الجميع وقع في مأزق، الكيان الصهيوني، النظام الدولي، النظم العربية، حتى المقاومة، جراء هذا العدوان الوحشي على غزة والضفة الغربية.
لم يكن العالم في أي وقت بلا قانون يحكمه كما هو الآن، حتى لو كان هذا القانون غير عادل، فإسرائيل ومن خلفها أمريكا والنظم الغربية حطمت منظومته القانونية المهترئة وأودعتها مثواها الأخير، جراء رفضها الدائم والمتكرر لتنفيذ قرارات مؤسسات العدالة والإجماع الدولي، فهي لا تعير بالًا لا للأمم متحدة ولا لمؤسساتها المتنوعة، ولا لمحكمة العدل الدولية، ولا للجنائية الدولية، ولا لمجلس الأمن الذي يعد أهم مؤسسة دولية لكون الدول المتحكمة في قراراته هي الدول النووية القادرة ليس على إجبار أي دولة على الانصياع فحسب، بل على تدمير الكرة الأرضية برمتها.
معلوم للقاصي والداني أن إسرائيل منذ نشأتها وهي تعبث بتلك المؤسسات، متكئة في ذلك على الراعي الأمريكي، فكانت هي من تحتال على قراراتها، وكانت الدول الغربية تتواطأ وتغض الطرف عن احتيالها، في حين تنصرف دول المشرق النافذة لاستثمار هذا المشهد لتترجمه إلى مكاسب سياسية أو اقتصادية، ويمر الأمر بسلام، لكن هذه المرة اتسع الخرق على الراتق، ولم يعد بالإمكان إخفاء عورة هذا النظام، بعدما صار يتلقى الانتقادات حتى من أشد المدافعين عنه.
ترويع المنظمات الأممية
ولعل من الإنشاء القول بأن نحو 135 قرارا في مجالات متعددة أغلبها بالإجماع أصدرتها الأمم المتحدة بإدانة إسرائيل طوال 75 عاما هي عمرها لم يُنفَّذ منها قرار واحد، لكن في المقابل كان هناك قرار واحد فُهم منه التفويض الأممي بمعاقبة العراق وهو القرار 1441 الذي راحت تستغله أمريكا ومن خلفها المجتمع الغربي لغزو العراق وتدميره وقتل مليوني عراقي بزعم تنفيذ مقررات الشرعية الدولية.
وليس ذلك فحسب بل إن لإسرائيل سجلا حافلا في مهاجمة موظفي المنظمة الأممية وتهديدهم حتى إنها استطاعت علنا إرهاب أمينها العام أنطونيو غوتيريش وجعلته يتراجع عن تحميلها مسؤولية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول باحتلالها أراضي الفلسطينيين وفرضها الحصار عليهم، مع أن قوانين الأمم المتحدة الثابتة تعطي الحق للشعوب الواقعة تحت نير الاحتلال في المقاومة المسلحة، وهو تماما ما فعلته حماس وباقي فصائل المقاومة في هذا اليوم.
وإذا كان الإرهاب الإسرائيلي أجبر شخصا بمثل تلك القامة على التراجع عن تصريحات واجبة ومحقة، بل وجعله لا يطالب بوقف إطلاق النار في غزة إلا مقترنا بعبارة والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين في غزة فورا، خائفا من أن يذكر ولو بحرف واحد أكثر من مئة ضعف لهم، هم أيضا رهائن ولكنهم فلسطينيون في سجون إسرائيل، لذلك فليس من المستغرب أن يخاف مسؤولون صغار في تلك المنظومات الدولية من أن يقولوا ما يخالف رغبة إسرائيل.
ورأينا جميعا أن الجميع منظمات وأفرادا وقعت تحت تأثير الإرهاب الإسرائيلي، فأغلبهم يصمت وقليل جدا منهم من يتحدى، تماما كما فعلت المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيز التي أصدرت تقريرا تؤكد فيه أن ما فعلته إسرائيل في غزة إبادة جماعية، وأنها تعرضت للتهديد منذ ولايتها لمنعها من قول ذلك.
وشاهدنا أيضا أن إسرائيل قتلت العشرات من موظفي الأمم المتحدة في غزة، وقصف جنودها مقراتها وهم يغنون كما ظهر في وسائط مصورة، بل وراحت تروع موظفيها في الأونروا وتلفق لهم الاتهامات، ورأينا كيف تعاملت أمريكا والغرب بصمت واستهانة مع هذه الجرائم، بل راحوا يعاقبون هذه المنظمة بقطع التمويل عنها بناء على الدعايات الإسرائيلية.
تباين المشاهد
ولسوء الحظ شاء الله أن يتزامن ما يحدث في غزة مع ما يحدث في أوكرانيا، وبدا التباين جليا، فرأينا ازدواجية مقيتة لمحكمة العدل الدولية التي سارعت بإصدار قرار بوقف فوري للحرب في 27 فبراير/شباط 2022 بعد خمسة أيام فقط من بدء الاجتياح الروسي، ملمحة إلى احتمال ارتكاب روسيا أعمال إبادة جماعية، رغم أن عدد القتلى الأوكرانيين لم يكن قد تخطى آنذاك بضع مئات جلهم عسكريون، كما حاولت أن تنبش في الصور وتتبنى الشهادات الشفوية لاستنباط معلومات بأن هناك مدنيين أوكرانيين قتلوا في هذه الحرب لتوجه بناء عليها الاتهام بالإبادة الجماعية.
لكن على الجانب الغزي، نجد صور الشهداء والجرحى المروعة من المدنيين في هذا البلد المحتل والمحاصر تكتظ بها جميع وسائل التواصل والإعلام، موثقة صوتا وصورة ومع ذلك لم تطلب المحكمة وقفا لإطلاق النار بعد ثلاثة أشهر من بدء هذه الحرب الوحشية غير المتكافئة ولا بعد قرابة نصف عام من اشتعالها، وكأنها تعطي لإسرائيل المجال كاملا لإنجاز مهمتها.
مع فوارق مهمة للغاية في المشهدين، إذ إن غزة منطقة صغيرة جدا مكتظة بالسكان على خلاف أوكرانيا، وهي محاصرة منذ قرابة 17 عاما مما يعني أنه ينقص شعبها أصلا الكثير من المواد؛ ومن ثم فهي أولى بالإغاثة وتسريع وقف إطلاق النار. ومع ذلك كانت النتيجة أنه لا روسيا ولا إسرائيل أوقفت الحرب.
مصدر المشروعية
هذا انهيار كبير لمؤسسة الشرعية والإجماع الدولي، التي كان يجب أن تقول بشكل صريح دون مواربة إن ما حدث في الطوفان هو مقاومة مشروعة لطرد معتدٍ يغتصب الأرض ويفرض على أصحابها الأصليين الحصار، وليس عدوانًا.
الجديد هنا أن أعمال الإبادة تجري عبر الكاميرات ولا يمكن تجاهلها، وبالتأكيد سيكون من شأنها رغم السكون البادي على السطح، أن تُجرِّئ دولًا تمتلك زمام المبادرة غير تلك الدول القابعة تحت شباك الوهن والضعف والإمبريالية على أن تسعى لتكرار مشهد التجبّر الإسرائيلي في غزة في نقاط مصالح أخرى في العالم، وحتمًا ستصطدم حينئذ بمصالح الإمبريالية الغربية، ووقتها لن يصلح التعلل بالقانون الدولي ولا بمثل هذه الترهات، لأن القانون الحقيقي الذي يحكم العالم فعليًّا منذ أن خلق الله الأرض هو البقاء للأقوى، والشرعية معه في كل ما يفعل.
لذلك فإن لم تعاقب إسرائيل على جرائمها التي كشفت بنفسها سترها، فسيدرك القاصي والداني أن الضعيف هو فقط من يحتمي برداء الشرعية الذي لن يحميه أبدا، في حين أن القوي حال سبيله يقول كما قال ميكافيلي: “طالما كانت الحرب ضرورية فهي أيضا مشروعة ومقدسة”.
وستدب حينئذ الفوضى الخلاقة الحقيقية في العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق