تماما كما كان يحدث في كل
عصور الاضمحلال التي كنا نقرأ عنها في كتب التاريخ يحدث الآن في مصر سيادة المادية
المفرطة في مقابل القيم الروحية الصادقة، دعم وترويج الشك المذهبي في مقابل تسفيه
الشك المنهجي الراغب في الوصول للحقيقة، العصف بأهم مكونات المجتمع كالروابط
العائلية والجهوية وصولا إلى تفسيخ الخلية الأولى في المجتمع وهي الأسرة ليصبح كل
فرد فيها لا يمثل إلا نفسه، يترافق مع ذلك تجريم الوازع الديني والمجتمعي والتراثي
في نفوس الناس، وخنق قادة الرأي المجتمعيين وتسفيههم والحط من شأنهم وإحلالهم
بقادة رأي مصطنعين يفتقدون لأي مضامين فكرية ذات قيمة، كل ذلك جزء يسير للغاية من
حرب شاملة يتعرض لها بنيان المجتمع المصري منذ عقود لاسيما في العشرية الأخيرة من
التاريخ، بما يجعلها تعادل في خطورتها أعنف حروب الإبادة التي عرفها التاريخ.
صارت هناك حربا صغيرة
أحيانا أو كبيرة في أحيان أخرى داخل كل بيت أو أسرة أو عائلة أو قبيلة أو حي أو
قرية، تصغر معها معاناة الناس من الاكتواء بنار الاستبداد أو غلاء الأسعار ونضوب
الدخول والموارد، وبالتالي ففي مثل تلك الظروف فإن مسألة الاستقلال الوطني والحفاظ
على أراضيه وحماية المقدسات أصبحت رفاهية لا يملكها اغلب الناس، ولعل ذلك هو ما
يفسر أسباب صناعة ما سبق.
ومن الخطأ الجسيم النظر
إلى تلك الحروب بأنها معارك في درجة متدنية، وذلك لأن الثابت عند علماء الاجتماع
مثلا أن الظلم الاجتماعي أشد وطأة من الظلم الاقتصادي والسياسي، ورغم ذلك نجد أن
كثيرا من الكتاب والباحثين الجادين يستهينون به، رغم أن أعظم الثورات في التاريخ
كانت في الأصل هي ثورات اجتماعية كالثورة البلشفية والفرنسية وحرب الاستقلال
الأمريكية، وحتى الديانات المختلفة هي في الغالب تطبيقات اجتماعية.
عودة الثأر
لم تكن واقعة مصرع ابن
المنوفية الشاب محمود البنا العام الماضي والتعاطف الشعبي الواسع معه إلا تعبير عن
حالة رفض شعبي قاطعة لواقع أليم يعيشونه صباح مساء من تفشي أعمال البلطجة مع سهولة
الإفلات من العقاب وعدم وجود تشريعات لحماية الشهود، يغذيه تفشي المحسوبية والرشوة
في مؤسسات العدالة، فضلا عن ضعف القوانين الرادعة، بالإضافة إلى اهتمام السلطة
بالحفاظ على أمنها السياسي وردع المعارضين السياسيين وترويعهم، تارة بيدها عن طريق
التلاعب بالقوانين، وتارة أخرى بإطلاق يد البلطجية والمسجلين خطر والخارجين عن
القانون في المجتمع.
كان من الطبيعي إزاء هذا
أن يفقد الناس ثقتهم في الدولة ويعودون لحماية أنفسهم بأيديهم، فرغم أن ظاهرة
الثأر كانت قد أوشكت على الانتهاء من قاموس الحياة المصرية، إلا أنها عادت مؤخرا
بقوة إلى المجتمع المصري بحيث لم تعد غالبا أي قرية أو مركز من مراكز الجمهورية
إلا وتشتعل فيها معركة ثأرية طاحنة تحصد الأرواح وتروع الناس، وتكاد تحذر كل
تفصيلة من تفاصيل أحداثها بقرب انهيار دولة القانون، وأن القوانين بدلا من أن تقتص
للمظلوم من الظالم قصاصا رادعا، تعمد غالبا ادوان انفاذ القانون للتعامل مع قضية
العدالة طبقا لمصالحها مع أطرافها وثقلهم في المجتمع، فيما يبقي السبب الأبرز وراء
تنامي الظاهرة هو فقدان الثقة بقوة القانون واعتباره ذاته أداة للإفلات من العقاب
وليس أداة للعقاب.
ويبقى القول أن السلطة
مدعوة بإلحاح لاستخدام نفس القوة التي ردعت
بها الآلاف من معارضيها بعد ثورة يناير وما قبلها، لردع الخارجين عن
القانون.
وتضج وسائل الإعلام كافة
وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي بالكثير عن قصص الثأر التي تفشت في المجتمع دون
وجود إحصاءات رسمية لذلك، نظرا لان الكثير من تلك الحوادث يتم تكييفها قانونيا –
باصرار من الاهالي- بصفات مغايرة دون الإفصاح عن تاريخ الصراع وحقيقته.
انتشار المخدرات
غني عن البيان أن للسلطات
المتعاقبة مآرب أخرى في تنامي ظاهرة تعاطي وتداول المخدرات، تارة بغض الطرف وتارة
بالتجاهل وتارة بالتهاون، وأحيانا بالاشتراك والتشجيع، وهو ما كشفته واقعة “عزت
حنفي” الشهيرة والتي جرت أحداثها في محافظة أسيوط، مطلع الألفية الجديدة، والتي
جسد جزءا من حقيقتها فيلم “الجزيرة”، واعترفت بها السلطة آنذاك.
كما أن التعامل الأمني مع
الظاهرة أعطى شعورا لدي الناس بانها لا تحاربها ما شجع بعض نواب برلمانها وكذلك
فنانون وباحثون وأكاديميون للمطالبة بتقنين تدلها وتعاطيها، يأتي ذلك رغم أن
البرلمان “نظريا” شدد عقوبة تداول تلك المواد لتصل إلى الإعدام.
الإحصاءات الرسمية تؤكد
أن 10.4%، من المصريين يتعاطون المخدرات مع انخفاض سن التعاطي إلى تسعة سنوات، وأن
79% من الجرائم التي تُرتكب في مصر ترجع إلى تعاطيها.
الاتجار بالبشر
“البلطجية”
هم أصحاب اليد الطولى في أي نزاع، شجعهم على ذلك تراخي الدولة في التعامل معهم
بالقوة اللازمة، ما أرسل لهم رسائل خاطئة بأنهم مميزون لديها، واعطى ذات الرسائل
للمجتمع بضرورة الاستكانة لهم نظرا لما يملكونه من نفوذ، وخاصة بعدما تم الاحتفاء
بهم وضهم في أعمال الخدمة المدنية للدولة ومنح رموزهم الإعفاءات التقديرية لهم.
كما أن الإعلام الرسمي
ساهم في تشجيع تلك “الظاهرة” عبر إنتاج أعمال درامية عديدة تمجد شخصية البلطجي
وتبرر له إجرامه، وتعلي من الدوافع التي
ساهمت في تشكيل شخصيته، كالمظلومية أو التمرد على الظلم الاجتماعي أو
للدفاع عن النفس وغيرها.
وزاد من الطين بلة أن
اللصوص الذين كانوا قديما يسرقون في غفلة من الزمان ممتلكات الناس وأموالهم، لم
يكتفوا بإظهار سطوتهم وفعل ذلك عنوة، بل تمادوا واخذوا يسرقون الناس أنفسهم
ويبيعونهم لعصابات تجارة الأعضاء البشرية تارة، ولشركات الأدوية العالمية تارة
أخرى لتجري عليهم تجاربها الطبية حتى صارت مصر من كبريات الدول في هذه النشاط الوضيع
الذي جرى تقنينه عام 2017، أو يقومون باختطاف الضحايا مقابل الفدية أو ابتزاز
ذويهم أو الاغتصاب في حالة الإناث، الوقائع شائعة جدا في المجامع المصري ونسجت
حالات من الخوف والهلع فيه.
المواقع الإباحية
تأتي المواقع الجنسية
والإباحية عبر الانترنت وأحيانا عبر بعض الاقمار والفضائيات لتحطم ما تبقي من قيم
وعادات ونوازع دينية لم تحطمها الدراما العربية المنحطة، ورغم أنه قد أثيرت ضجة في
مصر بداية عام 2012 مطالبة بحجب تلك المواقع وتعللت الحكومة وقتها بأن هذا الإجراء
سيكلف المليارات وأنه شبه مستحيل فنيا، إلا أن حجب السلطة حاليا مئات المواقع
السياسية وترك تلك المواقع لتتضاعف يؤكد أن السلطة كانت راغبة فيها لحاجة في
نفسها.
ونحن في غنى بالقطع من
الحديث عن الأضرار التي تتسبب فيها تلك المواقع علي النشء والشباب في استسهال
الرذيلة والشذوذ، ما يقود لقصص مروعة عن كل جرائم الاغتصاب والفجور والشذوذ وزنا
المحارم التي تمتلئ بها الصحف المصرية وترويها الحكايات الهامسة، وصارت ظواهر
لافتة للمتأملين.
مشكلات بالجملة
هناك جملة من المشكلات
التي تعانيها الأسرة المصرية قد تكون بواعثها في الغالب اقتصادية،ومنها تفشي ظواهر
العنوسة لدي الشباب من الجنسين وبالطبع فإن وجود هذه الحالة لدي الفتيات – وهي
تتخطي حاجز الـ10 ملايين بحسب الإحصاءات الرسمية – تسبب توترا كبيرا لأسرهن خوفا
على مستقبلهن بعد فقدانهن عوائلهن، وكذا تفشي ظاهرة الطلاق – حالة طلاق كل دقيقتين
– وتنامي ظاهرة تملص أرباب الأسر من الإنفاق عليها بسبب البطالة وتدني الأجور، ما
أنتج ظاهرة المرآة المعيلة والتي تعول نحو 3.5 مليون أسرة “نحو 20 مليون نسمة “.
كما أن إصابة أحد أفراد
الأسرة بمرض مزمن عادة ما يسبب ارتباكا لجميع أفراد أسرته حتى لو كان مقتدرا
ماديا، فهناك جهات تقدر وجود نحو 2.6 مليون مريض بالفشل الكلوي، و 8.2 مليون مريض
بالسكري، و1130 مريض سرطان لكل مليون نسمة، فضلا عن 10.6 مليون معاق، ناهيك عن
عشرات الأمراض الأخرى، وأن كل مريض من هؤلاء يشاركه آلامه العديد من أهله وذويه.
في الواقع أن الشعب
المصري يعاني الآن حربا بيولوجية ونفسية واقتصادية وسياسية شاملة هى الأخطر منذ
نشأة مصر.
اقرأ المقال على موقع المعهد
المصري للدرسات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق