في تصريحه الأخير قال محمود عباس إنه لا يريد أن تفرض عليه معركة لا يختار زمانها ومكانها ، وفي العادة فإن رئيس الدولة التي لها أعداء يتربصون بها يحاول قدر الإمكان أن لا يفرض عدوه الزمان والمكان لجره الى معركة غير متكافئة ، فيلجأ هذا الرئيس الى أساليب المراوغة والخداع حتى يطيل فترة الهدوء قبل الصدام.
ولكن عباس كان يقصد بذلك شعبه الفلسطيني الذي يقوم شبابه من الجنسين بعمليات مقاومة الإحتلال البسيطة المتمثلة في الطعن والدهس وغير ذلك. فهل يعتبر السيد محمود عباس شعبه الفلسطيني عدواً له ؟
فليست هذه هي الانتفاضة الأولى التي يقوم بها الفلسطينيون من أجل الدفاع عن ما تبقى من الحقوق التي تستلب منهم قطرة قطرة ولا يجدون سبيلاً لصد العدو سوى الصدور العارية.
من يسمع تصريح عباس يظن أن تاريخ الرجل حافل بالمعارك التي اختار زمانها ومكانها المناسب فانتصر فيها ، ولكن باستعراض تاريخه نجد أنه منذ نعومة أظفاره وبينما كان رفاقه في حركة فتح يحاربون ويقتلون ويغتالون ، كان هو وبدون معرفتهم، يبحث عن مدخل للتفاوض مع العدو الى أن توصل معهم الى اتفاق أوسلو المشين. وعلى غرار معلمه السادات فإنه لا يهتم بالتفاصيل التي يكمن فيها الشيطان ويعطي الإسرائيلين الأفضلية والتفوق.
وربما كانت المعركة الوحيدة التي انتصر فيها هي معركة فرضه على ياسر عرفات كرئيس للوزراء ، مستعيناً في ذلك بالدبابات الإسرائيلية التي حاصرت مقر عرفات حتى غرفة النوم وأجبرته على القبول بالإملاءات الإسرائيلية.
لا أحد يعرف بالضبط ما الذي فكر فيه ياسر عرفات في ذلك الوقت وهو يرى رأسه بين فكي الأسد، حيث لا تنفع استراتيجية اللعب على الحبال التي برع فيها ولا التكتيكات بدون هدف ولا طائل منها.
فيما بعد اغتيل عرفات ليتاح المجال لعباس رئاسة السلطة الفلسطينية. وفي عهد رئاسته الميمونة لسلطته على السكان كافأ أصدقاءه الإسرائيلين بسخاء منقطع النظير فالتهموا أراضي الضفة ومياهها فزاد عدد المستوطنين فيها عدة أضعاف.
صرح عباس أيضاً أنه يؤمن بالمقاومة السلمية، وهذا تصريح غريب وساذج فعلاً ، ولكنه يعكس جمود التفكير الناتج عن عدم التطور بحكم العمر المتقدم الذي وصل إليه، فما زال يعيش في العصر الرومانسي للتصدي لجيش احتلال، ولم يعِ ويتوصل الى أن الأوضاع على الأرض قد تغيرت كثيراً ، فالمستوطنون أصبحوا شركاء في الأرض ووصل توحشهم الى حرق الأطفال أحياءً ، فهم يعتقدون أن الفلسطينيين ليسوا بشراً يستحقون الحياة. وهم مسلحون بكل أنواع الأسلحة الفتاكة ويحميهم الجيش ويقدم لهم الدعم والمعونة بشكل دائم.
توصل الفلسطيني البسيط الى هذا التحليل للأوضاع على الأرض ، فلم يجد سوى السكين والسيارة وحياته ليقاوم ما يفرض عليه بعد أن حرمه عباس وزبانيته من أبسط مقومات الدفاع عن النفس.
في نظر العالم هذه الأيام أن ما يجري هو عنف داخلي بسيط مثله مثل جرائم السرقة والقتل ولا يستحق الإنتباه. وفي هذا نجح عباس في تحويل الصراع من قضية شعب وحقوق الى قضية عنف أفراد لا يهتم بها أحد.
وفي نفس السياق قال عباس إنه ما زال يؤمن بحل الدولتين ، وهو لن يعترف أبداً أن حلاً كهذا قد تجاوزه الزمن منذ وقت طويل، فقد بنى حياته على وهم ولن يستطيع التراجع والاعتراف بعقم تفكيره ، ولن يقر أبداً بأن حل الدولتين هذا – على علاته - يحتاج الى فرض على إسرائيل أولاً قبل المجتمع الدولي. والفرض هو عكس الاستسلام. وفي استعراض بسيط لتاريخ المنطقة فإن إسرائيل لم تنسحب من أرض عربية بسلام وبتوقيع معاهدة إلا من شبه جزيرة سيناء وكانت عينها على تحييد دور مصر وإخراجها من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي ، وقد نجحت ، فكان انسحابها ثمناً رخيصاً لما حصلت عليه في المقابل من تحييد أقوى قوة عربية عن الصراع .
فماذا يمكن لعباس أن يعطيه مقابل انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية ؟ والحقيقة المريرة لا شيء . فهو أعطاهم مسبقاً ومجاناً الهدوء والسلام الذي يريدونه ، بل ويستمر في اعتقال المقاومين ، ومن لم يستطع اعتقاله منهم يقدمه على طبق للأمن الإسرائيلي ليزج به في سجونه.
والعقل الإسرائيلي عقل براغماتي، فليس في السياسة أعطيات مجانية مهما علا صراخك.
هناك ملاحظة في غاية الأهمية تتعلق بالانتفاضة الأخيرة وهو أنه وللمرة الاولى منذ تولي عباس السلطة لم يقم أي مسؤول إسرائيلي بتوجيه اللوم للسلطة أنها مسؤولة عن أحداث العنف الجارية كما جرت العادة كل مرة !
لقد أتقن عباس دوره في قمع شعبه وقام بدوره على أكمل وجه ( انظر تصريح مدير مخابراته للصحيفة الأمريكيةDefense News ، حيث قامت أجهزة السلطة بإبطال 200 عملية مقاومة واعتقال 100 فلسطيني) .
قبل النكبة أخطأ الفلسطينيون واعتبروا الصهاينة عدواً وحيداً لهم ونسوا جيش الإحتلال البريطاني. واليوم يعيدون الكرة فيعتبرون إسرائيل عدوهم وينسون السلطة الفلسطينية ورئيسها، وقد يدفعون ثمناً أكبر في النهاية لو لم يصلوا لهذه الحقيقة المؤلمة.