04 نوفمبر 2020

ياسر سليم يكتب: مهنة البحث عن الكراسي

في مكان ما مظلم وبارد، لانعلمه حتى اللحظة، تقبع مئات الكراسي مختلفة الأنواع والأشكال، تتراص وتتقارب بحثاً عن دفء في شتاء يقال أنه سيكون الأقسى، وهو ما يثير أحزان كثير منا تجاهها في وحدتها وعزلتها، وقد ألفناها وجرت بيننا عشرة ومودة، فعلمنا مواطن ضعفها وانكسارها، وحفظت عن ظهر قلب تفاصيل متاعبنا وأسرارنا من فرط إفضائنا لأسرارنا فيما بيننا وبين بعضنا البعض، بينما هي تحملنا وتحتضننا. 

اكتشفت أن عديدين يشاركونني الألم تجاه الكراسي الحبيسة،

وكثيراً ما تساءلنا، أين يمكن أن يكون مكان احتجازها؟ في بدروم نقابة الصحفيين؟ أم في أحد أدوارها المهجورة؟ هل جرى نقلها ليلاً لمكان غير معلوم؟ أم ذهبت وراء الشمس؟  

اقتنعت في البداية، وليسامحني ربي، بما روجه البعض ظنا منه ـ وبعض الظن إثم ـ  بأنها ربما تخضع لتحقيق ما لتدلي بما تعرفه من أسرارنا، وذلك بعد استدعائها وذهابها بمحض إرادتها خشية تكرار ما جرى عام 2016، وتعريض البلاد لأزمة تشمت فيها الأعداء، لكنني علمت أنها لم تبرح النقابة، منذ اختطافها واحتجازها في عصر ما قبل الكورونا.

 يتردد في الأدوار العليا أنها انزوت بمحض إرادتها غضباً منا، لأسباب غامضة، وهي لا تريد في عزلتها الاختيارية أن تعلمنا بمكانها.

 وسرعان ما انهدمت هذه المقولة بتصريحات لمسئولي النقابة بأن إبعادها جاء لضرورات الصحة العامة، ووقف انتشار فيروس لعين بين الصحفيين، فهي ـ الكراسي ـ ناقلة لعدوى الفيروسات والكلام، والكلام حرام، والسلام ختام.

 كان القرار بين زملاء يعملون في سيراميك صاحب الجلالة ويأملون خيراً في مستقبل الوطن، هو رفض التفكير والمناقشة للأمر أساسا، فلدينا ما هو أجلُّ واخطر لمناقشته، بينما قرر فريق من الزملاء المشاغبين تشكيل فريق متطوع للبحث عنها، وإجراء تحقيق استقصائي عن مكانها، انضممت إليه أملا، وقلنا أننا سنبدأ بسؤال أفراد الأمن بمدخل النقابة، فأكدوا أنهم لم يروها من الأصل لا خارجة ولا داخلة ولا ساكنة في القاعات، موضحين أنهم مستجدون في العمل منذ عامين فقط. 

بالداخل، تطابقت شهادات كل موظف مع زميله بعبارة "كنت إجازة"، وذلك رداً على سؤالنا عن تفاصيل يوم اختفاء الكراسي، وهو ما يعني حسب خبرات التحقيق أن الجميع صادقون لتطابق الشهادات. 

بحثنا عنها في كل مكان متاح، عند السلم المؤدي للبدروم، والجراج، وفي الدور المسحور، وفي الأدوار الجديدة، في قاعات التدريب، المسرح، القاعة الكبرى، لا أثر لها البتة. 

مع حجب المواقع، وانحسار الصحف، وبطالة الصحفيين، قلنا أن البركة انسحبت من حياتنا مع اختفاء الكراسي، وبتنا على قناعة أنها لن تعود ـ البركة ـ إلا بعودة الكراسي معززة مكرمة لمواقعها، فقد كان فيها سر إلهي خفي، خرج بخروجها، لذا، فلا عمل لنا الآن إلا البحث عن الكراسي.    

قيل لنا من شخص رفض الكشف عن اسمه ووجهه أن أفرادا أشداء نزلوا ليلاً من سيارة زرقاء ضخمة، ودخلوا المبنى وحملوا الكراسي دفعة واحدة ومشوا بها، ولم يعودوا، فلم نصدقه لأن الإفك وسوء الطوية كانا يفوحان من فمه. 

وقال آخر، لا يختلف شيئاً في سواد ضميره عن السابق، إن الكراسي اختفت تباعاً، واحداً وراء الآخر، يأتي مجهولون فيختطفون الكرسي ويخفونه لأيام، ثم نفقد الأمل فيه، وإذا خرج كرسي من الظلمات، اختفى آخر في توقيت مقارب، ليندلع سؤال بين الزملاء: ماذا فعل الكرسي ليجري معه ما جرى؟ ثم ندعو له ولزملائه بالفرج وننساه. 

كنا قد تعبنا من الوقوف في ردهات النقابة، فأخرج أحدنا بضع نسخ من صحف الاسبوع الحاضر، وفرشها على الأرض داعياً إيانا للجلوس، وفور أن جلست على عنوان ملف على خمس صفحات عن سر عبارة "أخذوهم وراء مصنع الكراسي" كان فرد أمن  عابس الوجه قد وقف فوق رؤوسنا يخبرنا أن التعليمات تقضي بمنع الجلوس، فأخبرته أن الوقوف المتكرر مشكلة للأعصاب، ولابد من بعض الراحة، وخاصة أننا نجلس على مصنع الكراسي، سامحني يابني هدّني التعب فتلعمثت، أقصد على صحيفة تتضمن ملفاً يتكلم عن مصنع الكراسي، فلم يتفهم أو ربما لم يفهم، فرضخنا له وقمنا نواصل البحث. 


وألهمني عنوان الملف الخطير فكرة: لماذا لا نذهب يارفاق لمصنع الكراسي ونشتري عدداً لا بأس به، بعد أن نطلق حملة لجمع ثمنها من زملائنا في كل المؤسسات التي سندور بها لجمع التبرعات؟ فصدمني زميل بالفريق بأنها سوف يتم إخفاؤها كما اختفت سابقاتها، فقلت له إن لذلك حل، هو أن يأتي كل زميل بمسمار غليظ يثبته في أرضية النقابة، ثم يصل بين المسمار وبين الكرسي - الذي اشتراه - بسلسلة حديدية، وبذلك سنعود لنجدها في أماكنها، فنظروا لي جميعاً نظرة تنم عن قلة تقدير للفكرة، وتبجح زميل وهو ينظر لي باعتباري ساذجا وسألني مستنكرا: وهل يصعب عليهم خلع المسمار أو قطع السلسلة أو كسر رجل الكرسي؟ ثم تابع بانهزام: إن الذين لاتلين قلوبهم لكراسي بريئة فيرمونها كل هذه المدة في أماكن ضيقة مظلمة باردة سيئة التهوية، هم بشر بلا قلب ياصديقي، ولا تستبعد عليهم القيام بأي شيء.

 وزفر أحد أفراد المهمة في يأس: ياجماعة، الجلوس أصلاً ممنوع، فلماذا نتعب أنفسنا بالبحث عن كراسي لن تفيدنا لو عثرنا عليها؟ وأمّن ثان على كلامه بالتأكيد على أنها كانت موجودة واختفت، وسوف تختفي مجدداً إذا عثرنا عليها، وتابع: "استسلموا لأمر  ربكم، يرحمنا ويرحمكم".

 واعترف ثالث: "المجالس المتعاقبة دلعتنا كثيراً، لقد أخذنا يارفاق نصيبنا من الدنيا وجلسنا على الكراسي لسنوات بما فيه الكفاية ياقوم"، فقلت له "وماذنب النباتات الجديدة في حقل الصحافة ألا يحق لها أن تستمتع بما استمتعنا به، وتخوض كالذي خضنا"؟ 

وتقهقر بعضنا يائسا، لكن أغلبنا استمر في المهنة المقدسة، وقلنا إننا سنتخذها مهمة العمر كله لو اقتضى الأمر، حتى لو التصقت بنا سخرية البعض بأننا صرنا أصحاب مهنة البحث عن الكراسي، بدلا من الاسم القديم لنا: أصحاب مهنة البحث عن المتاعب.

وقرب مسجد النقابة عثرنا على زميل يجلس بجوار المسجد بلحية غير مهندمة، وفور أن رآنا صاح بنا كأنما لم ير بشراً منذ سنين عدداً، وهو يحاول أن يحجب عن عينيه الضوء القوي الناتج عن قيامنا بإضاءة الممر المؤدي للمسجد وبدا أنه مؤذ لعينيه الكليلتين من طول النوم، وقال لنا بحروف متقطعة ولاهثة: تعبت من الوقفة لاختفاء الكراسي بتعليمات، فلجأت للمسجد فوجدته مغلقاً خضوعا للتعليمات، فظللت واقفاً حتى تعبت ونمت بجواره منذ.. لا أذكر،  حتى أيقظتموني سامحكم الله، ثم سألنا بصوت واهن فزع: كيف حال العالم بالخارج؟ ولماذا ترتدون هذه الكمامات الطبية؟ هل أنتم أطباء أم صحفيون؟ ثم مضى قبل أن نجيبه: إياكم تكونوا جايين لي بتعليمات؟ نفينا ذلك، فصاح بصوت عال: "حيّ" وخرجت من فمه حروف مبعثرة، حاولنا فهمها ففشلنا. 

وقال أحدنا ـ الدارس لعلم الكلام ـ ونحن نغادر زميلنا في مكمنه أنه فهم من كلامه أنه كان يقول إن الكراسي تم ضربها وعجنها وسحقها وصهرها ـ ياللقسوة ـ في خلاط كبير لصناعة كرسي ضخم لأحد الأولياء ـ رضى ربه عنه وأرضاه ـ ليجلس به بين الشيوخ.

ليست هناك تعليقات: