لا تدري أيهما أكثر غباءً وتعاسة: الذين يظنون أن بإمكانهم تزييف تاريخ ثورة 25 يناير بفعل الكذب القارح وشهود الزور والروايات المطبوخة على هوى الأجهزة السيادية، أم الذين يتوهمون أن ثورة يناير لا يمكن أن يحميها، ويُخلِّد شهداءها، ويرضي ثوارها، إلا تحقيق مطالبها في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
الثورات لا يحميها القتلة. لذلك، على الذين يتخيلون أن ثورة يناير ستكون سعيدة بكلمتي "حِنيّة" أو وصلة طبطبة من عبد الفتاح السيسي، أن يتذكروا أن ثورة يناير قامت ضد حسني مبارك، لأنه كان مسؤولاً سياسياً عن قتل خالد سعيد والسيد بلال، ومئات غيرهم من ضحايا التعذيب في الأقسام والمعتقلات، وآلاف غيرهم من ضحايا الكوارث، الناتجة من الفساد والمحسوبية والإهمال. فلماذا يتخيلون، إذن، أنه من الممكن أن يفلت عبد الفتاح السيسي، إلى الأبد، من مسؤوليته السياسية عمّا جرى في ظل حكمه المستتر، ثم المباشر، من قتل وقمع وانتهاكات تفوّق فيها على سجل مبارك الحافل والمتخم؟ وما الفرق بين هؤلاء ومن يريدون لنا أن ننسى المسؤولية السياسية لسيئ الذكر، محمد مرسي، عما جرى في سنة حكمه من قتل لمئات المواطنين، لهم أيضاً أحباب وأهل محزونون، وراغبون في العدل؟ وإذا كان هؤلاء لم يفهموا بعد أن مصر لن ينقذها سوى إيمان الجميع بحتمية (عدالة انتقالية) تتخذ من الحقيقة وحدها طريقاً نحو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فهل يتصورن أن العدالة الانتقائية التي حوّلت القضاء المصري إلى أضحوكة سمجة، ستنفع البلاد ببصلة، وهل يصدقون أن مراهم الحِنيّة والكلام المعسول ستداوي الجراح التي تزيدها دولة السيسي عفناً وألماً كل يوم؟
لقد بدت الأمور واضحة، منذ لحظة خطاب التفويض اللعينة، أننا مبتلون بشخص قرر أن يحقق طموحه الشخصي بحكم البلاد، حتى لو ذهب بها إلى الجحيم، فأخلف تعهداته التي قطعها على نفسه علناً، وقرر اختطاف مطالب الملايين بانتخابات رئاسية مبكرة، ليستغل خطايا وجرائم جماعة الإخوان، في رسم صورة المخلص الشعبي، فقط لكي يحقق "حلم الأوميجا" القديم، فكيف تصدقونه، الآن، عندما يمتدح ثورة يناير التي عمل جاهداً من أجل تشويهها، منذ أدرك أنه لن يستطيع استيعاب جيلها الذي لن يقبل بأن تظل مصر تحت حكم العسكر إلى الأبد؟ وكيف لا زال البعض يحتاج إلى دليل على عمل السيسي الدؤوب لتشويه يناير، بعد أن ظهر على الهواء أكثر مذيعي التوك شو انحطاطاً في الهجوم على ثورة يناير، منذ عامها الأول، ليقول إنه كان يعمل مع السيسي، ويتواجد يومياً في مكتبه، حين كان رئيساً للمخابرات بمعدل أربع ساعات كل يوم.
اسمعه بنفسك لكي تصدق، وقل لي بعدها: كيف يفترض أن يصدق عاقل أن السيسي معني أصلاً بثورة يناير ومطالبها. وإلى ماذا سيحتاج الجميع أن يدركوا أن مقابلات السيسي لكل المنتمين إلى ثورة يناير، والتي كانت تتم بالتوازي مع عمله مع أعدائها، لم يكن هدفها إلا "تضبيط" أذرع إعلامية مختلفة الاتجاهات والمشارب، لترك هذه الأذرع تتصارع وتتطاحن، بشكل يزيد ضيق جموع الشعب من أي حراك أو تغيير، في حين تحتفظ السلطة العسكرية لنفسها بحق استخدام الأذرعة المؤيدة ليناير، أو الكارهة لها، حين اللزوم، وحسب الحاجة.
قلتها قبل عام، وسأظل أكررها: المسألة أصبحت أكبر من 25 يناير، وعلى الجميع أياً كان موقفهم من ثورة يناير، أن يدركوا أن الواقع تجاوز حدودها منذ مليونية النهضة اللعينة التي خلقت واقعاً كريهاً، سيصعب كثيراً تجاوزه، ولن يبدأ حل تعقيد ذلك الواقع، إلا حين يدرك الجميع أن مصر التي حولها حكم الفرد إلى خرابة، لن يصلحها أبداً حكم فرد آخر، أياً كان، وأن مصر ليست مجبرة على أن تختار بين نوعين من الفضلات السياسية التي تجاوزها الزمن: فضلات تيارات الشعارات الإسلامية، وفضلات حكم العسكر والدولة البوليسية.
وحتى تأتي لحظة الإدراك الجمعي هذه، إما بأثمان أكثر فداحة مما تم دفعه بالفعل، أو بالاكتفاء بما تم دفعه، حتى الآن، لن يفرق كثيراً مع أحد إذا حلف السيسي أنه يحب يناير، ويكره مبارك، أو إذا ثبت أنه يكره يناير، ويكره مبارك أيضاً، لأن المواطن المصري، إذا لم يشعر بأن حياته ستتغير إلى الأفضل، سيلعن سنسفيل 25 يناير على سنسفيل 30 يونيو على سنسفيل كل الأيام السوداء التي حكم مصر فيها أمثال حسني مبارك وحسين طنطاوي ومحمد مرسي وعبد الفتاح السيسي، وسنسفيل كل الأيام التي سيحكمها من يختلف عنهم في الاسم، ويشبههم في الفشل والإجرام.