أرني رجلًا عاقلًا وسأعالجه
مؤسس علم النفس التحليلي كارل غوستاف يونغ
ألتقي دومًا بمذيعين ومذيعات ومحللين ومديرين ومراسلين ومحررين وطلاب جامعات. ولستُ أبالغ اذا قلت لكم أن «البلاء» الأكثر شيوعًا للأسف في هذه المهنة هو «توهم الفهم»، وهو أن يظنّ الإعلامي نفسه عبقري زمانه في مجاله وأنه يمتلك قدرات ذهنية أعلى من الآخرين لمجرد ممارسته مهنته. وغالبًا ما يترافق هذا الابتلاء مع عوارض نفسية كالقلق الشديد والمستمر والحذر من الآخرين والنشاط الذهني المفرط والعنف اللفظي وتبدل المزاج الدائم والانفعال السريع والمبالغة في تصوير شؤون حياته.
وكي أكون عمليًا، سأحاول إيجاز أبرز الخطوات العملية التي يمكن اتباعها للسير على خطى النجاح الإعلامي:
– دعك و«حديث النفس»:
إذا ما نشرت مقالًا أو قرأت نشرة إخبارية أو أبهرتنا بإطلالتك التلفزيونية الغرّاء، أرجوك لا تحسب ذلك بطولة!
في عالمنا العربي، من السهل توزيع الألقاب على الناس من دون أي حسيب، فترى «الباحث الاستراتيجي» و«الخبير العسكري» و«كبير المراسلين» و«قاهر قلوب المشاهدين»! هذه مجرد ألقاب لا قيمة لها في عالم العلم الحقيقي، وهي لن تصنع منك إنسانًا أفضل، بل إن أفكارك وسلوكك المتوافق مع الجيد منها هو ما يصنع منك إنسانًا جديرًا بالاحترام.
– استمع لانتقادات الآخرين حتى وإن كانت قاسية وغير موضوعية. لا بأس. هؤلاء أصدقاء يلبسون ثوب الأعداء!
صدقني، ستستفيد من هؤلاء كثيرًا في توسيع قدراتك على مخاطبة شرائح أوسع تختلف عن بيئتك بمجرد أن تتأمل قليلًا بانتقادات الآخرين. أنا لا أدعوك لتعير اهتمامًا لسبب تهجمهم عليك، فأنت لن تقدر على ردع حسد أو مرض، ولكني أدعوك لتتأمل بمحتوى مأخذهم عليك. وإذا ما وجدت شخصًا حكيمًا يدلك دومًا على أخطائك فأنت من الذين أنعم الله عليهم. حافظ على تلك النعمة بشكرها والعمل بنتائجها.
– لا يوجد موضوعية في الإعلام.
مهما حاولت وادعيت وفعلت، لن يكون بمقدورك معالجة جميع وجهات النظر وتقديمها. كما لن يكون بمقدورك تخطي أهداف الجهات الممولة لعملك.
كان جلال الدين الرومي يقول: «كانت الحقيقة مرآة بيد الله. ولما سقطت تناثرت إلى قطع تناولها الناس وادعّى كل منهم أن الحقيقة بحوزته».
ما العمل إذا؟ هل يعني هذا أن العمل الإعلامي غير مجدٍ؟ بالطبع لا. القصد هو أن تكون رسالتك قدر الإمكان في خدمة المصلحة العامة والأخلاق. وهذا ينطبق على كل أنواع الإعلام، من السياسة إلى الثقافة فالرياضة. إنّ الإعلام يمتد قوته من كونه يشكلّ أداة تحريض وتأثير قادرة على صنع رأي عام. هذا الهدف يجب أن يكون دومًا حاضرًا في عملك. الأعمال الإعلامية التي تتخذ طابع الترويج والإبهار سرعان ما تنتهي بمجرد نشرها أو عرضها، وهي لا تضيف شيئًا، بل تحقق بأفضل الأحوال راحة عابرة لدى القارئ أو المشاهد، ولكنها لا تتحول إلى مادة مرجعية قادرة على جذب عقول الناس.
– الإعلام وحده لا يكفي.
هناك اختلافات جوهرية في مقاربة الإعلام كاختصاص أكاديمي بين دولة وأخرى. هذا الاختلاف ناجم في جوهره عن أنّ تقنيات الإعلام ليست بالتعقيد الكبير، ويمكن بالتأكيد اكتسابها بورش عمل محترفة ودورات بشكل أفضل من الكثير من الجامعات في الدول المتأخرة. ولكن الجانب الهام المرتبط بالنظريات كما إتقان استخدام التقنيات هو العامل الهام في بناء الإعلام الناجح. أعطيك مثلًا عن بلدي لبنان. قلّما تجد أكاديميًا في الإعلام يمتلك خبرة ميدانية.
أذكر ان بعض أساتذتي في الجامعة كانوا يتحدثون عن مواد لم يخبروها قط. وكانت جل معارفهم بها نظرية. هذه مشكلة. كما أن الاكتفاء بالجانب الميداني فقط فيه مشكلة، فهو يصنع منك شخصًا تنفيذيًا غير قادر على الاستقلال بمشروع إعلامي. وهذه ضرورة في عالم الإعلام في زمننا هذا، حيث يُعد هذا القطاع من أكثر القطاعات سرعة في التخلي عن التوظيف الثابت والاتجاه نحو التعاقد عن بُعد.
بكلمات أخرى، إن مصير كل إعلامي ناجح هو إنشاء نموذجه الخاص، وخيار الوظيفة لن يوصلك إلى أمكنة بعيدة معنويًا وماديًا ومهنيًا. إن حيازة اختصاص آخر، كإدارة الأعمال أو الفيزياء أو التاريخ أو علم النفس وغيرها، من شأنه صياغة عقلك وتفكيرك بطريقة مختلفة أكثر عمقًا واتساقًا وقدرة على الابتكار والإبداع في مهنتك.
– لا تضع رقبتك تحت مقصلة ممول واحد.
في معظم البرامج التدريبية العالمية، كما في تجارب وسائل الإعلام الناجحة عالميًا، هناك قاسم مشترك في تأمين استمرارية هذه المؤسسات وتطورها: تعدد التمويل.
في عالمنا العربي تلتزم وسائل الإعلام بإرادة وقرار الممول. هذا سيئ حتى وإن كان الممول على توافق مع أفكارك ورسالتك. إن صناعة الإعلام هي حرفة بالدرجة الأولى، وليست قرارات يتخذها الممول. و كما في أي حرفة، تطوير مجال العمل هو في عهدة المحترف لا الممول، فهو الأدرى بالحاجات ونقاط الضعف والقوة وكيفية تطوير عمله. صحيح أن الإعلام يمر بتحول عالمي، خاصة على صعيد التمويل، ولكن الصحيح أيضًا هو أن استراتيجيات التمويل قد اختلفت. إذا أردت دخول عالم الإعلام والاستمرار به، عليك معرفة هذه الاستراتيجيات. الإدارة الإعلامية هي إدارة أموال أيضًا.
هذا يعني أن الاستثمار في الإعلام يجب أن يلحظ العائد. وسواء كنت تعمل بشكل مستقل أو لديك مؤسسة، فأنت مضطر لمواجهة هذه المسألة ومعرفة كيف تستثمر المال لتوسيع أعمالك.
يمكنكم استشراف قدرة أي مؤسسة على الاستمرار من خلال مراقبة قنوات الصرف لديها. من الملفت فعلا أن كبرى وسائل الإعلام العالمية جميعها تمتلك قسمًا خاصًا بالأبحاث والتطوير. هذا لا نلحظه إلا نادرًا في عالمنا العربي لغياب ثقافة المؤسسات. إذا كنت تعمل بشكل منفرد، خصص جزءًا من وقتك ومواردك للتطور واكتساب مهارات ومعارف جديدة. هذا مسار مستمر حتى آخر يوم من حياتك.
– اخرج من الزقاق!
يمكنك أن تزور تايملاين أي دولة عربية عبر «تويتر» لتفهم مقصدي. ليس من الإعلام بشيء الشتم واستخدام الألفاظ النابية في وصف أي ظاهرة أو زميل آخر في المهنة. لست أتحدث هنا عن الجانب الأخلاقي فقط، بل ما أسعى لتوضيحه هو القاعدة النفسية التالية:
«النفس تتلون بألوان الأفكار. الأفكار تتلون بألوان العقل. العقل يتلون بألوان الكلمات». تكلم الآن بما شئت وكيفما تشاء!
إن الفضائح والتفاهات التي ترونها أو تسمعون بها بين الفينة والأخرى ويكون أبطالها «إعلاميون» و«إعلاميات» ما هي إلا نتيجة مصيرية لإشغال العقل والنفس بمستوى متدنٍ من الخطاب والتفكير.
إذا ما أردت أن تكون عابرًا للحدود، عليك أن تطور لغة «إنسانية» لا سياسية ولا عقائدية.
– لا تدع الأرقام تخدعك.
في بداياتي المهنية، كنت أقيس نجاح عملي بعدد القراء أو نسبة المشاهدين. هذا ليس بمقياس دقيق للنجاح. إن الغالب الأعمّ في وسائل الإعلام العربية هو قياس نجاح المؤسسة بعدد المشاهدين. إن من يخض قليلا في علم الإحصاء يدرك أن قياس النجاح في مهنة كالإعلام يتطلب استخدام أدوات مختلفة في آن. وهنا نعود إلى البند الأول بأن تدع «حديث النفس» والألقاب. اسأل نفسك: ما هو التأثير الحقيقي الذي حققه عملك الإعلامي؟ ما هي القضية التي كشفتها؟ هل فهم الجمهور المعني الرسالة؟ لكل سؤال يمكن أن تحدده أداة مختلفة للقياس. هذا بحث تفصيلي قد أعالجه بشكل مستقل لاحقًا. تنسحب مسألة الأرقام ايضًا على قراءاتك. ليس المهم عدد الكتب التي تقتنيها . المهم هو نوع المعرفة التي هضمها عقلك وتحولت إلى مهارة وسلوك.
كتب علي عزّت بيغوفيتش: «القراءةُ المُبالغ فيها لا تجعلنا أذكياء، بعضُ النّاس يبتلعون الكتب وهم يفعلون ذلك بدونِ فاصل للتفكير، وهو ضروري لكي يُهضمَ المقروء ويُبنى ويُتبنى ويُفهم، فعندما يتحدّث إليكَ النّاسُ فإنّهم يخرجون من أفواههم قِطعًا من هيجل وهايديجر أو ماركس في حالة أولّية غير مُصاغة جيدًا، وعندَ القراءة فإنَّ المساهمة الشخصية ضروريّة مثلما هو ضروري للنحلة العمل الداخلي والزمن، لكي تُحوّل رحيقَ الأزهار المتجمّعة إلى عسل».
– «التخطيط ليس المهم.. الخطة هي الأهم».
كثيرًا ما أقابل إعلاميين يزعمون أنهم وضعوا خططًا لمشاريعهم وأعمالهم، ولكنهم يشكون الفشل بسبب عدم جهوزية الفريق أو لظروف خارجة عن إرادتهم. يومًا بعد يوم، تبدو الحاجة أكبر لمراقبة آليات خطط العمل. أي خطة مصيرها الفشل إذا لم يواكبها التنفيذ الجيد. وضمان التنفيذ الجيد يحتاج إلى إشراف ومتابعة وتصويب وتوجيه.
ابتعد عن أولئك الذين لا يطورونك.
قد لا يعجب هذا البند الكثيرين، وأنا اتفهم ذلك، ولكن كل ثواني حياتك كإعلامي هي مادة خام لعمل ما. إنّ تضييع الوقت مع أشخاص غير أكفاء من شأنه تأخيرك سنوات طويلة عن هدفك. أحد أوجه هذه المسألة أيضًا الاستماع إلى من لا يمتلكون الكفاءة أو وضع أحد فوق قدره. إياك وهذه الخطيئة. إن النمو الذهني وتوسيع المدارك فعل مستمر حتى آخر يوم من عمرك ما لم تقرر أنت خلاف ذلك.
– حافظ على اتزانك النفسي.
الإعلام هو أحد تلك المهن التي تقلب الليل نهارًا والنهار ليلًا. هذا يتطلب منك توزيع وقتك بشكل يتلاءم وطبيعة مسؤولياتك الاجتماعية والعائلية وقدراتك النفسية والجسدية. وفي مهنة تحوي الكثير من «الإغراءات»، فإن الخلل في توازنك النفسي قد يؤدي إلى أزمات ومشاكل كبرى. لا تنس أن لنفسك عليك حقًا. ولعائلتك عليك حقًا. ولأهلك عليك حقًا. وزّع وقتك بما يضمن لك راحة ذهنية تسمح لك بالإبداع والابتكار عند العودة للعمل.
– راقب نفسك. كما في كل مهنة وفي كل مسيرة، إن المراجعة والمحاسبة هي من ضروريات للنجاح.
واعلم أنه مع تورط الإعلام في خدعة «السبق» الصحفي و«لوثة الفانتازيا» على حساب المضمون والرسالة، ازدادت بشكل واضح الاضطرابات النفسية الناجمة عن المهن الإعلامية التي تستوجب تعاملًا مع أفراد بقدرات مختلفة والإبداع المهني في آن. إن الحفاظ على صحتك النفسية هو حاجة وضرورة كحاجتك للطعام.
* علي شهاب- صانع محتوى | منتج أفلام وثائقية وصحافي| سفير منظمة هوست رايتر