30 أغسطس 2015

محمد رفعت الدومي يكتب: مع ابن الرومي.. ذلك أفضل جدًا

لا أحب الكتابة عن شاعر قديم لسببين: أولهما أنني حين أفعل أكون ملزمًا لتكتمل الصورة الذهنية عند المتلقي بأن ألمس شيئاً من شعره، وهو بالضرورة شعر غاصٌّ بالألفاظ التي الآن حوشيّة ومهجورة ومثيرة للسخرية، لغة أخري قد انحسرت
السبب الثاني، وهذا هو الأهم، هو أن الشعر لم يعد ذلك الكلام الموزون المقفي فقط إنما هو تفتيت الواقع إلي رموز وإشارات والعكس، وهذا جدير بأن يطرد غابة من الناظمين الأوائل خارج دائرة الشعراء بكل بساطة، فما من شك أن معظم أشعار القدماء لم نعد نلمس فيها من الشعر إلا حساسية الشاعر وحدها! 
تتفاقم المشكلة عند الكتابة عن شاعر قديم مثل "ابن الرومي" وتتخذ أبعادًا أكثر تعقيدًا، ذلك أن كاتب وحيه كان لا يخجل من الخوض في كل شئ وأي شئ، وهذان البيتان یهجو بهما "خالدًا القحطبي" عينة مهذبة جدًا من هجائه:
أيا ابن التي كانت تحيضُ مِنَ اسْتها / يد الخرِّ لم يطهر لها قطُّ مِئزرُ
إذا ما وني عنها الزناةُ دعتهُمو / شقائقُ من أرحامِها الخضر تَهدِر..
كما أنه كان يوظف اللغة الفارسية في شعره بإسراف، وثمة قول مأثور يدَّعي: "لولا الفرزدق لضاع ثلث اللغة العربية"، وإذا كان الأمر هكذا، أجدني لا أجد غضاضة في أن أقول: "لولا ابن الرومي لضاع ثلث اللغة الفارسية"!
وشاعرنا "ابن الرومي" ربيبٌ لخرافةٍ كان يستطيع من خلالها أن يكشف عورات خصومه ارتجالاً، وأن يترك في القلوب وهو غير عاقدٍ العزم ندوبًا ومسرات، كما كان، وما زال، أقوي الشعراء روحًا علي الإطلاق، لذلك، من الضار جدًا قراءة شعره فقط لوقت طويل في عزلة، ذلك أنه، لقوة روحه، يستطيع بكل بساطة أن يسيطر علي روح المتلقي وينكأ فيها ثقوبًا كبيرة يتسلل منها إلي الداخل تشاؤمه ويأسه وتبرمه بالناس وبالحياة، وما من شك أن كل الشعراء الذين عاصروه والذين جاءوا بعده قد انتبهوا إلي تفرده وأدركوا قدره وحدقوا النظر طويلاً في شعره، ولا أستثني "المتنبي"، فبيت الأخير:
يا أعدل الناس إلا في محاكمتي / فيك الخصام وأنت الخصمُ والحكمُ
ما هو إلا صناعة أكثر جودة من صناعة بيت "ابن الرومي":
غـدا الدهرُ لي خصماً وفيَّ مُحَكَّمًا / فـكيف بخصم ضالع وهُوَ الحَكَمْ
شاعر جلل، لست هنا لأضئ مكانته الشعرية فهو أضخم من ذلك بكثير، وقد سبقني في الكتابة عنه أفذاذٌ أضاءوا الرجل من كل جوانبه، وبروايته هو، وكبحوا ذلك التيار العنيف من التجاهل من كتاب عصره لأسباب شخصية، وهذا خطأ الكتاب المزمن، لا ينحون مشاعرهم جانبًا أثناء الكتابة! 
وفيما يبدو أن حقد كتاب عصره عليه كان عارمًا بالقدر الذي معه لم يكن تجاهله فقط كافيًا لتهدئة قلوبهم روجوا شائعة تدعي أنه "نحس"، ولا أفهم سر جاذبية هذه التهمة في كل زمان ومكان، ولقد نجحوا إلي حد بعيد، لقد راجت الشائعة فعلاً ونجحت في كسر حاجز الزمن حتي طرقت بوابات "عباس العقاد" فصدقها واشترك في الترويج لها، وادعي أنه عندما عقد العزم علي الكتابة عن "ابن الرومي" (كسر ساقه ما لا يكسر)، وأن مطبعة قد احترقت عندما أراد صاحبها نشر كتاب عنه!
وكتاب عصره، بالإضافة إلي الترويج لنحسه، تعمدوا أيضًا حجب اسمه عن الموسوعات الأدبية القديمة والتراجم وكتب تاريخ الأدب كـ "أغاني أبي الفرج الأصفهاني" و "العقد الفريد" لـ "ابن عبد ربه" وطبقات "ابن المعتز" و "الكامل في اللغة والأدب لـ " المبرد"، لأسباب شخصية! 
لقد تجاهله "ابن المعتز" في طبقاته لأنه هجا أباه بقوله:
دع الخلافة يا معتز من كثـبٍ / فلـيس يكسوك منها الله ما سلـبا
وهو لم يهج "المعتز بالله" وحده، لقد عاصر "ابن الرومي" ثمانية من خلفاء بني العباس، وكانت علاقته بهم جميعًا سيئة، وكانوا يرفضون مديحه ويحجبونه عن الدخول إلي قصور الخلافة ويعيدون إليه قصائده، ولديهم في ذلك عذر وجيه يوضحه قول "المرزباني":
"لا أعلم أنه مدح أحدًا من رئيس أو مرؤوس إلا وعاد إليه فهجاه، ولذلك قلت فائدته من قول الشعر وتحاماه الرؤساء"
وتجاهله "المبرد" لأنه رجمه بالشذوذ والخنوثة:
ودَّ المـبرِّد أن الله بَـدَّله / من كل جارحةٍ في جسمه دُبُرا
فاعطه يا إله الناس منيته / ولا تُبَقِّ له سمعًا ولا بصرا
أما سبب تجاهل "الأصفهاني" له فهو في عهدة "عباس العقاد" حيث يقول:
"سكت (أبو الفرج) عن هذا الشاعر اتقاء لمن هجاهم وأقذع في هجائهم من سروات زمانه وأولهم أستاذ (أبي الفرج)، ولعله سكت لأسباب أخري، وبعض هذه الأسباب أن صاحب الأغاني لم يكن مستطيعًا أن يقدر (ابن الرومي) حق قدره وأنه كان أمويَّاً، وكان (ابن الرومي) شديد الكراهية للأمويين"
وكل من قرأ "ابن الرومي" يعرف جيدًا ألا أحدًا من أهل زمانه سلم من سلاطة لسانه، وكان في هجائه ديمقراطيّاً سابقاً لأوانه، لا فرق عنده بين خليفة ولا جار ولا حمال ولا شرطي ولا شاعر ولا فقيه ولا نحوي ولا قاض ولا عالم ولا وزير ولا كاتب، حتي أن هجاءه طال مغنية اسمها "شنطف":
شنطفُ يا عوذة السموات والأرض .. وشمس النهار والقمر
إن كان إبليس خالقاً بشرًا .. فأنت عندي من ذلك البشر
المضحك أن أباه حتي كان من بين ضحاياه، ليخلد "ابن الرومي" عقوقه في بيت مثير:
لو كان مثلك في زمانِ محمَّدٍ / ماجاء في القرآن برّ الوالدِ
"جرير" فعل ذلك أيضًا، كما هجا "الحطيئة" أمه!
وما من شك أن "ابن الرومي" قد تأثر كثيرًا بـ "دعبل الخزاعي"، ولعل شهرة الأخير في الهجاء قد امتصت ذهنه مبكرًا جدًا، ويقال أن أول شعر له كان هجاءًا في زميل له بالكُتَّاب، ولقد فطن "أبو العلاء المعري" إلي تلك العلاقة بوضوح فقيدهما جنبًا إلي جنب في بيتٍ واحد:
لو نطق الدهرُ هجا أهله / كأنه "الروميُّ" أو "دعبلُ"!
لكن الفرق العارم بينه وبين أستاذه "دعبل" هو قدرة "ابن الرومي" المذهلة علي تصيد اللحظة الشعرية في ذروة حرارتها واختراقها من الداخل وتوظيفها حتي جذورها في شعره، وبالقدر نفسه، خيالاته المجنحة!
علي سبيل المثال، لا يستطيع "دعبل" ولا غيره أن يسقط علي هذا المعني عندما يهجو رجلاً اسمه "عيسي" بالبخل:
یُقتِّرُ عیسي علی نفسِهِ / ولیس بباقٍ ولا خالدِ
فلَو یستطیع لتقتیره / تنفّسَ من مِنخرٍ واحد
يقصد أن "عيسي"، ذلك المسكين الذي وضعه سوء طالعه في طريق "ابن الرومي"، لشدة بخله، لو استطاع أن يتنفس من ثقب واحد من ثقبي أنفه لفعل!
كما لا يستطيع "دعبل" ولا غيره أن يوظِّف بيتاً فارغاً في الهجاء كما فعل "ابن الرومي" عندما قال:
مستفعلن فاعلن فعولُ / مستفعلن فاعلن فعولُ
بیتٌ كمعناك لیس فیه / معنی سوی أنّه فضول
يقصد أنه مجرد فضول علي الحياة وأهلها، فارغٌ من المعني!
كما لا يستطيع "دعبل" ولا غيره أن يتخيل أنفاً يمتد من "فلسطين" إلي "مكة":
لك أنف يا ابن حربٍ / أنِفت منه الأنوفُ
أنت في القدس تصلي / وهو في البيت يطوف
لعبقريته هذه وجاذبية شعره، علي الرغم من إصرار معاصريه علي احتجاز الضوء عن الوصول لاسمه، ظل اسمه يتنامي بمرور الأيام، ويستثير حماس المؤجلين للكتابة عنه والانتصار له حتي قال "المرزباني" في " معجم الشعراء ":
"أشعرأهل زمانه بعد (البحتري)، وأكثرهم شعرًا، وأحسنهم أوصافاً، وأبلغهم هجاءًا، وأوسعهم افتناناً في سائر أجناس الشعر وضروبه وقوافيه يُرَكّب مِن ذلك ما هو صعب متناوله على غيره، ويلزم نفسه ما لا يلزمه، ويخلط كلامه بألفاظٍ منطقية يُجَمِّل لها المعاني، ثم يفصلها بأحسن وصف وأعذب لفظ، وهو في الهجاء مقدم لا يلحقه فيه أحد من أهل عصره غزارة قول وخبث منطق"
وكلام "المرزباني" كلام يفضح وعيه العميق بصناعة الشعر كما وعيه العميق بأبعاد "ابن الرومي"، غير أنه أخفق في حكمه بأن "البحتري" أشعر من "ابن الرومي"، ربما لم تصل "المرزباني" رواية تؤكد أن "البحتري"، لوعيه العميق بفداحة أدوات شاعرنا، كان يعطيه (أتاوة) خشية من أن يناصبه الهجاء، حدث ذلك بعد هجوم "ابن الرومي" المباغت عليه عندما قال:
قبحاً لأشياء يأتي البحتريُّ بها / من شعره الغثِّ بعد الكدِّ والتعبِ
شعرٌ يغير عليه باسلاً بطلاً / وينشدُ الناسَ إياه على رتب
لا مناطق رمادية عند "ابن الرومي"، لا نفاق ولا مهادنة في عصر يستمرئ أهله النفاق والاتهام بالكرم وبالبطولات الوهمية، لذلك، كان "البحتري" ومن هو أقل منه بكثير، بكثير جدًا، يحرزون الأموال والضياع والشهرة وهو يراوح مكانه، كان ذلك هو السبب المفصلي لكل خيباته وفشله لا قوله في هجاء "البحتري":
الحظُّ أعمي، ولولا ذاك لم نَرَهُ / للبحتريِّ بلا عقلٍ ولا حسبِ
ليس الحظ بالتأكيد هو سبب صعود "البحتري" إنما تفهمه الغائر لزمانه وامتلاكه التام لأدوات التعامل مع أهل زمانه لا كـ "ابن الرومي" الذي تفرد دون غيره من الشعراء بوعيه العميق بأزمة الناس الأخلاقية، وبدناءة زمانه الذي لا يصعد فيه إلا الرعاع وسفهاء القوم، ولكنه أبي أن ينسجم مع ذلك الوضع أو يتأقلم معه حتي!
وهذة رواية مؤكدة تختزل كل عصر "ابن الرومي" بوضوح صارم:
عندما مدح الوزير " أبو الصقر إسماعيل بن بلبل" بقصيدة منها:
قالوا أبو الصَّقر من شيبان قلت لهم / كلاّ لعمري، ولكن منه شيبان
قال "أبو الصقر" لما سمعها: 
- هجاني والله!
قيل له: 
- هذا من أحسن المديح، واسمع ما بعده:
وكم أبٍ قد علا بابن ذرى شرفٍ / كما علا برسول الله عدنان
فقال: 
- أنا بشيبان، ليس شيبان بي
قيل له: 
- فقد قال:
ولم أقصَّرْ بشيبانَ التي بلغتْ / لها المبالغَ أعراقٌُ وأغصانُ
لله شيبانُ قومٌ لا يشيبهم / روعٌ إذا الروع شابت منه ولدانُ
قال: 
- لا والله، لا أعطيه أبدًا
هذا هو النصف الفارغ من الكوب، لكن النصف الممتلئ منه هو أن "أبا الصقر" ذاك مجرد جرذ تاريخي سوف يبقي أشهر ما التقط التاريخ من مروره بالحياة هو موقفه الغبيِّ هذا من "ابن الرومي"!
ويبقي "ابن رشيق" أكثر الكتاب وعيًا بقدر "ابن الرومي"، فقد قال عنه في كتابه " العمدة ":
"وأما (ابن الرومي) فأولي الناس باسم شاعر، لكثرة اختراعه، وحسن افتنانه، وقد غلب عليه الهجاء حتى شهر به فصار يقال: أهجي من (ابن الرومي)، ومن أكثر من شيء عرف به، وليس هجاء (ابن الرومي) أجود من مدحه ولا أكثر، ولكن قليل الشر كثير!"
"ابن الرومي" أولي الناس باسم شاعر، حقيقة لا تحتاج إلي الوقائعية للحكم علي امتلائها، كل زاوية من شعره تمثل عالمًا قائمًا بذاته! 
حقيقة ممتلئة أخري لمسها "ابن رشيق" عندما ساوي بين الهجاء والشر بما يترتب عليه من استدعاء العداء وتربية الأعداء، وهكذا كان يفكر أهل زمان "ابن الرومي"، وأهل كل زمان، دربٌ من دروب الشعر نعم لكن سالكه يحتاج إلي اتزان شديد وسيطرة تامة علي عواطفه، كـ "البحتري" وغيره الذين كانوا يجيدون اختيار فرائسهم كما يجيدون الهجوم عليها في الوقت المناسب، والمهادنة أيضًا في الوقت المناسب، المختل فقط هو من يرجم الجميع بلا هوادة وعلي طول الطريق، وهكذا كان "ابن الرومي"، لقد كان من بين طقوسه أنه كان يكتب قصيدتين في وقت واحد، مدح وهجاء في نفس الشخص، وعندما ينتهي من كتابتهما يرسل إلي هدفه قصيدة المديح أولاً، فإذا تأخر الهدف في العطاء أيامًا، ربما لأسباب خارجة عن إرادته، لم يكن قلب "ابن الرومي" يهدأ حتي يتأكد من أن قصيدته في هجاء ذلك الشخص قد قطعت المسافات ومضغتها كل الألسنة، لذلك، كان كما قال عنه "طه حسين":
"نحن نعلم أنه كان سيء الحظ في حياته، ولم يكن محببًا إلى الناس، وإنما كان مبغضًا إليهم، وكان مُحسدًا أيضًا، ولم يكن أمره مقصورًا على سوء حظه، بل ربما كان سوء طبيعته، فقد كان حاد المزاج، مضطربه، معتل الطبع، ضعيف الأعصاب، حاد الحس جدًا، يكاد يبلغ من ذلك الإسراف"!
كان "ابن الرومي" مولي لـ "عبد الله بن عيسي"، ولعله كان يري شعوبيته نقصًا فيه، مع ذلك، له في ولائه للعباسيين شعر:
قوْمي بنو العباسِ حلمُهمُ / حِلْمي هَواك وجهلُهُم جهلي
نَبْلي نِبالُهُمُ إذا نزلتْ / بي شدةٌ ونِبالُهم نَبلي
لا أبتغي أبداً بهم بدلاً / لفَّ الإلهُ بشملهم شملي
ومع ذلك، نجده يمدح "علي بن أبي طالب"، جد الطالبيين أشهر خصوم بني العباس السياسيين في ذلك الوقت:
يا هند لم أعشق ومثلي لا يرى / عشقَ النساء ديانة وتحرجا
لكن حبي للوصي مخيمٌ / في الصدر يسرح في الفؤاد تولجا
فهو السراج المستنير ومن به / سبب النجاة من العذاب لمن نجا
ذلك التناقض وغموض الهوية الروحية يفضح ضعفًا شديدًا وسيولة عارمة في شخصية "ابن الرومي"!
قال الشعر مبكرًا جدًا، وقد جلدته الحياة بالكثير من الهزائم التي خلدها شعرًا، كان قد ورث عن والده ثروة فادحة أضاع جزءًا كبيرًا منها بتبذيره هو، وعصفت الكوارث بما تبقي منها، لقد احترقت ضيعته، واغتصبت داره، وأتى الجراد على زرعه، وشتت الموت شمل عائلته واحدًا تلو الآخر، افتتح الموت بوابات حزنه الطويل بموت والده، ثم التحقت والدته وأخوه الأكبر وخالته به، وعندما استحدث عائلته الخاصة وبيتاً جديدًا ماتت زوجته وأولاده الثلاثة أمام عينيه، فترك لنا واحدة من أجمل قصائد الرثاء في الشعر العربي عند موت ابنه الأوسط "محمد":
بُنَيَّ الذي أهْـدَتْهُ كَفَّـأيَ للثرَى / فَيَا عِزَّةَ المُهْدَى ويا حَسْرة المُهدِي
ألا قاتَل اللَّه المنايا ورَمْيَـها / من القَوْمِ حَبَّات القُلوب على عَمْدِ
تَوَخَّى حِمَامُ المـوتِ أوْسَـطَ صبْيَتي / فللّه كيفَ أخْتار وَاسطَةَ العِقْدِ
تلك الأحداث العصبية المؤسفة، بالإضافة إلي حساسيته المفرطة، جعلت مزاجه مريرًا وبدلت أخلاقه، وأصابته بالنزوع إلي العزلة والتشاؤم، هذا أضفي عليه مظهر الساخط علي مجتمعه، غريب الأطوار الذي يتوقع السوء دائمًا، وعلي الرغم من ذلك لم يتركه الناس وشأنه إنما اضطهدوه ووجدوا في السخرية منه رياضة مسلية، فاضطر من جانبه إلي الدفاع عن نفسه من الهامش الوحيد الذي يستطيع من خلاله الدفاع عن نفسه، إنه الهجاء لا أكثر، وبلا رحمة!
ليس غريبًا إذاً أن يتجاهله كتاب عصره، لكن، لحسن الحظ، كان "ابن الرومي" المسكين قد وجه لكل هؤلاء ضربة في الصميم، كأنه كان يتوقع تصرفهم، وقرر أن يفسد عليهم فرصة الانتقام منه والتشفي فيه، لقد أذاب حياته الشخصية وسيرته في شعره، وهذا ما انتبه إليه "العقاد" فكان كتابه الجميل:
(ابن الرومي: حياته من شعرهْ(.. 
ربما، ما فطن إليه"العقاد" واحتفظ به لنفسه أنه أذاب أيضًا واقع عصره بكل تفاصيله وأرخ للمرحلة شعرًا، لقد كتب تاريخاً موزوناَ مقفي إذا جاز ليَ التعبير وإذا لم يجز..
ومن شعره نعرف أن دماءًا مختلطة كانت تسيل في عروقه، نصفها يوناني الجذور ونصفها فارسي:
إنْ لم أَزُرْ مَلِكَاً أُشْجي الخُطوبَ بهِ / فلم يَلِدْنيْ أبو الأملاكِ يونانُ
بل إنْ تَعَدَّتْ فلم أُحْسِنُ سِياسَتَها / فلم يَلِدْنيْ أبو السُّوَّاسِ ساسان
ويضغط مرة أخري علي يونانيته:
ونحن بنو اليونانِ قومٌ لنا حِجًا / ومَجْدٌ وعِيْدانٌ صِلابُ المَعاجِمِ
ونستطيع أن نعرف أنه كان قبيحًا - ولا أحب أن أسمي ضآلة الحظ من الجمال قبحًا - من قوله:
ﺷﻐﻔﺖُ ﺑﺎﻟﺨرَّد اﻟﺤﺴﺎن وﻣﺎ / ﻳﺼﻠﺢ وﺟﻬﻲ إﻻ ﻟﺬي ورع 
كي ﻳﻌﺒﺪ اﷲ ﻓﻲ اﻟﻔــﻼةِ وﻻ / ﻳﺸﻬﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻣشاهد الجُمَعِ
يقصد أنه مولعٌ بالنساء الجميلات ولكن وجهه لا يليق إلا براهب يسكن الصحراء ولا يصلي الجمعة مع الناس في المساجد ولا يرونه!
نستطيع أيضًا أن نعرف أنه كان أصلع الرأس، وأنه كان يبالغ في ارتداء عمامة ضخمة، وكان يجيب كل من سأله مستنكرًا عن سبب ارتدائه عمامة في صيف "العراق" الخانق بقوله:
أسترُ شيئاً لو كان يمكنني / تعريفه السائلين ما سترا
كأن الصلع خطيئة، إننا بالتأكيد في رحاب رجل غريب الأطوار بلغ من هشاشة الروح حدًا يصعب تصديقه، كما كان مصابًا باختلال الأعصاب، عندما يمشي إلي الأمام يظن الرائي أنه يستدير:
إنَّ لي مشية ً أغربلُ فيها / آمنا أن أُساقط الأسقاطا!
وهو طفل كبير، يهجو أحدهم مرة بقوله:
يا ابن الزنا يا ابن الزنا يا ابن الزنا / والحمد لله العليّ الأكبرِ
جبان، ليس الجبن كما ينبغي، إنما توقع السئ علي الدوام والميل إلي السير تحت ظلال الجدران كالغالبية العظمي من الناس في كل زمان ومكان، وهو ينصح نفسه بعدم الجبن قائلاً:
لا تَجْبُنَنَّ لأنَّ النَّفْسَ واحدةٌ / فإنما الموتُ أيضًا واحدٌ فَقَدِ
ما يَجْبُنُ المرءُ إلا وهْو مُعْتَقِدٌ / أو مُشْفِقُ أنه إن مات لم يَعُد
مع ذلك، نضبطه كثيرًا يمدح نفسه بأبيات تجتذب ضحكات من يعرفه جيدًا وتملأ قلبه شعورًا بالشفقة علي ذلك المسكين في آن معًا، كزعمه:
وإنِّي لَلَيْثٌ في الحروبِ مُظَفَّرٌ / مُعَارٌ أَداةَ الهَصْرِ بالظَّفْرِ والعَضِّ
إذا ما هَزَزْتُ الرُّمْحَ يومَ كَريهةٍ / لجَمْعٍ فذاكَ الجَمْعُ أولُ مُنْفَضّ
تَضاءَلُ في عيني الجُموعُ لدى الوَغَي / وإنْ هي جاءتْ بالقَضِيْضِ وبالقَضّ
أبيات تليق بـ "عنترة بن شداد" مثلاً أو "دريد بن الصمة"، لكن لا تليق بمسكين سيطر علي روحه هوس التشاؤم حتي كان يمتنع أيامًا عن الخروج من منزله إذا نظر من ثقب الباب ورأي شخصًا أحدب يمر في الطريق بالصدفة، أو أن أحد الأمراء اشتاق إليه فعلم بحالته من الطيرة، فبعث إليه رسولاً اسمه "إقبال"، فلما أتي "ابن الرومي" قال له:
- عد إلي صاحبك فإن مقلوب اسمك " لا بقاء"
هكذا قالوا، وربما هي رواية مصنوعة، وهي بالصناعة أشبه، ولولا فراغ الناس وشهيتهم المفتوحة للكلام علي الدوام لوصلنا التاريخ أصغر حجمًا بكثير!
لكن، تتخذ الأبيات السابقة ملامح النكتة عندما نعرف أن ذلك الليث الذي تتضائل في عينيه الجموع في الحرب قد اغتصبت داره امرأة ولم يفعل شيئاً سوي أن جأر بالشكوي للوزير دون أن ينسي أن يذكِّر الوزير بأنه "أيد الأركان"، طبعًا:
أجِرْنْي وزيرَ الدِّينِ والملْكِ إنني / إليكَ بحقّي هاربٌ كلَّ مَهْرَبِ
تَوَثَّبَ خَصْمٌ واهِنُ الرُّكْنِ والقُوَى / علي أَيِّدِ الأركانِ لم يَتَوَثَّب
لقد ذكَّرتني لامْرئ القيسِ قوله / وإنّك لم يغلبْكَ مثل مُغَلَّبِ
أريدُ ارتجاع َالدارِ لي كيف خَيَّلَتْ / بِحُكْمِ مُمَرٍّ أو بِلُطْفٍ مُسَبَّب
وعلي طريقة "كوهين ينعي ولده ويصلح راديوهات" هو لا يكتفي بالشكوي إنما يختتم شكواه بهذا البيت:
وتا للهِ لا أرضَي برَدِّ ظُلامَتي / إلى أن أَري لي ألفَ عَبْدٍ ومَرْكَب
هو يقصد أن استعادة داره لن ترضيه إلا إذا أعطاه الوزير فوق ذلك ألف عبد وألف فرس!
إننا أمام رجل مختل، لا يستطيع أن يسيطر علي إيقاعات نفسه، أو علي الأرجح، أمام طفل كبير أترك "ابن خلكان" يضع حدًا لحياته فلقد طالت أكثر مما يجب:
"وتوفي (ابن الرومي) يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين، وقيل أربع وثمانين، وقيل ست وسبعين ومائتين بـ "بغداد" ودفن في مقبرة باب البستان!
وكان سبب موته، رحمه الله تعالى، أن الوزير "أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب" وزير الإمام المعتضد كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش، فدس عليه "ابن فراس"، فأطعمه خشكنانجة مسمومة
وهو في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم فقام، فقال له الوزير: إلى أين تذهب
فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه
فقال له: سلم علي والدي
فقال: ما طريقي علي النار
وخرج من مجلسه وأتى منزله وأقام أيامًا ومات!
وداعًا "ابن الرومي"، مع روحك القوية، ذلك أفضل جدًا، تعرَّفوا عليه، إنه يستحق..

ليست هناك تعليقات: