27 أبريل 2020

علياء نصرتكتب: جان ستان "الغيبة 1"

كان اجتماعا رسميا مضجرا ،لكن لابأس بما أصابنى ..فقد التقيت فيه عددا كبيرا ممن أعرفهم..كان من الممتع لى..ولى وحدى دون الجميع ،أن أتنقل كالفراشة ما بين هذه الشخصيات جميعها، فلكل منهم حضوره الخاص، وأنا لم أزل فى طور الشغف، فى طور المعرفة،... فى طور الاختبار والتحرى لم أزل.
كان باديا عليه البؤس وهذا أمر طبيعى وسط هذا الطاقم،لكن الذى لم يكن طبيعيا هو إيمانه الكبير بهذا البؤس، داروين ..أخبرته أنه لم يكن ذكيا بالدرجة الكافية، ليفرط فى
حياة مستقرة ودافئة كان لينعم بها مع زوجته الكاثوليكية المتدينة لولا شطحاته الفكرية التى أحبطت البشرية بأسرها، ثم التفتت إلى آدم سميث وأخبرته صارخة أنه شخصية معقدة جدا، وأنه كان ينبغى عليه أن يضع فى اعتباراته أن هناك الكثير من الشباب الصغار لهم الحق فى فهم ما يناقشه.
بدا لى وكأنه لم يفهم شيئا مما قلته، فقد قاطعنا سيجموند فرويد بتطفل علماء النفس المعروف، اقتحم مجالنا الحيوى مراوغا بأسئلة كثيرة عن طفولتنا وعما جرى بها من أحداث صادمة، كان متفحصا ،وعميقا، لكننى قررت أن أخيب آماله الكبيرة فى محاولة فهم شخصيتى بكل عقدها وأسرارها...فغنيت له أغنية مبهجة على غير توقع ألهيته من خلال كلماتها عن كل ما كان يدور برأسه من محاولات لفهمى..من بعيد تقترب بطلتها المميزة، السيدة المحترمة إياح حتب، مرحبا بالبطلة العظيمة، مازال الصغار يتغنون باسمك فى أبهج أيامهم تماما كما كانوا يحتفلون بك إبان انتصاراتك.. "وحوى ..يا وحوى..إياح"،..دعينى أتأمل كبريائك وأتعلم منك أيتها الجديرة الملمهة.
التفتت يمينا لأجده جالسا فى وقار حزين.. جميل وهادىء لم يزل.. ابن تيمية..ربتت على كتفه طويلا،..وبهمسة حانية أخبرته أننى أتعاطف معه كثيرا..وبأننى تمكنت من العثور على تسريب صوتى لأحد قيادات الداخلية فى زمانه زمن الناصر محمد بن قلاوون. وكان تسريبا مهما كونه يكشف حجم المؤامرة التى حيكت ضد ابن تيمية والتى دفع سنوات من عمره معذبا فى غياهب السجون ثمنا لها،.. لم يدم لقاؤنا النبيل طويلا، ..فقبل أن أشرح له تفاصيل هامة بهذا الشأن كان الرئيس السادات يباغتنا بأدائه المتكلف وبغليونه الشهير، سألنى: لماذا لم تولينى قدرا من اهتمامك أيتها الفتاة النشيطة المتحمسة؟ سمعت أنك مصرية.
أشحت بوجهى عنه، ثم فجأة تطاولت عليه وجذبت الغليون اللعين من فمه فى حركة مباغتة، صرخت فى وجهه، صرخات متتالية أربكته،..أخبرته أننى محتقنة بالغضب من أعلى رأسى وحتى أخمص قدمى، تركته فى حيرته واتجهت إلى حيث يجلس مايكل آنجلو، حيث نعمت بلحظات هادئة إلى جواره، وتركته يبدع فى لوحاته الرائعة وأنا أتابعه بعين يملؤها الإعجاب،..سألته عن لوحته(الخروج من الجنة) ..فأجابنى إجابة مقتضبة على طريقة الفنانين الذين لا يهدرون أوقاتهم فى شروحات طويلة لا طائل منها،..قال فقط أنها ينبغى أن (تنبض بالأحداث)،..ها هى لوحة حقيقية متحركة تقترب من محيطنا وتخطف أبصارنا.
 الجميلة فيفيان لى ،ممسكة شمسية زاهية بألوان مبهجة،..وبحركة متسكعة تختال فى مشيتها، أوقفتها لأخبرها أننى أعرفها جيدا، بابتسامة رائعة باغتتنى "صدقينى ،إنه أنا التى أعرفك جيدا" صرخات تقطع علينا حوارنا ..إنه هو.. هو.. مصطفى كامل، يا إلهى.. هذا النقاء الأسير،.. مازال ينقصه الكثير إذن، لم يزل يحمل الكثير من الحماسة ،.. أهذا هو قدر كل من يغيبون صغارا يا ترى؟  أربكتنى اللحظة ورغبة صادقة فى مساعدته. خشيت للحظة أن يسىء فهمى..فهو بعد لم يزل شابا، وأنا أخشى من تجربته القصيرة فى الحياة، صحيح أننى أنا الأخرى قد عشت زمانا قصيرا مقاربا لما عاشه، لكننى لم تغلبنى صحوات الجهاد والوازع الوطنى عن فهم ما ينبغى فهمه، اكتفيت بكتابة منشور وطنى حماسى،وألقيته أمام ناظره ثم انسحبت سريعا.
 ما هى إلا لحظات حتى جاءنى مطمئنا، وتبادلنا حوارا طويلا.. طويلا جدا..لا أدرى كم من الوقت مضى قبل أن يقطعه علينا برنارد شو، الذى بدا كمن يبحث عمن يستمع إليه، ..لطالما كان لديك الكثير لتقوله يا رجل، كدت أتوجه إليه لأمنحه الشعور بوجود جمهور نابه ومدقق يجيد الاستماع ، لولا صوت الحلاج الذى جذبنى إليه وهو يردد قصيدته التلبية، ..لأجدنى غارقة فى سحرها وشعشعاتها،.. جلست حيث يستمع النفرى، .. ولولا الحياء لحدثته عمن رأيته قبلا بعين قلبى، ولسألته عن تجربته فى هذا الشأن،...من أتى حقا؟؟ ياإلهى.. أهو هو؟ .. الرجل النبيل العظيم ، ذلك الإنسان الموغل فى إنسانيته، المرؤة والنبل فى أبهى لحظات تجليها.. أبوصعصعة الناجية،.. مرحبا بمن ينكسر له الفؤاد حبا وينحنى القلب ودا، توقفنا معا لتبادل التحية.
وإذا برائع آخر جديد يبادرنا بطلته النقية، إنه تشى جيفارا ما أحسن طالع صبحنا هذا، تفحصنى بنظرة طويلة ثم ابتسم، كنت أعلم أنك ستبتسم حال رؤيتى أيها العزيز جيفارا.. يباغتنا (عماد عبدالحليم) بعينيه الحزينتين ووجهه البرىء الجميل،لاعجب فى دخول هالته الطيبة إلى هذه الأجواء الشفافة.
استشعرت قشعريرة مفاجئة لحظة رؤيته، احتبست فى حلقى الكثير من الكلمات، وجدته وقد ثبت عينيه علي، وتوجه مندفعا نحوى كأنما تحركه قوى خفية أو كأنما بوحى. للحظة واحدة قررت أن أفاتحه فى الأمر، ..لكنه بدا حزينا..حزينا جدا، وأيضا بدا كما لوكان غاضبا منى،..لعنت اللحظة التى أوقفتنى فيها الأقدار فى مواجهة معه قبل الأوان، وحزنت لكونى أفكر كثيرا..كثيرا جدا، .. ولأنى كنت صادمة معه، ولأنه كان عنيفا معى، فى عالم الغيبة الصغرى كان لنا لقاء ..ما أسوأه، ف(عماد) من الشخصيات النادرة الحضور إلا من خلال غيبات صغرى فى العالم الواقع بين العالمين.
ثم إنه ليس ممن يمنحون الآخرين فرصة للكلام،..فأن يمنحك بعضا من وقت،..وقليلا من كلام، قد يعنى هذا الكثير،بل والكثير جدا.. اندفع خارجا وتبعته أنا بنظرة متحسرة،وبوجع كبير فى القلب،لم يقطعه إلا وقع أقدام إيراتوستينوس، الذى جاء مهرولا ونادانى بالاسم، مفجرا مفاجأة كبيرة_بزعمه_من شأنها أن تقضى على كل شكوكى بخصوص كروية الأرض التى أزعم أنا أنها مسطحة،.. لم أكن على استعداد يوما لخزلانه،خصوصا كونه ممن يأخذون الأمور بجدية،..لكنه ولسؤ حظه،أو حظى، أوحظنا كلينا ..جاء فى التوقيت الخطأ، فقد كنت واقعة تحت تأثير الحزن والحسرة لم أزل،ويالها من مفاجأة مزلزلة، ..أن نجد كاليجولا يعربد بيننا.. يا إلهى.. كيف اخترق هذا الأحمق صفوفنا؟ .. أين كان ينبغى أن يوجد هذا المعتوه؟ ومن سمح بإطلاق سراحه.؟ ..
زليخة تهرول هى الأخرى فى الجانب الآخر.. آهن أيتها المسكينة.. كم هى قاسية أقدراك يا زليخة!!؟..أمازال يجتاحك نفس الألم والحزن أيتها الجميلة الحزينة؟ ..أمازالت روحك تحلق فى فلك يوسف وملكوته؟؟ ألم يرحمك يوسف للحظة بعد؟ ..إذن هو قدر كل من تعشق رجلا يوسفى الطباع ،..كثيرات من هن مثلك يا زليخة. فاهدئى أيتها الجميلة،.. فلكل شىء نهاية،.. حتى ألمك وحزنك أيتها الصادقة.. ستكون له نهاية حتما... سماؤنا تزداد قتامة،.. ويأتينا سقراط متأبطا حسن البنا،.. وددت ألا أفوت على نفسى فرصة مجاورة كليهما،..لكن حسن البنا بدا منصتا بإغراق. لوحت إليه بيدى من بعيد،فابتسم ابتسامة وقورة وواصلا طريقهما،..ها هى مارلين مونرو البائسة،.. لماذا لم تحاول يوما الانغماس فى محيطنا الكبير الحافل عوضا عن عزلتها المضجرة،..تشجعى يا عزيزتى ولا تخافى،..فالرجال هنا ليسوا كما كانوا فى عالمنا القديم،..أمازلت صغيرة على فهم الحقائق أيتها الجميلة التعسة مارلين؟.. فى خطفة البرق ظهر أمامى وكأنما أتانى أنا خصيصا.. إنه قيس بن الملوح.. آهن يا عزيزى المسكين، ..أمازلت تبحث عن ليلاك؟؟ ..لكل منا ليلاه يا عزيزى قيس.. أتراها كانت تستحق منك كل هذا العشق وذاك الإخلاص؟؟ كم هو مفهوم لى قسوة ما تعرضت له يا صديقى،.. فأنا .. وأنا وحدى من دون هؤلاء جميعا .. أستطيع أن أصفه لك،.. قل لى يا قيس،.. هل فكرت مرة فى التكسب من وراء أشعارك الحزينة هذه واستثمارها؟؟ هل فكرت يوما فى إنشاء قناة على يوتيوب أو صفحة على فيسبوك للترويج لأشعارك الدسمة؟ ..ربما أصبحت نجما لامعا ولعل ليلاك تنطفىء أمام لمعانك، .. و لعلها تصغر فى عينيك حين تحيط بك كثيرات من الليالى ،.. أكانت ليلى تجتاحك أم كنت أنت من يجتاحها؟ .. أيكما سارع إلى فك غلالة الآخر؟ .. ومن منكما اقتحم هالة صاحبه؟ ..هيا صارحنى يا صديقى،.. ولابأس من مصارحتى فسأكون أمينة على ماتقوله، .. ولن أخبرها بما ستجود به من أسرار..نظر إليا نظرة طويلة بالطبع أفهمها،.. وأنشدنى شعرا ..(لصوتك سر حاول القلب كشفه، وهل يستطيع القلب أن يكشف السرا؟؟) ربتت على كتفيه مواسية ، وتركته بحثا عن الدكتور محمد مرسى، الذى كان منزويا تماما، وغارقا فى ذهوله، اقتطفت وردة بيضاء مذهلة،كأنها خلقت خصيصا لأجله، زهرة من نقائه تستقى ..وتقدمت إليه وأهديته إياها، بدا ممتنا جدا، تركته وذهبت فى الجانب الآخر لأجد أبا طاهر الجنابى الذى امتلأ وجهه غضبا عقب رؤيتى، كطفلة عابثة ركلته فى ساقه اليسرى وهرولت وأنا أضحك ضحكة رقيعة،..حاول ملاحقتى لكن محاولته باءت بالفشل،..فقد كنت عابثة وصارخة بدرجة كبيرة،.. ظللت أضحك حتى ضج الوقورون من ضحكاتى،.. فاحتبست ضحكاتى واكتفيت بالإفراج عن ابتسامات صادقة،.. حتى التقيت كارل ماركس الذى كان هادئا..هادئا جدا، بعكس أفكاره الثورية.. أحيانا تدهشنا طبيعة الثوار الهادئين، كون بركانهم لا يغلى إلا بداخلهم،..بركان يمور إلى الداخل لاإلى الخارج،..كم يربكوننا!.. كان يتأمل كل شىء حوله،.. لم أشأ أن أقطع عليه هدوئه، ..وبصراحة خشيت أن يناقشنى فى أفكاره خصوصا وأنا على هذه الحالة العبثية،..شاب جميل بدا ساهما وقعت عليه عيناى،..جميل هو أبو ذر الغفارى.. لكنه جمال ثائر،.. بدأ يتحرك فى خطوات جادة وواثقة، كأنما يتجه إلى هدف ،..لطالما كانت أهدافك عظيمة أيها العظيم المثالى الرائع..
من هذا الواقف هناك؟ ..أهو ستالين حقا؟!! آهن يا رجل... كم تمنيت أن أراك تحترق وأن أحمل ذارياتك وأذرها بيدى فى قلب الجحيم المستعر.. أتفضل اليوم أن تجرب البرد القارس الذى أهلكت البشرية فيه؟ أم ترى ستغريك تجربة النار المتلظية؟!! أتمنى لك تجربة شيقة يا عزيزى .. خذ مزيدا من رفاق معسكرك معك لتأتنس بهم... فعدو الأمس صديق اليوم. هل فاجئك أن تجد نفسك مع هتلر فى معسكر واحد؟ .. حقيقة لم يفاجئنى هذا ..
أووه..انظروا من هناك؟ عبدالقادر الجزائرى.. آهن يا عزيزى لو أتحفتنى بحديث بيننا،لأبهجتك ورددت علي مسامعك ما حفظته من غناء الشاب خالد وهو يتوسل إليك مستعطفا (عبدالقادر يابو على ضاق الحال عليا، داوى جراحى يابو على،سيدى رؤؤف عليا) ،سأسمعك كلماته فقط لتعلم كم أنت كبير فى القلوب،.... فى الأفق يلوح ريتشارد.. قلب الأسد، ..يؤسفنى أن أخبرك يا ريتشارد أننا فى موقعنا هذا لا نجد فارقا بين قلب أسد وقلب كتكوت صياح من صيصان الجيران المتسكعة فجرا فوق أسطح المنازل،أمازلت تجد فى نفسك الرغبة فى الحديث عن الفلاحين فى الحقول الذين ينتظرون أن تعود إليهم بانتصاراتك الساحقة الماحقة؟..دعنى أحدق فى عينيك قليلا يا ريتشارد ،..على أرى فيهما شيئا من حرصك على الصليب وعلى المجد التائه الذى سيروى ظمأ الفلاحين فى الحقول. ثم أجل الحديث بيننا لحين حضور معاوية..،فأنا أظن أن الحديث معكما سويا سيكون أمتع كثيرا...
من هذان يا ترى الغارقان فى نقاش حماسى؟ .. آااه ..إنهما هيرودوت إلى جوار ابن بطوطة. .. من منكما يا ترى أسعدنا أكثربأكاذيبه المحكمة؟؟ تراكما كذبتما أم افتئتت عليكما الأجيال؟ ..
انتظر يابن بطوطة ففى جعبتى الكثير من الاستجوابات لأوجهها إليك. جميل أن أقوم بدور وكيل النيابة الذى لطالما تمنيت أداءه..
من بين أفكارى المتدافعة،..ومن جديد.. يطل ملاكى الجميل عماد عبدالحليم بطلته الرائعة والحزينة..أتخذ قرارا حاسما بأن أترك له المبادرة هذه المرة، .. فحياتنا طويلة فى هذا العالم يا عزيزى.. طويلة جدا.. فلابأس إذن من تجربة شىء مختلف فيها. .. بادرنى بنظرة عميقة وكأنها سؤال ..
كنت أمتلك إجابة.. بل وإجابة شافية،.. لكننى استمرأت حيرته وارتباكه فضننت عليه بالإجابة،.. وأنعمت على نفسى بإشباعى لبهجتها.....أنستنى البهجة كل مشاعرى السابقة،.. من تعاطف وشفقة وحسرة وغضب..أنستنى كل شىء ..
عدا كونى أحمل الشغف بين جنبات روحى لم أزل... ولكونى شغوفة لم أزل ..ولأننى حافظت على شغفى،..فقد اختفيت فجأة من بينهم ...
القاهرة أبريل 2020.

ليست هناك تعليقات: