تأتي التسجيلات المصورة الشديدة الأهمية والخطورة التي التقطتها مسيّرة حزب الله “الهدهد”، وتضمنت تصويرا مفصلا ودقيقا وبجودة عالية لمناطق عسكرية إسرائيلية شديدة الأهمية في الكيان الصهيوني، تتويجا لعمل استمر نحو تسعة أشهر، اشتدت جذوته بعد احتدام أعمال الإبادة الصهيونية في قطاع غزة، تم فيه تدمير الحواجز التكنولوجية والعسكرية التي أقامتها إسرائيل.
وأهمية هذه التسجيلات أنها قدّمت رسالة تهديد قوية وواضحة للكيان وداعميه بأن الأمر لم يعد كما كان من قبل، حيث تمرح طائراته ومسيّراته ووسائل تجسسه في لبنان مثل أجواء العديد من دول الجوار العربية، دون أن
يتسنى لأي منها التفكير بالرد أو حتى الاقتراب من سمائه بوصفها مجاهل مهلكة يحترق من يفكر في فك طلاسمها.فضلا عن أن عملية الهدهد تشير بوضوح إلى أن القبة الحديدية الإسرائيلية صارت تحت رحمة صواريخ ومسيّرات حزب الله، بعدما شكك البعض في فشلها عقب الضربة الإيرانية الأخيرة للكيان.
والموجع أن الهدهد استطاع العودة إلى قواعده سالما ليس دون أن تحطمه قبة الردع الحديدية الإسرائيلية فقط، بل ودون حتى الكشف عنه، وهو ما يعني أن إسرائيل أصيبت بالعمى الاستخباري العسكري الذي كانت تتمتع به منذ عقود، وشكّل سبب تفوقها في الجبهتين اللبنانية والسورية.
وما يؤكد ظاهرة العمى الاستخباري الاسرائيلي تلك النجاحات الكبيرة التي حققتها صواريخ حزب الله في مدن جنوبي الكيان، وتكبيده خسائر كبيرة في الأرواح والبنى التحتية، فضلا عن الحرائق التي أشعلتها أخيرا في عدد من مدنه، وما رافقها من حالة ارتباك كبيرة عاشها قادته العسكريون، وهو الارتباك الناجم عن فقدان تفوقهم الاستخباري العسكري الكبير الذي حققته أجهزة الرصد والتعقب في الشمال، التي مكنتهم مرارا وتكرارا سابقا من صد صواريخ الحزب فور إطلاقها، بل ومكنتهم أيضا من كشف مصادر إطلاقها، وكشفت لهم أماكن وجود رجال المقاومة لتستهدفهم بالقصف.
خط بارليف الجديد
كان التسجيل المصور وما سبقه من نجاحات عسكرية لحزب الله في الأشهر الأخيرة شرحا عمليا لأهمية ما كان يقوم به من قبل في إطار الدعم والإسناد لغزة، وردّا عمليا على تلك الدعايات الساخرة التي أطلقتها حسابات الذباب الإلكتروني المعادية لمحور المقاومة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهي الدعايات التي حاولت الحط من عمليات حزب الله التي استهدف بها محطات المراقبة والتجسس الإسرائيلية عبر إطلاق مسميات مثل “غزوة ذات العواميد” ومعركة “الأبراج” وغيرها.
تجاهلت الدعايات حقيقة أن لحزب الله نصيب الأسد في الدعم الفعلي للمقاومة في غزة وتخفيف الضغط العسكري الصهيوني عليها، رغم ما يتكبده من خسائر طالت الكثير من أرواح أتباعه وقادته، ومكبدا العدو في الوقت ذاته خسائر مؤلمة يمكننا توقعها من خلال معرفة كثافة ومديات صواريخه، التي وصلت إلى حانيتا والمطلة والمنارة ورويسات العلم والجولان والجليل الأعلى وصفد وميرون وبيرانيت، وأجبرت إسرائيل على إخلائها من السكان طيلة فترة العدوان على غزة، ويمكننا أيضا رصد قوة الهجمات وخطورتها من ردود فعل الاحتلال المتشنجة، رغم أنه لا يستطيع الاعتراف بها لأسباب عديدة أبرزها الخشية من تفكك نسيجه الإجتماعي غير المتجانس والهجرة العكسية إلى الخارج.
وقد تمكن حزب الله بتلك الضربات من إتلاف ما يمكن أن نسميه “خط بارليف الجديد” الذي عمدت إسرائيل إلى إنشائه على طول حدودها البالغة 200 كيلومتر مع لبنان وسوريا معا، مدمرا ما حصنته بأحدث أجهزة الرصد والتعقب والدفاع الأمريكية التي يصعب الإفلات منها أو اجتيازها على امتداد 120 كيلومترا هي طول حدود لبنان معها، وليكرر الفشل الذي ألحقه بها في عام 2006 حينما كان أقل تسليحا وخبرة، ومنذرا في الوقت ذاته بإمكانية حدوث اجتياح بري عكسي من المقاومة في جنوبي لبنان لقلب الكيان مستقبلا، على غرار ما حدث في السابع من أكتوبر.
امتهان كرامة
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن النجاحات العسكرية التي حققها الحزب خلال الشهر الأخير في مواجهته مع إسرائيل هي امتهان جديد لاستعلائها المزمن، لا يقل قيمة عن الامتهان التاريخي الذي حققته المقاومة الفلسطينية في طوفان الأقصى ويُعَد مكملا.
وما يدلل على امتهانه في جبهة الشمال كما هو امتهانه في جبهة الجنوب، قيام الجيش الإسرائيلي بإعلان “الموافقة على خطط عملياتية لهجوم في لبنان”، إلا أن العمى الاستخباري الذي أصيب به جعله يحاول في الوقت ذاته الحديث عن الحل الدبلوماسي على غير عادته.
وإذا كانت إسرائيل وهي تمتلك كل وسائل الرصد والتعقب والاستخبارات في غزة قد لجأت إلى تنفيذ أعمال “القتل والإبادة” للمدنيين في غزة لاسترداد هيبتها التي ذهبت في الطوفان للتغطية على عجزها عن خوض “قتال” حقيقي مع المقاومة، فإنها في حال الهجوم على لبنان ومع هذا العمى الاستخباري ستلجأ حتما إلى تنفيذ أعمال “قتل” أكثر حدة واتساعا ضد المدنيين، دون أن تخوض “قتالا” حقيقيا.
ولعل الهجوم الشامل على لبنان الذي يهدد به عسكريو الكيان يُعَد أمرا مستبعدا نسبيا الآن، نظرا لغرق معظم جيشهم في رمال غزة، فضلا عن حاجتهم الماسّة إلى رتق حالة الانقسام والفزع والشعور بعدم الأمان التي يعيشها مجتمعهم المتفسخ الذي لم يعتد على مثل هذه الظروف وهذه الخسائر، بالإضافة إلى أن اجتياح لبنان هذه المرة سيكون مكلفا للغاية في الجند والعتاد والمال، وقد يتسبب بمفرده في انهيار عسكري تاريخي للكيان، ولا سيما مع التطور اللافت للتسليح الذي يمتلكه حزب الله وباقي فصائل المقاومة في لبنان.
الشواهد كلها تؤكد أن فجر النصر يلوح في الأفق رغم الآلام، وشمس إسرائيل توشك على الغروب.
المصدر : الجزبرة مباشر
اقرأ المقال هنا على الجزيرة مباشر
https://bit.ly/4cGaQEd
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق