19 مايو 2013

عيش بلا عدالة بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر


بعد عامين من سقوط طغاة العرب على إثر انتفاضات شعبية جامحة، يقف المرء على أطلال تلك الثورات، فلا يكاد يرى شيئا تغير، اللهم إلا اللافتات خلف مكاتب المسئولين، وأعداد الفقراء والجوعى والمشردين، وبعض الهتافات والاعتصامات والإضرابات. فإعلام ما بعد الثورة يحمل نفس الوجوه الكالحة، ومنظرو الربيع هم أنفسهم حاشية المخلوعين، والثروة المنهوبة لم تعد، والأمن غائب، والفقراء يزدادون جوعا، ورصيفنا يزداد ضيقا لتزايد أعداد المحشورين فوق بلاطه البارد، وأنفاس القادمين من جب التاريخ إلى ملك مصر أكثر دعة من نسائم الصيف الناعمة تحت ظلال الصفصاف. ولأن الثورة فعل متمرد لا يكتفي بكسر سيقان الفساد، وإنما يعمد إلى اجتثاث جذوره، يحق للمرء أن يتساءل: هل كان ثمة ثورة في بلادنا، أم أنه كان حلما شاعريا في ليلة صيف مقمرة؟
قطعا لم يحرق الثوار أنفسهم ولم تغامر الشعوب المقهورة بما تبقى فوق موائدها من فتات كي يتغير محافظ هنا أو وزير هناك. ولم تخرج الملايين غاضبة لنقص سولار أو رداءة خبز أو ضعف في الرواتب يوم خرجت، فلطالما استمرأت شعوبنا كل ذلك، واعتادت عليه حتى حسبته قدرا يستحيل الفكاك منه، ولا ينبغي التمرد عليه. وكان للخطاب الديني أعظم الأثر في استكانة الشعوب وتحملها من المهانة ما لا يحتمل. ولأنهم تعلموا أن الخروج على الحاكم حرام وقتاله كفر، ظل الناس يسيرون بظهور محدبة وأعين معصوبة ليمارسوا طقوس التقزم واللامبالاة في بلاد يفترض أن تكون لهم. فكل من يتزوج الأم يصير عما وكل صاحب حاجة سيد وإن كان ذا عواء.
أكاد أجزم أن مخطط الثورات في شرقنا المستكين لم يكن لينجح بهذه القوة ويغزو بلادنا من أقصاها إلى أقصاها إلا لغياب العدل، وإحساس المواطنين بالقهر والذل والمهانة. صحيح أن المتظاهرين في بلادنا الطيبة قد جعلوا العيش أول المطالب، وقدموه على الحرية والعدالة، إلا أنني أستطيع أن أوكد أن إحساس الناس في بلادي بالقهر والظلم والضآلة كان أعظم الدوافع وراء خروجهم للميادين الكبرى في العواصم الباغية. فقد كان الناس يعملون كآلات ويعاملون كأنعام، ويخلعون كرامتهم عند كل باب مصلحة حكومية دون أن يروا في ذلك بأسا. وحين خرج الناس في بلادي يوم الزحف على قصر الفرعون، ألقوا أمام قصره نير الخنوع والمهانة وأعلنوا عن تمردهم على تاجه وصولجانه، وجربوا أصواتهم التي كادوا ينسونها في زحمة همومهم المعاشية الطاحنة. 
لكن الثورة رغم كل هذا الغضب لم يكتب لها النجاح، ولم تحقق من أهدافها ما يستأهل الوقوف عنده، وتحولت شيئا فشيئا من فعل متمرد إلى حركة إصلاح مجتمعي تهدف إلى تحسين الأوضاع المعيشية ورغيف الخبز وبعض السلع التموينية. ولم ير حكام ما بعد الثورات غضاضة في مد أياديهم إلى رموز النظام السابق ليتسولوا قوت الشعب من سارقيه ويساوموهم على حريتهم بعد أن فشلوا في إجبارهم أو إجبار الدول الحاضنة لأموالهم على إعادة الأموال المنهوبة إلى مسقط صكها. والسبب في فشل الثورة عندنا لا يُسأل عنه فصيل دون فصيل، فالكل في هم السقوط مشارك، وإن اختلفت المقادير. 
مارست فصائل الثورة جميعها زنا المحارم علنا، وخلعت مبادأها الثورية عند أول اختبار وتحت ذرائع شتى، فقام الحزب الحاكم بإقصاء المعارضبن والتنكر لوعوده الثورية بأن الجميع شركاء في الوطن، وكادت الأحزاب الخاسرة للحزب المهيمن، ولم تر غضاضة في التوسل برموز النظام القديم لإسقاط النظام الجديد. وبدأت الأموال المهربة تعود إلى مهاد الثورة في صورة بلطجة وأعمال عنف واعتصامات وإضرابات، حتى اختلط حابل الثورة بنابل الفساد وأصبح الناس لا يفرقون بين الثوري والبلطجي في ميادين الفتن إلا بعد اختبار ثقة. 
وهكذا سقطت الثورة في أول اختبار عملي على أرض واقعنا البليد، مما دفع الناس إلى المطالبة بعودة النظام القديم أملا في عودة الأمن إلى شوارعنا المستباحة، وعادت إلى الحناجر انكساراتها القديمة، وعادت التقوسات تظهر في عمود ثورتنا الفقري، وأوشكت ريمة أن تعود لخيبتها القديمة. ونجحت الدولة العميقة في تشتيت الثوار بعد أن جعلت بأسهم بينهم، وتفرغ رجال الأعمال الفارين لمفاوضات اختيارية مع حكومة لم تستح من استقبالهم في صالة كبار الزوار. 
وبدأ النظام الجديد يمارس نفس الطقوس القديمة في الهيمنة والبطش متذرعا بالانفلات الأمني ، وتحول القضاء إلى أداة سياسية في لعبة التوازنات، وتفرق الثوار بين تاجر وآخر ممن يجيدون رص أدواتهم المطلية بدماء الثوار أمام حاناتهم الكاسدة. وظل المواطن البسيط نهبا للدعاية والدعاية المضادة دون أن يكون له في حرب العصابات الجارية ناقة ولا حبل، لكنه اليوم لم يعد يرفع رأسه عاليا كما طالبه الثوار ذات صهيل لأن الثورة علمته أن العيش هو الخبز وأنه أسمى المطالب.
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com

ليست هناك تعليقات: