في الواقع أن المبادرة المصرية لحل الصراع في ليبيا تقدم ترياق الحياة للجنرال العجوز خليفة حفتر بعد الانهاك الذي لاقته قواته والفرار المتكرر من قاعدة لقاعدة ومدينة إلى مدينة، وتساقط قلاعه العسكرية بشكل درامي أمام الجيش الليبي الشرعي في طرابلس.
ورغم أنه من المستغرب أن يطرح الطرف المهزوم مبادرة سلام تضمن بقائه في المشهد، دون أن يمتلك القوة التي تجبر المنتصر على ابقائه حيا وعدم الاجهاز عليه، إلا أنه أيضا – يا لغرابة – يقدم مبادرة لا تسعى لحل الصراع في ليبيا جذريا، ولكن فقط تؤجله إلى حين، وهو بالطبع ما سيرفضه الطرف المنتصر، وقد رفضه فعلا.
فمن الواضح أن تأجيل الحرب لمدة عام ونصف، هي عمر الفترة الانتقالية في المبادرة، يقصد من ورائها أن يلتقط حفتر أنفاسه، وخلالها ستعمل القوى الدولية والاقليمية الراعية له على تغيير المشهد العسكري الداخلي لصالح الجناح الموجود فيه، وتعقيد المشهد الدولي أمام الأتراك والحيلولة دون تدخلهم في الصراع الليبي متى اندلعت الحرب فيه مجددا، أو متى وقع انقلاب عسكري على المجلس الرئاسي المقترح، كما فعل حفتر نفسه على المجلس الحالي.
ويراهن حفتر، الذي يعلم يقينا أن مبادرته مرفوضة لكونها مناورة مكشوفة تهدف لنجدته، على كسب بضعة أيام لحين اعادة التمركز في مرتفعات الرجمة شرق مدينة بنغازي، ودعم وتأمين الحمايات العسكرية فيما تبقى لديه من مدن، حتى يمكنه من خلالها الامساك بأوراق تفاوض وضغط، أو القفز لعملية اعلان حكم ذاتي عليها، والتلويح بتقسيم ليبيا أو تنفيذ ذلك بالفعل.
كما يراهن أيضا على استصدار قرار من مجلس الأمن يلزم الحكومة الشرعية بوقف العمليات القتالية والقبول بمبادرة القاهرة.
ومن المخاطر التي يجب على الجيش الليبي الانتباه لها جيدا، وربما يراهن على حدوثها حفتر أيضا، هو أن يتمدد في المدن المحررة على تلك الرقعة الهائلة من الاراضي بشكل يفوق طاقته التأمينية، وأعداد قواته، ودون أن يهيئ لها دفاعات قوية، فتصبح نهبا للعمليات الارهابية والفوضى، وحرب العصابات، ولذلك ينبغي عليه ألا ينتقل من تحرير مدينة إلى أخرى دون الامساك تماما بزمام أمور كل مدينة محررة.
كما ينبغي على الجيش الليبي سرعة تجريد قوات حفتر من المناطق النفطية والاستراتيجية، مستغلا انهيار معنوياتها بسبب الهزائم التي منيت بها، وقبل التدافع الدولي المتوقع حدوثه الأيام المقبلة، الذي سيرفض أي حرب بجوار تلك الآبار، وستكون ورقة رابحة يلعب بها حفتر.
هزائم دبلوماسية
ويتوالي تساقط المدن من بين حوافر حفتر بعد أن قاب قوسين على فرض سياسة الأمر الواقع والاستيلاء على العاصمة، وذلك حينما وجدت طرابلس وحكومتها الشرعية المعترف بها دوليا حليفا قويا وهو تركيا.
ويخطئ من يتصور أن قوة تركيا تتركز في الدعم العسكري الذي تقدمه حيث تطور عتادها وخبراتها الفنية العسكرية، وإنما في قوتها الدبلوماسية حيث أنها بدت قادرة على تحييد الكثير من داعمي حفتر الرسميين والسريين.
ووضحت تلك القوة الدبلوماسية التركية بعد تحييد الموقف الايطالي، والاعلان المتكرر لروسيا عن عزوفها عن الملف الليبي، وأن ما يعيق دعمها الوفاق هو رفضها الافراج عن السجناء الروس في طرابلس، وأن الروس الذين يقاتلون بجوار حفتر والمقدر عددهم بنحو 1200 فرد هم تابعون لشركة أمنية خاصة ولا يمثلونها.
ولعل زيارة رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج لموسكو مؤخرا ستخلق تغييرا كبيرا على الموقف الروسي الايام القادمة.
وظهرت القوة الدبلوماسية التركية أيضا في ابراز دعم حلف شمال الاطلسي والدعم الأمريكي للحكومة الشرعية، وهو ما انعكس في صورة فتور في الموقف المصري ومبادرته البائسة.
وأحسنت تركيا صنعا حينما لم تتدخل بقواتها مباشرة في الازمة الليبية، لأن الخطة في المعسكر الأخر كانت على ما يبدو التركيز على تحقيق خسائر في تلك القوات بأي ثمن كان، يعقبها تأليب دعائي واعلامي للشعب التركي على حكومة اردوغان.
التحريض على الثورة
ولقد ساهم في تحقيق الانتصارات السريعة للجيش الليبي عدم اقتناع معظم الليبيين بجدوى النزاع وفائدته عليهم، واعتبروه سفكا للدماء الليبية على مذبح "جنرال عجوز"، دمية في يد مشغليه الدوليين، يحلم بالحكم والسيطرة، وبناء ديكتاتورية جديدة في البلاد تابعة كليا للخارج، وأكثر قمعا من سابقتها.
فلحكومة فائز السراج المعترف بها دوليا خصائص تفتقدها حكومة حفتر غير الشرعية، من أهمها أنها لا تحارب من أجل شخص أو جماعة، ولا تسعي لاحتكار السلطة، وتتبنى خطابا تصالحيا ووحدويا وديمقراطيا لكافة أرجاء ليبيا وكافة طوائفها.
وكان لهذا الخطاب التصالحي على ما يبدو اثر كبير لدى أنصار القذافي الذين يدركون أن حفتر ومن جاءوا به من أمريكا هم من قصفوا مدينتهم إبان أحداث ثورة فبراير2011 وقتلوا أبناءهم بطائرات الناتو.
ولعل ما حدث من تصدي ابناء مدينة بني وليد لميليشيات حفتر رسالة بليغة تدعم هذا التصور، خاصة أن بني وليد كانت من أكثر المدن ولاء للقذافي.
وربما يقود هذا الخطاب الرصين والوطني لأحداث تغير كبير في مدن الشرق الليبي، التي يتوقع ثورتها ضد حفتر ما أن وجدوا الفرصة لذلك، بينما تتردد أنباء عن انشقاقات داخل كتلته العسكرية.
يأتي ذلك، بخلاف حفتر الذي أخضع القبائل والعائلات في بنغازي والشرق الليبي بالقوة ونكل بمعارضيه، ووزع المناصب والثروات على أبنائه وذويه وعائلته، واختطف النساء وقتلهن كما حدث مع نائبة بنغازي بمجلس النواب الليبي سهام سرقيوة، التي تم اختطافها من منزلها عقب انتقادها تصرفاته ولم تظهر منذ سنوات.
فضلا عن قيامه بالاستعانة بفئات ارهابية سامت الناس سوء العذاب مثل عصابات الكاني، وجماعات متطرفة مثل الجامية المدخلية ، بالإضافة إلى انكشاف أمر تبعيته للخارج واستعانته بالمرتزقة الأجانب من كل حدب وصوب لقتل الليبيين بأموال ليبيا.