
لماذا لا يرحم اللھ أھل غزة؟
كم ھو يسير أن تطلق ھذا السؤال...وكم ھو عصي على الجواب.
لم أكفكف دموعى بعد ..لكننى قادرة على التفكير والتحليل أثناء البكاء..ولست أدرى أميزة حبانى اللھ بھا أم لعنة أصابتنى؟ فقط ردا على سؤال (أين اللھ مما يحدث فى غزة؟)فإن وجدت في إجابتى وجبة دسمة لا تحتملھا أمعاء عقلك ووعاءإدراكك، فرجاءا لا تتھمنى بما لم تفھم ..ولا تھرف بما لا تعرف ... فقط اجھد أن تفھم ما لم يعلمك أحد إياھ يوما.
لن يكون من الصعب تخيل اجتياح أفكار إلحادية عقول كل من يتعرض
لھذا الكم الھائل من الضغوط.. أفكار لا أقول تتسلل بل أقول تھاجم تماما كصواريخ باليستية نافذة بعيدة المدى .. ولھذا الھجوم أثر أقوى على من يراقب الوضع ويتأثر بھ عن بعد ،وربما أشد من أثرھ على من يرزحون تحت وطأة الموت جوعا .. فالجوع يشل العقل ويوھنھ عن التفكير والتحليل..أما أنت عزيزى المتأثر الممتلء البطن ستمتلك حتما رفاھية التفكير.. فدعنا نفكر سويا ..اعتدنا أثناء الأزمات الكبرى كالمجاعات والحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية أن يظھر استفھام جمعى مباغت يطلقھ الجميع_ تصريحا أو تلميحا_ فيصرخ العقل في حيرة (أين اللھ مما يحدث لنا _أو لھم_)؟ وتحت تأثير الألم لن تجدى معھ إجابات باھتة كتلك التى يطلقها المشايخ بقولھم أن المؤمن مصاب والابتلاء يرفع الدرجات وما شابھ..والحق أنھم لم يخطؤا الإجابة بحسب مستوى وعيھم (فذلك مبلغھم من العلم)..ولكن أنت أخطأت السؤال والإسقاط دون أن تدرى ...
الخلل ليس فيما يحدث من ابتلاءات جسام ومن نوائب عظيمة .. بل ھو فى فكرتك أساسا عن الخالق وعن الأدوار التى ينبغى_بحسب وعيك المحدود _أن يقوم بھا .بل وعن تحليلك للحدث وشعورك تجاھ ما تراھ ابتلاءا ...
أنت مطالب أولا بفھم حقيقة الخالق وحقيقة علاقتھ بما يحدث لمخلوقاتھ ومن ثم يتحقق الفھم الذى لا يضطرك لاحقا إلى إلقاء مثل تلك التساؤلات العاطفية وليدة انھيار نفسي مفاجئ .ولن تعود لتسأل( لماذا لا يمنع اللھ ھذا الألم وينھى ھذھ المأساة وھو قادر على إنھائھا ؟)
دعونا نعد من نقطة البداية...
قديما كنت أقرأ الآية الكريمة (اللھ نور السموات والارض) ..فأرتبك كثيرا .. وأتساءل (إن كان اللھ نور السموات والارض،فمن يكون الظلام؟) وكنت ألتفت إلى السماء فأجد نسبة الظلام أكبر كثيرا من نسبة النور _ليلا_فيزداد انزعاجى..كان هذا يحدث لى وأنا صغيرة..قبل أن أدرك ھذھ الثنائية duality وأھضمھا وقبل أن أصحح مفاھيمي عن الخالق وعن حقيقتھ بل وحقيقتنا نحن ابتداءا..
نحن فريسة لطريقة عمل عقولنا وتأويلاتنا المحدودة بفكر ضيق موروث لا يتجاوز الإجابات السطحية التى لا تروى ظمأ العقل ولا تسكن أرق الروح ..وھنا تكمن المعضلة..أنك تصر على إفساح المجال لعقلك الفاسد ليثرثر لك طوال الوقت..ولو أخرستھ قسرا وسكن أزيز الفكر المتعفن ..لنطقت الحقيقة حين يخرس الباطل .. لكنھا تجربة عميقة وحقيقية عز الوصول إليھا إلا لمن صدق فى طلب الفھم والوعى.
فكيف تفسر التغاضى من الخالق عن كل هذا الألم الذي يتكبدھ المخلوق؟
وھل ھناك حقا تغاضى؟
وھل الخالق منفصل بالأساس عن المخلوق؟
ھى أوھام في رأسك يا صديقي..فلا تعززھا..
بعيدا عن فكرة العدالة المؤجلة ..يجب أن نسلم ابتداءا بسلامة قوانين ھذا الكون .. ففكرة العدالة قد تكون أعمق من تحليلك لما يحدث خلال تجربة أرضية واحدة... فكم من تركة يحتملھا الظالم لغدھ والمظلوم من أمسھ في حقيقة لا غد فيھا ولا أمس...
أنت تصف الموت بالفاجعة والمصيبة والمھلكة.. وھذھ ھى مشكلتك الكبرى..أنك ترى في الموت نھاية بل ونھاية جائرة..وأنت لا تفھم أن الموت فى حقيقتھ ھو مجرد انتقال ..لكنك ترفض الانتقال..تماما كما يقاوم الجنين العالق في رحم أمھ الانتقال إلى عالمنا...فھل لايزال وعيك قاصرا ومحدودا كوعى ذلك الجنين؟
منذ تقرر المجئ إلى تلك التجربة الأرضية وأنت رھين ذلك المحبس الكبير _بمعاييرك أيھا الصغير_ تحيا فى كبسولة أرضية محكمة تسبح في محيط كونى ھائل.. ثم ما تلبث تتحرر من سجنك الضيق لتعود في فضاءات المصدر الذي كان معك ھنا تماما كما كان ھناك ... ھل تعى حقا من الذي يتألم حين يصرخ المتألمون؟ ھل تعى بالأساس ماذا يكون الألم؟ ..تلك الضربات العصبية الكھربائية؟ وھل تدرك حقيقتھا؟أتدرى إن كان ھذا كلھ حقيقة أم وھما؟
ھل ترى حقا فى المجرم المتعجرف منتصرا ؟وفى الضحية منتكسا مھيضا ومھزوما؟ ما ھى معايير الانتصار والھزيمة التى يثرثر بھا عقلك ومن ثم يرسل إشارات فيعتصر قلبك؟
أن ترى في المجرم سفاك الدماء منتصرا..وفى مسفوك الدم مھزوما ھذا خطأ فادح ..فالعكس صحيح ..
الضحية ھى التى تتطھر والأصل أن تتطور(إن ارتقت بمصابھا فبلغت درجات أكبر من الوعى) خلافا للمجرم الذي يسقط فى شباك جرائمھ.. والظالم ضحية نفسھ الخبيثة تثقل كارماتھ وتضاعف فرص عقوباتھ الآتية لا محالة..
أترى نورا ساطعا في مواجهة ظلام دامس؟
ھل يمكنك رفض وجود الظلام اطلابا لنور سرمدى؟
وماذا إن تك إرادة النور السرمدى أن يسمح بوجود الظلام؟
فھل مازلت ترى فى النور نقيض الظلام؟
ھل أخفقت أنا فى إيصال ما أفھمھ بالقدر الذي يشتت فھمك ويذهب بعقلك في تحليل كلماتى كل مذھب؟
حسنا دعنى أؤكد...
لا شئ يمكنھ أن يمنع شعورنا بھذا الألم الرھيب تأثرا بما يحدث في غزة اللھم إلا وعى حقيقي يتجاوز التحليل السطحي البدائى لما يحدث ..ولا شئ سيوقف أملنا الجارف في رفع ھذا الواقع الذي يحدث...ولا شئ سيحول دون التسليم الإيجابى الذي يحول دون السخط الغبي على أقدارنا(أو ما أسميناھ جھلا أقدارنا ) كوننا ابتداءا من نوجھ أقدارنا ونسوسھا ..
شتان يا عزيزى بين من يتألم ويأمل وھو مدرك لحقيقة ما يحدث _أو يزعم أنھ كذلك_ وبين من لا يعدو كونھ مستزيدا من الألم ألما...ومضاعفا من القھر قھرا ..
وشتان بين من يندب وينوح على الميت .. وبين من يفھم حقيقة الموت ..
وشتان بين من تفتنھ قوة المجرم وبطش الظالم...وبين من يرى مآلات كل مجرم بعين الوعى فتسكن روحھ اطمأنانا لعدالة الكون الذي صممھ الخالق صارما في قوانينھ..
مخطئ كل من تعميھ الانفعالات العابرة عن اليقين بأن الظالم نافذة عقوبتھ لا محالة...وأنھ حتما ذائق من كأس ما أذاقھ لغيرھ..وھذا يسري سريان الشمس في فلكها والقمر في مدارھ سواء تأثرت أم لم تتأثر...دعوت عليھ أو لم تفعل...ھى قوانين صارمة ونافذة لا محاباة فيھا لأحد ولا تعرف انحيازات..قوانين حاسمة لا تنظر لمكانتك في المجتمع الدولي ولا لمستوى نفوذك أو ھيمنتك..قوانين فى غاية النزاھة لا تمالئ ولا تناوئ....فقط تسرى..
وتائھ من عمى عن حقيقة أن المجرم والضحية انعكاس كل منھما لصاحبھ..وأنھم غدا يتبادلون الأدوار على حلبة مصارعة كونية لا يخطئ نتائجها الحكم...
فقف من الأمر موقف المؤمن الحق...وليس ثمة إيمان حقيقي بغير وعى...وليس ثمة تسليم لا يدعمھ إيمان..ولست أطالبك بالإيمان بمعناھ السطحي أى التصديق بما لم تر دليلاعليھ..فتخالف قلبك وتكذب على نفسك...بل أدعوك للإيمان بمعناھ الأعمق..أن تؤمن بأن الحق نافذ بيقين من رأى بعينھ النھايات فتجاوز سكونا محنة البدايات..
لا شئ أخطر من الانفعالات التى تشل الفكر وتشوش الوعى..ولا عجب أن نجد ھذا القدر من النظريات الإلحادية التى طفت على السطح عقب الحرب العالمية الثانية.الحرب التى راح ضحيتها الملايين..فقط إن أدركنا ذلك الفخ الذي سقط فيھ من اعتبروا لاحقا فلاسفة كبارا ..وأنا أراھم كبارا بالفعل..لكن كبارا في الانھيار والھشاشة والتشتت..
فكن على يقين
لكل ظلم نھاية
والظالم في مھلكة ظلمھ وكارماتھ المستقبلية لا محالة
والمظلوم في تطھر وتطور وتحلل من كارمات سابقة لامناص
فما أجمل أن ترى النهاية العادلة متحققة بعين وعيك قبل أن تحيطھا عيون حواسك المادية
وما أعظم الإيمان الساكن في حنايا الوعى
فللھ الحمد والمنة في ما نزل وما لم ينزل
والنصر لغزة .. فقط حين لا تخطئ معايير النصر..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق