أصدرت العفو الدولية تقريرين بخصوص مصر اولهما بخصوص المحاكمات الجائرة والثانى بخصوص ذكري رابعة.
اولهما
مصر: استمرار المخاوف باحتمال إصدار أحكام جماعية بالإعدام حتى بعد تنحي قضاة محاكمة المشاركين في أحد الاحتجاجات المؤيدة لمرسي
مع صدور الخبر العاجل الذي تحدث عن تنحي ثلاثة قضاة في قضية محاكمة جماعية أخرى في مصر، لا يزال القلق يعتري منظمة العفو الدولية حيال استمرار المحاكمات الاستعراضية التي يعقبها إصدار أحكام جماعية بالإعدام، منوهةً أن هذه المحاكمات قد أصبحت مع الأسف علامة تجارية سيئة وُسمت العدالة المصرية بها.
وأعلنت هيئة المحكمة المكونة من ثلاثة قضاة عن تنحيها قبيل الجلسة المقررة اليوم للنظر في قضية حُركت ضد 494 شخصا، وذلك على خلفية الاعتراضات التي أثارها محامو المتهمين. وسوف تحدد محكمة استئناف القاهرة هيئة جنائية أخرى للنظر في القضية في موعد لاحق. ويمكن أن يُحكم على غالبية المتهمين بالإعدام، وذلك في إجراء هو أقرب ما يكون إلى "مسرحية مبالغ فيها" حسب ما حذرت المنظمة.
وفي معرض تعليقه على الموضوع، قال نائب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظمة العفو الدولية، سعيد بوميدوحة: "لا تكاد هذه المحاكمة تعدو كونها مجرد مسرحية مبالغ فيها. ويظهر أن المحاكم المصرية قد اعتادت في الآونة الأخيرة إصدار أحكام جماعية بالإعدام بناء على أدلة واهية وعقب إجراءات تقاضي يشوبها العوار الشديد. ويبرهن ذلك كله على أن المحاكمات التي يعقبها إصدار أحكام إعدام جماعية بحق المتهمين فيها قد أضحت علامة تجارية سيئة مسجلة باسم مصر".
واتُهم أكثر من 400 متهما من مجموع المتهمين(494) في هذه المحاكمة بارتكاب القتل العمد والشروع فيه، وهي جرائم يُعاقب عليها بالإعدام عادة وفق أحكام القانون المصري. وأُسندت إلى الباقين تهم ارتكاب جرائم تتضمن إتلاف الممتلكات العامة والاحتجاج دون ترخيص ومهاجمة قوات الأمن وعرقلة عمل المؤسسات الوطنية.
ويوجد بين المتهمين قيد المحاكمة 12 طفلا، بينهم إبراهيم حلاوة، الذي يحمل الجنسيتين المصرية والأيرلندية؛ وكان إبراهيم في السابعة عشرة من عمره فقط وقت إلقاء القبض عليه، ولكنه بلغ سن الثامنة عشرة بعد ذلك. ولقد قامت منظمة العفو الدولية بفحص شامل لتفاصيل قضيته.
وكان إبراهيم وشقيقاته الثلاث بين الذين أُلقي القبض عليهم عقب لجوئهم إلى أحد المساجد. وأُصيب بطلق ناري في يده عندما اقتحمت قوات الأمن المسجد ولكن لم يُتح له الحصول على الرعاية الطبية لعلاج إصابته وكان كل ما حصل عليه هو علاج بسيط وفره أحد المتواجدين في نفس الزنزانة والذي تصادف أنه طبيب. كما احتُجز إبراهيم في المكان المخصص للبالغين، وذلك بما يخالف قانون الطفل في مصر الذي ينص على ضرورة احتجاز الأطفال في مراكز الحجز المخصصة للأحداث وفصلهم عن الكبار.
ولقد توصلت منظمة العفو الدولية إلى استنتاج مفاده أن إبراهيم حلاوة هو سجين رأي احتُجز لا لشيء سوى لممارسته سلميا الحق في حرية التعبير عن الرأي. وتدعو المنظمة بالتالي إلى إطلاق سراحه فورا ودون شروط وإسقاط جميع التهم المسندة إليه.
وقال بوميدوحة: "ما حالة إبراهيم إلا واحدة من العديد من حالات الظلم التي تخرج فصولها المحاكم المصرية. وتظهر عزم الحكومة على الإطاحة عرض الحائط بالالتزامات المترتبة عليها وفق القانون الدولي".
وبحسب ما ورد في التقارير الصحفية، فحتى فضيلة المفتي، وبوصفه أرفع شخصية دينية في البلاد، قد رفض المصادقة على أحكام الإعدام الصادرة بحق قيادات جماعة الإخوان المسلمين منوها بعدم وجود ما يكفي من أدلة تعزز من صحة التهم المسندة إليهم. كما نُقل عن المفتي قوله أن التهم التي وجهتها النيابة قد اعتمدت كليا على التحقيقات وإفادات ضباط جهاز الأمن القومي.
وبحسب ما جاء في ملف القضية التي تنظر المحكمة فيها اليوم، وتسنى لمنظمة العفو الدولية الاطلاع عليها، ثمة 100 شاهد في القضية، معظمهم من ضباط شرطة هم أو المسؤولين الحكوميين.
واختتم سعيد بوميدوحة تعليقه قائلا: "لجميع المتهمين الحق في الحصول على محاكمة عادلة دون اللجوء إلى فرض عقوبة الإعدام. ويجب أن تجري المحاكمة بحضورهم كي يكونوا قادرين على سماع مرافعة الادعاء والطعن فيها وإبراز دفاعهم شخصيا أو من خلال المحامي. كما يتعين أن يكون بمقدروهم استدعاء الشهود النفي واستجواب شهود الإثبات".
خلفية
وقعت الاحتجاجات يومي 16 و17 أغسطس/ آب 2013 في ميدان رمسيس بالقاهرة؛ وجاءت دعما للرئيس المعزول محمد مرسي وكانت سلمية في البداية. إلا أنه وعقب وقوع صدامات مع قوات الأمن، حاول المحتجون الاحتماء داخل مسجد الفتح وأغلقوا أبوابه ومكثوا في الداخل طوال الليل. وأطلقت قوات الأمن قنابل الغاز المسيل للدموع إلى داخل المسجد، الأمر الذي أدى إلى وفاة امرأة اختناقا.
ووقع تبادل لإطلاق النار مع قوات الأمن من المحيط الخارجي للمسجد ولكن ادعت قوات الأمن أن المحتجين قد شاركوا فيه. إلا إن مندوبي منظمة العفو الدولية الذين كانوا متواجدين في المكان حينها قالوا أنه لا يمكن أن يكون المحتجون قد أطلقوا النار على قوات الأمن كونهم قد أحكموا إغلاق أبواب الجزء الداخلي من المسجد عليهم.
وثانيهما
عقب مرور عام كامل على المذبحة التي شهدت مقتل أكثر من 600 محتج على أيدي قوات الأمن المصرية في يوم واحد، فلم تتم ملاحقة ولو ضابط واحد جنائيا على خلفيتها. وفي الأثناء اتخذ نظام العادلة الجنائية في مصر منحى المسارعة في إلقاء القبض على أنصار مرسي ومحاكمتهم وإصدار الأحكام بحقهم عقب محاكمات جماعية جائرة جدا. وأُدين 232 منهم وحُكم عليهم بالإعدام وأوصت المحاكم بإصدار أحكام بإعدام أكثر من ألف آخرين.
وكان الباحث في الشؤون المصرية بمنظمة العفو الدولية، محمد المسيري، أحد الشهود على
المذبحة في ميدان رابعة العدوية، وما انفك منذ ذلك الحين يشارك في أنشطة حملات المناصرة الداعية إلى تحقيق العدالة.
استيقظت على اتصال هاتفي وردني في السابعة صباحا؛ وقال المتحدث على الطرف الآخر من الخط: “لقد بدأت”.
لقد كان ذلك هو اليوم الذي كنت أخشاه منذ أن بدأت الاحتجاجات بتاريخ 28 يونيو/ حزيران 2013. وبعد شهر ونصف من الاعتصام، نفد صبر قوات الأمن المصرية. فاتصلت بأحد معارفي الذي كنت أعلم أنه متواجد في الميدان فرد قائلا حينها: “إن الرصاص الحي ينهمر علينا بشكل عشوائي”. وأضاف قائلا: “لقد بدأت قوات الأمن بفض الاعتصامين في ميداني رابعة العدوية والنهضة”. وكان بوسعي أن أسمع صدى صوت إطلاق الرصاص عبر الهاتف.
فهُرعت رفقة أحد زملائي العاملين مع منظمة العفو الدولية إلى موقع الاعتصام في ميدان رابعة العدوية. وحاولنا الدخول إليه من جميع الاتجاهات – ولكن استحال علينا ذلك جراء إطلاق النار وقنابل الغاز المسيل للدموع. وحاولنا أن نسلك المخرج من شارع نصر الذي صنفته وزارة الداخلية يومها على أنه “ممر آمن” ولكن كان الرصاص يتطاير في كل مكان هناك. وكان المصابون ملقون الأرض وهم ينزفون في كل شارع، ويُسحبون إلى مداخل البنايات في محاولة من المسعفين لعلاجهم.
وفي حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا، دخلنا مسجد السلام الكائن في الشوارع الخلفية القريبة من ميدان رابعة. وتم تحويل المسجد إلى مستشفى ميداني، وشاهدنا ثماني جثث على الأقل قُتل أصحابها جراء إصابتهم بالرصاص في منطقتي الرأس أو الصدر. ثم بدأ جلب الجرحى واحدا تلو الآخر إلى المسجد، وقد أُصيب معظمهم بالرصاص الحي في الجزء الأعلى من الجسم. ولقد نزف معظم الجرحى حتى الموت في غضون 5 إلى 10 دقائق من جلبهم إلى المسجد، ليُصار إلى تسجيتهم إلى جانب الجثث لأخرى المسجاة في إحدى زوايا المسجد.
وشاهدت أحد المحتجين الذي دخل المسجد حاملا جثة صديقه بين يديه. وأخبرنا كيف تعرضا للهجوم قائلا: “لم تبد قوات الأمن أي رحمة تجاهنا. فلقد أطلق عناصرها قنابل الغاز المسيل للدموع والخرطوش طوال أول 45 دقيقة من عمر المواجهة؛ ثم استخدموا الذخيرة الحية بشكل عشوائي. بل لقد أطلقوا النار على الذين كانوا يحاولون مساعدة الجرحى. ولست أدري أي دين هذا الذي يملي عليك أن تطلق النار على الأبرياء وتقتلهم؟”
وأذكر مشاهدة رجل آخر في أوائل العشرينات من عمره وقد جاءوا به إلى المسجد محمولا عقب إصابته برصاصة في وجهه. وظل ينزف من أنفه وفمه إلى أن تُوفي. وبعد دقائق من وفاته، اتصلت والدته به على هاتفه النقال. ولكن قد فاتتها آخر فرصة للحديث مع ولدها قبل أن يفارق الحياة.
ثم حاولنا التحرك من مسجد السلام إلى أقرب مستشفى كبير، ولكن منعنا الجنود من ذلك قائلين لنا: “أن الوقت ليس مناسبا الآن”.
ولم أتمكن من إدراك حجم المذبحة المرتكبة إلا في اليوم التالي. فلقد اتضحت معالمها عقب قيامنا بزيارة المشرحة والمستشفيات ومسجد الإمام، بوصفها المواقع التي تم نقل جثث قتلى ميدان رابعة إليها.
وتزعم الشرطة أنهم كانت لديها القدرة على التمييز بين المحتجين السلميين والعنيفين منهم. وقال أحد ضباط الأمن المركزي لمنظمة العفو الدولية: “لدينا مركبات تتمتع بتقنية عالية (الشيردا) ومزودة بكاميرات بوسعها تقريب صورة الأجسام من على بعد مسافة تصل إلى 8 كم”. وأضاف قائلا: “بهذه الطريقة استطعنا من التمييز بين المحتجيين السلميين والمسلحين عندما لجأنا إلى استخدام القوة”.
ولكن اتضح مما رأيناه لاحقا أن الشرطة لم تكن قادرة فعلا على التمييز بين المحتجيين السلميين والمسلحين.
في المشرحة
ثمة ممر يؤدي إلى بوابة المشرحة من الشارع الرئيسي – ويبلغ طول الممر حوالي 400 متر وكان مكدسا بالجثث والسيارات التي تحمل المزيد من الجثث بانتظار تشريحها. وكانت الجثث ملقاة في الخارج تحت حر شمس القاهرة اللاهب في أغسطس/ آب. وشاهدت أقارب المتوفين وهم ينتحبون وينهمكون في وضع قوالب الثلج على جثث أحبتهم كي لا تتعفن في هذا الجو الحار، سائلين المولى أن يمنحهم الصبر.
وأما داخل المشرحة، فلقد عمت الفوضى، حيث تناثرت جثث المتوفين في كل مكان، بل وحتى داخل مكتب مدير المشرحة. ووقت وصولنا إلى هناك كان موظفوها قد انتهوا من إجراء تشريح لحوالي 108 جثث. وكان ينتظرهم القيام بإجراء مماثل لمائة جثة أخرى.
ولقد تأثرت كثيرا لرؤية أسرة الصحفية والمحتجة حبيبة عبد العزيز التي قُتلت جراء إصبتها برصاصة حية في صدرها وهي تحاول استلام جثتها. وكنت قد تحدثت مع الصحفية حبيبة في الأسبوع السابق لمقتلها، وقالت لي حينها:
“لست من الإخوان المسلمين ولا أنتمي للجماعة… بل أنا أحتج هنا لأنني لا أريد أن أرى الجيش يعود إلى سدة الحكم. ولن أغادر هذا الاعتصام إلا جثة هامدة أو بعد إعادة مرسي إلى منصبه… فلقد أدليت بصوتي لصالحه وكانت تلك أول مرة يحدث صوتي فيها فرقا… فلا يحق للجيش أن يستبعد صوتي ويطيح برئيس منتخب ديمقراطيا”.
ولم تكن حبيبة مسلحة أثناء فض الاعتصام، فهي كانت تعارض بحزم أي شكل من أشكال المظاهرات العنيفة. وما هي إلا مثال على المئات من المحتجين السلميين الذين قُتلوا ذلك اليوم.
ثم غادرنا المشرحة قاصدين مسجد الإمام القريب من ميدان رابعة في مدنية نصر إحدى أحياء القاهرة الكبرى.
في المسجد
كانت رائحة الموت والجثث المتحللة تفوح من المسجد. حيث كانت الجثث مكومة فوق بعضها على أرضية المسجد، دون أن يجد المرء موطئ قدم للسير فيه. ولحظة وصولنا المسجد، أحصينا وجود 98 جثة فيه. ووثق سجل وُضع في زاوية المسجد عدد الجثث التي جُلبت إلى المسجد قبل أن يقوم ذوو المتوفين باستلامها. وبلغ إجمالي عدد جثث القتلى 267 جثة.
وكانت هناك جثث لنساء وأطفال بين القتلى. وفي مشهد مكرر، فلقد قُتل معظمهم جراء إصابته بالذخيرة الحية في منطقة الرأس أو في الجزء العلوي من الجسم.
وعلى نحو مرعب، لاحظنا وجود ست جثث متفحمة في المسجد، وقد أُشعلت النار في بعض أصحابها وهم أحياء فيما أُحرقت الجثث الأخرى بعد وفاة أصحابها. وكانت بعضها متفحمة إلى درجة يصعب معها التعرف على هوية أصحابها، وتساءل الحاضرون كيف يمكن لذويهم التعرف عليهم.
واخبرنا الأطباء أن قوات الأمن قد أحرقت تلك الجثث وهم داخل الخيام، أو عندما قامت بإضرام النار في المركز الطبي. ووصف أحد الأطباء المعاملة الذى تلقاهاعلى يد قوات الأمن عقب إقتحامهم للمبنى قائلا: “ضربني أحد أفراد قوات الأمن على ظهري بعقب بندقيته ودفعني باتجاه السلالم. وبعد أن غاردت المركز مع الباقين، أضرمت قوات الأمن النار في المركز”.
وقال عامل آخر من العاملين في مجال الخدمات الطبية:
“كانت قوات الأمن تقتحم المركز الطبي عندما شاهدت قناصة على أسطح المباني القريبة من المركز وقد ارتدوا زيا أسودا. ثم أجبرتنا قوات الأمن على مغادرة المركز الطبي عنوة واضطُررنا لترك المرضى والجثث وراءنا. وآمل أنهم لم يكونوا في الداخل عندما أضرمت قوات الأمن النار بالمركز الطبي.”
وأعلن المجلس القومي لحقوق الإنسان أن عدد القتلى قد بلغ 632 شخصا، ويقول أن غالبيتهم من المتظاهرين السلميين الذي علقوا وسط تبادل إطلاق النار.
وأقر بعض محتجي رابعة العدوية لمندوبي منظمة العفو الدولية أنهم قد استخدموا الحجارة وقنابل المولوتوف الحارقة وأضرموا النار بعربات الشرطة للحيلولة دون قيامها بفض الاعتصام. وما من شك أيضا أن أنصار مرسي قد لجأوا عقب فض الاعتصامين إلى استخدام العنف، بما في ذلك استخدام الأسلحة النارية وشنوا هجمات على مبنى محافظة الجيزة وأقسام الشرطة وعناصر قوات الأمن.
ولكن ذلك لا يمنح قوات الأمن ضوءا أخضر كي تفتح نيرانها العشوائية على المحتجين كيفما اتفق.
وطوال السنة الماضية، عكفت منظمة العفو الدولية على مناشدة الحكومة المصرية كي تجري تحقيقا محايدا ومستقلا في استخدام قوات الأمن للقوة المفرطة يوم 14 أغسطس/ آب. وعلى الرغم من توافر الأدلة الدامغة التي تثبت تورط الجيش المصري في قتل المحتجين، فلم تتم محاكمة ولو ضابط واحد من ضباط الأمن على أفعاله في إحدى أكثر الحوادث دمويةً في تاريخ مصر الحديث. وتُعد هذه الحقيقة لوحدها إهانة للبشرية. ويجب على مصر أن تقاضي المسؤولين عن ذلك وجلبهم للمثول أمام العدالة.
*قلم محمد المسيرى، الباحث فى الشؤون المصرية بمنظمة العفو الدولية