15 يونيو 2014

حياة اﻹنسان بين التسييروالتخيير بقلم: رحاب أسعد بيوض التميمي

يعتقد البعض أن اﻹنسان مُسير في كل أموره،وهذه دعوى تدعو إلى اﻹتكال والتثبيط من العزائم واﻹنهزام وعدم المجاهدة والسعي..
ولو كان هذا سليماً لما إحتاج اﻹنسان أن يجاهد نفسه،وأصبح ﻻ معنى إلى إتباع سبل الرحمن..
ولو كانت هذه حقيقية ما حاسب الله أحداً ولما إحتاج سبحانه أن يخلق جنة أو نار،ولإنتفت العبرة من إرسال الرسالات وبعث الرُسل،وإنعدمت العبرة من وجود الشيطان الرجيم الذي وُجد ليصُد عن ذكر الله والطاعة ضمن مادة اﻹمتحان في الدنيا لعبور الجنة أو النار،ولعذر قابيل لقتله أخاه هابيل..
ولعذرصاحب المعصية لعصيانه ﻷنه لا يملك إرادته فهو مُسير للمعصية رغماً عنه,ولعذر كل مجرم وكل فاسد وكل ضال على ما أتى،فالمجرم مُسير ومن خرب بيتاً على أصحابه فهو مُسير..
ولعذرجميع الدجالين من المشرق الى المغرب على إنتهاكهم حرمات الله،وتعطيلهم لحدوده.. ولعذر بشار والهالكي والخسيسي على خستهم جميعاً بدعوى أنهم مسيرين..
ولسقط عن الجميع الحساب ﻷنه لا أحد يملك القدرة على اﻹنتصارعلى نفسه الأمارة بالسوء..
ولتلاشت قيمة رضا الوالدين،وصلة الأرحام واﻹحسان وقيمة كل خير ومبدئ..
ولما أصبح هناك قيمة للتمايز بين الحق والباطل..
ولما أصبح هناك داعي الى وجود النار أصلاً،ولو كان كما قيل ﻷخذ كل إنسان حقه بيده إذا لم يمنعه أحد من ذلك إن إستطاع..
فما الذي يمنع اﻹنسان من اﻹنتصار لنفسه عند الفتن بدل من غض الطرف أوالتجاهل سوى إيمانه بان الصبرعلى أذى الناس فيه اﻷجرالعظيم والعفو عند المقدرة سبيل المتقين...
إذاً لم يمنعه أحد من أخذ حقه بنفسه كما يفعل الكثيرون سوى أن هذا إختاراﻹنتقام،واﻷخر إختارعدم اﻹنتصار لنفسه من أجل رضا الرحمن... فإذاً هناك إختيار!
وما الذي يمنع شخص أصيب بفزع شديد ووسواس قهري في نفسه وروحه من اﻹقدام على اﻹنتحار سوى الخوف من الله الذي حرم اﻹقدام على اﻹنتحار،فحرص على عدم غضب الرحمن منه,مع أنه قادرعلى تنفيذ ما يوسوس له به الشيطان ويقهره به،لكي يرتاح من معاناته كما يفعل كثير ممن لا يؤمنون بالله وباليوم اﻷخرعندما تضيق بهم الدنيا،ولكنه حُسن التوكل على الله بأنه الشافي،وانه صاحب الجزاء على البلاء،فإختار تحمل المعاناة والصبرعليها ومقاومتها باللجوء الى الله ووسائل النجاة خوفاً من العزيزالجبار لنيل الجزاء،مع إيمانه أن اﻷجرعلى قدر المشقة...فإذاً هناك إختيار!
وما الذي يمنع إنسان تسلط عليه شياطين اﻹنس باﻷسحارأن ينتقم لنفسه برد السحر بمثله كما يفعل الكثيرون من أجل اﻹنتقام لنفسه منهم،وهو قادر على أن يرده إلا الخوف من الرحمن ،وإيمانه المطلق أن قدرة الله ستعطل الباطل مهما طال وإيمانه أن ما أصابه هو إمتحان لقياس درجة صبره على اﻷذى،ويقينه أن إنتقام الله من الساحر وجنده أشد من أي إنتقام...فإذاً هناك إختيار!
ثم هل كان امتناع هابيل عن قتل اخيه قابيل رغم كيده المعلن له إلا عن محض إختيار،وإقدام قابيل على قتله ايضاً محض إختيار ...
وأما ما يعتري اﻹنسان من خلال مسيرة حياته من تعطيل ﻷمر معين كالزواج أوتضييق في الرزق,فهذا بتقديرالله يمنح ويمنع من يشاء وكيفما شاء،ويبسط ويضيق كيفما شاء,وبأي طريقة وبأي وقت شاء,يعطي ويمنع لحكمة ﻻ يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى،وما يعتري المرء من مصائب ومشاكل فهي كلها بأمرالله، ليميز الخبيث من الطيب والمقبل من المدبر،حتى حينما يتسلط الناس بعضهم على بعض,فمن إختارهوى نفسه يكون فتنة لمن إختار رضا الرحمن
((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا))]الفرقان:20[
وهي كلها من ضمن إمتحان اﻹنسان في الأرض لأنها كلها من ضمن البلاءات
أما بالنسبة لحديث
(اعملوا فكل ميسر لما خلق له)
فهذا فيه اليقين أن علم الله اﻷزلي الذي عرف من خلاله كيف سيتصرف كل إنسان في إمتحان الدنيا حينما قبض قبضة من ظهر أدم أخرج بها ذريته وأشهدهم على نفسه
(وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)]الاعراف:172[
فهذا من علمه سبحانه اﻷزلي المحيط بخلقه،أنه علم أن فلان سيُجاهد نفسه ويتبع سبيل الرحمن مهما تعرضت له الفتن،وأنه سيقف في وجه كل هذه الفتن التي ستحيده عن الحق وينتصرعليها دون أن ينحرف عن الطريق الحق من أجل الوصول إلى هدفه وهو رضا الرحمن،مع إصراره على اﻹلتزام مع الله فيما أمروفيما نهى،واﻷخذ باﻷسباب والمنجيات من تقوى ورضا وصلة وأمانة وغيرها في أعماله وتصرفاته,حتى يتيقن بعد ذلك أن كل ما يتعرض له من مطبات هي من باب اﻹمتحان،فيتيقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه،وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه كما جاء في الحديث.
((إحفظ اللهَ تَجٍدْهُ أَمَامَكَ،تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعرِفْكَ في الشّدةِ،وَاعْلَم أن مَا أَخطأكَ لَمْ يَكُن لِيُصيبكَ،وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُن لِيُخطِئكَ،وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ،وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَربِ،وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسراً))
فيتقبل قضاء الله بخيره وشره مؤمناً متيقناً ان الخير كل الخير فيما قضى الله وقدّر،ﻷنه سلّم الى قضاء الله بعد اﻷخذ باﻹسباب،فيكون أخذه بالأسباب بمثابة الحصن الحصين لتقبل قضاء الله وقدره ﻹيمانه ان الله لا يضيع عمل عامل مخلص لله،وإيمانه أنه تعالى لا يجازي باﻹحسان إلا إحساناً حتى يصبح يرى الضرر أو المحنة التي يتعرض لها أنها منحة من الله سبحانه يستشعر بها رحمة الله وإصطفائه،فيكون قد إشترى رضى الله باﻹستغناء عما سواه فتُساق له اﻷعمال الصالحات بين يديه،فهذا سُير الى ما خلق له من الخير حينما فتحت له خزائن الخيرالتي هي زاد التقوى،ليتزود منها ويزداد بها علو ورفعة وتمكين وقوة،مثل أن يلهم رضا الوالدين وصلة الرحم وغيرها من انواع المعروف،ﻷنه جعل غايته وهدفه رضا الكريم فأجري عليه القلم قبل أن يخرج الى الدنيا أنه من السعداء فيُسرت له طرق السعادة الدنيوية واﻷخروية،وأما من أعرض عن ذكرالله وعاش الحياة وفق هواه وشيطانه ولم يلتفت إلى تقوى الله أو رضي ببعضها،ولم يرضى ببعضها اﻷخر إستنكاراً وجدلاً بعدم إقتناعه بها رغم ثبوت نصها،أو تكاسلاً،فبعلم الله اﻷزلي الذي أحيط بكل شيئ،علم بأن هذا الشخص لو قُدمت له ويُسرت له كل أسباب الطاعات وأسباب السعادة ﻷعراض عنها وتكاسل عن أدائها ولم يجاهد نفسه من أجل نيل رضا الرحمن الرحيم،بل إختار وإستسهل هواه وشهوته على تقوى الله،ﻷنه يريد النتيجة اﻷنية،وﻻ يحتمل الصبر للحصول على النتائج اللاحقة,فهي في نظره غير مضمونة الحصول، وحب الدنيا عمى بصره وبصيرته عن اﻷخرة,فهو لا يسعى إلا الى دنيا يصيبها بعجزها وقوتها وببخسها وضعفها،ولو لم يحصل منها إلا مأكله ومشربه فقط فهو لا يرى غيرها،فهذا يُسرت له أبواب الشر وحرم من فتح خزائن الخير ليتزود منها ويُصلح بها حاله،لانه أصلا غير مبالي و ﻷن اﻹعراض عن الله يفتح أبواب الشر تلقائياً،ويغلق أبواب الخير في وجه اﻹنسان حتى يتزين له سوء عمله،وحتى يقوده هواه والشيطان إلى منزلقات لا يستطيع الوقوف بعدها،حتى تهوي به نفسه وهواه في مكان سحيق,فكتب في علم الله اﻷزلي أنه من اﻷشقياء لأنه حرم نفسه من التزود من التقوى.
فعلم الله إذن يشمل كل شيء(علم ما كان،وما يكون،وما لم يكن لو كان كيف سيكون)وهذا علم يدركه المؤمن كلما زاد يقينه بالله وباليوم اﻷخر,فهو درجة عالية من درجات القرب من الله،وما عدا ذلك فلا يستطيع العقل البشري إدراكه لمحدودية أفقه،ولكنه علم يتناسب مع قدرة الله سبحانه السابقة واللاحقة واﻷزلية التي لايمكن أن تقاس على عقل البشر أو فهمهم أو حتى على ما أوتوا من علم قليل،وعدى عن ذلك فاﻹنسان غير مخير فيما لا يملك من نسبه،وأمه وأبيه وإخواته ،ولونه وشكله وبيئته وما شابهه والله أعلم.

ليست هناك تعليقات: