في ذكرى تأسيسه وأستذكارا للبداية
البعث مدرسة المبادئ وينبوع السلوك الاخلاقي
ثانيا : البعث وحديث البداية في العراق
شبكة البصرة
ضياء حسن
بداية أود الأشارة الى أن ما حفزني على الحديث عن بدايات ظهورالبعث كحركة فكرية في ساحة النضال العربي عموما يعود الفضل فية الى الألتفاتة الكريمة التي حرص الرفيق عزة أبراهيم الأمين العام للقيادة القومية، أمبن سر قيادة قطر العراق للحزب ان يعطر خطابه الى الامة بمناسبة الأحتفال بالذكرى الخامسة والستين لولادة البعث بتوجيه تحايا ملؤها طيب الوفاء للرفاق الأوائل الذين رسموا بفكرهم معالم طريق نهوض الأمة وأطلاق طاقات شعبها في التحرر من قيود الهيمنة الأستعمارية والتخلص من أسباب التخلف الموروث من عهود الظلم والظلام التي أحاطت بعموم أقطارهم.
ولنا في تأسيس الحزب في العراق على يد رفاق أوائل أستلهاما للرؤية القومية التي حددها الفكر البعثي أعتمادا على تفاعل جد مخلص مع معاناة الأمة وبأحساس عميق متفهم لضرورة أقران ذلك الأحساس بفعل ليس مستجيبا لفظيا لتطلعاتها، وانما بأن يخطو خطوة عملية في أتجاه أزالة جميع الأسباب التي أدت الى وجود هذه المعاناة وبما يجعل السبيل الى تصحيحها متاحا.
افمن هذه الرؤية القومية السديدة انطلق الرفاق الأوائل في التأسيس ليبدأوا مسيرة التبشير بفكر البعث ومبادئه.
وعلى وفقها أسس الرفاق الذين واصلوا المشوار النضالي البعثي بجهد أقتحامي ناضح ليحققوا للعراق والأمة أنجازات لم يكن يفكر فيها أحد من السياسيين التقليديين منهم أوالذين يدعون أنهم من الثوريين، وهذا ما سنتحدث عنه لاحقا،،
حديثي عن بدايات تأسيس الحزب في العراق مليئ بصور الأبداع النضالي المستند الى الحضور الميداني الناشط في جميع الفعاليات والتظاهرات التي شهدتها ساحات الوطن منذ بدايات التأسيس صعودا الى تفجير ثورة 14 تموز 1958 ودور الحزب فيها.
وعذرا أن لم أسترسل لأن الحديث يطول والأحداث التي تلت قيام الجمهورية كثيرة ومتشابكة فيها من الأيجاب الكثير ومن السلب ليس قليلا، والحديث عنها لايحتمل الأيجاز.
وكما أشرت في الحلقة السابقة أن اقتصاري في الأشارة للبداية أقتضتها مناسبة الأحتفال بالذكرى 65 لتأسيس البعث، وصار واجبا علينا التذكير بالبداية، والتعريف بالمؤسسين الأوائل وهو حق للرفاق ممن شاركوا في نضال البعث وللمواطنين الذين عايشوا مسيرة الحزب وتلمسوا صدقه المبدئي في التصدي لأعداء الشعب والأمة دائما وكان الرفاق على درجة عالية من الأستعداد للتضحية بالروح ونزف الدم من أجل ان تأخذ هذه الأهداف وهي تمثل حلم الشعب للمس طريق الأمل ببدء مرحلة العمل الجاد المؤدي لتحقيق ذلك الحلم ليصبح بعد سنوات من النضال الباذل المعروق حقيقة معاشة على يد طليعة بعثية نذرت نفسها لهذا الهدف العظيم.
والأن لنلقي ضوءا على هذه الحقائق المتصلة ببدايات البعث في العراق، بماذا أتسمت وأي نسغ من الأنعطاف الجماهيري حققت وهي تطرح برنامجها مؤطرا بآفاق فكرية جديدة على الساحة العراقية.
بدءا جاءت ولادة الحزب في العراق متأثرة بمنهج البعث ومبدئيته عبر معايشة لما نقله فريق من الطلبة العرب والسوريين منهم بالدرجة الأولى الذين جاءوا الى العراق للدراسة في مدارسه الثانوية وكلياته بعد أن حصلوا على منح دراسية حكومية اعتبارا من منتصف الثلاثينات من القرن الماضي قبل أغتيال الأنكليز للملك غازي رحمه الله والذي عرف برفض وجودهم في العراق وهو الآمر بقبول الطلبة العرب عبر ((دارالبعثات العربية)) والتي أتخذت لها مقرا في مدينة الأعظمية وتصاعد وصولهم الى العراق بعد قيام ثورة 41 التي قادها الراحل رشيد عالي الكيلاني مع العقداء الشهداء الأبطال الذين أعدمهم الوصي على العرش عبد الأله خال الملك فيصل الثاني رحمه الله وهوأبن الملك غازي وكان للوصي ضلعا في تدبير عملية أغتيال غازي تواطؤا مع لندن.
وتميز تأسيس الحزب بثلاث مراحل وهو ينتظم وينشط سرا وهي :
الأولى – وتمثلت بالتعريف بفكر الحزب القومي الأشتراكي من خلال تواجد الرفاق العرب في المدارس الثانوية والكليات العراقية بهدف خلق المناخ المناسب لكسب رفاق عراقيين يتولون معهم وضع اللبنة الأساس للتنظيم الجديد قبيل مغادرتهم البلاد بعد أنتهاء فترة دراستهم فيها.
الثانية - تركز الجهد فيهاعلى شد التنظيم الذي ضم الطلاب العرب الى جانب من كسب من تلاميذ المدارس الثانوية وطلبة الكليات في بغداد، وتقويته بخوض معترك النضال الجماهيري بصورة تدريجية ومنها وثبة كانون الثاني 1948 التي ساند البعثيون العرب ومن كسب من العراقيين تظاهراتها والفعليات الداعمة لها الى جانب أحزاب المعارضة وأستطاع حشد الشارع العراقي لأسقاطها قبل أن تقر رسميا على الرغم من أن صالح جبر رئيس الوزراء العراقي في ذلك الوقت كان قد وقع عليها بالأحرف الأولى مقابل توقيع رئيس الوزراء البريطاني أيدن في ميناء بورتسموث لتكون بديلة لمعاهدة عام 1930 التي رهنت مصير العراق بالهيمنة البريطانية وجاءت المعاهدة التي أريد فرضها لأدامة هذه الهيمنة وليس وقفها أو التخفيف من قيودها كما أدعى ذلك صالح جبر’ فأسقطت المعاهدة بأرادة وطنية عراقية حرة.
الثالثة- التوسع في بناء التشكيلات الحزبية بكسب وضم المزيد من المناضلين الى صفوف البعث بتوسيع قواعده في المناطق الشعبية البغدادية وتكثيف التواجد في الفعاليلات الثقافية والأجتماعية والرياضية التي تشهدها بغداد خدمة للتعريف بفكره وبرنامجه السياسي طبعا، بدءا من الأعظمية للرصافة والكرادة والكرخ، وتكليف الرفاق من الطلبة الذين يتلقون العلم في العاصمة الى التحرك في محيط مدنهم أو قراهم لأداء نفس المهمة، وفي هذا الصدد نظمت زيارات لعدد من المحافظات .
فعلى وفق هذا المنهج بدأت الخطوات الأولى للتنظيم الحزبي البعثي في العراق بقيادة الرفيق فايز أسماعيل الذي وصل بغداد يصحبه شاعر البعث الرفيق سليمان العيسى وتبعهما بالوصول أدهم مصطفى ومسعود الغانم وجميعهم من القطر السوري الشقيق ومن الأردن وصل الرفاق عبد الكريم خريس وفائز مبيضين وأرشود الهواري وأحمد اللوزي وأحمد الهنداوي ووحيد غرايبة وحاكم الفايز ومن اليمن صالح الحبشي ومن حضر موت أبو بكر عبد الله الحبشي ومن تونس أبو القاسم كرو.
وأختلط الطلبة السوريون بداية بزملائهم العراقيين في ثانوية الأعظمية وكان في مقدمتهم فخري قدوري وعبد الرحمن الضامن حيث رددا القسم عام 1948 أمام الرفيق فايز أسماعيل بحضور الرفيق طه علي الرشيد وهو طالب عراقي من أصل سعودي.
وتطور الكسب الحزبي في المرحلة التي أستلم فيها الرفيق فخري مسؤولية التنظيم من الرفيق الضامن الذي أعتذر عام 1950 بعد فترة قصيرة من تسلمه المسؤولية من الرفيق أبو القاسم كرو وكان الأعتذار لأسباب صحية مع ملاحظة أنه كان متأثرا بتوجهات دينية كما أشار الى ذلك د. فخري في كتابه الذي أشار فيه الى البدايات.
وأتخذ أتساع التنظيم في فترة الرفيق فخري مسارين الطلابي والمناطقي الذي أرتفعت وتيرته على مستوى بغداد، فيما شهد الأنتشار على مستوى المحافظات أولى الخطوات من خلال كسب الطلبة القادمبن من المحافظات، ولم يكن شاملا جميع المحافظات، لعدم توفر المستلزمات اللوجستية المساعدة على الأنتشار وأدارة العملية التنظيمية وتفعيل مبادراتها غير أن التحرك على المستوى الطلابي ونزوح أغلبية العناصر المكسوبة من أصل عمالي وفلاحي وكسبة وموظفين ساعد على ألأنتشار بين الأوساط الشعبية بشكل أنسيابي وسريع، وتحقق هذا بفضل ثلاثة عوامل :
أولا – المبادئ التي تضمنتها حركة البعث سواء كفكر قومي أشتراكي أنساني أو ما طرحته من برنامج سياسي لفت أنتباه المواطنين وأستقطب دعوتها الى :
1- تحريرالأنسان العربي في عموم الوطن الكبير من أسباب التخلف وأطلاق أرادته المقتدرة لتحقيق الحرية والعدالة الأجتماعي ووحدة الشعب والأمة امساكا بالأستقلال الناجز
2- الخلاص من الهيمنة الأستعمارية الأجنبية واسترجاع ثرواته المنهوبة من الشركات الأحتكارية وتكريس عوائدها في الشروع بوضع خطط تنمية تعزز النهوض العربي في بناء التجربة الوطنية المستقلة التي تحقق رفاه الشعب
3- وضع قواعد تؤسس لقيام حكم ديمقراطي حقيقي في العراق والوطن العربي يستند لأطلاق الحريات الديمقراطية الكفيلة بتفجير طاقات المواطنين للنضال من أجل المساواة في التمتع بالحقوق والواجبات بينهم، وخصوصا بين المرأة والرجل وحشدها في خدمة هدف مشاركة الجماهير بمجموعها في بناء أستقرار الوطن وأستتباب أمن مواطنيه.
4- الدعوة لبناء تجربة تربوية وتعليمبة تؤكد :
أ - تمتع المواطنين من جميع الأعمار بحق التعليم
المجاني اينما تواجدوا في المدن أو القرى النائية شاملا المرأة وكبار السن في المدن والأرياف وتوفير مستلزماتها من أبنية وكادر تعليمي ومناهج تدريسية وكتب توزع مجانا.
ب – التوسع في التعليم الجامعي، زيادة في عدد الجامعات وتنوعا في جديد أختصاصاتها، والتوسع في التعليم العالي لسد أحتياجات الوطن للكفاءات العلمية في جميع الأختصاصات.
5- الدعوة لأعتماد سايسة خارجية مستقلة رافضة الأنخراط في الأحلاف العسكرية أوالأنحياز لأحد الأقطاب الدولية المتصارعة على أستقطاب الدول والشعوب لتعزيز هذا القطب أو ذاك والدعوة الى الحياد بين المتصارعين على أن يكون ذلك أيجابيا بحيث تأخذ من دول العالم ما تحتاجه دون أن تكون تابعا لأحد المتصارعين.
وهو ما ألتزمت به ونفذته فعلا ثورة 17 تموز القومية التقدمية التي قادها الحزب عام 1968 وترجمته الى مجموعة كبيرة من الأنجازات الوطنية النوعية التي نادى بها وناضل من أجلها الحزب طوال عشرين عاما منذ بداية تأسيسه عام 48 حتى أنبثاق ثورة 17 تموز عام 68، وسوف نتوقف عندها لاحقا لنستذكرها ونذكر بها من فقدوا الذمة والوفاء.
ثانيا – التبشير بالمنهج الأخلاقي الذي يلتزم به الحزب وهو يطرح أفكاره المبدئية التي نادت بالتمسك بحقوق الشعب والأمة وبما يعزز القيم الأنسانية والأخلاقية في المجتمع الذي يناضل البعث من أجل أحداث تغييرات جذرية، توفر جوانب الصحة والصدق فيه كركيزة يستند اليها البناء الجديد، لتكون قاعدته مبدئية ووسائلها مبدئية أيضا.
لذلك كان تركيز البعث منذ البداية على التمسك بمبدأ الغاية لا تبرر _الواسطة_ الوسيلة، فمهما بلغت الغاية من النبل لا يمكن ان يقبل تحقيقها الا بواسطة مشروعة، وليس كما فعل ويفعل السياسيون العراقيون التقليديون أو من ربط ارادته بعجلة الأجنبي شرقا أم غربا وأمثالهم من العرب في السابق والآن أيضا!!
وهكذا كان التميز الأخلاقي لحركة البعث منذ البداية، وقد ألزم الحزب نفسه بهذا الشرط وغيره، ليؤكد مبدئيته وهو يختار المنتمين له، ليكون محصنا من الداخل لذلك دعا من يختار البعث طريقا أن يمتلك أستعدادا للتضحية بمستوى الأستعداد للأنقلاب على الذات وتخليصها من أدران سلبية قد تكون لحقت به قبل ولوج طريق النضال البعثي المتسم بالأخلاقية المبدئية
وقد وجدنا ان نورد الأشتراطات التي طرحها كأساس لمنح العضوية الحزبية لمن يرغب في نيلها وهي ليست صعبة التوفير لمن كان طبيعي السلوك وصادقا في النيات ومحصن الأخلاق ومن بين ما دعا الحزب الى توفره في طالب الأنتماء وألزم القيادة التحري عنها هي :
1- الوضع الأسري له وعلاقته بذويه. ومن هم أقرباؤه وأصدقاؤه؟؟
2- ماهو ماضيه السياسي والأجتماعي هل كان منتميا لحركة سياسية أخرى أو الى ناد أجتماعي، فمن هي الحركة وما طبيعتها ومن هو النادي وماهي طبيعته؟؟
3- ما هو سلوكه في التعامل مع الناس وماهي سمعته بينهم، هل يكذب وهل هو وصولي؟؟
4- ماهومستواه الدراسي، هل يغش في الأمتحانات؟؟
5- ان تتم تزكيته من قبل رفيقين عضويين عاملين.
وهي أشتراطات لا تبقي باب الأنتماء للحزب مفتوحاأمام كل من هب ودب؟؟
ثالثا - أرتبط صدق المبادئ التي نادى بها البعث بصدقية المبادرات التى نهض بها المناضلون وهم يرفعون راياته المعبرة عن مطامح الشعب وتطلعاته لأقامة حكم وطني ديمقراطي عادل غير خاضع للنفوذ الأجنبي يجسد أرادة الجماهير في الأستجابة لما تطمح له من تحقيق حاضر رافه وبناء مستقبل رغيد.
ويمكن القول بأن مرحلة الأنتشارالجاد للحزب في المناطق الشعبية بدأت عمليا في الفترة التي تلت تحمل الرفيق فخري قدوري مسؤولية التنظيم بعد حصول موافقة الحزب في دمشق على اقتراح من الرفيق ابو القاسم كرو الذي كان يعتزم مغادرة العراق بعد أنتهاء فترة دراسته الجامعية في أثر تخرجه من دار المعلمين العالية.
وقد أيد هذا الترشيح الرفيق فايز أسماعيل الذي عاد الى دمشق وكان المؤسس لأول خلية حزبية ضمت بداية الطلبة العرب الدارسين في بغداد وكذلك حقق أتصالا بعدد من الطلبة العراقيين ليشكلوا اللبنة الأولى لتنظيم البعث في العراق ومنهم وفي مقدمتهم الرفيقين عبد الوحمن الضامن الذي أعتذر مبكرا وفخري قدوري الذي تواصل في تحمل المسؤولية ووفق في مشوار البداية.
وشهد التنظيم الوليد تطورا مهما في عام 1949 بتشكيل أول تنظيم برتبط -بفايز أسماعيل- وكان أشبه بفرقة لأستيعاب المزيد من الطلبة العرب القادمين من الخارج أضافة لمن كسب من العراقيين خلال عام مضى..
واتسع الكسب الحزبي بعد ذلك حيث تم تشكيل قيادة للفرقة من خمسة أعضاء في تشرين أول عام 1950 لتكون نواة للتنظيم البعثي على المستوى الطلابي وكذلك على مستوى المناطق السكنية.
وسرعان ما تطور التنظيم الحزبي بتشكيل ثلاث فرق هي الأعظمية والكرخ والكرادة ليصيح التنظيم بمستوى شعبة عام 1952 ويرتقي التنظيم الى مستوى أول فرع تحتضنه بغداد عام 1953.
وعلى نفس النسغ تمت عمليات تأسيس الخلايا الحزبية الجديدة في بغداد والمحافظات في الفترة التي سبقت أنعقاد أول مؤتمر قطري للبعث في العراق في كانون اول 1954 في دار الرفيق فخري قدوري، محلة السفينة في الأعظمية التي كانت تضييف الأجتماعات التنظيمية على الدوام، وضيفت أول مؤتمر قطري للحزب بحضور 25 رفيقا ورفيقة (الدكتورة سعاد خليل اسماعيل التي شغلت منصب وزيرة التعليم العالي بعد انبثاق ثورة 17 تموز 1968 وشقيقتها) وجميع من حضروا يمثلون تنظيمات بغداد وبعض المدن من خارجها ومكاتب الحزب، ومن بينها التنظيم النسوي كما يذكر د. فخري قدوري في كتابه الموسوم -هكذا عرفت البكر وصدام -واسفر المؤتمر عن أنتخاب أول قيادة قطرية للحزب عن طريق الاقتراع السري وضمت الرفاق فؤاد الركابي وعلي صالح السعدي وتحسين معلة وجعفر قاسم حمودي وشمس الدين كاظم وفاهم كامل الصحاف وعبد الله الركابي. وم ثم تم انتخاب فؤاد الركابي امينا لسر اول قيادة قطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق.
وعلى الرغم من الضعف فيما توفر من أمكانيات ومستلزمات تنظيمية وأعتماد الحزب في ماليته على ما يأتيه من أشتراكات الأعضاء الشهرية وتبرعات من المؤيدين وما يدره مشروع القرش البالغ (عشرة فلوس) يدفعها الرفاق الذين يحضرون الأجتماع الأسبوعي، ألا أن مبادرات الرفاق والأنصار المتميزة بالانتشار الدائم على أماكن الأنشطة الطلابية والسياسية والأندية الثقافية والأجتماعية والرياضية لحضور أنشطتها أولا والأسهام في فعالياتها ثانيا، واستثمار تواجدهم فيها للتعريف بالحزب و بفكره الأنساني وببرنامجه السياسي مما أتاح له فرص الحضور اليومي في تلك الفعاليات والأنشطة، لأن سعتها كبيرة والتواجد البعثي فيها كان يغطي كامل أيام الأسبوع فتعزز ذلك الحضور ليكون في أغلب الأحيان يوميا وربما يتكرر أكثر من مرة في اليوم الواحد.
ومما يستدعي أستذكاره والتنويه به على سبيل المثال أعتمادا على مبدأ التكافل بين الرفاق لتأمين مستازمات أي نشاط يبادرون اليه حتى من دون أستشارة لأي مسؤول حزبي لأن مثل هذا النوع من الممارسات تأتي تلقائيا وبين رفاق لا ينتمون لخلية بعثية واحدة بل لأكثر من واحدة، ولكن يجمعهم واعز التعريف بالبعث على أكثر من نطاق ومكان.
وأعود للتذكير بثلاثة أمثلة في سياق الحديث عن هذا التوجه التلقائي لأشعار الاحزاب والقوى الوطنية والأندية الأجتماعية والرياضية بوجود الحزب الجديد في الساحة السياسية العراقية ولأ ثبات حضوره حتى في السفرات التي تنظمها اللجان الطلابية على مستوى الكليات أو المدارس الثانوية الى المناطق السياحية في بغداد - سلمان باك - وفي بعقوبة - الصدور - والى الحلة – آثار بابل - والى الموصل والبصرة التي نقش الرفاق الزائرون للمدينة في بداية الخمسينيات شعار -عاش البعث- على السياج الخارجي لدائرة الموانئ في المعقل وكان مبنيا بالطابوق قبل ان يغير بسياج من الحديد المشبك وذلك في زمن تولي اللواء الركن مزهر الشاوي لمسؤولية المدير العام بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 والى غيرها من الألوية، ما يسمى الآن بالمحافظات.
وطبيعي كان لهذا النشاط الدور المؤثر الساند لمشاركة الحزب في الفعاليات النضالية الوطنية، لا بل المفعل لدوره فيها وعلى الأخص دوره في بداية التأسيس بين الفترة التي تلت تسلم الرفيق قدوري لأمانة سر التنظيم وحتى انعقاد المؤتمر القطري، وعلى وجه الدقة من أواخرعام 1951 والأعوام 52 و53 و54 وحتى كانون أول منه حيث أنعقد المؤتمر.
وأراني أجد ان أعرض بعضا من بين عشرات المبادرات التي قام بها رفاق البداية في تلك الفترة الزمنية المشحونة بالسعي العراقي للخلاص من هيمنة لندن على رقاب العراقيين ونهبها المنظم لثروات البلاد النفطية، مقيدة بأحكام معاهدة عام 1930 الأستعمارية التي اسست لوجود قواعد عسكرية بريطانية في عدد من المناطق الأستراتيجية في مدن العراق المهمة، كالشعيبة في لواء البصرة المطل على الخليج العربي حيث ممر التجارة الدولية من الغرب الى الشرق والممر البحري لثروات المنطقة النفطية المسروقة من قبل الشركات الأحتكارية العالمية!!
وكانت المنطقة الثانية التي أختيرت لتكون مكانا لأقامة قاعدة عسكرية جوية ثانية هي الحبانية التابعة للواء الدليم –الأنبار- حاليا.
أما الموقع الثالث فكان محاذيا للحدود العراقية مع الأردن ويحاذي خط تصدير النفط العراقي من حقل كركوك الى ميناء حيفا في فلسطين التي كانت تخضع للأحتلال البريطاني ويمرعبر الأراضي الأردنية، وقريبا من الحدود السورية أقصد بذلك قاعدة الأيج ثري (H3).
وأعود لعرض الأمثلة التي أخترتها لعكس طبيعة العمل النضالي البعثي الخالي من الغرض الشخصي، بمعنى العطاء المتسم بالأقتحام والتضحية لتحقيق هدف بعثي يتصل بحرية شعب واستقلال وطن دون أنتظار لجني ثمن ولعلي أميط اللثام عن معلومة تعكس دورا لعبته مجموعة قليلة من الرفاق من الأعظمية والكرخ والرصافة لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليدين تعتمد أسلوب المبادرة الذاتية المعززة للتكليفات الحزبية التي لم تكن وافية بحسب تصور هذه المجموعة القليلة في عددها وقد أطلقت على نفسها عنوان -عشو نشو- وهي حروف مبعثرة يرمز بعضها الى نضال الوحدة والأشتراكية وهي :
المثال الأول – وأختير له موقع بناية ثانوية الأعظمية للبنات وهو نفس موقعها الحالي الجالس على الشارع الرابط بين المقبرة الملكية ومنطقة رأس الحواش.
أما لأي هدف أختيرت هذه البناية فكان الغرض منه التعريف بالبعث عبر الجدران والصفوف الخلفية للمدرسة من داخلها وليس من الخارج لكونها مدرسة بمستوى ثانوية ووعي الطالبات فيها يفي بجعلهن يحدثن ضجة بين الناس كما توقعنا ومن خلال عوائلهن أيضا برواية ما حدث بعد الأستماع لبناتهم من خلال التواجد في الساحة الخلفية للمدرسة، مما وفر لنا فرصة كتابة الشعارات والمطالب التي تعبر عنها جماهير الشعب موقعة بأسم البعث هذه المرة حصرا بأستخدام الطلاء الأسود-البوية- ونثر القصاصات البيض من اللفات الورقية المصمغة التي ظهر بديلها غير الورقي بل الشفاف وقد نثرالمكتوب من نوافذ الصفوف المغلقة أبوابها في حين استخدم الطبشور في كتابة الشعارات والمطالب على سبورات عدد قليل من الصفوف وجدت صدفة مفتوحة الأبواب وبعدساعة من الجهد الحذر وتم بعد منتصف الليل، تركنا المكان. وفي صباح اليوم التالي عدنا الى متابعة المشهد من بعيد فلاحظنا أن عناصر الشرطة السرية متجمعين أمام باب السياج الرئيسي للمدرسة ويبدو ان مسؤوليهم من ضباط التحقيقات الجنائية كانوا في داخل المدرسة لمعاينة المكان مباشرة في محاولة لكشف من هو وراء ما حدث دون جدوى، فالفاعل كان مجهولا. والنتيجة جاءت كما توقعنا، وبالدقة أكثر مما توقعنا بسبب ردة فعل المسؤولين الأمنيين الذين دعوا الى وقف الدراسة في الثانوية لهذا اليوم مما ادى الى أنصراف الطالبات الى بيوتهن تغلب عليهن الدهشة، فبدأن بنسج الروايات حول ما حدث، من هم الفاعلون، وما هو البعث، وما وما معنى الشعارات المنقوشة على الجدران وعلى بعض السبورات وعلى الورق اللاصق؟؟
والأهم من هذا بدء تدول أوسع للحديث حول ما حدث بين ربات البيوت في الأعظمية وخارجها من جهة وبينهن وأزواجهن، فأنتقل الحديث الى المقاهي ودارت دورته لتصل (الحدوتة) الى الحزب مقرونة بوصف مبالغ فيه عن جرأة الفاعلين، وسرد لتفاصيل لم تقع أصلا!!
المثال الثاني: وهذا يتكرر بين الحين والآخر ليشمل المناطق الشعبية ببغداد وهو القيام بجولات سريعة في أزقتها لكتابة شعارات الحزب المعرفة بأهدافه المنتصرة لأبناء العراق الكادحين والمنددة بسياسات السلطة الجائرة والمطالبة بأطلاق الحريات الدمقراطية وتوفير مستلزمات العيش الرغيد لجميع العراقيين ودعم النضال العربي من أجل الحرية والأنعتاق من قيود الأستعباد وتأكيد أسناد شعب العراق لجهاد أبناء فلسطين ضد الحلف الغربي الصهيوني الساعي الى الأستحواذ على الأراضي الفلسطينية وغيرها.
وشملت هذه المبادرة الرفاقية الذاتية أزقة الأحياء الشعبية الواقعة بين شارعي الرشيد والملك غازي -الكفاح- أبتداء من باب الشيخ وصولا الى محلة الطوب في الباب المعظم ومرورا بالصدرية وأطراف السنك داخل والخلاني وسوق الغزل والشورجة وقنبرعلي أي تقريبا المناطق التي شق عليها شارع الجمهورية في الفترة اللاحقة لتغيير النظام الملكي. وبعد أن نفذ الرفاق هذه المبادرة توجهوا الى المكان الذي دعينا للتواجد فية كتكليف حزبي لحضور حفل يقام بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف والقصد منه التواجد لرفع الصوت البعثي في محيط أجتماعي وليس تجمعا سياسيا بحتا يقام في قاعة للندوات في دارالمعلمين العالية وبنايتها كانت تقع بجوار المبنى الحالي لكلية الآداب او الأقرب لموقع قسم الأعلام الذي وسع ليصبح كلية للأعلام قبل سنوات قليلة من وقوع العدوان الأميركي الأجرامي.
وقبل التوجه الى القاعة كانت لدى الرفاق فسحة من الوقت ليدلفوا باب القسم الداخلي للدار القريبة من القاعة ليلتقوا الرفيق حميد خلخال أبن الفرات الأوسط الذي كان مسؤولا عن تسلم الأرزاق نيابة عن الرفاق الطلاب البعثيين الذين كانوا قادمين للدراسة من خارج بغداد لنجد عنده ما يغنينا من جوع بعد جهد معروق استمر لساعات طوال أستعدادا لبذل جهد جديد لانعرف الزمن الذي يستغرقه أو ماهي تفاصيله.
وذهبنا الى القاعة وبدأ الأحتفال بترتيل أيات من الذكر الحكيم وتلتها كلمات تحيي مناسبة مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتتحدث عن مكارم أخلاقة وتسهب في الحديت عن مبادئ العدل والرحمة ومناهضة الظلم ومحاربة الرق والعبودية التي نادى بها الدين الأسلامي الحنيف.
كل شيئ جرى بشكل طبيعي وكان البعثيون قد أحتشدوا في مكان الأحتفال للتعبير عن حقيقة مهمة تؤكد عظمة الدور الذي نهض به الرسول محمد(صلى) في تحرير الأنسان العربي وغيره من الاقوام من أدران التخلف والظلم وأضطهاد الأنسان لأخيه الأنسان مؤكدين على ترديد مقولة الرفيق المؤسس ميشيل عفلق التى تدعو كل العرب ليكونوا محمدا كما كان الرسول العظيم في دعوته الأنسانية كل العرب.
وكان ترديد هذه المقولة يتم لاول مرة في العراق وأمام حفل جماهيري تحضره شخصيات أكاديمية في مقدمتها وزير التربية الذي كان يومها الدكتور غبد المجي القصاب وعميد الدار وأساتذتها أضافة الى عدد من الشخصيات متعددة الأهتمامات السياسية والثقافية. وقبل ان تنتهي كلمات المتحدثين أعطيت الكلمة لشخصية على ما يبدو أنها تمثل توجها دينيا جديدا كان مطروحا من الأنكليز كبديل للأخوان المسلمين في العراق، وقد تضمنت كلمته نوعا من الأستفزاز للرفاق عندما غمز مستغربا وجود بعض من يرفعون في حفل يقام بمناسبة أسلامية شعارات قومية وهذه المرة مقرونة بالأشتراكية.
وعلى الفور أنطلق صوت البعثيين المحتج مما أدى الى توقفه عن الأستمرار بالكلام، في حين بادر الوزير بالصعود الى المسرح بهدف التهدئة ولكنه زاد الطين بلة عندما تحدث قائلا : أن القوميين الأشتراكيين هم منا، فكان رد البعثيين واحدا وعالي الوتيرة ونصه،، الفئات الحاكمة ليست منا... لتسقط الفئات الحاكمة،، فضجت القاعة بترديد هتاف، تسقط، تسقط، تسقط مما أضطر الوزير بالأنسحاب وتبعه الآخرون، وجاء من يهمس لنا من الشباب المنظمين للأحتفال أن أتركوا يسرعة المكان لأن أتصالا قد تم بدائرة التحقيقات الجنائية يعني ما يوازي الأمن العامة في العهد الجمهوري، وفعلا تم الأنسحاب من دون خسائر.
المثال الثالث : نورده لأنه يذكر بالمبادئات التي تحدث بأستباق للأحداث المتوقعة، بالتواجد في الأماكن المحتمل أن تقع فيها هذه الأحداث ونحن نصل من الاعظمية والكرخ وقد أخترنا أن نتواجد عند مبنى كلية الآداب والعلوم في الباب المعظم ومبناها كان يقع في موقع في بداية شارع الجمهورية الآن، ويعتبر منطقة الوسط بين الكليات الطبية الواقعة في العواضية خلف مستشفى المجيدية الذي أضحى مدينة للطب وبين كلية الحقوق المحاذية لأمتداد سكة قطارالجسر الحديدي المارة بمحا ذاة الوزيرية وكلية التجارة ودار المعلمين العالية وكلتاهما تقعان في منطقة ليست بعيدة عن الباب المعظم والهنسة الواقعة بمقابل المدرسة الغربية بأنتظار ان يلتئم الجمع وتتوحد التظاهرة المستذكرة لمعركة الجسر ضمن أحداث وثبة كانون الثاني عام 48 الملحمية التي اسقطت معاهدة بورتسموث بأسقاط حكومة صالح جبرالتي روجت لها وكان هذا في شتاء1951.
ولم تجر الأمور كما أراد المتظاهرون فقدعمدت قوات الشرطةالى أتخاذ أجراءات مشددة لمنع التواصل بين جميع التجمعات بمحاصرة مسبقة لأماكن التجمعات، مما أضطر كل تجمع الى الأرفضاض، الا تجمع كلية الآداب الذي تقرر فيه الأنسحاب للداخل والأعتصام في مبنى الكلية واغلاق الباب الرئيسي بتجميع عدد كبير من –رحلات- الصفوف فوق بعضها البعض خلف باب الكلية الرئيس بحيث كان صعبا على شرطة نوري السعيد أختراق الكلية لأعتقال المعتصمين، الذين نصبوا مصيدة في سطح البناية تستخدم الطابوق سلاحا يصوب الى رأ س من يتجاسر ويقترب من تلك الباب على الرغم من محاولات ابعاد الصيادين من موقهم ليتسنى لهم التقدم نحو الباب، غير أنهم فشلوا في ذلك حتى بعد أستخدامهم خراطيم المياه وما تلاها من أطلاق للقنابل المسيلة للدموع التي لم يحسن الشرطيون أستخدامها بتصويب جيد فصارت تنهال على عناصرهم التي طوقت مبنى الكلية من الخلف فصاروا يصرخون،، عدهم منها..عدهم منه،، ظنا جاهلا منهم أننا نمتلك ما يماثلها!!
ولأن العصر قد داهمنا فقد فكرنا جديا بالبحث عن مخرج لأنهم مالوا للتهدئة فتأكدنا بأنهم يراهنون على حلول الظلام الذي يساعدهم على تنفيذ خطتهم في الأختراق.
وفي هذه اللحظات الحرجة، هل صوت المنقذ وبين مصدقين ومكذبين لصدقية هذا الصوت، لئلا يكون مدسوسا ويستدرجنا للمغادرة من الباب الخلفي بهدف
ألقاء القبض علينا، ولكننا لاحظنا أن هناك تراجعا للشرطة تحت زخم هجوم يشنه شباب جاءوا من منطقة الفضل ولاح من بينهم أحد رفاقنا الذي كان معنا صباحا وانسحب قبل دخولنا المبنى ودعانا للخروج عبر سياج الكلية الخلفي بسرعة، قبل أن يتعرضوا هم لهجوم مقابل يفشل مبادرتهم بفك الحصارعنا. فأبلغنا بقية المعتصمين بان المنادي من رفاقنا، فقررنا المغادرة معا على ان ننتشرفرادا على الأزقة الفرعية المؤدية الى عدة أتجاهات من بينها الفضل والصابونجية والحيدرخانة والشورجة، وغيرها من المخارج الموصلة الى شارعي الرشيد أوغازي.
وتمت العملية بمغادرة المجموع بسلام وكانوا يشكلون الوان الطيف الوطني العراقي ففيهم البعثي والقومي والشيوعي والأسلامي والمستقل.
وكما أوردت ذلك سابقا هذه أمثلة محدودة من مئات أخرى بادرت اليها هذه المجموعة من البعثيين وهم يعبرون عن مواقف الحزب المتسمة بالشجاعة بتبني قضايا الشعب والعمل بتضحيات كبيرة بأن تحقق ضغطا مضافا على الحكومة توافقا مع ما تفعله اطراف المعارض الوطنية من أتعاب يكاد أن يكون يوميا للسلطة، وآسف لأنني أوجزت في عرض جزء من حقائق هذا الجهد المتواضع، وليس بشكل مسهب في عرض جميع التفاصيل المتصلة يه. فمساحة النشر في الوقت الراهن لا تحتمل الأطالة.
ولكن كل هذا لا يمنع من التوقف عند أبرز مشاركة نضالية للحزب تحققت بالدورالمتميز الذي لعبه جنبا الى جنب مع الأحزاب الوطنية الأخرى في قياداة الجماهير الغاضبة في أنتفاضة تشرين 1952 التي كانت الأكثرأحتداما والأطول زمنا ومساحة قطعتها تظاهرات سابقة، اقواها تأثيرا في السلطة السعيدية فقد بدأت تجمعاتها من باب المعظم وأتجهت الى شارع غازي _الكفاح_ وأتجهت الى الباب الشرقي
بعد أن خاض المتظاهرون عدة معارك مع قوات الشرطة المنشرة في مفارق الطرق بدءامن باب المعظم التي فشلت فيها بمنع المتظاهرين الذين جاءوا من الأعظمية والكرخ ومن التجمعات الطلابية في الأماكن المحيطة بالمنطقة من الألتحاق بالمظاهرة التي سارت في أتجاهها المرسوم على الرغم من محاولات تصدي قوات شرطة ثانية للمظاهرة قرب مركزشرطة الفضل وفشل هذا التعرض، وتلاه فشل قوة شرطة ثالثة قادمة من الشيخ عمرعبر ساحة السباع، لكن أندفاع المتظاهرين وأصرارهم على المضي قدما نحو هدفهم أفشل محاولة الشرطة الجديدة.
ولعل أعنف الأصطدامات التي شهدتها التظاهرة كانت عند مركز شرطة باب الشيخ الواقع بالقرب من مرقد الأمام عبد القادر الكيلاني واستخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة وانتهت بهزيمة قوات الشرطة وبمقتل أحد أفرادها وجرح عدد من المتظاهرين، لتمضي المظاهرة مرة أخرى مرددة شعاراتها المدينة للنظام والهاتفة بسقوطة.
وما ان وصلنا الى الباب الشرقي في وقت متأخر من العصر حتى شهدنا أنتشار طليعة دبابات الجيش في المنطقة والى جانبها عربات الريو حاملة الجنود غير المدرعة واذا بصوت المذياع يعلن أستقالة الوزارة وتكليف العميد الركن نورالدين محمود رئيس اركان الجيش بتشكيل حكومة جديدة للتهدئة بأدعاء انها تهيئ لوضع سياسي بديل ضمن لعب تعد دائما بأصلاحات ولكن لا أحد يفي بالوعد!!
وكان الحزب قد أردف هذا الجهد الفعال بفعاليات نضالية على مدى سنوات عدة مؤكدا حضوره في الشارع النضالي العراقي فأتجه بعد انعقاد مؤتمره القطري الأول الى الظهور العلني في الفعاليات والمؤتمرات العلنية التي تنظمها أحزاب المعارضة وخصوصا تلك التي نظمت عام 54 في أثرأعلان السلطة قرارات بأعادة منح تلك الأحزاب اجازة بالنشاط العلني وأطلاق أجازة الصحف للأحزاب وللأشخاص المستقلين، واجراء انتخابات لمجلس نيابي جديد في محاولة لأمتصاص الزخم الشعبي المناهض لسياسات الحكومة الجائرة وأن لم يستمر ذلك طويلا كما كان متوقعا، فسرعان ما يعود الباشا نوري السعيد الى عادته القديمة ليحل مجلس النواب ويلغي أجازة الأحزاب ويعطل الصحف وجميع القرارات التي تلحق به وبالوصي على العرش عبد الأله وجع الرأس.
وبهذه المناسبة لا صحة لما قيل على لسان بعض القوى السياسية من أن ألحزب قد قاطع الأنتخابات النيابية والصحيح هو أن الحزب شارك فيها الا أنه لم يؤيد جميع مرشحي الجبهة الوطنية لأن لديه ملاحظات على بعض مرشحيها في الأعظمية والرصافة
ونشير الى ان أول ظهورللحزب تم فعلا في مؤتمر الحزب الوطني الديمقراطي الذي أنعقد في سينما النجوم التي كانت تقع في الباب الشرقي في مكان الموقع الذي احتلته وزارة الثقافة والأعلام بعد قيام ثوررة 17 تموز 1968 وهي أوسع دار سينما في ذلك الحين.
وسعى الحزب من وراء هذه المشاركة التعريف بالحزب الوليد وبالأهداف التي يؤمن بها ويدعو الى تحقيقها.
وكان تواجدنا لا يزيد عن ثلاثين رفيقا قياسا الى تواجد حشد عناصر الحزب المذكور المدعومين من الشيوعيين الذين يجدون فيه واجهة للكسب وأطلاق الشعارات وقد تجاوز عددهم الألف شخص، ومع ذلك فقد أزعجهم وجود البعثيين وهم يطلقون هتافات تدعو للحرية والوحدة العربية والأشتراكية، ويصرون على تأكيد رفضهم للسلام مع أسرائيل، فكلما كنا نهتف لا سلام مع اليهود تعلو وتيرة صراخهم عاش السلام العالمي، حتى غطوا على من كان يرغب بالحديث بأسم الحزب الوطني الديموقراطي عن برنامجه في الانتخابات القادمة، وأخير أضطر المنظمون الى وقف المؤتمر.
وفي اليوم التالي ظهرت جريدة الحزب –الأهالي- لتحملنا مسؤولية تخريب المؤتمر في حين كان الصارخون بأكثر من ألف حنجرة هم أصحاب الضجيج الذي عطل سير المؤتمر وليس رفاق البعث، وهنا تكمن المفارقة!!
وبعد أيام من أنعقاد مؤتمر الحزب الوطني الديمقراطي، أنعقد مؤتمر حزب الأستقلال الذي مثل التيار القومي في العراق وكان أكثر أنتظاما وترتيبا من سابقه.
وتواجد البعثيون فيه مرددين شعارات أثارت مضامينها أنتباه الحضور من الضيوف ممثلي الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية والأجتماعية المختلفة ومن ممثلي السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي في العراق، كما حظيت الشعارات بأهتمام كبير من جماهير حزب الأستقلال المتواجدة في المؤتمر حيث تفاعلت معها بشكل ملحوظ لأنها شعارات منطلقة من حسن وطني قومي لامس مشاعر الجماهير فتعاطفوا معها، وكون البعثيين منهجوا هتافاتهم بحيث تأتي معبرة عن معاني الدعوة لتحقيق هذا الهدف او الأقلاع عنه وعلى سبيل المثال : الجوع والظلم والأعتقالات والسجون من أهداف الفئات الحاكمة..
لتسقط الفئات الحاكمة
عاشت فلسطين حرة عربية..عاشت عاشت
لتسقط الأنظمة العربية المتآمرة.. تسقط تسقط
الوحدة والحرية والأشتراكية طريقنا للحياة الكريمة
عاشت أمة العرب.. عاشت عاشت
امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة
والجديد الذي بدا في ترديد مثل هذه الهتافات ان كل شطر منها يردده رفيق بينما يردد شطره الثاني رفيق آخر، وهكذا تم التناوب بين الرفاق بترديد الهتافات من دون نسيان الهتاف الذي يقول : لا سلام مع اليهود.. لا لا لا، مع ملاحظة أن الهتافات لم تكن معدة مسبقا وأ نما هي ولادة المناسبة في لحظة حضورنا لها وان المؤتمر تحضره شخصيات وطنية معارضة وأخرى محسوبة على الحكومة وأحزابه وخصوصا حزب الأتحاد الدستوري وهو حزب نوري السعيد وحزب الأمة الأشتراكي العائد لصالح جبر بطل معاهدة بورتسموث المؤودة بأرادة وطنية مضمخة بدم عراقي.
وكان تصاعد الحضور البعثي في ساحة النضال العراقي الشعبي ملحوظا من قبل سلطة بهجت العطية مدير دائرة التحقيقات الجنائية بحيث وضعت فعاليات البعثيين في الأعظمية وغيرها من مناطق العاصمة بغداد تحت مجهر مراقبتها فأكتشفت مكان أول وكر طباعي بعثي وكان في الأعظمية وكان الرفيق نجاد الصافي مسؤولا عنه ساعده في ذلك الرفيق وليد الغزالي والرفيق خالد طيرة وكانت أول مطبعة رونيو يتسلمها الحزب مرسلة من سورية وأستقرت في بيت الرفيق فخري قدوري لما قبل أنتخاب القيادة القطرية لتنتقل الى وكر خاص بمعرفة أمين سر القيادة القطرية فؤاد الركابي الذي حاول أن ينيط المهمة باكثر من رفيق ألتقى بهم لمعرفة أذا كان ظرفهم العائلي يسمح بتوليهم هذه المهمة الدقيقة ومن بين من ألتقاهم في داره ضياء حسن، حيث فوتح بذلك ولم يمانع الأخير في الأستجابة للتكليف، ولكن وفاة والدته حال دون ذلك.
والملفت للنظر أن الحزب وحتى بكبس وكره الطباعي حقق كسبا أعلاميا جديدا تأتى من نشر جريدة الأخبار البغدادبة للخبر وفي مكان بارز، وهي من الصحف الخبرية المعروفة مما تسبب ذلك في تعريف المزيد من المواطنين بالحزب السري وبفعالياته بعد نشر هذا الخبر.
وما أقدم عليه الحزب بتفان وأخلاص من نشاط كبير في تبني مطالب الشعب والدفاع عن مصالح العمال والفلاحين والكسبة والطلاب والمثقفين ومن أعلان صريح لأيمانه بحقوق المرأة عبر مواقف تقرن القول بالفعل بأسناد كل ما تدعو له الجماهير وما تطالب به ومن تصد للسلطة ومواقفها التي تنال من كرامة العراقيين وتتجاوز على حرياتهم العامة مما أهله لأحتلال موقع متقدم في أستقطاب رضا الجماهير والتفافها حوله.
وأعود للحديث عن مسار البداية فأقول ان أيراد أسماء من أثبتوا حضورا متميزا في بدايات نضال البعث في العراق مستعينا بذاكرتي قبل أن يطويها زمن الغربة، وقراءتي لما كتبه فائز أسماعيل و د. فخري قدوري وفؤاد الركابي ماتضمنه بحث كتبه الرفيق هاشم العبيدي حول الموضوع وبعض ما كتبه السيد هادي العلوي الذي يعتبر واحدا من المدونين الذين أتصفت كتابتهم بالدقة عن تأريخ العراق في شتى الحقول!!
وسأحصر في أستذكار الأسماء حصرا بسنوات البداية أو سنوات الولادة الطبيعية في حضن البراءة والفعل المندفع بحماسة وتعفف.
نعم سأحصرها بين عامي 1948 و 1954 أي بين السنة التي ردد فيها أوائل العراقيين قسم الأنتماء للحزب وبين السنة التي أنعقد فيها أول مؤتمر قطري وبحسب الأمكنة التي تم فيها الأتصال وهي :
أولا- دار المعلمين العالية وهم شاذل طاقة ودحام الآلوسي ومحمد جاسم الأمين وحميد خلخال وعبدالله سلوم السامرائي وعبد الله نجم وعبد الغفار الصائغ وزكي الجابر.
ثانيا – كلية الحقوق وضمت الرفاق عبد الرحمن الضامن وشقيقه عبد الوهاب وفيصل حبيب الخيزران ويحيى ياسين وزكي الخشالي وعبد الرحمن منيف الروائي العربي الكبير الذي حملته الشرطة الى الحدود الأردنية مطرودا بسبب نشاطه البعثي.
ثالثا- كلية التجارة وضمت الرفاق علي صالح السعدي وطه الرشيد وأياد سعيد ثابت وجعفر قاسم حمودي وممتاز أحمد شوقي وباسل خليل أسماعيل وعدنان أسماعيل وشمس الدين كاظم وطبيعي فخري قدوري الذي أنضم للحزب قبل ذلك عندما كان طالبا في ثانوية الأعظمية.
رابعا - كلية الآداب والعلوم وضمت الرفاق عبدالستار الدوري وعادل أحمد زيدان وشفيق الكمالي ونوار حلمي وصفء محمد علي.
خامسا - كلية الهندسة كان فيها الرفيق فؤاد الركابي.
سادسا – كلية الطب وطب الأسنان وضمت تحسين معلة وخلدون درويش لطفي وعدنان أبراهيم جمعة ورشيد الحيالي.
سابعا- المتفرقة وتضم- حازم جواد ونجاد الصافي وضياء حسن وعطا محي الدين ووليد الغزالي وعادل ومحمد سعيد أسود وسعدون حمادي وصالح شعبان وحمدي عبد المجيد وشعبان جاسم وعدنان جاسم وسعدون الحيالي وناظم جواد ومحمد جميل شلش ومدحت أبراهيم جمعة وغانم عبد الجليل وخالدعلي الصالح وكريم شنتاف وعلي الحلي ويعقوب الحمداني ومهدي آصف ووليد عبد الرزاق.
ويمكن القول ان أنفتاح الشارع على الحزب أخذ حجما من الأتساع بعد أنعقاد المؤتمر القطري الأول للبعث وليس التأسيسي، بل المنظم لزخم أنعطافة الناس نحوه، فالتأسيس يسجل للرفاق في القاعدة بدءا من الذين جاءوا للعراق من سورية والأردن بالدرجة الأولى وغيرهم الذين كسبوا خلال وجودهم في العراق وبالتالي أسهموا في وضع قاعدة التأسيس خلية خلية مما أستلزم بعد ذلك أيجاد قيادات تتولى وضع الحواضن التنظيمية القادرة على أستيعاب العناصر التي أنتمت للحزب أستجابة لنداء البعث تباعا، تأثرا بفكره وشعورا بحاجة العراق لوجود تنظيم ثوري يعد ويعبر عن تطلعات الشعب الأنسانية القومية التقدمية وتستجيب لطموحاتة في تحقيق حريته مقرونة ببناء صرح لنظام أشتراكي يحقق العدالة ألأجتماعية ويزيح الظلم والأقطاع والنظام الرجعي عن صدور العراقيين.
وهو ما لم يكن ملموسا في الأحزاب التقليدية، بالرغم من ان قادتها وناشطيها كانوا يتعرضون للملاحقات من قبل السلطة السعيدية، كالحزب الوطني الديمقراطي الذي ترأسه السيد كامل الجادرجي الشخصية الوطنية المعروفة وحزب الأستقلال الذي قادته الشخصية القومية المعروفة الشيخ محمد مهدي كبة والذي أختير ليكون عضوا في مجلس السيادة الذي أعلن مع أنطلاق ثورة 14 تموز كجهة تشريعية.
يتبع في الحلقة الثالثة والأخيرة :
1- ماذا حقق البعث خلال السنوات الأربع التي تلت أنعقاد مؤتمره القطري الأول؟؟
2- ما هي الدلالات التأريخية لمنجازات ثورة 17- 30 تموز 1968؟؟
3- أي دور لعبه المجاهد عزة أ براهيم في بلورة العمل المقاوم ودحر العدوان؟؟