“مسيرة الأعلام” التي نفّذها المستوطنون المتطرفون، لا تعبّر إلا عن عجز إسرائيل عن تهويد القدس طيلة عقود من الاحتلال، وقطعا ستزيد من سمعتها سوءا، خاصة مع الجيش العرمرم الذي حشدته من أجل تأمين تلك المسيرة، خوفا من أصحاب الأرض الحقيقيين رماة الحجارة.
حكام إسرائيل لا يريدون مواجهة الحقيقة بأن العالم كشف حقيقتهم
فقد حلّت ذكرى قيام دولة إسرائيل هذه المرة مختلفة قليلا عما قبلها، فتل أبيب لم تكد تهنأ بعد بالهرولة العلنية لبعض العواصم العربية للارتماء في أحضانها، والدعم الباطن والظاهر لمشاريعها الاستيطانية، حتى واجهت ضجرا من تصرفاتها الحمقاء لدى حلفائها القدامى في أوربا وأمريكا والعديد من بقاع العالم على إثر إقدامها على اغتيال مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، ثم زادت الطين بلة حينما واجهت بعنف غير حضاري تشييع جنازتها.
صحيح أن هذا هو سلوك إسرائيل المعتاد منذ 74 عاما بعد قيامها على الأراضي الفلسطينية المغتصبة، إلا أن الله العلي القدير يشاء أن يفك هذه المرة اللجام المربوط على لسان الحلفاء بعد طول صمت وتبرير، فتصدر التنديدات الشديدة من العواصم الأوربية بالجريمة وتطالب بالعقاب.
وليس رجما بالغيب أن العاصفة التي أثارها استشهاد الزميلة شيرين أبو عاقلة ستهدأ مع مرور الزمن، وستفلت إسرائيل من العقاب، كما تعودنا في جميع القضايا العربية معها، بسبب التواطؤ في صورته الغربية أو حتى العربية، ولكن يقينا أن مزيدا من السخام قد نال الصورة البيضاء التي حاولت الدعاية الإسرائيلية صناعتها على مدار عقود.
تحوّل الرأي العام العالمي
وبات واضحا أن الشعوب الغربية صارت الضاغط الأساسي على حكوماتها من أجل كبح شطط إسرائيل وإجبارها على احترام حقوق الفلسطينيين، وهو ما أجبر تلك الحكومات المنحازة على أن تتصرف -ولو فوق الطاولة على الأقل- بتصرفات الحكومات المحايدة.
فانتشرت الجمعيات المناصرة للقضية الفلسطينية، وصار معتادا خروج مظاهراتها وإجراء فعالياتها في عواصم أوربا، لتطوي زمنا كان فيه مجرد حمل علم فلسطين هناك جريمة تستوجب غضب الشعب قبل الحكومة، ومن عجب أن ذلك يحدث بينما تمنع معظم الأنظمة العربية شعوبها من تنظيم مثل تلك المظاهرات.
بالتأكيد حدث ذلك بفضل أسباب عدة، منها تطور الإعلام العربي المهني، وكانت قناة الجزيرة ومكاتبها في الأراضي المحتلة جزءا مهما منه، بجانب مواقع التواصل الاجتماعي التي لم تنجح الرقابة المفروضة عليها في منع وصول الحقيقة إلى الناس بمختلف لغاتهم وأجناسهم وأديانهم.
ولأن دولة إسرائيل قامت في الأساس على مجموعة من الأساطير والأكاذيب، فإن وصول الحقائق إلى الخارج وما أحدثه من تحوّل في الرأي العام العالمي تم استيعاب خطورته مبكرا، فأنشأت عام 2015 وزارة خاصة تأخذ على عاتقها مهمة تحسين الصورة وإعادتها إلى سابق عهدها.
الضربة كانت قوية، فالضغط الإسرائيلي نجح فقط في دفع بعض الحكومات الغربية إلى التضييق على حركات التضامن مع فلسطين، إلا أن الصدمة التي تلقتها تلك الحكومات هو وقوف البرلمانات والمنظمات المدنية في الصف الأول دفاعا عن تلك الحركات.
كما حدث مع شبكة “صامدون” التي استقبلها نواب في البرلمان الأوربي، وحركة “فلسطين ستنتصر” التي حرضت عليها السفارات الإسرائيلية في فرنسا وألمانيا، ومع ذلك لم تستطع إصدار أحكام بحلها.
التحول داخل إسرائيل
يوميا يتوسع تطبيع الدول مع إسرائيل رسميا، ويزداد عدد الدول العربية والإسلامية التي تقيم علاقات رسمية معها، وبعضها يعقد معها تحالفا ضد عدو غير معلوم، لكن في المقابل يزداد التحول الشعبي الغربي، ويزداد معه التحول داخل إسرائيل نفسها.
ففي إسرائيل تتوسع أيضا مساحة الرفض لممارسات الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، وتتدرج بين المطالبة بالتعايش المشترك إلى تفكيك دولة إسرائيل، وقد تسببت تلك الحركات في إحداث تحول في ضمير اليهود، تعكسها تقارير تنامي ظاهرة الهجرة من إسرائيل إلى خارجها في العقود الأخيرة.
وها هي دائرة الإحصاء الإسرائيلية تشير في تقرير لها صدر عام 2013 إلى ارتفاع هروب العقول والكفاءات العلمية بنسبة 26% عما كان عليه الأمر عام 2003، وبالتأكيد زادت تلك النسبة كثيرا بعد معركة سيف القدس عام 2021، وهى المعركة التي وضعت المدن الإسرائيلية كافة تحت رحمة صواريخ المقاومة في غزة.
وهناك دراسة إسرائيلية صدرت عام 2018، تؤكد أن عدد الذين تركوا إسرائيل بلغوا خلال العقود الأخيرة مليونا ونصف المليون نسمة، وهو رقم ضخم للغاية في دولة لا يتعدي عدد اليهود فيها ستة ملايين نسمة تقريبا.
ومن أمثلة تلك الحركات، “ناطوري كارتا” (اليهودية الحقة) وهى حركة قديمة ترفض وجود دولة إسرائيل أساسا باعتبار أن إنشاءها مخالف لتعاليم موسى عليه السلام، وتؤمن بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على كامل أراضيه من البحر إلى النهر، وينتشر أعضاؤها في مدينة القدس.
وكذلك حركة “JVP” أو “صوت يهودي للسلام” وهي حركة شاركت في أسطول الحرية لكسر حصار غزة عام 2011، وجمعية “زوخروت” الهادفة إلى تعميق الوعي لدى اليهود بالأزمة الفلسطينية.
وكذلك هناك الطائفة الحريدية المعبّرة عن اليهود المعارضين للنزعة الصهيونية، وأيضا “ترابط” وهي حركة ترفض النزعة الاستعمارية لإسرائيل، و”فوضويون” وهى حركة أُسِّست للتعبير عن رفض الجدار العازل الإسرائيلي.
ولعل واحدة من تلك المنظمات، وهي “بتسيلم” (المركز الإسرائيلي للمعلومات عن حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة) حينما سارعت في تقرير ميداني لها بتفنيد وتوثيق زيف ادعاءات الفيديو الذي نشره الجيش الإسرائيلي، وادعى فيه أنه لإطلاق نار من فلسطيني على شيرين أبو عاقلة.
………..
ذكرى النكبة تأتي هذه المرة والفضيحة تحيط بإسرائيل من كل جانب.