جامعة الرؤساء العرب ، أصدر المجتمعون قراراً يصم حزب الله بالإرهاب. وبهذا القرار انضم الرؤساء العرب رسمياً الى إسرائيل وأصبحوا في جبهة واحدة ضد حزب الله . وهي بلا شك جبهة عريضة على رأسها أمريكا وفي ذيلها داعش وأخواتها صنائع المخابرات الغربية والموساد.
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لرؤساء الجامعة هي انهيار داعش في سوريا والعراق بعد أن كان المخططون يمنون النفس ببقائها فترة طويلة تعيث في الأرض فساداً لتظل شعوبهم المغلوبة على أمرها مطية سهلة لا ترفع رأسها. ولكن لعب حزب الله دوراً محورياً في قلب المعادلة وإفساد مخطط تقسيم هاتين الدولتين الى دول صغيرة متناحرة تلجأ الى الشقيقة الكبرى إسرائيل.
لمحة تاريخية مختصرة:
في سوريا كان الجيش السوري على وشك الانهيار بعد انشقاق عدد كبير من الضباط والجنود في كافة قطاعات الجيش ، وقد تبين فيما بعد وجود تسعيرة وضعها النظام السعودي لكل انشقاق حسب أهمية المنشق وتأثيره. وعندما يفقد الجيش ضباطه فإنه يحتاج وقتاً طويلاً ليستطيع امتلاك القدرة على الحركة ثانية ، وفي هذا الوضع الحرج استطاعت القوات المعادية للنظام السيطرة على سوريا ما عدا بعض البؤر الصغيرة وهي بعض المدن والعاصمة، ومن هنا بدأت مقولة يتم ترديدها حتى هذه اللحظة ، أن أيام الأسد أصبحت معدودة، كادت هذه المقولة أن تتحقق لولا التدخل المباشر والقوي لحزب الله الذي حقق انتصارات صغيرة في جبهات كثيرة كانت مفتوحة في مختلف أنحاء سوريا كان من أهمها معركة القصير، فاستطاع الجيش التقاط أنفاسه وبناء نفسه من جديد ، وأدرك الروس أن الكفة ستميل لصالح النظام فتدخلت قواتهم ، هذا التدخل الذي قصر عمر الصراع بشكل دراماتيكي.
في العراق شهدنا انهيار الجيش العراقي بعد احتلال داعش للموصل ، خمسون الفاً فروا تاركين أسلحتهم وعتادهم ولم يستطيعوا الصمود أمام عدد من جنود داعش لا يتعدى ألفين أو على أقصى تقدير ثلاثة آلاف. وكانت بداية انقسام العراق فعلياً الى ثلاث دول على أساس عرقي طائفي. وهنا تدخل حزب الله في تشكيل ودعم المنظمات الشعبية المقاتلة التي لعبت دوراً هاماً في دحر داعش وإنهاء مخططات التقسيم.
والتحليل المنطقي يقودنا الى أن حزب الله هو الذي حقق الانتصارات المتتالية في سوريا ، ولكن لم يشهد التاريخ نكراناً للذات مثلما نجد في حزب الله ، فهو يعلن عن ضحاياه وتسجل الانتصارات باسم الجيش السوري ثم حلفاءه. ومن المؤكد أننا سنقرأ مستقبلاً مذكرات هؤلاء الذين يعاصرون أحداث هذه المرحلة وما حدث على الأرض فعلاً، ما يؤكد هذه النقطة.
ما يحدث الآن ضخم بكل المقاييس ، فنحن نشهد بوادر انهيار مشروع الشرق الأوسط الكبير ، لقد نجحت المنطقة في وقف الانحدار نحو الأسوأ ، وليس أمامها سوى التقدم الى الأمام ، ولا شك في أن الخسائر كبيرة ولكن لا بد من تسجيل بعض الأرباح التي تحققت ومن بينها فضح الأنظمة الحاكمة أمام الجماهير العربية وفضح تحالفاتها السرية مع أعداء الأمة وكذلك سقوط التقسيم الطائفي في المنطقة بعد أن كاد ينجح ، بخاصة عند بدء تدخل حزب الله في سوريا وتصوير الأمر على أن الشيعة يقتلون السنة.
ولا شك أن غباء اللاعبين على الأرض قد ساهم مساهمة فعالة في تغيير المزاج العربي العام، فقد عملوا على شيطنة حزب الله والمقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس ، وهكذا يتبين للجماهير كل يوم أن خلق أعداء وهميين إنما يهدف الى حرف الأنظار عن العدو الرئيسي المتمثل في إسرائيل.
هل يمكن لأحد أن يقف مكتوف اليدين أو أن ينادي بسياسة النأي بالنفس أو أن يقول (إحنا ما لناش دعوة) أمام مشروع ضخم كهذا ؟ للأسف نعم ، فبعض الساسة الذين لا يرون أبعد من أنوفهم يرددون هذه الأقوال كالببغاوات، ولا يضعون في حسبانهم الحكمة التي تقول ( أكلت يوم أكل الثور الأبيض) ، ولكن بعضهم يمتاز بخبث شديد ويريد لحلفائه أن يلعبوا كما يشاؤون وعلى المقاومة أن تقف مكتوفة الأيدي تتفرج على السكاكين تنهش جسم الأمة.
رغم هذا الجو المظلم لا بد لنا أن نتفاءل ، فالعدو وحلفاؤه يخسرون بالنقاط كل يوم :
ترى إسرائيل الحبل يضيق على رقبتها وتحاول جاهدة فكه ببعض الضربات الاستباقية مستعملة سلاحها الجوي فقط، فقد فقدت زمام المبادرة منذ زمن طويل، وسبب ذلك لا يعود الى عدد صواريخ حزب الله وتمكنه من التكنولوجيا العسكرية الحديثة رغم أهمية ذلك ، ولكن الفضل كله يعود الى جندي حزب الله ، فعندما ينادي (لبيك يا نصر الله) فهو يعني ما يقول. وسيظل الجندي البسيط هو مفتاح النصر أو الهزيمة في التاريخ (حتى إشعار آخر وهو دخول الروبوتات في المعارك).
فيما يلي استعراض لثلاثة أنواع من الجنود العرب:
ا. الجندي النظامي وهو الموجود في كافة الجيوش العربية بلا استثناء ، ويمكننا إطلاق مصطلح الجندي الرقم ، وهو تعبير عن الحالة العامة لدولنا العربية التي تعاني من التجهيل والعجز.
2. الجندي العقائدي الباني وهو جندي المقاومة في لبنان وفلسطين. حيث نجحت المقاومتان بإمكانات متواضعة في وقف العدو عن التمدد .
ما هو شعور الجندي البسيط عندما يقول له سيد المقاومة ( أقبل أيديكم وأرجلكم)؟
ما هو شعوره وهو يرى من استشهد قبله وقد تم تمجيده ؟
ما هو شعوره وهو يرى عائلة من استشهد قبله وهي مصانة معززة مكرمة ؟
هذه منظومة متكاملة تبني الفرد وهو مقتنع تمام الاقتناع أنه يحارب من أجل مثل عليا .
3. الجندي الظلامي ، وقد فكرت كثيراً في هذه التسمية إن كانت تنطبق على هؤلاء البسطاء المغرر بهم الذين يقتلون أنفسهم بحزام ناسف أو بقيادة سيارة مفخخة وذلك بهدف الذهاب الى الجنة والاستمتاع بسبعين حورية، فالمسألة بالنسبة لهذا الجندي هي مصلحة شخصية قد يحصل عليها في الحياة الآخرة ، أما الحياة الدنيا فقد يأس منها وهو الفقير الذي لم تنصفه.
في التاريخ الإسلامي كان الحشاشون أصدق مثال لهؤلاء الجنود الذين يخدمون مصلحة من يشغلهم . وعادةً كان الفشل نتيجة طبيعية فلم يتحقق أي هدف لهم وذهبت تضحياتهم هباءً . ونرى الأمر يتكرر مع حشاشي الحاضر. فهناك فرق كبير بين استغلال الفرد وبين بنائه ، بين أن يكون رقماً أو أن يكون كياناً ، بين أن يعمل من أجل حياته وبين أن يعمل من أجل موته.
مما سبق فإن الجندي العقائدي هو الذي يستطيع الانتصار وتغيير الواقع، وهذا ما حدث عبر التاريخ.
يدرك الرؤساء العرب هذه المعادلة ويشعرون بفشلهم في كل خطوة ، وإذا كانوا لا يعلمون أنهم فاشلون فالمصيبة أعظم، ويريدون جر من بقي في هذه الأمة إلى مربع الفشل. هذا إذا أحسنا الظن بهم. ولكنهم في اعتقادهم أنهم يستمدون قوتهم من أمريكا وأن استسلامهم الكامل هو أفضل وسيلة لبقائهم في كراسيهم.
هل وصلت الجماهير إلى أن سبب مصائبها كلها هي هذه الأنظمة البالية ؟ هل وصلت الجماهير إلى حقيقة أن فاقد الشيء لا يعطيه؟ هل وصلت الجماهير إلى أن اعتمادها يجب أن يكون على النفس وأن عليها أن تشمر عن سواعدها وتغير واقعها التعس؟
هناك علامات فارقة في تاريخ الشعوب ، وكان اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل هو إحدى هذه العلامات ، وستشهد المنطقة تغييراً جذرياً في مستقبلها وقد يكون هذا التغيير صغيراً في البداية ولكنه سيتسارع لاحقاً وذلك مثل إستفاقة الإنسان من إغماءة بعد ضربة في الرأس، وإغماءة المنطقة طالت كثيراً ، ولكن الفجر قادم لا محالة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق