محمد عبد الحكم دياب
أغرقتنا التفاصيل الداخلية الكثيرة وملاحقة التدخلات الخارجية العديدة، التي تعبث بنا؛ أغرقتنا في دوامة، أفقدتنا القدرة على التعرف على حقيقة ما يجري حولنا، وما يحدث بشأننا من طرف قوى إقليمية وعالمية؛ متناقضة المصالح متصادمة الأهداف. وإذا تأملنا المشهد الإقليمي والعالمي سوف نجد أن الوطن العربي وإقليم الشرق الأوسط قد تحول إلى مسرح لـ"لعبة الأمم" المعنية بإعادة تشكيله ورسم خرائطه وتغيير موازينه من جديد؛ والمتوقع لها أن تحدث انقلابا كاملا يؤثر على مستقبل العالم لعقود طويلة قادمة.
سوف يخرج العرب صفر اليدين. ولم يكن الأمر على هذه الدرجة من الوضوح في غزو العراق وسقوط بغداد، فذلك قد جرى في ذروة وحدة الموقف العربي والدولي وارتمائه بالكامل في الأحضان الصهيو أمريكية، أما الآن فإن الأمر اختلف؛ لتنازع القوى وتعدد الأطراف المتصارعة في سورية وحول سورية، وعجز واشنطن وتل أبيب عن حسمه وحدهما، كما تصور أصحاب القرار العربي!! ولم يعط المفكرون والباحثون العرب اهتماما كبيرا للتحول في علاقات القوى الكبرى داخل مجلس الأمن، وأهمه هو استخدام روسيا والصين حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لثلاث مرات في شهور قليلة؛ لإحباط مشروع قرار غربي لفرض عقوبات على سورية في حالة عدم سحب قواتها وأسلحتها الثقيلة من المدن. وتجيز لمجلس الأمن فرض عقوبات عليها في حال عدم سحب القوات العسكرية والأسلحة خلال عشرة أيام من صدور القرار. ونال القرار تأييد إحدى عشرة دولة من بين الدول الخمس عشرة أعضاء المجلس، وإن امتنعت دولتان عن التصويت.
هذا التطور يعكس قوة روسيا وعودتها طرفا في معادلات القوة الإقليمية والدولية، وكانت قد غابت لسنوات عقب انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينات القرن الماضي، وغيابها لم يستمر طويلا، وواكب حضورها صعود القوة الصينية على الساحة الدولية، وتصدرها المشهد الاقتصادي والسياسي، وهي في طريقها للتأثير في المشهد العسكري. وكما لدغت روسيا والصين من الجحر الليبي فلم يسمحا أن يلدغا مرة أخرى من الجحر السوري.
وجاء الصعود الصيني اللافت للأنظار في العقود الأخيرة خصما من رصيد الغرب وفي مواجهته. وكان الغرب قد استقر على أن القرن الواحد والعشرين "قرن أمريكي" بامتياز، أي قرن خضوع العالم للولايات المتحدة ووقوعه تحت هيمنتها!.
وبدأ سيل الكتابات والدراسات في الغرب؛ يحاول استشراف مصيره في ظروف اتجأه بورصة القوة نحو آسيا والشرق. ويأتي مفكر من طراز نيل فيرغسون، أستاذ التاريخ بجامعة هارفارد، فيذكر في كتابه الجديد بعنوان "الحضارة: الغرب والآخرون" عن العلاقة بين الغرب والصين، فيرى أن ميزان القوى العالمي يتغير ولسبب هو دخول الغرب مرحلة الأفول، واستفادة حضارات ودول أخرى من عوامل صعود الحضارة الغربية، فتقلص الفارق بينها وبين الغرب. واختصر هذه العوامل في: المنافسة، والعلوم الحديثة، وحكم القانون، وحق الملكية الفردية، والطب الحديث، والمجتمع الاستهلاكي، وأخلاقيات العمل. ورأى أن تلك العوامل الستة لها فضل تمكين الحضارة الغربية من الهيمنة على العالم كله منذ خَمسمئة سنة. ويبدو أن الحروب الاستعمارية وعمليات الإبادة والتطهير العرقي، التي مارسها الغرب منذ صعوده مع الاكتشافات الجغرافية، وظهور العالم الجديد (الأمريكتين) عوامل ليست ذات بال في صعود الغرب في رأيه.
والغرب أضحى لاعبا حقيقيا في صياغة النظام الدولي منذ سقوط غرناطة 1492؛ عام اكتشاف العالم الجديد، وما تبعها من قيام المستوطنين البيض بإبادة الهنود الحمر، على غرار ما حدث من تطهير عرقي لعرب ومسلمي الأندلس، وبعدها نمت الظاهرة الاستعمارية، وزحفت أساطيل وجحافل الغرب؛ تنهب وتستولي على ثروات الشعوب وأراضيها، وإغتيال حضارات الشرق، وما هي إلا قرون قليلة حتى اندلعت الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر لتبني نظاما عالميا عزز "المركزية الغربية"، وإن حملت مضمونا مختلفا نتيجة سقوط الإقطاع، وسيطرة الطبقة الوسطى بقيمها وتطلعاتها على الأوضاع الجديدة.
لم تسِر تطورات النظام العالمي على وتيرة واحدة. وكم من تغير جوهري قد طرأ على النظام العالمي بالتوسع في الاستيطان وانتشار القواعد والأساطيل العسكرية، وانتقال الحروب الاستعمارية من مكان إلى آخر، إلا أن الحرب الأولى، وما حدث أثناءها من نجاح الثورة الروسية 1917 في كشف تفاصيل المخطط السري لتقسيم الوطن العربي؛ وذلك بإخراج اتفاقية سايكس - بيكو إلى العلن، فإن هذه الحرب أكدت للعيان أن المنطقة العربية هي مركز التحدي الأخطر على مستقبل الغرب ومشروعاته إذا ما توحدت، لذا أصبحت مستهدفة من "المركزية الغربية" كي لا تتمكن من ذلك، وكانت اتفاقية التقسيم قد وُقعت بعد سنوات قليلة من وضع بذرة المشروع الصهيوني الجنيني في فلسطين، ومع ذلك تهتز "المركزية الغربية" بظهور نظام سياسي واقتصادي جديد في روسيا مناوئ للنظام السياسي والاقتصادي الغربي ويسعى للقضاء عليه.
ومع سقوط الامبراطورية العثمانية بعد الحرب الأولى، وظهور الاتحاد السوفييتي كقوة مؤثرة، واكتشافات النفط في المنطقة. وتلك العوامل مع غيرها مثلت مقدمات لتطور مغاير تجسد بعد الحرب العالمية الثانية، وتم إغراق القوى القديمة في مياه قناة السويس بعدوان 1956؛ حلت أمريكا محل الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وحسم الموقف بعد حرب السويس في نظام ثنائي القطبية، محكوم بتوازن رعب نووي بين أمريكا والاتحاد السوفييتي؛ القوتين العظميين في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وهل كما كانت مصر مسرح المعركة التي أخرجت الثنائية القطبية؛ هل تصبح سورية مسرحا لظهور لقطبية من نوع مختلف؟ هنا تظهر إشكالية الزمان والمكان. ففي 1956 كانت مصر قوة صاعدة فيها من العنفوان والعزة ما يكفي للتحدي، وعملت على تأكيد جدارتها بعد نجاحها في توقيع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، وفي باندونغ، ونمو دورها في دعم ثورات التحرير العربية، والوقوف مع الثورة في المغرب العربي، خاصة في الجزائر، وملأت بذلك فراغا كان حكرا على "المركزية الغربية"، وكانت دولها قد بدأت في احتلال المنطقة العربية على مراحل؛ بدءا من الجزائر1830.
تحولت مصر آنذاك إلى مرجعية للشعوب المتطلعة للتحرر والتنمية المستقلة. خاصة الشعب العربي، ونافست القاهرة عواصم الغرب على دورها وقلصت كثيرا من نفوذها، وشدت شخصة عبد الناصر ذات الحضور الطاغي أنظار العالم، بما فيه الغرب ذاته، وتقدمت الولايات المتحدة لتجد مصر لست وحدها، وزعيمها كان واحدا من قادة العالم العظام، مع نهرو وشو إن لاي وسوكارنو، وكانت علاقته قد توطدت بالزعيم اليوغوسلافي جوزيب بروز تيتو، فضلا عن إعجاب سياسة ومفكرين غربيين به؛ ناصروه ورفضوا العدوان على بلده وأيدوا موقفه، وكان من بين هؤلاء أنتوني ناتنغ وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطاني، وهو الذي استقال احتجاجا على العدوان، وعلى موقف إيدن الشخصي وتحريضه على قتل عبد الناصر.
وعلى مستوى الشعوب كانت تقف مع مصر، ومعها اشتعلت المنطقة العربية بالمظاهرات والإضرابات، وقطع السوريون أنابيب النفط المارة بأراضيهم، وحين أغارت الطائرات البريطانية والفرنسية على إذاعة القاهرة انطلقت إذاعة دمشق، وجلجل صوتها "هنا القاهرة من دمشق".
والخلاصة أن سورية 2012 ليست مصر 1956، وهي بنت ظروف ما يعرف بـ"الربيع العربي" وهي تسمية لا أحبذها، كما لا أحبذ مسميات الثورات الملونة، ولا الدولة العميقة. وبداية من ليبيا وصولا إلى سورية صار "الربيع العربي" جحيما، وأعادت الثورات الملونة ترسيخ فساد القائمين عليها، أما الدولة العميقة ليست سوى تنظيم عصابي يتحكم في مصير البلاد وأرزاق العباد. والوضع يزداد تعقيدا نتيجة استقالة النظام الرسمي العربي وتنازله عن دوره، واكتفائه بوظيفة الخادم الذليل في البلاط الصهيو غربي، يحيل إليه قضاياه ومشاكله ينشد لديه الحل فلا يجد إلا الرضى بدور عراب.
والحضور الدولي وهو يفرض نفسه على المسرح السوري، حدث بسبب الفراغ العربي، غير المشغول بأي درجة من درجات الجهد المشترك، ولا يعنيه الأمر السوري، ولا مساعدة السوريين على التخلص من الاستبداد والفساد، ولا تقديم حل عربي ينهي أزمته بعيدا عن التدخل الأجنبي.
هنا برز دور الصين وروسيا وإيران في صياغة معادلات قوة جديدة في المنطقة والعالم، وبعد أن كان العرب طرفا فاعلا في فترة الصراع الأمريكي السوفييتي، فقد غابوا تماما، وتحولوا إلى معاول للانتحار الذاتي بتفتيت المنطقة وتقسيمها؛ مكتفين بأن وطنهم تحول إلى مسرح لـ"لعبة الأمم"، وتدور الحرب الأهلية على امتداد المدن السورية، دون شعور بالخطر أو الخجل، وتُقدم سورية قربانا على مذبح العبودية الجديدة.
رغم ما يبدو من دمار وخراب ناتج عن عسكرة الصراع في سورية واستخدام الحل الأمني في مواجهتها، ومع ذلك قد تكون الظروف غير مواتية للطرفين، وتبدو هناك إمكانية لفشل المشروع الصهيو اميركي، بعد تعثره في العراق، وتغير الظروف الدولية والإقليمية ورجحان الكفة لصالح روسيا والصين دوليا وايران اقليميا.
ومنذ اشتداد المعارك في سورية وتحولها إلى حرب مفتوحة على كل الاحتمالات، بشكل قد يوحي بان الامور تسير في اتجاه معاكس لرياح القوى المتصارعة على المنطقة، وكانت القناة العاشرة الصهيونية قد ذكرت "أنّ أصدقاءنا في المعارضة لم يحققوا شيئا في دمشق وخسروا المعركة خلال يومين" وقد يؤسس هذا لواقع جديد يقلب الأوضاع ويُغير معادلات القوة.
ومن المتوقع أن يستمر الصراع في سورية وعلى سورية لأطول مدى ممكن؛ يتيح الفرصة لصياغة معادلات جديدة على النيران السورية الساحنة، وقد لا تكون "المركزية الغربية" صاحبة القول الفصل فيها. وإن كانت نتائجها ستكون كارثية على المنطقة بأسرها، وعلى حساب الوجود السوري ذاته، الذي من المتوقع أن يكون قسمة بين روسيا والصين وإيران من جهة، وأمريكا والدولة الصهيونية وتركيا من جهة أخرى. وهذا يزيد الأمر تعقيدا ويوسع من رقعة الحرب الأهلية الإقليمية، التي تجدد المدد من تركيا وقطر والسعودية؛ بالمال والسلاح والمقاتلين، وقد اختار الحكم الجديد في مصر أن يكون في صف هذه الحرب، فاللهم لطفك.