ألفونس جابرييل آل كابوني أحد أشهر بلاطجة التاريخ، وزعيم أشهر عصابة عرفتها شيكاغو على مر العصور. لم يترك الرجل فعلا فاضحا إلا أتاه، ولا جريمة إلا اقترفها. هرب الخمور، وفتح أبواب الدعارة على مصراعيها أمام طالبي اللذة الحرام من كافة البقاع، واستطاع أن يكرس الرشوة في القطاع الحكومي بعد أن فتح عمدة شيكاجو درج مكتبه لعطاياه الباذخة. واستطاع الرجل أن يحقق دخلا شهريا يتجاوز المئة ألف دولار أمريكي عام 1925 من بيوت القمار وخصور العاهرات. وهكذا حجز ابن الحلاق المهاجر لاسمه صفحة غير نظيفة في سجل التاريخ ومقعدا متقدما بين النبلاء.
وبفضل ثرائه، تحول الصعلوك الإيطالي إلى نجم مجتمع أمريكي، بعد أن أجزل المنح والعطايا للملاجئ والجمعيات الخيرية ليتصدر قائمة المتبرعين هناك، حتى شبهه بعض المنتفعين بروبن هود. لكن رجل البر كابوني وقع في شر أعماله بعد أن ارتكب خطيئة قابيلية مروعة بقتله ستة من الأبرياء دفعة واحدة في عيد القديس فالنتاين. يومها ثار الرأي العام، وضغط على رجال الشرطة والقضاء فتعقبوه، واستطاعوا أن يزجوا برأسه الشيطاني خلف القضبان ليقضي ثمانية أعوام من عمره هناك.
لكن الغريب في الأمر أن رجال القضاء لم يدينوا الرجل لسفكه الدماء أو لتجارته المحرمة في الخمر والنساء. ولم يقض آل كابوني شطرا من عمره في زنزانته المكيفة لأنه أفسد في الأرض وجعل أعزة أهلها أذلة، أو لأنه دنس الحكومة وأفسد المحكومين بعدما أباح الرشوة وقننها. ولم يدن قابيل شيكاغو بتهمة تهريب الخمور أو قطع الطرق أو السطو على المصارف، وإنما أدين بتهمة التهرب من سداد الضرائب المستحقة على تجارته الكاسدة.
يومها، ضرب القادم من عشوائيات إيطاليا، كفا على فخذ، ووقف على أطراف أصابعه ليدين من أدانوه قائلا: "لو كان المال حراما، فكيف تستحله حكومتكم الموقرة؟" لكن الحكم المثني في جيب أحد أعضاء هيئة المحكمة الموقرة امتص عرق الأصابع المرتعشة بعد طول لجاج. وتم السطو الحكومي المقنن على مقتنيات ألفونس. وبفضل ليموزين الحبيس، نجا الرئيس فرانكلين روزفلت من الهجوم المباغت عند بيرل هاربر عندما احتمى بهيكلها المصفح.
ومات الرجل كمدا بعد أن فقد ثروته وصحته، وخرج من زنزانته ليقضي ما تبقى له من أنفاس متنقلا بين مستشفيات البلاد. لكن صوت آل كابوني لا يزال يتردد في أصداء ممالكنا الفاسدة: "لو كان المال حراما، فكيف تستحله حكومتكم الموقرة!" لماذا تدين الحكومات المطهرة بلاطجة التاريخ إن كانت تستحل زكاة أموالهم؟ وبأي جرم يمكن أن يدان هؤلاء وهم يمارسون غسيل أموالهم القذرة في بركة اقتصادنا الراكدة بمباركة جهابذة القانون وصمت مريب من فقهاء الأمة؟
وكيف يحاكم القانون نفسه من أراد الفساد بأثر رجعي اقتداء بمن من الحاكم عليه بمساومات رديئة من تحت الطاولة؟ وكيف نحاسب بائعات الهوى، وبائعي العرض والأرض إن فكروا يوما بالتصالح مع الحكومة تحت شعار "عفا الله عما سلف"؟ لا أجد والله في المساومات غير الأخلاقية التي يمارسها فقهاء القانون في بلادنا إلا بابا واسعا للتهرب من ضرائب الخيانة، ولا أرى القانون إلا ديوثا يقف عند الباب مغمضا عينيه واضعا أصابعه في أذنيه حتى تنتهي زوجته من تأوهاتها المخجلة ليقبض ثمن البيع؟ ليت قانوننا المعاصر لا يرقص ولا يتصدق، فبلادنا تحتاج إلى عدالة لا إلى قرني.
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com