27 ديسمبر 2014

د. فيصل القاسم: «الجهاديون» في سوريا: يتبددون أم يتمددون؟

صحيح أن لكل بلد طبيعته الخاصة، وبالتالي تجربته الخاصة التي لا يمكن أن تنطبق على أي بلد آخر، إلا أن التجارب التاريخية التي سبقت التجربة السورية يمكن أيضاً أن تكون مقياساً لما يمكن أن يكون عليه مستقبل سوريا. البعض توقع أن تنتهي الثورة السورية على الطريقة الجزائرية، ففي الجزائر نجح الجنرالات في إعادة الشعب إلى بيت الطاعة من خلال تخويفه بجماعات إسلامية متطرفة صنعها الجنرالات أنفسهم واستخدموها بعبعاً لإرهاب الجزائريين كي يعودوا إلى حضن المؤسسة العسكرية الحاكمة. وبعد حوالي ربع قرن على اندلاع الأحداث في الجزائر في بداية تسعينات القرن الماضي، اختفت القوى الإسلامية المتطرفة، وحصل الجنرالات على شرعية جديدة غير شرعية التحرير تمثلت هذه المرة في تخليص البلاد من رجس الإرهاب والتطرف الذي صنعوه هم بأنفسهم كي يعززوا سلطتهم، ويـُفشلوا به الانتفاضة الشعبية التي كانت يمكن أن تطيح بنظامهم.
لكن وبالرغم من أن النظام السوري يعمل جاهداً منذ اللحظات الأولى للثورة على تكرار النموذج الجزائري بمساعدة جنرالات الجزائر أنفسهم، وتصوير كل من يعارضه بأنه إرهابي جدير بالاستئصال، إلا أن «العتمة قد لا تأتي هذه المرة على قد يد الحرامي» كما يقول المثل الشعبي، فوضع سوريا قد يكون مختلفاً كثيراً عن الوضع الجزائري، ناهيك أن الزمن غير الزمن الجزائري. إذن تعالوا نحتكم إلى أمثلة أخرى، لعلها تساعدنا في استشراف المستقبل السوري.
لو افترضنا أن الفصائل الإسلامية المقاتلة في سوريا قضت على فصائل الجيش الحر الذي لم يكن له صبغة دينية، وأصبحت تلك الفصائل وجهاً لوجه في مواجهة النظام: هل سيسمح لها العالم بأن تنتصر على النظام، خاصة وأنه يعتبرها متطرفة وإرهابية؟ بالطبع لا. في أفغانستان مثلاً عندما انتصر المجاهدون على نظام نجيب الله الذي كان مدعوماً سوفياتياً، لم يسمح لهم العالم باستلام السلطة، بل ورطهم في حرب ضروس فيما بينهم، فذهبت ريحهم، وتحول الكثير منهم إلى إرهابيين في عيون العالم بعد أن انتهت مهمتهم. ألا يمكن أن يحدث الشيء نفسه في سوريا؟ هل النظام وحلفاؤه منزعجون فعلاً من تقدم الجماعات الجهادية على الأرض، أم إنهم سعداء جداً بتقدمها على أمل أن يتحقق النموذج الجزائري على أيديهم، لأنهم يعرفون أن العالم لن يقبل بتلك الجماعات لاحقاً، وربما يساعدهم في القضاء عليها. وستكون المفاضلة عندئذ بين تلك الجماعات والنظام، بعد أن تمكنت تلك الجماعات من القضاء على الجيش الحر الذي كان يهدد النظام فعلاً، لأنه لم يحمل صبغة إسلامية «متطرفة». ولا شك أن العالم سيقبل بنظام غير ديني حتى لو ارتكب كل جرائم الكون، فقط لأنه يواجه فصائل إسلامية تـُعتبر إرهابية ومتطرفة في نظر المجتمع الدولي. 
البعض يخشى في هذه الحالة أن يعود السوريون إلى المربع الأول، بحجة أن البديل للنظام هو بديل إسلامي متطرف لا يقبل به أحد، فيعود النظام الخيار الأوحد للسوريين، وكأنك، في هذه الحالة، يا بو زيد ما غزيت. ولا شك أن النظام لعب على وتر الإرهاب والتطرف منذ اليوم الأول للثورة.
لكن السؤال المهم جداً الذي يمكن أن يقلب الطاولة على الجميع: حتى لو انتهى الصراع في سوريا إلى المفاضلة بين النظام والجماعات الجهادية، من يستطيع القضاء على تلك الجماعات التي اكتسبت خبرة تاريخية في القتال، وسيطرت على الكثير من الأنحاء، وأصبحت أحياناً جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي السوري، وخاصة في شمال البلاد وشرقها؟ ألم يفشل الجيش الأمريكي نفسه في القضاء على تلك الجماعات في العراق وافغانستان والصومال واليمن؟ ألم يكن لدى الأمريكيين أكثر من مائة وأربعين ألف جندي في العراق وحده، لكنهم لم يتمكنوا من القضاء على جماعة الزرقاوي التي لم تصمد في العراق فحسب، بل امتدت إلى سوريا نفسها في هيئة تنظيم الدولة الإسلامية الذي يتمدد بسرعة عجيبة؟ ولا ننسى أن حلف الناتو نفسه قاتل حركة طالبان وأخواتها في أفغانستان لمدة ثلاثة عشر عاماً، ثم خرج مهزوماً، لا بل إن أمريكا راحت تتوسل التفاوض مع طالبان، فكيف إذاً يستطيع الجيش السوري الذي أصبح منهكاً جداً وضعيفاً، ولم يعد قادراً على مواجهة تلك الجماعات حتى بمساعدة عراقية وايرانية ولبنانية كبرى وقصف قوات التحالف، ناهيك عن أنه فقد أكثر من ثلثي مساحة البلاد لصالح التنظيمات الجهادية؟ لا عجب أن صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية الشهيرة وصفت سوريا بـ»أفغانستان» المتوسط، بغض النظر عما إذا كان ذلك نتيجة تنامي الظاهرة الجهادية، أو نتيجة استراتيجيات أمريكية مدروسة.
وبناء على هذا السيناريو والتطورات، فهذا يعني أن سوريا مقبلة على صراع طويل الأمد، كما توقع الجنرال ديمبسي قائد هيئة الأركان الأمريكية نفسه، بحيث يصبح الوضع في سوريا أشبه بالوضع الأفغاني والصومالي تحديداَ، حيث تتصارع سلطة ضعيفة مع جماعات مختلفة بين كر وفر لوقت طويل. ولو ظلت الجماعات الإسلامية تحرز تقدماً كالذي تحرزه في الشمال والجنوب والشرق، فلا شك أنها ستصبح القوة الأكثر نفوذاً في سوريا، وربما تدخل العاصمة ذات يوم. من يدري؟ فمن استطاع السيطرة على أعتى المعسكرات في إدلب والرقة ودرعا لن تصعب عليه دمشق لاحقاً. وهذا يعني عملياً سوريا جديدة على الطريقة الصومالية والأفغانية والعراقية، لا سمح الله. إلا إذا حدثت تطورات دراماتيكية لم تكن تخطر على بال، ونجح العالم في تحويل سوريا إلى محرقة لكل تلك الجماعات كما كان الهدف دائماً، حسب رأي البعض. 
والعلم عند الله.
٭ كاتب واعلامي سوري

ليست هناك تعليقات: