جمال سلطان يكتب: مفاجأة .. الفراعنة عرب أقحاح وفدوا من جزيرة العرب

في نهاية العقد الثالث من القرن العشرين (1929)، ثار في مصر نقاش حول الأصول العرقية التي أتى منها "الفراعنة"، وكان بعض الباحثين الأتراك قد زعم أنهم من أصول تركية أتت من شرق آسيا، وهو ما تصدى له العلامة المصري المحقق أحمد زكي باشا، شيخ العروبة كما كان يعرف، ونقض تلك الفرضية نقضا علميا رصينا، ثم طرح وجهة نظره التي يرجحها، وساق عليها الأدلة التاريخية والعلمية، من أن الفراعنة بالأساس وفدوا إلى وادي النيل من جزيرة العرب، عن طريق العبور من باب المندب إلى شرق أفريقيا ثم وصولهم إلى منابع النيل، ثم تتبعهم مجرى النيل حتى استقروا في مصر.

غير أن أحمد زكي باشا، أراد أن يبسط كل الآراء التي قيلت في تلك المسألة، للإجابة عن السؤال الذي شغل البال وقتها، وهو من أين جاء الفراعنة؟ وإلى أي سلالة ينتسبون؟، فكتب يقول : هناك قولان في أصل السكان بمصر ومن أين جاءوا ؟

1 - أحدهما : وهو ما عليه الأكثرية الكبرى ( وإن شئت فقل الأغلبية الساحقة من

علماء العاديات المصرية) من أن أوائل المصريين الأقدمين قد هبطوا من آسيا (جزيرة العرب) إلى أرض وادي النيل .

يضيف أحمد زكي معززا كلامه: يقول بذلك بروكش الألماني ، وابن وطنه : أبيوس ، وثالثهما : لوث ، والعلامة ليبلن (نروج) ، والعلامة روجيه الفرنساوي . على أن القائلين بمجيء المصريين الأولين من آسيا قد اختلفوا في بيان الطريق الذي سلكه أجدادنا البائدون في أثناء نزوحهم إلى كنانة الله في أرضه ، فذهب بعضهم إلى القول بأقرب المسالك ، وهو برزخ السويس ، وقال البعض الآخر إنهم تنقلوا في البلاد، وجابوا الصخر بالواد ، وواصلوا الترحال بالترحال حتى انتهت بهم . خاتمة المطاف عند باب المندب ، فعبروا البحر وقطعوا جبال الحبشة ، ثم ساروا مصعدين مع النيل إلى جهة الشمال حتى ألقوا عصا التسيار واستقر بهم في مصر القرار .

2- أما علماء الطبيعيات والأخصائيون في دراسة أحوال الشعوب ، فيقولون بمجيء أوائل المصريين إلى هذا الوادي من صحراء ليبيا وما إليها من الأصقاع الممتدة على ساحل البحر الأبيض المتوسط ، وحكموا بأن نواة هذه الأمة المصرية قد انتقلت إلى ربوع النيل المقدس من ناحية الغرب والشمال الغربي ، أي إن أصل المصريين صادر عن ذلك الجيل الكبير الكريم : جيل البربر .

3ـ  وهناك نظرية ثالثة وهي أعجب ما يساق من الحديث ، ذلك أن الأستاذ رنيش النمساوي قرر أن المصريين من أصل أفريقي ، ثم ذهب في ذلك إلى نهاية المدى وقال إن جميع السلالات البشرية العائشة في الدنيا القديمة (أفريقيا وآسيا وأوربا) كلهم منحدرون عن منبت واحد وأسرة واحدة ، وكان مقامها على شطوط البحيرات الكبرى في وسط أفريقيا الاستوائية . أما العلامة ماسبيرو - وهو من أساطين العلم وأركان العرفان - فقد جنح إلى الرأي الراجح وهو الأول ، أما الرأي الثاني فقد اضطلع به علماء الألمان ، وشاركهم فيه أخونا المرحوم أحمد باشا كمال الأثري ، وهو أن المصريين جاءوا إلى هذا الوادي عن طريق الجنوب ومن جهة باب المندب .

غير أن أحمد زكي باشا عاد ليؤكد اختياراته العلمية، بعد تحقيق طويل، وهي أن الفراعنة تعود أصولهم إلى عرب شمال الحجاز ونجد، ويضيف قائلا : وسواء عندي أصحت الرواية الأولى أم كان الصواب قرين الرأي الثاني ، فلا مشاحة أن مصر إنما استعمرها عرب الشمال الحجاز ونجد وبادية الشام) ، أو عرب الجنوب عن طريق اليمن.

مقال المحقق المصري الكبير أثار ردود فعل متعددة، كان من أبرزها ما كتبه المؤرخ الشامي الكبير "نقولا حداد"، الذي كتب مؤيدا لما ذهب إليه أحمد زكي باشا، ودعم بقوة صحة رأيه في أصل الفراعنة، غير أنه حدد أنهم وفدوا إلى وادي النيل من جزيرة العرب عن طريق عبور البحر الأحمر إلى الحبشة ثم تتبعوا مصب النيل، ولم يأتوا عبر صحراء سيناء وبرزخ السويس، يقول نقولا حداد :

اطلعت بشوق على مقال سعادة العلامة الأستاذ زكي باشا عن أصل الفراعنة وأعجبت بسعة علمه وبما أدلى به من براهين وخطر لي ما ذكره المؤرخ الإنجليزي (رولنسون) الذي أسهب في تاريخ الدول الخمس الشرقية وأصولها ، وأذكر جيدا شرحه الطويل عن أصل المصريين القدماء وملخصه أن المصريين الأولين وفدوا من بلاد العرب وعبروا البحر الأحمر ونزلوا عند حدود الحبشة ، ثم تدرجوا إلى أن هبطوا وادي النيل وأسسوا دولتهم . ولهذا المؤرخ براهين وتعليلات لهذه النظرية وجيهة جدا، فألفت نظر سعادة الأستاذ إليها ؛ فلعله يجدها أصح من سائر نظريات المؤرخين الآخرين، فإذا رجحت نظرية (رولنسون) فيكون العرب قد دخلوا إلى مصر ثلاث مرات : الأولى : هي التي نحن بصددها . والثانية : غزوة الهكسوس ، أي الرعاة . والثالثة : الفتح الإسلامي ، ولذلك لا يبقى شك بأن المصريين من سلالة عربية الأصل .

والمدهش أنه قد جرت بعد ذلك أبحاث أكاديمية وعلمية، تستجيب للمعايير التاريخية والعلمية الحديثة، ذهبت إلى الاعتقاد بأن أصول هذه الحضارة تعود إلى بلاد تسمى البنط، وهو اعتقاد جاء بناء على عدد من الكتابات الهيروغليفية القديمة، ورغم عدم تحديد موقع بلاد البنط بشكل دقيق، إلا أن الترجيحات العلمية قالت أنه ربما يكون موجودا بين الساحل الأفريقي والمحيط الهندي، وهي منطقة جزيرة العرب، وهو ما يدعم التحقيقات التي أشار إليها كل من أحمد زكي باشا ونقولا حداد في النصف الأول من القرن العشرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق