نشر المقال لأول مرة في عربي 21
بعضهم لجأ لاستئجار مقهى وأحيانا اضطر للعمل فيه، أو استأجر محلا ليبيع فيه البقالة أو الخدمات المكتبية أو مهمات الكمبيوتر، وبعضهم افتتح مطعما يبيع فيه الفول والطعمية، وأفقرهم من قام بتمويل "عربة فول" من تلك العربات التي تنتشر في كل مدن مصر وأحضر أقارب له للعمل عليها، ومنهم من اقترض من البنوك ليحصل على سيارة يديرها كسيارة أجرة.
وهناك من هم من ذوي الأطيان - وهي تقاس بالقراريط في الغالب - عاد إلى مسقط رأسه في ريف مصر وراح يربي الماعز والخرفان، ويزرع ويسقي وينافس الفلاح في صنعته.
هذه ليست ترديات أو حتى سرديات عن أحوال العمالة الموسمية
ولا عمال التراحيل، ولكننا بلا خجل نتحدث عن المهن البديلة التي يمتهنها قطاع لا بأس به من الصحفيين المصريين حاليا، والذين ينتظرون بفارغ الصبر الزيادة الحكومية الدورية لبدل التدريب والتكنولوجيا مع كل انتخابات للتجديد النصفي، والتي ستحل في 19 آذار/ مارس الجاري، وهو البدل الذي تحول إلى الراتب الوحيد لغالبية الجمعية العمومية للصحفيين مع زهادته وضآلته، ولا يزيد عما يقدر بنحو 120 دولارا.كما أن قطاعا كبيرا من الصحفيين المصريين يعملون بصورة أو أخرى في مجال السمسرة وبيع الأراضي، وبعض النافذين منهم وهم قلة طبعا لجأوا إلى القيام بأعمال الوساطة وتخليص مصالح المستضعفين من الناس مقابل أجر أو عمولة، والأخطر من ذلك أن العاملين في قطاع الإعلانات وهم بالقطع الأيسر حالا والأوفر حظا بينهم - رغم أنه نشاط مجرم بنص لوائح عضوية نقابة الصحفيين - صاروا هم أغلب ملاك الصحف الجديدة وهم من يسيطرون على المجال، وبالطبع كل ذلك أثر سلبا على حياد الصحفي ومهنيته.
لذلك فقد الناس ثقتهم في هذا المجال تماما، وانحدرت صورة الصحفي النمطية في مخيلتهم لدرجة سحيقة تجعل بعضهم يربط بين الصحفي والنصاب، بعدما كان من أعلى عشر مهن مرتبة وحصانة ودخلا وإعمالا للمبادئ والمثل في البلاد، وللأسف قد ساعدت الدراما الرسمية التي تنتجها الدولة في ترسيخ هذا المفهوم في العديد من أعمالها.وفي كثير من الأحيان هذه الصورة جعلت الناس يربطون بين الصحفي ومخبر الشرطة الذي يتخلى عن حياده؛ ويسخّر قلمه ليكتب ما تمليه عليه أجهزة الدولة أو ممثلوها ويكون شاهد زور جاهزا.
بدون أدنى مبالغة هذه عينة كاشفة عن أحوال الصحفيين المصريين ومصادرهم المالية التي تضج بها اعترافات بعضهم على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الأحاديث الجانبية بين بعضهم البعض، ما يؤكد انهيار هذا المجال في مصر، ولولا دخل زهيد تؤمنه نقابة الصحفيين لأعضائها شهريا تحت بند بدل التكنولوجيا والتدريب (2000 جنيه أو ما يعادل 125 دولارا)؛ لوجدنا الصحفيين المصريين يتسولون، فما بالك بمن لم يستطيعوا الانضمام لهذه النقابة بسبب قيود متعددة وهم أضعاف أعداد أعضائها.
أسباب أمنية
ساهم في حالة السقوط لقطاع الصحافة في مصر ما يعانيه الصحفيون من تكميم للأفواه وإغلاق للمنابر الإعلامية الجادة ومطاردة القائمين عليها، تأكيدا لذلك الشعور المتصاعد بالغبن والجور والإذلال جراء تلك القبضة الأمنية بالغة الضراوة عليهم، والتي حولت اشتغالهم بالمهنة إلى سُبة في جبينهم تعرضهم لمخاطر أمنية هائلة، لا سيما من يحملون منهم كاميرا توثق الأحداث أو تخصصوا في مجالات تتنافر مع نشاطات الحكومة.
وفيما يبدو أن هناك خيوطا جديدة تتكشف عن المؤامرة الكبيرة التي تحاك ضد هذه المهنة، كشفت عنها تصريحات أحد نواب البرلمان في مصر بضرورة تغيير قانون نقابة الصحفيين.
ولا جدال في أن التغيير المزعوم إما أنه سينسف أي دور للنقابة للسيطرة وإدارة العمل في المهنة ويجعل المهنة مشاعا كأرض خصبة للذباب الالكتروني، أو أنه سينزع عنها اختصاصاتها ومكتسباتها ومكتسبات الصحفيين، أو أنه سيحد من الانضمام إليها، لتقع النقابة ومعها المهنة بين خطري الإفراط أو الإغلاق.
وعمدت السلطات منذ ظهور حركات مناوئة للسلطة في العقدين الأول والثاني من القرن الحالي وانضمام أعداد كبيرة من الصحفيين لها، إلى دس العديد من عناصرها الأمنية ليكونوا أعضاء في نقابة الصحفيين لصناعة توازن بين المؤيدين والمعارضين، وبالغت في الأمر حتى تحول عدد أعضائها في العقد الثاني بدلا من ستة آلاف عضو إلى ما يزيد عن 13 ألف عضو، بينما تقلصت الصحف والمواقع العاملة في المجال الصحفي إلى ربع ما كان عليه الأمر في العقد السابق له.
ونتج عن ذلك وجود الكثير من منتسبي نقابة الصحفيين المصريين لا يجيدون القراءة والكتابة.
كما توسعت السلطات في حجب المواقع الالكترونية لتصل لأكثر من 500 موقع، بدعاوى التحريض على مصر ودعم الإرهاب، والغريب أن بينها مواقع دولية شهيرة مثل bbc ورويترز.
أسباب اقتصادية
ونتج عن ذلك تراجع الكوادر الخبيرة والكفاءات وحملة الرسالة، ليتصدر بدلا منهم قليلو الخبرة والانتهازيون، وهو الذي انعكس بشكل واضح على تراجع مستويات التوزيع وعزوف القراء عن قراءة الصحف الورقية، لدرجة جعلت التسريبات المتداولة بين الصحفيين تكشف أن الصحيفة الكبيرة التي كانت توزع في اليوم الواحد أكثر من مليون نسخة صارت الآن توزع ما لا يزيد عن 15 ألف نسخة فقط؛ أغلبها اشتراكات حكومية، كما أن التسريبات تكشف أن هناك صحفا أخرى لا توزع يوميا أكثر من 300 نسخة.
ولا شك أن مزاحمة الفضاء الالكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي لهذه الصحف كانت معول هدم كبير لها.
وما يدل على أن لسياسة التحرير العامل الأكبر في هذا الانهيار أن القراء انصرفوا عن متابعة مواقع الصحف القومية والخاصة الحليفة لها أيضا على الإنترنت، وصار السبب الأول لزيارتها معرفة توجهات وقرارات الدولة.
العمل بالسخرة
كثير من الصحف العاملة في مصر تستغل حاجة صحفييها للحصول على عضوية نقابة الصحفيين - الذي تقرنه لوائح النقابة بخطاب منها وفترة عمل تتجاوز العام وتوقيع صك التأمين الاجتماعي - فتقوم قبل ذلك بإجبارهم على العمل بالسخرة، كأن تجعلهم يعملون فيها لسنوات مقابل أجر زهيد لا يزيد أبدا عن ألف جنيه وقد يصل إلى 300 جنيه، وأحيانا تجعلهم يعملون دون أجر نهائيا.
ووصل الانحدار لدرجة أن يقوم أحدهم بدفع مبلغ كبير للصحيفة من أجل الحصول على خطاب التقدم لعضوية النقابة، فيما كانت هناك صحف يمثل لها ذلك مصدر دخلها الرئيس!!
وأخيرا، لك أن تتخيل أن نضال الصحفيين الذي كان يدافع عن تحرير الوطن بأسره قديما وتحسب له السلطة لهم ألف حساب؛ صار عاجزا عن تحرير كراسي النقابة التي تم جمعها والإغلاق عليها في مخازن الدور الخامس، أو يسعى لتحرير سلم النقابة (هايد بارك مصر سابقا) من السقالات.
هل تبقى للصحافة في هذه الأجواء.. رسالة؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق