أكثر من أي وقت مضى يشعر المراقب بالشرخ الرأسي العميق بين الجماهير وأنظمة حكمها في كل أقطار الوطن العربي.
الجماهير طامحة الى التقدم والديمقراطية والوحدة والحماية والعزة، وهي مطالب مشروعة لكل الشعوب والأنظمة عاجزة عن تمثيل شعوبها وتحقيق رغباتها.
يمكن تشبيه الحالة بميزان متعدد الكفات ، النظام في كفة ويعادل وزن الجماهير في الكفات الأخرى (بما يمتلك من أدوات القمع والإرهاب).
وطالما بقيت الجماهير مقسّمة فلن يتم أي تغيير في الوضع فالنظام يوازن كل كفة على حدة ويتغلب عليها.
ولكن كيف تتوحد كفات الميزان المقسمة فتتغلب على وزن كفة النظام ؟
ما يوحدها هم المثقفون الذين يستطيعون دمج المجموعات المختلفة في كتلة واحدة قادرة على فرض التغيير.
يتحول المثقفون قاطرة يحركون القطار وينقلونه من السكة التي يمشي عليها الآن الى الخلف، الى سكة جديدة يسير عليها الى الامام، يحققون تطلعات شعبهم بتجميعهم عوامل التغيير اللازمة للقيام بالمهمة عندما تحين اللحظة التاريخية المناسبة.
هذه اللحظة التي لم تحن بعد تجعل بعض المثقفين يستغربون كيف تسكت الشعوب على أوضاعها المتردية .
وكما نلاحظ في كتابات البعض فان قصار النفَس هؤلاء تيأس من شعوبها وتبدأ لومها فينعكس الأمر على الشعوب فتيأس من تغيير واقعها، (وكم من مرة ترددت كلمات مثل العرب والعربان وما فيش فايدة، الخ)
الورّاق كلمة كانت تستعمل قديماً وهي في اللغة: الذي يجمع الأوراق ويرتبها ليكتب عليها، مهنة انتهت منذ زمن بعيد ولكن يمكن إحياءها واستعمال الكلمة لتسمية أناس لهم علاقة بالورق والكتابة. اذ لا بد من التمييز بين من يضع أفكاراً تفيد الناس وهو الكاتب وبين من يعبئ كلاماً على الورق ليفيد نفسه ولا أجد أفضل من كلمة ورّاق.
هناك ورّاق يعبئ الصفحات في مدح السلطان، صفحات تباع بالوزن لولي الأمر، يقبض عليها مالاً ومنصباً ونفوذاً، وهذا أخطر أنواع الورّاقين فهو يستطيع خداع بعض البسطاء بتزييف الواقع وتجميله وتخدير الجماهير.
ورّاق آخر يسب شعبه وجماهير أمته لأنها متخلفة ولا يحلل سبب التخلف والمسببين له فيتهرب
من انتماءه لشعبه ويرتمي في أحضان اخرين.
هو من يتبنى نظريات مستوردة لا علاقة لها بمشاكل شعبه ويحاول ان يطبقها عليه وان لم تنجح فالشعب فاشل وليس النظرية فيتحول الى متشائم يبث روح اليأس في الناس بدلاً من رفع معنوياتهم.
الا يعلم ان التفاؤل يقوي إرادة التغيير.
هو الذي لا يتشبع بروح الشرق فيبث روح الحقد والعنصرية والانقسام والطائفية والتعصب الديني الاعمى.
شرقنا يمتلأ بالمحبة والتسامح والاغلبية تعتني بالأقليات وتحميها لأنها في حماية الله ورسوله ومن يغذي روح العداء والكراهية اما جاهل او عميل.
هناك ورّاق قرأ بعض الكتب والمقالات فظن انه أصبح مثقفاً يستطيع ان يفرض آراءه على القرّاء. الا يعلم ان الكلمة أمانة ومسؤولية ثقيلة.
هو من يكتب مقالة مليئة بالأغلاط التاريخية تؤدي به الى استنتاجات خاطئة، ينبهه قرّاءه الاذكياء لها فلا يعيرهم الاهتمام ولا يرجع عن خطأه ولا يتفاعل معهم. يسمي نفسه أكاديمياً لكنه لا يقدم للناس دراسة علمية بل أهواءً تناسب مزاجه. وبعمله هذا يفرق الناس بدلاً من تجميعهم. الا يعلم أن عليه البحث وتوصيل الوقائع كما هي.
هو من يستعمل الفاظاً نابية قاصداً استعمالها ويحشرها حشراً في كتاباته. في أعماقه يريد كسر المألوف ويريد لفت الانتباه اليه فهل فكر وهو يكتب في أمه، أخته، زوجته او ابنته يقرأن كلامه ماذا يكون رأيهن فيه؟ هل يفكر أنه يكتب في صحف او مواقع سرية لا يصلن اليها ام أنه تركهن أميات حتى يرتاح ويكتب ما تمليه عليه أهواءه المريضة. لماذا ينسى ان الهدف من الكتابة هي الإرتقاء بالذوق العام؟
القائمة تطول ولكن هناك الكثير يمكن ان نطلق عليهم هذه التسمية، ففي عصور الانحطاط، كالعصر الذي نعيشه يكثر هؤلاء المدّعين ويساهمون في جمود الوضع ثم يشكون ويسبون ويلعنون.
لكن الورّاقين يجهلون انهم السبب في استمرار تخلف الامة (ان كنت لا تدري) فالفقراء يزدادون فقراً وجهلاً والحكام يزدادون قسوة وتوحشاً وبدلاً من استغلال نعمة انهم يعرفون تجدهم يسكتون او يقفون على الحياد او يقبلون الرشوة الصغيرة من السلطان.
امثلة على الفروق بين كاتب وورّاق:
ينظر الاثنان الى منظر الأشجار في الخريف قبل تساقط الأوراق.
يقول الورّاق واصفاً المنظر:
ما أحلى الطبيعة في الخريف تزدان الأشجار بألوان جميلة في غاية الروعة فتجد الأحمر والبرتقالي والأصفر والرمادي والأخضر كلها تشكل لوحة ابدعها الخالق....
أما الكاتب فيقول واصفاً نفس المنظر:
ترتدي الطبيعة حلة رائعة في إبداع صاخب بكافة ألوان الطيف. وكأنها تحتفل احتفالاً مهيباً بالموت القادم اليها، هذه الطبيعة ذكية تعرف في عمق كينونتها انها ستولد من جديد بعد ستة اشهر ولهذا تعطي أجمل ما عندها لحفلة الوداع.
فكر الكاتب بالمنظر وتعمّق فيه، ربطه بالحياة والموت، بينما لم يبتعد الوراق عن السطح كثيراً فوصف المنظر إنشائياً.
القارئ هنا أمام وصفين:
منظر، لا يترك أي انطباع وسيتردد في تضييع وقته مرة ثانية مع الوراق،
وفلسفة المنظر، الذي قدمه الكاتب وخلق الدهشة عنده.
عطاء الكاتب وهو التفكير العميق انعكس على القارئ الذي احترم الكاتب وقدره، أي ان عمق التفكير أفاد القارئ الذي لن يتردد في قراءة مقال او اقتناء كتاب له.
هل يمكن للورّاق ان يصبح كاتباً:
يحتاج الأمر الى تثقيف وتفكير عميق وقدرة على التخيل، فهل يمكن للورّاق ان يتخيل مثلاً انه شجرة تمر عليها الأيام والسنين ويتكرر سقوط أوراقها وتتجدد في دورة لا تنتهي، ويبدأ التفكير كشجرة ويستنبط أفكاراً عن الحياة والموت والتجدد.
ولكن من يهتم بالطبيعة وجمالها في هذه الأيام العصيبة، الورّاق عنده مهام أخرى وعليه ان يبدأ بترتيب اولياته.
يستطيع الورّاق مثلاً ان يتخيل نفسه النظام السعودي او المصري او العربي بشكل عام ويتأمل كيف يفكرون ويفكر مثلهم ويكشف لنا ضحالة تفكيرهم وسذاجتهم ومحاولات إخفاء سرقاتهم وتبعيتهم للأجنبي.
يمكنه ان يتقمص شخصية الشعب بكل فئاته ويفكر مثلهم وينظر الى تطلعاتهم ويقلق على مستقبلهم.
يعتبر نفسه فلاحاً ينهض مع آذان الفجر ليتعامل مع الأرض بأدوات بدائية وقد اقترض ثمن السماد والعلف والبذور ومستقبله وأولاده معلق بالحصول على الماء ثم ببيع المحصول .
المسألة هنا ان لا يفكر بمستقبله الشخصي بل ان يشعر ان مستقبل الآخرين مهدد!
يعتبر نفسه عاملاً ينهض أيضاً مع آذان الفجر ليقف في الميدان ينتظر احد المشغّلين يلتقطه ذلك اليوم ليستطيع تحصيل لقمة اليوم له ولأطفاله، واذا كان مريضاً فقل السلام على طعام اليوم.
المسألة هنا ليست ان يجوع ولكن ان يشعر بجوع الآخرين!
يمكنه ان يكون سائق تاكسي، معلماً او موظفاً بسيطاً ، هؤلاء الذين لا يدافع عنهم احد ولا وجود لدولة توفر العناية والتأمين الصحي والعمل ومتطلبات الحياة الشريفة والتعليم للأبناء.
المسألة هنا ان لا يعاني بل ان يشعر بمعاناة الآخرين!
يعتبر نفسه عاطلاً عن العمل حفيت رجلاه وهو يبحث عن عمل شريف فلا يجد، ولا وجود لدولة تعطيه الحد الأدنى من متطلبات الحياة حتى لا تهان كرامته.
المسألة هنا ان لا يتعذب بل ان يشعر بعذابات الآخرين!
يعتبر نفسه الشعب كله وهو يشعر بالمرارة يرى كرامته تداس كل يوم واذا عبر باحتجاج بسيط فان شرطياً يتكفل بإكمال المهمة.
المسألة هنا ان لا يهان جسدياً ولكن ان يشعر بمهانة الآخرين!
من للناس يدافع عنهم ان بقي هو في برجه يفكر في الطبيعة الغناء ويقدح زناد فكره كيف يكتب جملة فيها حكمة او فلسفة وهناك مهام عاجلة تتطلب اهتمامه.
ان الشعور بأن المسألة تحولت الى مسألة مصيرية وان التغيير حتمي لا يأتي لكل المثقفين دفعة واحدة بل يتطور تدريجياً مع الوقت وحسب رهافة الشعور عند كل فرد منهم.
والسؤال المطروح الآن من يقرع الجرس من المثقفين ، التفكير في برنامج عمل وهيكل ما لتنفيذه والنضال من اجل تحقيقه، فالتغيير الحقيقي قادم، فهذه الامة كما عودتنا تنهض دائماً من كبواتها.
السؤال المطروح على كل فرد منا كيف نكون ترساً في عجلة كبيرة تدفع مشروع الأمة الى الأمام.
ولا يتحقق هذا الا اذا نظرنا في داخل انفسنا وتعرفنا على انفسنا من جديد. وهذه من اصعب المهام وأقساها. ولكن لا بأس من المحاولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق