يُحْكَى أن امرأً عُرِف عنه الاتزان والثقة في النفس، اتفق بعض أصدقائه المقامرين على أن يُفْقِدُوه ثقته تلك.. فعزموا جميعًا أن يتناثروا على طول الشارع الذي سيسير فيه، وأن يسألوه سؤالًا واحدًا "عن كيفية سيره برأسه المقطوعة".
التقاه الأول فسأله هذا السؤال مبديًا تعجبًا، فاندهش صاحبنا أشد اندهاش واعتبرها مزحةً من صديق مازح ، فما أن سار عدة أمتار حتى وجد آخر يسأله ذات السؤال فلم يُعِرْه انتباهًا بوصفها مزحة بدت مُمِلّة، وطرح عليه السؤال ثالث فبدأ صاحبنا يتململ من تلك التساؤلات السخيفة.. فكرره عليه رابع فنهَره, ثم مرَّ بجوار سيدتين لا يعرفهما فوجدهما يبديان تعجبًا لسيره بدون رأس.. هنا اعتقد صاحبنا أنَّ الأمر فيه شيء من الجِدّ، وهو ما تأكَّد حينما فرّ طفل من جواره خائفًا وهو يتطلع إلى رأسه، هنا اهتزت ثقة صاحبنا وفقد صوابه وراح يبحث عن مرآةٍ ليرى فيها ما جري لوجهه، حدث ذلك رغم أنه كان يسير بنور عينين ويسمع بأذنين ويتحدث بلسان, وكل تلك الأجزاء كانت من مكونات رأسه، وتشملها من كل الجهات تقريبًا.
تكلم حتى أراك..
وفي أثر الكلام قال الله تعالي {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ" وقوله للرسول {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} وغير ذلك من آيات تؤكِّد مدى تأثير الكلام.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام)).. فيما يعرف جميعنا الظروف التي قيلت فيها رواية "آن لأبي حنيفة أن يمدّ رجليه" وقبل ذلك كله قول سقراط الحكيم لتلميذ جديد حل على مجلسه "تكلم حتى أراك".
ويعتبر الشيخ في منبره والصحفي في صحيفته والإعلامي عبر فضائيته هم أبرز روَّاد سوق الكلام.
سوق السحر..
وإذا كان "الزّنّ على الودان آَمَرّ من السحر" كما يقول المثل الشعبي فانَّ "الإعلام" يعتبر هو السوق الأوسع لبضاعة "السحر" لذلك فنُظُم الحكم على تنوعها- على ما يبدو- تعنى دائمًا بالاستحواذ على هذا المجال كل بطريقته، فالنظم الشمولية والعسكرية – طبقًا لما ألفناه منها في مصرنا المقهورة على سبيل المثال- لا تدع أحدًا يتكلم غيرها وإذا سمحت للآخرين بالكلام فلا كلام مسموحا به أن يتردد إلا كلامها، وعلى الجميع أن يتحولوا إلى صدى صوت لها.
أما النظم الرأسمالية والليبرالية فهي تتحكم بهذا السوق أيضًا ولكن من خلال سيطرة رجال أعمالها على سوق المال لأنه متى توافر ذلك المال سيصبح بإمكانك أن ترفع صوتك أكثر وأن تسمعك آذان أكثر، وهذا النوع من التسلط يبدو ذهبيًا مقارنة بسابقه لأنه لا يحرمك من حقك في الكلام، ولا يحرمك أيضا من حقك في استخدام مهاراتك الخاصة في توصيل صوتك للناس دون خوف أو وجل.
لسان الحقيقة أم النظام؟
ووصل الغبن في التعامل مع الإعلام والاعلاميين في النظم العسكرية التي حكمت مصر في العقود الماضية على سبيل المثال أن جعلت في بعض الأوقات من يترأس منظومة الإعلام قائدًا عسكريًا، ومن يحرر الصحف ويرأس تحريرها قائدًا عسكريًا أيضًا، وجعلت من يراقبها رقابة سابقة رجلاً عسكريًا، فضلا عن طبيعة الحال بأن من يراقبها رقابة لاحقة رجلًا عسكريًا.
وكما تطورت فنون "سوق الكلام" و"الإعلام" نظرًا لكوننا جزءًا من هذا العالم، تطورت أيضا فنون الرقابة عليه في مصر ووطننا العربي، فاختفى الرقيب الذى يرتدى بدلة عسكرية وجاء النقيب الذى يرتدى لباسًا مدنيًا, وكلاهما يتصرفان نفس التصرف ويوجهان بنفس التوجيهات ويرسلان تقاريرهما لذات الجهة الأمنية الواحدة التي عينتهما أو وجهت باختيارهما في منصبيهما.
وبدلاً من أن يتلقى المخبر الصحفي تعليماته من مخبر المباحث راح الأخير بنفسه يرتدى ثوب الصحفي ويحلّ محله, محاولاً أن يتصرف كما يتصرف الصحفي, إلا أنَّ تقمُّصه هذا أبدًا لا ينطلي على النابهين الذين أدركوا للحظة الأولى أنه لا يكتب إلا كما يكتب مخبر المباحث، ولا يرى إلا بعين مخبر المباحث.
ولأنَّ النظم الديمقراطية دأبت على الاحتفاء بالإعلام والإعلاميين بوصفهم عيون الحقيقة وضمير الشعب وجعلت من حريتهم وحرية الناس في "الكلام والتعبير" بشكل عام, برهانًا على بُعْد المدى الذى وصلت إليه ديمقراطيتها، نجد أن النظم الشمولية القمعية تحتفي أيضا بهم، ولكن الاحتفاء هنا لكونهم هم من يطمسون عيون الشعب ويزيفون وَعْيَه, ويفعلون فيه ما لم تفعله أشد القنابل فتكًا وتطويعًا, ويضمنون لاستبدادهم أن يبقي ويستمر.
خطاب الاستبداد
والخطاب الإعلامي في النظم الاستبدادية هو نص واحد منسوخ من أقصى الكرة الأرضية شرقًا إلى أقصاها غربًا, فإعجازات الزعيم هي محور أي نشرة أخبار, كما أن أي خير يصيب البلاد فهو قطعًا منه وأي شرّ يضربها فهو بلا شك من الشعب، وهو المُوحَى إليه الذى لا يخطئ، هو من يصنع معجزة يومية ليطعم شعبه الكسول الذى يتكاثر ولا يعمل.
فمن يجرؤ أن ينكر أن الزعيم لا ينام الليالي سهرًا على راحة وأمن السيد "المواطن" وأنه صنيع العناية الإلهية ومبعوثها, وهو من بحكمته دائمًا ما يختال علينا وهو "القلب الكبير" كما قالت صدفة هانم في المسرحية الشهيرة.
لذلك أنا لا أستبعد مطلقًا أن تكون جيوش المستقبل لدى النظم الاستبدادية من أولئك المخبرين الذين تقمصوا أدوار الإعلاميين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق