يستهل جون جيرارد روجي كتابه "كسب السلام : أمريكا والنظام العالمي الجديد" مفسرا عنوانه فيشير إلى عبارة فرانكلين روزفلت عقب ضرب الأسطول الأمريكي في بيرل هاربور في ديسمبر 1941 : "في هذه المرة سنكسب الحرب وسنكسب السلام الذي يتلوها". وكسب السلام في رأي فرانكلين روزفلت يقتضي قيام الولايات المتحدة بممارسة دور نشط على الصعيد الدولي والتدخل لإقامة نظام عالمي وحفظ استقراره تجنبا لعدم اندلاع حرب عالمية جديدة. ولكن بانتهاء الحرب العالمية الثانية اندلعت حرب جديدة من نوع آخر هي الحرب الباردة وأيضا انتصرت فيها الولايات المتحدة وذلك في رأي روجي كان على الولايات المتحدة كسب السلام الذي يليها. ومن هنا برز تساؤل جديد حول الدور الذي يمكن أن تلعبه الولايات المتحدة على الصعيد الدولي؟
فخلال القرن العشرين يمكن رصد علاقة الولايات المتحدة بالنظام العالمي من خلال ثلاثة مواقف :
ما بعد الحرب العالمية الأولى.
ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ما بعد الحرب الباردة.
في الفصل الأول: تناول المؤلف الاتجاهات الحاكمة لعلاقة الولايات المتحدة بالنظام الدولي وتتمثل في ثلاثة اتجاهات رئيسية:
الاتجاه الأول : تيار الدولية والذي يؤيد قيام الولايات المتحدة بدور نشط على الصعيد الدولي ويرجع هذا الاتجاه إلى أوائل القرن العشرين وعبر عته الرئيس ماكينلي في 5 سبتمبر 1901م حيث أشار "إن الله والناس قد ربطوا الدول بعضها ببعض الآخر ولا يمكن لدولة أن تظل غير مكترثة بغيرها".
وفي اليوم التالي اغتيل ماكينلي ليصبح تيودور روزفلت رئيسا للولايات المتحدة, والذي تبنى نفس الفكرة وأعطاها دفعة جديدة. حيث أشار إلي "الزيادة في درجة الاعتماد المتبادل والتعقيد في العلاقات الدولية والعلاقات الاقتصادية. بحيث أصبح من الصعب على أية دولة أن تعيش بمعزل عن غيرها من الدول.
ثم جاء الرئيس ويلسون ليبلور هذه الأفكار ويدخلها حيز التنفيذ حيث رأى أن سياسات الحياد والعزلة التي تتبعها الولايات المتحدة لن تكفل لها الأمن وحماية مصالحها وأن نظام توازن القوى أثبت فشله وان هناك حاجة لإنشاء عصبة للأمم وإقامة جماعة قوى وليس توازنا للقوى. ثم جاءت النقاط الأربعون التي طرحها عام 1918 ومثلت جدول أعمال السلام ما بعد الحرب العالمية الأولى.
والاتجاه الثاني: تيار الانعزالية والذي انتصر بعد الحرب العالمية الأولى ولكن تيار الدولية عاد وطرح نفسه بقوة مرة أخرى عقب الحرب العالمية الثانية على يد روزفلت في الإعداد لنظام ما بعد الحرب فاقترح إنشاء الأمم المتحدة يكون للقوى الكبرى دور متميز فيها, كما رأى ضرورة إتباع سياسة الباب المفتوح على المستوى الاقتصادي والتي تتضمن إنهاء مختلف أشكال التمايز بين الدول بما فيها تخفيض التعريفة الجمركية. ومع بروز التهديد السوفيتي طيلة الحرب الباردة ظل اتجاه الدولية حاكما لتفاعل الولايات المتحدة مع النظام الدولي.
واستمر هذا الاتجاه سائدا بعد انتهاء الحرب الباردة حيث تحدث الرئيس جورج بوش عن نظام دولي جديد سمته الأساسية التعاون لمواجهة أي عدوان, وأعطى للأمم المتحدة دورا أساسيا في عملية تحرير الكويت كما اشترك في عملية حفظ السلام في الصومال وكذلك عبر الرئيس بيل كلينتون عن توسيع عائلة الديمقراطيات ذات السوق الحرة ومساندة السلام الديمقراطي وأكد على الجماعية من خلال عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام وصنع السلام وعلى الصعيد الاقتصادي أتم بيل كلينتون المسيرة التي كان قد بدأها سلفه جورج بوش لتحرير التجارة بين الأمريكتين وأتم تأسيس مجموعة النافتا.
وهذا الاتجاه يرى ضرورة تحجيم الدور الأمريكي وعدم التدخل في الأزمات الدولية إلا في حالة الضرورة وعند المساس بالمصالح الحيوية للولايات المتحدة حيث وجهت الانتقادات من جانب الكونجرس الأمريكي للمشاركة في عمليات حفظ السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة في الوقت الذي لا يتجاوز فيه عدد الجنود الأمريكيين 3300 جنديا من أجمالي 64000 جنديا في 16 عملية حفظ سلام في العالم كان منهم 2400 جنديا يعملون تحت قيادة أمريكية في هاييتي.
كذلك أجرى الكونجرس الأمريكي خفضا على الميزانية أدى لتقليص البعثات الخارجية كما تراجعت نسبة مساهمة الولايات المتحدة في المساهمات الخارجية بين الدول الصناعية بالنسبة للناتج القومي. كذلك قللت الولايات المتحدة من الدور الذي تقوم به في بعض القضايا الدولية كالبيئة.
وتيار الانعزالية ليس جديدا ولكنه قديم وكان متلازما مع تيار الدولية وتمثل ذلك في رفض الكونجرس الأمريكي لانضمام الولايات المتحدة لعصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى أو التدخل في الشئون الأوربية وفضل الانسحاب من الساحة الدولية والاهتمام بالشئون الداخلية وتيار الانعزالية لا يتمثل في جماعة اجتماعية أو ثقافية معينة ولا ينحصر في منطقة جغرافية بعينها فله مؤيدوه في مختلف الجماعات الاجتماعية والثقافية وله انتشاره الجغرافي.
والخلاف بين التيارين قد يكون خلافا بين الأحادية والجماعية. فالأحادية ترفض أي روابط مؤسسية بينما الجماعية تعني لغويا علاقة بين ثلاثة أطراف أو أكثر كما تعنى في إطار العلاقات الدولية ملائمة القواعد الحاكمة للنظام الدولي لكل الأعضاء فيه وعدم التمييز بينها مع درجة عالية من التوافق والانسجام في مصالحها وإقامة العلاقات من منظور جماعي وليس ثنائيا. والأمن الجماعي يعنى توفير حماية متساوية لكل الأعضاء تحت مظلة أمنية مشتركة.
ورغم ذلك فإن الجماعية المثالية لم تتحقق بعد والدليل أن الولايات المتحدة تتمتع بحق الفيتو في الأمم المتحدة وتسيطر القيادة الأمريكية على حلف شمال الأطلنطي (الناتو) ولها الحصة الأكبر (ومن ثم الثقل ألتصويتي) في كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
والاتجاه الثالث فهو تيار مثالي يقوم على ضرورة الحفاظ على وضع عسكري متفوق للولايات المتحدة ويرجع بجذوره إلى تيودور روزفلت (الذي عمل على أن تكون الولايات المتحدة قوة عظمى) وجورج كينان (مهندس سياسة احتواء الاتحاد السوفيتي) وتمثلت كذلك في السياسة الخارجية لهنري كيسنجر.
وفي الفصول الثاني والثالث والخامس تناول المؤلف هيكل النظام الدولي في الفترة التي شهدت بدايات الدور الأمريكي النشط والفعال على المستوى الدولي بعد الحرب العالمية الثانية حيث كانت الجماعية هي السمة الغالبة. حيث بدأ فرانكلين روزفلت الاستعداد لإنشاء المؤسسات واتخاذ الترتيبات الدولية لإقرار السلام من خلال آلية دولية للتعاون مع الاتحاد السوفيتي لتتجنب فشل عصبة الأمم ولا تقتصر عضويتها على دول أوربا وتمثل ذلك في منظمة الأمم المتحدة وإن أحتفظ بوضع متميز في مجلس الأمن للحلفاء الأربعة المنتصرين للقيام بدور البوليس الدولي مع وجود أداة عسكرية من مختلف الدول (خاصة الكبرى) تكون تحت إمرة مجلس الأمن إلى جانب ضم الصين كقوة موازية للاتحاد السوفيتي.
كما حظي التعاون الاقتصادي الدولي وحرية التجارة وتخفيض التعريفة الجمركية اهتماما متزايدا بدلا من الصراع وأسفر ذلك عن مجموعة من الاتفاقيات والهياكل المؤسسية منها اتفاقية بريتون وودز المالية التي نصت على الحرية والاستقرار في تبادل العملة وإلغاء كافة أشكال التحكم والسيطرة. كما تم إنشاء صندوق النقد الدولي للمحافظة على سعر صرف ثابت ومستقر. أما الاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة (الجات) فدعت إلى تخفيض التعريفة وغيرها من الحواجز الجمركية وإنشاء مناطق التجارة الحرة.
وتبنت الولايات المتحدة مفهوم الأمن الاقتصادي لأوربا وإعادة الإعمار من خلال مشروع مارشال وتم إنشاء منظمة التعاون الاقتصادي الأوربي وتشجيع فكرة الوحدة الأوربية وتوقيع معاهدة حلف شمال الأطلنطي عام 1949 في مواجهة الاتحاد السوفيتي. إلى جانب مبادرة ايزنهاور في ديسمبر 1953 بتنشيط دور الأمم المتحدة لمنع انتشار الأسلحة النووية ومطالبته بإنشاء هيئة الطاقة الذرية الدولية (والتي أنشأت في يوليو 1957) وزيادة دور الأمم المتحدة في عمليات حفظ السلام بعد الأزمة الكورية في يونيو 1950, وفي مراقبة وقف اطلاق النار وانسحاب القوات المعتدية على مصر عام 1956.
وفي الفصلين الرابع والسادس تناول المؤلف تقييم الميراث المؤسسي الدولي ومدى فعاليته حاليا, لأن الهياكل الدولية وجدت لمواجهة الاتحاد السوفيتي في ظل القطبية الثنائية. وهنا يثور التساؤل عن مدى ملائمة هذه التنظيمات الآن؟ وما قدرتها على أداء مهامها؟ بل ما أهمية هذه المهام في ظل الواقع الدولي الجديد؟ وأول هذه التنظيمات حلف شمال الأطلنطي الذي يبدو أنه فقد أهميته ولكن رؤية الولايات المتحدة لهيكل الحلف ودوره تكسبه أهمية وفعالية كبيرة خاصة أن قضية توسيع عضوية الحلف ليشمل دول شرق ووسط أوربا هدفها القضاء علي البقية الباقية من احتمالات التهديد الروسي لشرق ووسط أوربا, وشغل الفراغ الأمني بين روسيا وألمانيا وما قد يؤدي إليه ذلك من مواجهة بين البلدين في حال سعي أيهما لبسط نفوذه على المنطقة, وتهدئة النزاعات الأثنية والقومية في المنطقة والتي قد تدفع إلى اندلاع الصراعات والحروب الإقليمية وتورط أطراف دولية فيها.
وأضاف بيل كلينتون هدفا جديدا للحلف ليكون أداة لتوفير الأمن والاستقرار للمنطقة ككل. وتقوية الديمقراطيات الوليدة ومساندة الإصلاح الاقتصادي. وتقوية علاقة الحلف مع الجماعة الأوربية والاتحاد الأوربي الغربي الذي انشيء بموجب معاهدة ماسترخت عام 1991 ليكون الآلية الدفاعية للجماعة الأوربية. وبالنسبة للأمم المتحدة فمن المتصور بانتهاء الحرب الباردة أن تزيد فعاليتها على ممارسة دورها في ظل انتهاء الاستقطاب الدولي والدليل على ذلك زيادة عدد عمليات حفظ السلام بين عامي 1988 و1994 إلى 21 عملية أى لأكثر مما قامت به الأمم المتحدة على مدى تاريخها (كان العدد 18 عملية فقط), إلى جانب الاتجاه نحو العولمة وما يتبعها من سوق عالمية أكثر انفتاحا.
وفي الفصل السابع والأخير تناول المؤلف مستقبل الدور الأمريكي في النظام الدولي حيث رأى البعض أن العالم أصبح أحادي القطبية حيث إن الولايات المتحدة أصبحت القوة المهيمنة الوحيدة. كما رأى البعض أن العالم سيعود للقطبية الثنائية وأن كانت بشكل مختلف أى بين الإسلام والغرب وهو ما عرف باسم صراع الحضارات. والرأي الثالث يرى أن النظام الدولي يتجه إلى التعددية القطبية مع نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حيث ستصبح اليابان وألمانيا قوى كبرى وتستعيد روسيا مكانتها.
وأيا كان النظام الدولي الجديد فإن السياسة الخارجية الأمريكية ستسعى لتقوية حلف الأطلنطي وتوثيق الصلة بينه وبين الجماعة الأوربية والجهاز الدفاعي لها. إلى جانب مواجهة المنافسة الاقتصادية من دول شرق آسيا وتوسيع دور منظمة التجارة العالمية (الجات) مع التوفيق بين حرية التجارة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي على المستوى الدولي من ناحية واستقرار الاقتصاد الداخلي من ناحية أخرى والاهتمام ببعض القضايا الدولية وعلى رأسها قضايا البيئة.
John Gerard Ruggie
Winning the peace : America and World Order in the New Era (New York : Columbia University Press, 1996). xxiv, 2337 p.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق