شهدت الولايات المتحدة الأميركية،
كما هي العادة كلّ أربع سنوات، موسماً انتخابياً هاماً لاختيار رئيسٍ ونائبه، وهذا
أمرٌ يتكرّر على مدى أكثر من قرنين من الزمن، ممّا جعل التجربة الدستورية
الأميركية حالةً نموذجية للممارسة الديمقراطية ولنظرية "الفصل بين السلطات".
لكن رغم براعة الآباء الدستوريين
الأميركيين الأوائل، ورغم وجود آليات ديمقراطية حيوية وضوابط لمنع الانقلاب على
الدستور وعلى الحياة الديمقراطية، فإنّ الولايات المتحدة عانت وتعاني كمجتمع ممّا
هو يتناقض تماماً مع روح الدستور الأميركي ومبادئه. فلم يمنع وجود هذا الدستور
العظيم، مثلاً، من حدوث حربٍ أهلية طاحنة، في العقد السابع من القرن التاسع عشر،
بين الشمال الأميركي وجنوبه، ولم يمنع كذلك من وجود تمييزٍ عنصري ضدّ "الأميركيين
الأفارقة"، لم تزل حتّى الآن آثاره مستمرّة في عدّة ولاياتٍ أميركية، ولم
تصدر قوانين تحقّق العدالة والمساواة ورفض التمييز بين الأميركيين إلاّ منذ عقد
الستينات من القرن الماضي. أيضاً، لم تحصل المرأة الأميركية على حقّ التصويت إلاّ
في عقد العشرينات، وهي ما زالت تعاني من إجحافاتٍ كثيرة في حقوقها بالعمل
والمرتّبات رغم وجود قوانين تساوي بين الرجل والمرأة في حقول العمل.
فالدستور الأميركي الذي ساوى بين
المواطنين لا يتمّ احترامه والالتزام به فعلياً عند كل الأميركيين، والخرق له يحصل
بأشكال مختلفة وفي أزمنة وأمكنة متعدّدة. وهذا واقع حال كل بلاد العالم دون
استثناء، حيث نجد هوّةً كبيرة بين النصوص الدستورية وبين الممارسات العملية في
المجتمعات. وهي أيضا حالةٌ نجدها في التناقض الذي يحصل بين نصوص الكتب السماوية
وبين الممارسات باسمها.
إنّ النصوص الدستورية وتوفّر آليات
ديمقراطية للحياة السياسية هو بلا شك أمرٌ مهمٌّ في أيَّ مجتمع، لكن هل يكفي ذلك
وحده لضمان صيانة المجتمعات وحقوق الناس فيها؟ فالديمقراطية فقط ليست حلاً لمشاكل
الكثير من بلدان العالم. هي أساسٌ ومدخل، لكنّها ليست كلّ البناء الذي تنشده
المجتمعات المدنية. ولعلّ البلاد العربية معنيّة الآن، أكثر من غيرها، بهذه
الخلاصة التي يحاول البعض تجاهلها.
فالمشكلة الأبرز لدى دعاة (الديمقراطية
فقط) في البلدان العربية أنّهم يفصلون المسألة الديمقراطية عن قضيتيْ التحرّر
الوطني والهويّة العربية، وبهذا تصبح الدعوة للديمقراطية (فقط) عذراً من أجل
التدخّل الأجنبي واستباحة الدول والهيمنة على مقدّراتها، إن لم نقل أيضاً تفتيت
وحدة كيانها ومجتمعها.
إنّ جماعة "المحافظين الجدد"، أيام إدارة جورج بوش الابن، كانت
تؤكّد على المسألة الديمقراطية في البلاد العربية بينما كانت تمارس الاحتلال في
العراق، وتدعم سياسة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتتضامن مع العدوان الإسرائيلي على لبنان.
كانت "إدارة المحافظون الجدد"
تضغط لتحقيق انتخاباتٍ ديمقراطية في العراق، وفي فلسطين ولبنان، لكنّها تعادي
القائمين على عمليات المقاومة ضدَّ الاحتلال في هذه البلدان. كذلك الأمر في مسألة
الهويّة العربية لهذه الأوطان حيث كان طرح الديمقراطية (وما يزال الآن كذلك) منعزلاً
عن الهويّة العربية، بل هو أحياناً في المواجهة معها سعياً لاستبدالها ب"هويّات"
طائفية أو إثنية ممّا لا يُضعف الهوية العربية فقط، بل ويُضعف أيضاً الهويّة
الوطنية الواحدة، كما هو حال بلدانٍ عربية تمارس الآن "الحياة الديمقراطية
فقط"!!.
فصحيحٌ أنّ الديمقراطية هي حاجةٌ
ملحّة وضرورية لمعالجة الكثير من الأمراض الكامنة في الجسم العربي، لكنّها (أي
الديقراطية) ليست مسألةً منعزلةً عمّا تعيشه أيضاً البلاد العربية من قضايا أخرى،
ترتبط بالتحرّر الوطني وبالعدالة الاجتماعية وبالوحدة الوطنية وبالهويّة العربية.
إنّ التعامل مع المسألة الديمقراطية
في المنطقة العربية لا ينفصل أيضاً عن تحدّيات الوجود الإسرائيلي، وعن مشاريع
القوى الإقليمية والدولية الكبرى، وما لها كلّها من أطماع أمنية وسياسية
واقتصادية، يستلزم تحقيقها إشعال الصراعات داخل وبين بلدان الأمّة العربية.
إن "الديمقراطية" و"العدالة
الاجتماعية" هما أساس لبناء المجتمعات من الداخل حينما يكون هذا الداخل
موحّداً ومتحرّراً من سيطرة الخارج. لكن
عندما يخضع شعبٌ ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق
الديمقراطية ستكون فقط بما يتناسب مع مصالح المحتلِّ أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى
التحرّر منه أو من نفوذه المباشر.
ففي الأمَّة العربية مزيجٌ مركّب من
الأزمات ممّا يحتاج إلى مزيجٍ أيضاً من الحلول. فبناء آليات ديمقراطية وانتخابات
نزيهة لا يحقّق وحده فقط العدل السياسي والاجتماعي بين الناس، أو يصون وحدة
المجتمعات، أو يمنع التدخّل الأجنبي، أو يحرّر الأوطان المحتلّة .. وهي كلّها
مسائل معنيّةٌ بها أوطانٌ عربية مختلفة، من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي
..
إنّ الديمقراطية السليمة والإصلاح
الشامل مطلوبان فعلاً في دول المنطقة، بل في أنحاء العالم كلّه، والحاجة ماسّة
لهما كذلك في مجال العلاقات بين الدول، وفي ضرورة احترام خيارات الشعوب لصيغ
الحياة الدستورية فيها، وفي عدم تدخّل أيّة دولة (كبرى أو صغرى) في شؤون الدول
الأخرى.
إنّ الديمقراطية هي وجهٌ من وجهَيْ
الحرّية، وهي صيغة حكمٍ مطلوبة في التعامل بين أبناء البلد الواحد، لكنّها ليست
بديلةً عن وجه الحرّية الآخر، أي حرّية الوطن وأرضه من أي احتلال أو هيمنة خارجية.
هكذا أصلاً نشأت الولايات المتحدة
الأميركية، فهي تحرّرت أولاً من الهيمنة البريطانية، ثمّ شرعت هذه الولايات في
بناء وضعٍ دستوري سليم تناسَبَ مع ظروفها وجغرافيتها والأصول الثقافية لشعوبها.
فما تحتاجه المنطقة العربية الآن،
ليس تغيير أنظمة سياسية استبدادية فقط، بل أيضاً وضوحاً في طبيعة بديل هذه
الأنظمة، وفي مدى التلازم عند "الثوار" أو "الحاكمين الجدد" بين
الديمقراطية وبين رفض التدخل الأجنبي والتمسّك بالوحدة الوطنية وبالهويّة العربية.
إذ للأسف، فإنّ الواقع العربي الراهن ومعظم الطروحات الفكرية فيه، والممارسات
العملية على أرضه، لا تُحقّق التوازن السليم المطلوب بين ثلاثيّة الشعارات: الديمقراطية
والتحرّر ومسألة الهويّة العربية. فالبعض يدعو أيضاً للتحرّر ولمقاومة الاحتلال،
لكن من منابع فكرية فئوية أو من مواقع رافضة للهوية العربية. كما هناك في المنطقة
العربية من يتمسّك بالهوية العربية وبشعار التحرّر من الاحتلال، لكن في أطر أنظمة
أو منظمات ترفض الممارسة الديمقراطية السليمة. فهو اختلالٌ كبير حاصلٌ الآن في
المنطقة العربية بكيفيّة التعامل مع شعارات الديمقراطية والتحرّر والهوية العربية،
وفي ذلك مسؤولية عربية مباشرة وليس فقط نتيجة تدخّلٍ خارجي أو هيمنة أجنبية.
وكم هو محزنٌ أن يقترن الآن السعي من
أجل الديمقراطية بسمات الدعوة للتدخّل الأجنبي من الخارج، وبممارسة أسلوب العنف
للتغيير في الداخل، وبالانقسام الطائفي والإثني في المجتمع، وبنموّ المشاعر
المعادية للانتماء العربي وللهويّة العربية المشتركة. ربّما تكون هذه هي سمات
المرحلة القادمة في أجزاء عديدة من الأرض العربية: دعوة للتدخّل الأجنبي المباشر
وحماية بعض الداخل من بعضه الآخر بقواتٍ أجنبية، ثمّ عمليات سياسية ديمقراطية تغذّي
الفرز الطائفي والإثني أكثر ممّا هي تعبيرٌ صحّي سليم عن تعدّدية في المجتمع،
فتكون هناك "ديمقراطيات" متلازمة مع مشاريع التفتيت والتدويل لا مع
التحرّر والتوحّد الوطني والعربي!.
*مدير "مركز الحوار العربي"
في واشنطن
Sobhi@alhewar.com