المتأمل في طبيعة نظم الحكم في عالمنا العربي والإسلامي، لا يحتاج إلى أن يبذل جهدًا كبيرًا ليكتشف جليًّا أن سيادة ثنائية “الاستبداد والفساد”، هي القاسم المشترك بينها، وأنه إذا كانت هناك خصال أخرى واصفة لها، فستكون بلا شك “التخلف”، ولو أوهمت شعوبها، والعالم بخلاف ذلك، عبر اتباع نظام “البهرجة” بمشروعات الأكبر والأطول والأضخم.
الفشل الجمهوري
ولن يمكث هذا المراقب طويلا ليكتشف بسهولة أيضا، أن هناك صفة رابعة تخص تحديدا البلدان ذات النظام الجمهوري منها، وهي “الاضطراب السياسي”.
ثم سرعان ما يخرج بيقين أن نظام رأي الأغلبية -وهو جوهر فكرة الاحتكام إلى الجمهور- مهدر تماما في تلك البلدان، وأنه لا يعدو عن أن يكون ديكورا زائفا، ظاهره تمثيل الأغلبية، وحقيقته تحمل أقسى وأقصى درجات الإقصاء لهم، وأنه تعبير صادق عن حكم الأقلية.
ومكمن الخطورة هنا، أن هذا النظام الجمهوري، في حال فساد آليات اختياره، يحمل في طياته خداعا كبيرا وظلما بينا لشعوبه، فيحرم الناس من حقهم في الجهر بالمظلومية، تحت زعم أن هذا الحكم هو في الأصل من اختيارهم.
وفي ظل هذا الوضع الملتبس، يتنامى الشعور بالغبن الوطني، وعدم الانتماء، وتزداد الفجوات بين طبقات المجتمع، وتتفكك اللحمة الوطنية، وتكون النتيجة الصراع والاضطراب وغيرها من الصفات، التي تتسم بها جمهورياتنا العربية على وجه الخصوص.
ومن عيوب النظم الجمهورية العربية، أو التي من المفترض تعبيرها عن اختيارات الأغلبية، أنها إذا أصابت وأنجزت؛ فذلك بفضل حكمة رأس الحكم، وإذا عجزت وفشلت؛ فذلك بسبب قلة وعي الشعب، وعدم قدرته على مواكبة وطنية الزعيم ودأبه وحكمته.
وفي أحيان أخرى، حينما تتصارع أجنحة أجهزة الحكم في الدولة فينتصر الفرع الأضعف، على الأصل المتحكم، يتم عزو الخراب إلى فشل الحكام السابقين المتحكمين.
وبذلك تتوزع المكافآت لتصب في يد شخص واحد ودائرته الضيقة، وتتبدد العقوبات على المجهول غالبا، أو يتم استخدامها لتصفية حسابات سياسية.
أرسخ الديمقراطيات
الديمقراطية لا تفرق بين الممالك والجمهوريات أبدا، فرغم أن “المملكة المتحدة” مملكة فإن دعاة الديمقراطية والجمهورية ومنظريها حول العالم، ظلوا لقرون -وما زالوا- ينظرون إليها بوصفها النموذج الأمثل لحكم الأغلبية، والتعبير الصادق عن إرادة الجماهير.
والمدهش أن تجد أن الكثير من النظم الوراثية الأوربية كإسبانيا والسويد والنرويج والدنمارك وبلجيكا ولوكسمبورج وغيرها، صاروا هم أيضا مضربا للأمثال في حكم الأغلبية واحترام حقوق الإنسان.
هذا في حين أن كثيرا من النظم الجمهورية في الغرب والشرق، لا سيما في وطننا العربي، صارت هي الأخرى مضربا للأمثال في العالم أجمع، ولكن للقمع والاستبداد وحكم الأقلية.
وقد يستنكف البعض أن أضرب مثلا بديمقراطية بريطانيا ويقول إنها كانت قوة استعمارية عالمية، وهذا صحيح جدا، بل ونزيد أنها ارتكبت من الجرائم في مستعمراتها ما يندى له الجبين، وهي المتسببة في مأساة الشعب الفلسطيني، وهي التي أسست النظم الجمهورية الخادعة في مستعمراتها السابقة.
لكنها مع ذلك كانت أكثر رحمة من الاستعمار الفرنسي، الذي من المفترض فيه أن يكون تعبيرا عن خيارات الجماهير، وثورته الشهيرة التي حولت الحكم من دكتاتورية وراثية، إلى دكتاتورية عسكرية متوحشة.
ومع ذلك فالحديث هنا لا يدور أساسا حول سلوك هذه النظم خارجيا، ولكن حول سلوكها الداخلي مع شعوبها.
العدالة هي الحل
كان من الممكن أن نستخلص أن النظام الجمهوري نظام فاشل لا يحقق العدالة، ولا حكم الأغلبية، لولا أن مد الخط باستقامته يجعلنا نراه ناجحا جدا في تركيا والولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وإيطاليا وكندا، وغيرها.
كما أن التطبيق الصحيح لفكرة الجمهورية في هذه البلدان، خلق حالة مثالية من العدالة، نراها نحن في بلادنا نوادر تستدعي الاندهاش، مع أننا نحن الأمة التي جعلها الله تعالى تأمر بالعدل والإحسان.
فقدان تلك العدالة في عالمنا العربي هو المشكلة الحقيقية، سواء في الممالك أو الجمهوريات، وبسبب غيابها تحول السجال السياسي الطبيعي الناجم عن اختلاف الآراء بين البشر، إلى صراع دامٍ، يأكل فيه القوي الضعيف، وتدفع البلاد بسببه الثمن فادحا.
نخلص من تلك الفضفضة إلى أن النظام الجمهوري العربي، هو في الواقع استبداد مقنّع، يعادي الجماهير، ويسومها سوء العذاب، ويحتال على الديمقراطية.
والواقع يشهد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق