كان واضحاً أن «عراب الانقلاب» محمد حسنين هيكل لا يتحدث من فراغ، فقد جلس في «حضرة لميس الحديدي»، بعد لقاء جمعه مع «قائد الانقلاب» عبد الفتاح السيسي، وكان هيكل ضد «الجزيرة مباشر مصر»، ورأيه هذا ليس جديداً، لكن الجديد، أنه وجد الفرصة مواتية، ليضرب ضربته، ليكون شرط القوم، لإتمام المصالحة برعاية سعودية هو إغلاق القناة، التي تحولت بمضي الأيام إلى «ضمير الثورة المصرية».
هيكل أبدى تعجبه، وهو في «حضرة لميس الحديدي»، من أن تطلق دولة فضائية لتتدخل بها في سياسة دولة أخرى، وقال إنه طلب من المشير محمد حسين طنطاوي إغلاقها، وأنه لم يستجب له، وقد نسى، لهرمه ولعوامل التعرية، أن الاستجابة قد حدثت، وأن «مباشر مصر» قد طوردت في فترة حكم المجلس العسكري وأغلقت. ولا نعرف لماذا لم يطلب سيادته إغلاق فضائيات أخرى، تحمل اسم «مصر» وتمول من دول خليجية هي راعية الانقلاب، الذي هو عرابه!
نعلم أن هيكل كالجمل، وكما يقول أهلنا في الريف المصري أن «الجمل يُخزن»، أي يقوم بتخزين غضبه ويكتمه، لكنه لا بد وأن ينتقم في اللحظة التي يراها مناسبة. ويروى أن صاحب جمل قام بتقييده واعتدى عليه، وقد ظل الليل كله يتأوه غضباً، فتم صناعة «خيال مآتة»، من قش الأرز وخلافه على هيئة صاحبه المعتدي، وقدم له، فإذا بالجمل الغاضب يفترسه، عندها طل عليه المستهدف ساخراً. يقول الراوي: لقد مات الجمل في الحال!
هيكل، تدهور به الحال، فبدلاً من أنه كان يطل عبر شاشة «الجزيرة»، صار يظهر على قناة «سي بي سي»، وبدلاً من أن كان من يحاوره في السابق محمد كريشان، وخديجة بن قنة، صارت جارته بالجنب لميس الحديدي. شفانا الله وعفانا. وهو لم ينس أننا على شاشة «الجزيرة مباشر مصر»، أطلقنا عليه «عراب الانقلاب»، وكشفنا أنه كاتب خطاب عبد الفتاح السيسي، وجاء ليشيد به في مقابلة مع لميس، وكيف أنه فوجئ ببلاغة السيسي، عندما قرأ له الخطاب قبل إلقائه.. وقال وهو يقوم بدور ممثل نصف موهوب، أنه سأل السيسي من كتبه؟ لأنه «حلو أوي»، على حد تعبيره. فرد السيسي: أنا كتبته!
لقد كان هيكل يبيع الماء في «حارة السقايين»، وظن أن ما قاله يمكن أن ينطلي على أحد، لكن ما لم يقله هو صفته التي تجعل «قائد الانقلاب العسكري» عبد الفتاح السيسي يقرأ عليه بيانه قبل إلقائه، إلا إذا كان شريكاً ضالعاً في المؤامرة على الحكم المنتخب وعلى المسار الديمقراطي.. يكاد المريب يقول خذوني!
مثل هذا الكلام تردد أكثر من مرة، على لسان أكثر من ضيف على «الجزيرة مباشر مصر»، فكان طبيعياً أن تزداد أحقاده عليها، فأسرها في نفسه، ووجد الفرصة مواتية ليضرب ضربته ففعل، ليشفي رغبة تملكته في الانتقام.. راجع حديثه وهو يتحدث بغضب مع «لميس»، عندما تطرق لـ «مباشر مصر». فقد ظننت لحظتها أن «السر الإلهي» أوشك أن يغادر جسده.
هيكل والرغبة في الإنتقام
«شاب هيكل»، و»شابت» معه خصلة الانتقام، وهو الذي بدأ حياته الصحافية بجريمة مهنية، عندما تم تكليفه بتغطية مؤتمر دولي، فاستطاع أن يصادق سكرتيرة المؤتمر ليحصل منها على كلمات الرؤساء قبل إلقائها، ويرسلها لجريدة «أخبار اليوم» على أنها تصريحات خاصة به. وفي اليوم التالي كانت الصحيفة تحتفي بالتصريحات الخاصة وعموم الصحف تنشرها على أنها كلمات الرؤساء العامة، وغضب صاحب «أخبار اليوم» مصطفى أمين، وقرر طرده، وكان في ثورة عارمة، لكن علي أمين ومحمد التابعي تمكنا من تهدئته، وتبرير تصرف هيكل بأنه حماس شاب تمكنت منه الرغبة في الترقي السريع!
لقد أسرها هيكل في نفسه، وبعد حركة ضباط الجيش في سنة 1952 تقرب من جمال عبد الناصر، وانتقم من مصطفى أمين بالقضية المعروفة بالتخابر مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي دخل أمين بسببها السجن، وأفرج عنه الرئيس السادات! وعلى ذكر السادات، فقد عزل الرئيس الراحل هيكل من رئاسة مؤسسة «الأهرام»، وسجنه في سنة 1981، والذي انتظر اغتياله ليؤلف كتاب «خريف الغضب»، وفيه سعى للإساءة للرئيس السادات بشتى الطرق، حتى السقوط؛ فقال إن السادات كان معقداً من لونه الأسود، الذي ورثه من أمه السودانية، وهي من مدينة «دنقلا». لقد فات «عراب الإنقلاب» كما فات سيده، أن «الجزيرة مباشر مصر»، لم تكن وراء الثورة المصرية، فهذه ثورة شعب، بدأت في يومها الأول بتجاهل قناة «الجزيرة» لها ليكون ترتيب الخبر الثالث أو الرابع في نشرات الأخبار، وهو ما لفت انتباهي وعبرت عنه بالنقد هنا في هذه الزاوية يوم السبت 29 يناير/كانون الثاني 2011، ولم يكن اهتمام «الجزيرة» بالثورة، إلا في جمعة الغضب 28 يناير/كانون الثاني، فكانت صدى لإرادة المصريين، ولم تكن المحدد لاختياراتهم. أما «الجزيرة مباشر مصر»، فقد أفرزتها الثورة، وكانت صوت الثوار الذين خرجوا على الانقلاب العسكري، وظلت ثورتهم في الميادين والمحافظات أربعة أيام قبل أن تعاود «مباشر مصر» بثها من الدوحة، إذ كان مكتبها قد اقتحمته قوات الأمن ضمن القنوات الأخرى، في لحظة كانت كاشفة عن سعي الانقلاب لخنق الرأي الآخر، وقد حرصت «الجزيرة مباشر مصر» على وجود الرأي الآخر على شاشتها، كما حرصت على ذلك «الجزيرة الإخبارية». ومن اللافت أنه في اللحظة التي اقتحمت فيها قوات الأمن مكتب «مباشر مصر» كان البث الحي من ميدان التحرير حيث الاحتفال بالانقلاب العسكري، وليس من رابعة العدوية، كما أن «الجزيرة الأم»، كانت تقدم برنامجاً من مكتب القاهرة، لحظة اقتحامه، كان الضيوف والمذيعة نوران سلام، ضد حكم الإخوان ومع الانقلاب. المهم، فـ«الجزيرة مباشر مصر» ليست هي الثورة، إنما هي مجرد محطة فضائية، كان الحرص على إغلاقها كاشفا عن أن الانقلاب العسكري في مصر، هو سبة في جبين الانقلابات العسكرية، فهو انقلاب كرتوني، على نحو تمكنت منه فضائية في مواجهة ترسانة من القنوات التلفزيونية المؤيدة للثورة المضادة، فيبدو كبيت العنكبوت الذي تتصدع أركانه من جراء برنامج، وربما من فقرة في برنامج!
هزيمة الثورة
نحن لا نستطيع أن ننكر أن إغلاق «الجزيرة مباشر مصر» هزيمة للثورة، فهي التي كانت سبباً في إنزال عبد الفتاح السيسي من مرتبة الزعيم الملهم والنبي المرسل وفاتن قلوب العذارى، إلى مجرد شخص فاشل على كافة المسارات، ومفتقد للمهارات الواجب توافرها في الزعيم السياسي، وكان هذا من خلال التسريبات التي كشفت حجم الجريمة التي لحقت بمصر لأن يكون هو رئيسها.
والإصرار على غلق «الجزيرة مباشر مصر» بالضبة والمفتاح، جاء ليكشف أن الانقلاب في مرحلة ما بعد الترنح، وقد قيل إن مصر لا يمكن أن تستمر بهذا الشكل لمدة عام آخر، مع أنهم طوال الوقت يروجون بأن المظاهرات محدودة، وأن «الجزيرة مباشر مصر» ليس لها جمهور في مصر، وان خريطة الطريق تسير على قدمين ثابتتين! لا بأس فالحروب سجال، ولا ننسى في الأيام الأولى للانقلاب، وعندما تم وقف بث «الجزيرة مباشر مصر» كيف أن المصريين عرفوا باسم قناة أردنية لم أكن قد سمعت عنها من قبل هي «اليرموك»، التي انتشر ترددها عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم. لكن الثورة هذه المرة أحسن حالاً، فالقنوات الموالية للشرعية كثيرة، ومن «الشرق»، إلى «مصر الآن»، ومن « رابعة» إلى « مكملين»، ومن «الحوار»، إلى «القناة». وعلى الباغي تدور الدوائر.
أرض – جو
- لا تستطيع أن تتحدث عن إغلاق «الجزيرة مباشر مصر»، من غير أن تذكر من قرأت بيان الإغلاق الموهوبة «سارة رأفت».. محظوظة «سارة»، والتي تفجرت موهبتها منذ بداية عملها فيها. والبداية كانت كاشفة عن مولد مذيعة ناجحة.
- أحيانا كنا نضيق ذرعاً بتطرف «محمد ماهر عقل» وهو يسعى للقيام بدور محامي الشيطان وتمثيل الرأي الآخر في غيابه وحضوره، لكن في إطار الموقف فقد تحصل على حسن الخاتمة. فقد رفض أن ينطق اسم عبد الفتاح السيسي مسبوقاً بلقب «الرئيس» في اليوم الأخير، ونطقه مجرداً. لتكون هذه النهاية مضافة لرصيده المهني.
- وفي سياق حسن الخاتمة، حفظ المشاهدون لموهوب آخر هو «عبد العزيز مجاهد» قوله رداً على احد المتصلين وكأنه يقرأ الغيب: «إغلاق الجزيرة مباشر مصر، لن يغير الواقع، وسيظل القاتل قاتلاً».
- لقد أسدل الستار على شاشة «الجزيرة مباشر مصر»، وهي كنخيل العراق، يموت واقفاً، في حين أن فضائيات الثورة المضادة لا تزال تبث إرسالها، ولكنها كأعجاز نخل خاوية.
صحافي من مصر