قرأت ما صدر عن لجنة الخمسين، لأعرف ما هذه الورقة التى يريدون أن يفرضوها علينا كدستور لمصر بدلا من الدستور الذى وافق عليه الشعب المصرى وعطلوه. لم أنشغل كثيرا بالمواد المتعلقة بالسلطة السياسية، التى تحظى بالاهتمام والتحليل؛ فهناك كثيرون يتعرضون لها بالشرح والتفنيد، وبحثت عن المواد التى تعبر عن الهوية وما يتعلق بالملف الطائفى التى ربما يتردد معظم السياسيين فى تناولها لحساسيتها ولحسابات خاصة بهم.
بشكل مجمل أستطيع أن أقول: إن عددا كبيرا من المواد فيما يقال: إنه دستور كتب بنفس إلحادى طائفى، استغل مأزق الانقلاب فى تمرير مواد غيرت روح الدستور، نزعت منه الهوية الإسلامية لمصر وأتت بهوية إلحادية مسيحية.
بدون مبالغة فإن الكنيسة المصرية هى الرابح الأكبر من هذا الدستور أكثر من الفريق السيسى الذى حصل على تحصين فى منصبه لدورتين وتتويجه فوق أى رئيس منتخب قادم. لقد استغلت الكنيسة الظرف وضغطت لتمرر ما تريد فى ظل غياب شبه تام لمن يدافعون عن الهوية. ومن باب التلخيص والإيجاز فهذه أبرز المواد التى تؤكد ما نذهب إليه، ويثبت أن هذا المشروع يفتقد التوازن، وولد فى لحظة تاريخية يغيب فيها الشعب، وتحكم فيه قلة سياسية وطائفية وجدتها فرصة لتمرير ما تريد بقوة الدبابة.
أولا: الديباجة نزع الهوية الإسلامية لمصر وتحويلها إلى دولة مسيحية من خلال نصوص واضحة الدلالة كالآتى:
1- جاء فى الديباجة: «تطلع المصريون إلى السماء قبل الأديان»، وهذا كلام الملحدين الذين يزعمون أن المصريين هم الذين اخترعوا الإله.
2- طردوا الأزهر كأكبر مؤسسة تخدم الإسلام فى مصر والعالم، وجردوه من صلاحياته، ونزعوا منه أية صلة بتفسير مبادئ الشريعة الإسلامية وجعلوا المحكمة الدستورية هى المرجعية فى تفسير كل ما يتعلق بالإسلام.
3- تجاهلوا أية عبارة تدل على الهوية الإسلامية لمصر، ووضعوا ما يعبر عن تضحية المصريين من أجل كنيسة المسيح؛ إذ نصت الديباجة على: «المصريون قدموا آلاف الشهداء دفاعا عن كنيسة السيد المسيح».
4- خلدوا البابا شنودة فى ديباجة الدستور ولم يذكروا آية أو حديثا، ولكنهم لم ينسوا تخليد البابا شنودة بالنص على كلمته المشهورة: «مصر وطن نعيش فيه ويعيش فينا».
5- استبدلوا فى الديباجة مواثيق الأمم المتحدة بالإسلام، وأكدوا أنه يتسق الدستور مع الشرعية الدولية لحقوق الإنسان وقالوا: إن «ثراء مصادر التشريع يفتح أمامنا آفاق التقدم».
ثانيا: مواد الدستور:
1- فرض كوتة للمرأة فى المجالس المحلية وكوتة للمسيحيين أطلقت عليها «تمثيلا مناسبا للمسيحيين» بإلزام الدولة بإصدار قانون بذلك، والكوتة مخالفة لمبدأ المواطنة وهى تمييز يتناقض والمساواة. المادة (180) تنتخب كل وحدة محلية مجلسا بالاقتراع العام السرى المباشر، لمدة أربع سنوات، ويشترط فى المترشح ألا يقل سنه عن إحدى وعشرين سنة ميلادية، وينظم القانون شروط الترشح الأخرى، وإجراءات الانتخاب، على أن يُخصص ربع عدد المقاعد للشباب دون سن خمس وثلاثين سنة، وربع العدد للمرأة، على ألا تقل نسبة تمثيل العمال والفلاحين عن خمسين فى المائة من إجمالى عدد المقاعد، وأن تتضمن تلك النسبة تمثيلا مناسبا للمسيحيين وذوى الإعاقة.
2- إلزام الرئيس المؤقت بفرض كوتة للمسيحيين بمجلس النواب من خلال إصدار قانون بذلك. المادة (244): تعمل الدولة على تمثيل الشباب والمسيحيين والأشخاص ذوى الإعاقة تمثيلا ملائما فى أول مجلس للنواب يُنتخب بعد إقرار هذا الدستور، وذلك على النحو الذى يحدده القانون.
3- إلزام مجلس النواب بإصدار قانون لبناء الكنائس فى أول انعقاد له. وهذا الموضوع لا يمكن حله بقانون يفرض من أعلى دون مراعاة للبيئة المحلية فى كل محافظة، والتى قد تحول الأمر إلى فتن لا نهاية لها.
- مادة (235) يصدر مجلس النواب فى أول دور انعقاد له بعد العمل بهذا الدستور قانونا لتنظيم بناء وترميم الكنائس، بما يكفل حرية ممارسة المسيحيين لشعائرهم الدينية.
4- منع الإسلاميين من ممارسة أى نشاط سياسى ووضع نص يتيح للمحاكم حل الأحزاب الإسلامية القائمة، وهذا الأمر لا يفكر به عاقل، لأنه يغلق الباب أمام التغيير السلمى للشباب الإسلامى، وكأن هناك من يريد دفع الإسلاميين دفعا إلى العمل تحت الأرض. المادة (74) للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية، بإخطار ينظمه القانون. ولا يجوز مباشرة أى نشاط سياسى، أو قيام أحزاب سياسية على أساس دينى، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو على أساس طائفى أو جغرافى، أو ممارسة نشاط معاد لمبادئ الديمقراطية، أو سرى، أو ذى طابع عسكرى أو شبه عسكرى. ولا يجوز حل الأحزاب إلا بحكم قضائى.
5- بالنسبة إلى دور الأزهر، وضعت مادة بصياغة ماكرة تهمش دوره كمرجع أساسى فى «الشئون الدينية» للمسلمين (أصر الأنبا بولا ممثل الكنيسة أن تحذف كلمة «الشئون» وتوضع كلمة «العلوم» بدلا منها، وتضاف كلمة الشئون إلى الإسلامية لتكون عامة ولا معنى محدد لها.. وتم اعتماد رأى الأنبا بولا).
- مادة (7): الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه، وهو المرجع الأساسى فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم. وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه. وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء.
6- تغيير الهوية الثقافية للدولة باختراع مفهوم جديد للثقافة: مادة (47) تلتزم الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة.
7- تحصين الفنانين والذين يسمونهم مبدعين من الملاحقة القانونية. مادة (67) حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى.
8- بعد تأميم وإغلاق الفضائيات والسيطرة على الصحف الورقية ستمتد الرقابة على الإنترنت، بإصدار قانون ينظم الصحف الإلكترونية. المادة (70): وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعى والمرئى والصحف الإلكترونية.
9- نجح لوبى المنظمات الممولة من الأمم المتحدة فى جعل مواثيق الأمم المتحدة هى المرجعية بدلا من الإسلام؛ مادة (93): تلتزم الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التى تصدق عليها مصر، وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقا للأوضاع المقررة.
10- نجح لوبى المنظمات الممولة من الأمم المتحدة فى تمرير العديد من المواد التى تخدم برامج المنظمات الدولية، حتى ولو كانت ستخلق مشكلة غير موجودة أصلا فى مصر، وأبرزها إنشاء مفوضية لمكافحة التمييز فى مصر. مادة (53): تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض.
11- النص على أن حرية الاعتقاد مطلقة وعدم تقييدها وتم تمرير الصياغة بطريقة ماكرة توفر الغطاء الدستورى للجماعات الضالة والمنحرفة مثل البهائيين وعبد الشيطان. مادة (64): حرية الاعتقاد مطلقة. وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، حق ينظمه القانون.
12- النص على تقسيم جغرافى للبلاد قد يفتح الباب لنعرات عرقية وقبلية؛ مادة (236): تكفل الدولة وضع وتنفيذ خطة للتنمية الاقتصادية، والعمرانية الشاملة للمناطق الحدودية والمحرومة، ومنها الصعيد وسيناء ومطروح ومناطق النوبة، وذلك بمشاركة أهلها فى مشروعات التنمية وفى أولوية الاستفادة منها، مع مراعاة الأنماط الثقافية والبيئية للمجتمع المحلى، خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون. وتعمل الدولة على وضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكان النوبة إلى مناطقهم الأصلية وتنميتها خلال عشر سنوات، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون. (ولا نعرف كيف يعود أهالى النوبة لمناطقهم الأصلية التى أغرقتها بحيرة ناصر!).
13- بينما لا ينص الدستور على مواجهة العدو القابع على حدودنا الشرقية، تبنى الدستور الانقلابى العقيدة الأمريكية الصهيونية المسماة بمكافحة الإرهاب، وهى تعنى محاربة الإسلام وإشعال نيران الحرب الأهلية، وهذه تعد أخطر مواد هذا المشروع لأنها تزج بالبلاد فى حرب بالوكالة.
- مادة (237): تلتزم الدولة بمواجهة الإرهاب، بكافة صوره وأشكاله، وتعقب مصادر تمويله باعتباره تهديدا للوطن والمواطنين، مع ضمان الحقوق والحريات العامة، وفق برنامج زمنى محدد. وينظم القانون أحكام وإجراءات مكافحة الإرهاب والتعويض العادل عن الأضرار الناجمة عنه وبسببه.
الخلاصة:
هذا المشروع الذى أخرجته لجنة الخمسين لن يكون سببا لاستقرار مصر كما يتوهم من يقفون وراءه، وإنما سيكون سببا فى عدم الاستقرار لأنه يغير ما هو مستقر منذ مئات السنين، ويقنن لحالة خروج عن الثوابت الدينية والوطنية، ويغير هوية مصر الإسلامية، متجاهلا دين الأغلبية وطبيعة مجتمعاتنا. واضعو هذا الدستور اللقيط يؤسسون لواقع جديد يقلب كل ما هو مستقر ويفتح الباب أمام ما حذَّرنا منه مرارا من استدراج البلاد إلى الحروب الأهلية، بتأليب قطاعات من الشعب على أخرى باسم الشعار الصهيونى «مكافحة الإرهاب». أليس فى هذه البلاد عقلاء يوقفون هذا المخطط الشيطانى الذى يريد تخريب مصر؟!