17 أكتوبر 2019

زهير كمال يكتب:: الطبيب قيس سعيد والحلواني نبيل القروي

قال سقراط لصديقه كاليكلس: لا ينتخب الناس الطبيب كحاكم لهم بل صانع الحلويات.
صدق سقراط . فعبر التاريخ انتخب الناس صانع الحلويات الذي يتحلى بكاريزما قوية كحاكم لهم، ولم يعيروا الانتباه للطبيب الممل ولا لصفاء نيته وقدرته وذكائه، فما كان ليصل إلى ما وصل اليه سوى بالجد والاجتهاد والعمل الدؤوب.
ومن سخرية القدر أن الذي ينتخب الطبيب هم
المثقفون الأذكياء ولكن كونهم أقلية في مجتمعاتهم فإن أصواتهم تضيع هباءً.
لأول مرة في تاريخ البشرية في انتخابات ديمقراطية نزيهة شذ الشعب التونسي عن قاعدة سقراط الذهبية واختار الطبيب بنسبة كبيرة.
وقد يقول البعض إن باراك أوباما كان أول طبيب منتخب ولكن كان وراء أوباما أموال الحزب الديمقراطي وموالوه وماكينته الانتخابية الضخمة.
في الحالة التونسية كان الحلواني نبيل القروي هو الذي يمتلك المال والماكينة الانتخابية التي صوّرته على أنه الرأسمالي الناجح الذي سيخلق فرص العمل للعاطلين وهو نصير الفقراء ساعدهم من قبل وسيساعدهم في حالة انتخابه. أما الطبيب التونسي فلم يكن خلفه سوى شباب تونس، أحلامهم وأملهم في مستقبل مختلف.
ظهرت الحقيقة أمام الناس في المناظرة التلفزيونية التي جرت بين الاثنين، اكتسح الطبيب الواثق من نفسه صاحب الشخصية القوية الحلواني المتلعثم الذي يمسك العصا من الوسط.
بحثت عن إعادة بث للمناظرة في التلفزيونات العربية فلم أوفق. فكافة المحطات تملأ وقت البث بكل ما هب ودب وتعاود بث برامج تافهة عدة مرات.
هذه المناظرة لم يعد بثها أي تلفزيون عربي.
وبالطبع هناك سبب لذلك، فالتلفزيون هو وسيلة الثقافة الوحيدة لدى الجماهير الواسعة من الشعوب العربية، فهو وسيلة مجانية بعكس وسائل التواصل الأخرى التي تكلف مالاً توفره الناس لشراء الخبز.
أنظمة الحكم المرعوبة لا تريد للناس أن يعلموا أن بعض العرب قد وصل الى هذه المرحلة من الرقي والتقدم، وتجربة كهذه ستحفر عميقاً في وعي المتفرجين وسيقولون نحن لا نختلف عن شعب تونس.
لأول مرة استطاعت الجماهير وبأغلبية ساحقة ايصال ممثل حقيقي لها الى المنصب الأول في الدولة وأصبح الشارع العربي متوافقاً مع حاكمه. وكمثال بسيط على ذلك : يقول الحاكم المنتظر إن التطبيع خيانة عظمى فيرد عليه الشارع: الشعب يريد تحرير فلسطين.
ماذا يتوقع الشارع التونسي والعربي من أستاذ القانون الدستوري بعد أن أوصله الى قصر قرطاج؟
1. أن يفي بوعده أن القانون فوق الجميع.
2. أن يضع قوانين لمحاربة الفساد وقطع دابره في تونس الجديدة وسيعطي هذا أعظم مثل لشعوبنا المقهورة في كل أقطار الوطن العربي بلا استثناء والتي تكتوي بناره كل دقيقة.
3. أن يترجم شعار العدالة الاجتماعية إلى قوانين.
4. تحديد خط للفقر وتعويض المواطنين الذين هم تحت الخط الفرق بين دخلهم الواقعي ومبلغ الخط.
5. تامين بطالة للعمال تعينهم على مصاعب الحياة وتوفير عمل لهم.
قد يسأل بعض الاقتصاديين ومن أين لتونس الفقيرة هذا المبلغ الضخم، ربما آن الأوان لاسترداد أموال تونس المنهوبة والموجودة في البنوك الغربية والسويسرية خاصة، أموال نهبها الرئيس السابق زين العابدين بن علي وزبانيته. وليس هناك من حجة لدى هذه البنوك لرد هذه الأموال لنظام ديمقراطي منتخب.
من ناحية اقتصادية محضة فإن وضع المال في أيدي الفقراء يشجع النمو الاقتصادي، فهي أموال تضخ في السوق ولا يتم تخزينها. حتى إذا لم يستطع الحكم استرداد المال في الوقت المناسب فإن سن القانون وتمريره في مجلس النواب ومحاولة تدبير الأموال لتغطيته هو أولوية قصوى. ففي دول العالم الثالث فإن أفضل تحصين للثورة والنظام الديمقراطي الجديد هو شعور الأغلبية أن هذا هو نظامها وهذه هي دولتهم التي تحققت أخيراً وأن عليهم حمايتها بكل ما أوتوا من قوة.
لم يكن الشعب محصناً في تشيلي أيام الرئيس الاشتراكي المنتخب ديمقراطياً سلفادور اللندي (اييندي) فقام الجيش بانقلاب دموي تم فيه تصفية النخبة التشيلية كلها. بينما نجد أن الشعب التركي الأعزل هو الذي أجهض انقلاب العسكر، حين شعر الناس أنهم استفادوا وتحسنت ظروفهم مع النظام الديمقراطي فدافعوا عنه.
سيقوم أعداء الأمة العربية وعلى رأسهم إسرائيل بعمل ما في استطاعتهم لإحباط التجربة التونسية وتدمير هذا المثل النظيف القادم من المستقبل والذي ستقتدي به كافة الشعوب العربية عاجلاً أم آجلاً.
كان الغائب المجهول في التجربة التونسية جيشها وقادته الذين سمحوا لهذه التجربة بأن تثمر وأن تضع تونس على الطريق الصحيح، لابد من شكرهم على عدم تدخلهم في السياسة رغم أن هذا هو المفترض في أي جيش ولكنهم في عالمنا الثالث يتدخلون بوقاحة وصلف لأنهم يمتلكون القوة وبعملهم هذا يؤخرون تقدم شعوبهم والسودان أكبر مثل على ذلك. 
إن أعظم خدمة يقدمها النظام الديمقراطي الجديد في تونس للقضية الفلسطينية هي نجاح التجربة الوليدة حتى تصبح مثلاً لهذه الشعوب المظلومة التي لم يتغير فيها نهج الحكم منذ أربعة عشر قرناً.
فلسطين تحتاج جميع الأقطار العربية أن تكون ديمقراطية وموحدة لإصلاح غلطات الماضي فتتحرر من الصهيونية، آخر استعمار على الكرة الأرضية.
الفجر قادم!

ليست هناك تعليقات: