الثلاثاء 16 يوليو 2019 20:51
بعد وقبل وأثناء كل جريمة سياسية مباراة لكرة قدم، وبقدر حجم وأهمية المباراة تكون الجريمة، هذا هو الحال في أغلب دول وطننا العربي عامة وفي مصر خاصة، ولم يعد خافيا على أي راصد الربط المذهل بين استشهاد الرئيس الدكتور محمد مرسي قبيل أيام من بطولة كاس الأمم الأفريقية وفي نفس يوم إعلان فوزه بانتخابات الرئاسة عام 2012، وما تلاه من رفع أسعار الكهرباء والوقود والمياه ورسوم النقل والعديد من السلع، وتمرير العديد من القوانين المرفوضة شعبيا ومنها قوانين بيع الجنسية مثلا، كل ذلك حدث أثناء إقامة مباريات تلك الدورة الرياضية.
الاستخدام السياسي للكرة لا يخفى على أحد مطلقا، بل إن يد الأمن امتدت لمسافة طويلة في التحكم في مشاهير تلك اللعبة وتوجيههم أو صناعتهم ووأد من لا يسير على نهجهم، وهناك أيضا من يتحدث عن أن النفوذ السياسي امتد حتى في نتائج القرعة والمباريات باتفاقات سرية مع الحكام وفي تشكيلات الفرق وغيرها خاصة أثناء الأحداث السياسية الساخنة، خاصة إن كان من شأن ذلك إشباع عواطف ورغبات قطاعات من الجماهير في الشعور بالانتصار، وهو الشعور الذي إن لم يتحقق في الكرة قد يتحقق في مجالات أخرى أهمها السياسة. كما أنه من المهم جدا صناعة ولاءات فكرية تقدم جاهزة لحشود الشباب بدلا من تركهم يقومون بتكوين تلك الولاءات بأنفسهم وما ينطوي على ذلك من مخاطر سياسية.
وتحاول تلك النظم أيضا ترسيخ اعتبار وجود هذا المنتخب وانتصاراته كدليل قاطع لا يقبل الشك على وطنية القيادة السياسية وعلى عظمة إنجازاتها، وعن نهوضها بالبلاد، محاولة أيضا عبر ابتداع تلك النماذج من الوطنية الزائفة إخفاء فشلها أو تأمرها على شعبها.
نماذج سريعة للاستغلال
ولعل ما تردد مؤخرا عن قيام رأس الحكم في مصر بتوبيخ نجم ليفربول محمد صلاح مؤخرا بسبب إصراره على الارتباط بالنجم المغضوب عليه من تلك السلطة محمد أبو تريكة صحيحا، خاصة أن توجهات الرجل المدافعة عن القدس وعن المسار الديمقراطي في مصر لم تكن ظاهرة أو متوقعة لديه من قبل وإلا لكانوا تدخلوا مبكرا لمنعه من تحقيق مكانته تلك.
وعربيا، هناك واقعة فريدة ظهر فيها جليا الاستخدام السياسي للرياضة، إذ طفق الصراع السري بين رموز فساد نظامي مبارك وبوتفليقة ليخرج للعلن عبر صراع دامٍ في مباراة حدثت عام 2009 في مدينة أم درمان السودانية بين منتخبي البلدين وتم إنتاج هذا الصراع ليبرر النظامان أسباب فساد العلاقات بينهما.
وأيضا يأتي ما حدث في كأس بطولة آسيا 2019 التي أقيمت في أبو ظبي حينما رفضت السلطات الإماراتية وجود مشجعين للفريق القطري واضطهدت مشجعيه ولاعبيه على خلفية الصراع السياسي بين النظامين، إلا أن المنتخب القطري رد هذا الغبن بمنتهي الاحتراف والسلمية حينما استطاع الفوز بالبطولة.
الاقتصاد الرياضي
والحقيقة أن هناك أموالا ضخمة تضخ في سوق الرياضة المصرية والعربية، ولكن للأسف تضخها الدولة من جيوب دافعي الضرائب لتذهب إلى جيوب قلة من الإعلاميين والصحفيين وطواقم العمل الرياضي.
ولما انكشف هذا الاستنزاف الرياضي راحت تلك النظم تشيع أن اهتمامها بتنظيم المباريات وإنفاق الملايين عليها، رغم الجهل والفقر المستشري، يأتي لكونها نشاطا اقتصاديا، وأنها يمكن أن تتقوت كدول كثيرة من ريع هذا العمل وتجهزه ليكون مصدر دخل قومي!
ومصيبة المصائب أن التوجيه الإعلامي الذي تمارسه تلك النظم نجح في إقناع الملايين بأن المواطن "الصالح" هو ذلك المواطن المنغمس بالاهتمام الرياضي ببساطته ووداعته وسلميته وخدمته لنفسه وللمجتمع، والمنسحب من الاهتمام بالشأن العام لبلاده، لا سيما السياسي منه، العازف عن الخوض في غمار الأشياء المعقدة التي تضر ولا تنفع، والتي لا يمارسها إلا مأجور خائن من خونة الأوطان "الطالحين".
كما تروج الميديا" دائما لعقد مقارنة ليست في محلها بين انغماس المرء فى تشجيع الرياضة وبين أن ينضوي في قائمة "الحشاشين" و"المدمنين"؟ متجاهلة عشرات الخيارات الأخرى.
والحقيقة أن هناك شبابا واعيا ووطنيا ومثقفا ومع ذلك يحبون مشاهدة الرياضة ولا يمارسونها، رغم أنهم لم يقعوا ضحية لتضليل الإعلام وتوجيه السلطة، ويرون أن هذا القمار قمارا محمودا لا ضرر منه، وإلا ما ميز المشجع لاعبا عن آخر بسبب ثقافته وسلوكه فضلا عن أدائه الرياضي.
وفي المقابل أيضا، هناك قلة من النظم تهتم بتنمية وعي شبابها ورفاهية مواطنيها ومع ذلك تهتم أيضا بتنظيم مهرجانات الرياضة.
ومن شواذ القاعدة أيضا أن نظاما عربيا سابقا راح يحظر بث مباريات كرة القدم إعلاميا ويحظر وجود المشجعين في الملاعب أصلا وقال إن الكرة من يلعبها.
الرياضات الجماعية لا الفردية
لكن قوى الحكم المحلية الاستبدادية شجعت الرياضات الجماعية ككرة القدم مثلا ورسخت مشاهدتها - لا لعبها - في عقول البسطاء وراحت تضفي على فعالياتها صفة الوطنية، فصار المنتخب المحلي منتخبا وطنيا وصار فوزه من الأعمال الوطنية الكبرى التي ينبغي على الوطنيين الشعور بالمجد والفخار إزاءها.
ولعل السبب وراء التشجيع المتزايد من قبل تلك النظم للرياضات الجماعية لا الفردية هو عدم رغبتها في خلق زعامات فردية قد يتعلق بها الجمهور فتمثل صوتا قد يعلو على صوت القيادة شخصيا التي لا يجب أن يعلو صوت على صوتها، ولذلك راحت "الميديا" الصهيونية تحارب نجومية الراحل "محمد على كلاي" بسبب إسلامه، فيما جرى التركيز على نجوم الشذوذ وأغاني البوب وغيرها.
وأيضا ظاهرة حب الجماهير لـ "أبو تريكة" لاعب كرة القدم الشهير والمعروف بمعارضته للنظام العسكري الحاكم في مصر مثال جيد على مدى خطورة "الزعامات الرياضية الفردية"، وذلك لأن الجماهير أيدت سلوكه وتوجهه الفكري قبل أن تؤيد سلوكه الرياضي، وقد نجح الرجل في الحالتين.
كما أن السلطة حاولت مرارا استثمار شعبية النجم محمد صلاح في عدة مواضع أهمها الادعاء بتبرعه لصندوق "تحيا مصر" وهو ما تم نفيه بشكل أو بآخر ثم مطالبته بتأييد انتخاب السيسي لولاية ثانية، ثم محاولة استثماره سياسيا في موضوع شركةwe .