12 يناير 2013

مستشارو الدخان بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر


أثناء تصويره لفيلم "التكساسي المذهل" عام 1947، استعان المخرج إدموند جرينجر ببعض الهنود لتصوير أحد المشاهد. كان جرينجر يريد أن تحمل إشارات الدخان دلالاتها الرمزية عند كاتب السيناريو، ولأن الأمريكان يجيدون إشعال الحرائق ولا يجيدون تفسير ثعابين الدخان المتصاعدة من البقايا المتفحمة، استعان الرجل ببعض المسحوقين فضمهم كمستشارين إلى فريق العمل.
وهكذا وجد الممتهنون حد العبودية أنفسهم فجأة على يمين الرجل الأبيض الذي سرق ضِياعهم بأكياس الطحين وبراميل البارود. لم يصدق الملونون أعينهم وهم يعدون وليمة الدخان لرجل انتصر عليهم في كل الساحات إلا ساحة التاريخ. وحين تصاعدت ثعابين الظلام لترسم في الأفق رموزا شتى، لم يميز حامل الكاميرا بين سحب الدخان ووجوه المستشارين. لكن أحدا من جوقة المشاهير لم يلق بالا لجلود الدخان التي تحمل رموزا أخرى لا يأبه لها أحد.
ولما انتهى المشهد، صفق جرينجر لمستشاريه السود ملء كفيه، وأحاطهم بذراعيه مهنئا: "أحسنتم يا رفاق. لقد قمتم بعمل رائع." عندها، ارتفعت دائرتا بياض في وجهه المكتنز ولمع تحتهما صفان من الأسنان، وسأل سائل: "هل تعني حقا ما تقول؟" وكأنه لا يصدق رموزه الملتفة في الأفق كسحب حبلى. ثم استدار إلى رفاقه وقال: "إنها تشبه السحب التي رأيناها بفيلم الأمس تماما."
لم تعد صناعة الدخان موهبة يستحق محترفوها الوصول إلى كراسي المشورة، ولم يعد الكبريت سرا ولا الفحم لغزا حتى يصفق جرينجر لجوقة من المقلدين الذين استغلوا جلودهم للوصول إلى يمينه. لقد أخطأ جرينجر حين وثق بالجلود وقرب الرجال من سدة المشورة للون مخاتل لا يفصح ولا يبين. لم يعد للنار فلسفة تستحق التأمل، فلهبها يأكل كل أخضر ويابس، ودخانها يعمي البصر ويعشي البصيرة، وكل الخارجين من سجون التاريخ قادرون على وضع الفحم في نفس الأتون وصب الزيت وإشعال النار لإطلاق فتيل الدخان في سماواتنا الملبدة بالحزن.
لا تحتاج النار اليوم لصناع مهرة، وسيجد الباحثون عن مستشارين من قبيلة صانعي الدخان غايتهم قبل أن ترتد إليهم أطرافهم، فمستشارو الأحقاد كثر لا يخلو منهم زار ولا جريدة ولا برنامج حواري. ومقلبو الجمر أكثر من قطع الفحم في بلاط الملوك. وهم لا يكفون عن التحريض وإثارة الكراهية في مواقد الصدور، فتراهم يحرضون ملوكهم ليل نهار على الاستبداد والقمع الذي كانوا ذات ليل أول ضحاياه ظنا بأن دورة التاريخ قد وصلت لمنتهاها وأنهم قد وصلوا إلى المشهد الأخير في هزلية الصراع الغبي على مقاعد لا تدوم.
بالأمس قرأت مقالا تحريضيا بامتياز، يطالب فيه الكاتب رئيس البلاد بسحق المعارضة وإقامة مذبحة جديدة في قلعة جديدة للتخلص من أمراء الفتن دفعة واحدة كما فعل محمد علي ذات غدر. وتعجبت من منطق صاحب المقال الغيور جدا على الشرعية رغم أنه كان أول الخارجين عليها بالأمس القريب. سيقول قائل: "شتان بين الليلة والبارحة." لكنني أجزم أن ليالي القمع واحدة وإن اختلفت بصمات الأيدي أو آثار الأقدام. بالأمس القريب، وجد المحرضون ونافخوا الكير لدخانهم موقعا عند رئيس البلاد، فدنوا منهم وتوددوا إليه بأقوال مشابهة دفاعا عن الشرعية، حتى ثار البغاث نسرا وباضت نسور الظلام وفرخت في كل واد.
لم تعد بلادنا في حاجة إلى مزيد من القمع ولم تعد تحتمل وطء الطغاة. ولم نعد بحاجة إلى مستشاري هدم، لأن الهدم لا يحتاج إلى معاول في بلاد أتت عليها ريح الاستغلال وجراد الفساد فأصبحت قاعا صفصفا خاوية. بلادنا تحتاج إلى بناء، وإلى مستشارين من طراز مختلف، ولا أعتقد أن البلاد التي خرجت على ماضيها الأسود شاهرة سيفها ستقبل أن تعود إلى بيت الطاعة خافضة رأسها. فليوفر نافخو الجمر أقلامهم ورؤوسهم لمعركة أخرى تحتاج كل ساعد وعضد. وإن كانوا لا يستطيعون البناء، فليخلعوا وظائفهم قبل أن يلقيهم التاريخ في أتونه لأن جرينجر لن يقبل حتما أن يدخل التاريخ على أكتاف مستشارين لا عمل لهم إلا بعث التاريخ الأسود والنفخ في جمر الكراهية وإثارة دخان الفتن.

أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com

ليست هناك تعليقات: